الفصل الثامن: تحريض وإرشاد

الفصل الثامن
تحريض وإرشاد

إن ف 12- 16 في روم تتضمن تحريضاً أخلاقياً وإرشاداً (12: 1- 15: 13)، ثم عرضاً حول نظرة بولس الرسولية ومشاريعه المستقبلية (15: 14- 33). وينتهي كل هذا (ف 16) بسلسلة من السلامات والتوصيات، وأخيراً بمجدلة تختتم روم فتقول: "للقادر أن يثبتكم على إنجيلي وبشارة يسوع المسيح... لله الحكيم الواحد، المجد بيسوع المسيح للدهور آمين".
بعد أن ندرس علاقة هذا التحريض بالفصول السابقة، نعطي فكرة إجمالية عن سلسلات النصائح الثلاث التي تنظّم حياة المسيحيين بعضهم مع بعض، وحياتهم في المجتمع.

1- علاقة التحريض بما سبق
لن ندرس في هذا الفصل إلا 12: 1- 15: 13. فقد سبق لنا ودرسنا مشاريع بولس الرسولية، كما توقّفنا بشكل مطوّل عند ف 16. سوف نتعرف إلى بنية هذه الفصول وتسلسل الأفكار فيها. أما موضوعها العام فتحريض وإرشاد (يبدأ بهذه الكلمة: أحرّضكم). فما هي علاقة هذا التحريض مع ف 9- 11 ثم مع ف 1- 8؟

أ- مقابلة مع ف 9- 11
يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة بين ف 12- 15 وف 9- 11 المكرّسة لكفر إسرائيل. ولكن التوقّف عند المفردات في بداية ف 12 يجعلنا نغيرّ رأينا. يستند بولس في تحريضه إلى رحمة الله (آ 1). كلمة يونانية نادرة، لا ترد إلا في هذا المكان من روم وهي تقابل فعل رحم الذي لا نجده في الجذر عينه إلا في روم 9: 15 (أرحم من أرحم، وأرأف بمن أرأف، الفعل الثاني). ونحن قريبون هنا من الرأفة والحنان والشفقة التي نجدها في 9: 23؛ 11: 31؛ 15: 9. وهناك الفعل أيضاً الذي يستعمل في روم 7 مرات. مرة في 12: 8 (الذي يرحم يفعل بالفرح). وست مرات في ف 9- 11 (9: 15، 16، 18؛ 11: 30، 31، 32. ولا يوجد الفعل في أي مكان آخر).
وهكذا يبدو أن ما يشرف على ف 9- 11 هو تأمل في الرحمة الإلهية، على مثال ما نقرأ في 11: 32: "لقد حبس الله الجميع في المعصية، لكي يرحم الجميع". حين أعلن بولس هذه الآية تفخر من قلبه نشيد الحمد في 11: 33- 36.

ب- مقابلة مع ف 1- 8
غير أن التحريض الكبير الذي يبدأ في 12: 1 يرتبط قبل كل شيء بالتعليم العقائدي الأساسي الذي يُعطى للمسيحيين في ف 1- 8. فالتبرير المجاني الذي أتمّه الله (3: 21- 5: 11) والذي يجعل المؤمن يحيا في المسيح (5: 12- 7: 6) وفي الروح (7: 7- 8: 39) يتضمّن تصرّفاً أخلاقياً يبدأ مع "إذن" في 12: 1. وهذا التصرف هو جواب عرفان الجميل يرسله الإنسان إلى رحمة الله التي سبقته. إن فكرة رحمة الله التي يعبرّ عنها بكلمات أخرى في ف 9- 11، تملأ أيضاً ف 1- 8. نحن نجد "النعمة" (15 مرّة)، "المحبة" (4 مرّات). النعمة هي قبل كل شيء تجلّي الحبّ الحرّ الذي به ينتزع الله (أو: المسيح) الإنسان من الخطيئة والموت ويدخله في حياة جديدة. وهي أيضاً هذه الحياة الجديدة عينها (5: 2، 17، 20). وهكذا نستطيع أن نسمّي بولس "ملفان النعمة".
وما يدلّ على ارتباط إرشاد 12: 1- 15: 13 بالتعليم في 1- 8، هو مضمون الآيات الأولى في ف 12. في آ 2، يعيدنا تجديد الدينونة إما إلى "جدّة" (جديد) الحياة التي هي (في 6: 4) ثمرة الموت والقيامة العمادية. وإمّا "جدة" الروح التي تعارض "عتق" الحرف الذي (في 7: 6) يعلن التحوّل الداخلي بفعل الروح القدس، وهو عمل سوف يصوّره مطولاً ف 8.
ثم إن 12: 1 يطلب من المسيحيين أن يقدّموا ذواتهم ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضية لله. لأن هذه هي العبادة الروحية التي ينتظرها الله من المسيحيين. نحن هنا تريبون من 1 بط 2: 5 حول عبادة داخلية تسمو على ذبائح الحيوانات في العهد القديم، وهي ذبائح لم يكن له معنى إلا كتعبير عن عطاء حميم يقدّم فيه الإنسان ذاته إلى الله (وهذا ما ذكرتنا به مراراً الكرازة النبوية). إن هذه العبادة الجديدة ترتبط بالتقدمة الذبائحية التي فيها قرّب المسيح نفسه. وانطلاقاً من هنا يفسّر طابعها الداخلي الذي لا يرتبط بالمدلولات اليونانية فيقودنا إلى القول بأنه لا يلزم الإنسان كله، بل نفسه فقط: إن بولس يطلب إلى المسيحيين أن "يقدموا أجسادهم ذبيحة حيّة".
إن هذه الليتورجيا الروحية للتدبير المسيحي (كما يطلبها 12: 1) لا تنفصل عن التجديد العمادي الذي يجعلها ممكنة. وهذا ما يدلّ عليه إستعمال الفعل الواحد خمس مرّات على التوالي في 6: 13، 16، 19. وهذا الفعل يعبرّ عن ضرورة تفرض على المسيحيين أن يقطعوا كل علاقة بالخطيئة، أو عن واجبهم بأن يقدّموا ذواتهم لله كأحياء عادوا من الموت (6: 13).
إن الفصول الأخيرة في روم هي مهمة جداً. هي شرعة بشرية جديدة يعيشها المسيحيون. إنها تدلّ على العلاقة التي يخلقها الحبّ بين مختلف أعضاء جسد المسيح. والفكرة المسيطرة هي أن الإنسان جزء من كلّ، أنّه لا يعيش منعزلاً في العالم. هو يرتبط برباطات من التضامن الوثيق مع آخرين يقاسمهم ذات المسؤولية ويشاركهم في ذات البركة.

2- تسلسل الأفكار
سنعود فيما بعد إلى التعليم الأخلاقي في ف 12- 15. إنما نشير الآن إلى تسلسل الأفكار داخل النصّ. إذا ألقينا فقط نظرة سطحية قلنا إن التحريضات تتلاحق بلا نظام ولا ترتيب. ولكن إذا تمعّنا في هذ الفصول وجدنا فيه (كما في ف 9- 11) تنظيماً للمواد حسب الرسمة البولسية المعروفة (أ- ب- أأ). فبعد آيتي المقدّمة حول العبادة الروحية، نقرأ أولاً في 12: 3- 16 (أ) نصائح عن علاقات المؤمنين بين بعضهم البعض داخل الجماعة. ونجد ثانياً في 12: 17- 13: 14 (ب) توصيات وفرائض تتوخّى تنظيم علاقات المسيحيين بمحيطهم: علاقات مع العالم الوثني بشكل عام، علاقات مع السلطات المدنية. وأخيراً نعود ثالثاً (14: 1- 15: 13) إلى حياة الجماعة الداخلية (أ أ) من زاوية محدّدة جداً: لقد حاول الرسول أن يخفف التوتّر بين مسيحيين مستنيرين (أي: الأقوياء) ومسيحيين موسوسين (أي: الضعفاء) داخل جماعة رومة المسيحية.
وها نحن نعطي فكرة إجمالية عن هذه السلسلات الثلاث من النصائح.

أ- السلسلة الأولى (12: 3- 16)
نبدأ مع السلسلة الأولى من النصائح: العلاقات العامة بين أعضاء الجماعة. لا يحسب الإنسان نفسه أكثر مما هو. ليلعب دوره دون أن يتعدّى حدود دعوته الفائقة الطبيعة (على حسب ما قسم الله لكل واحد). ويستعيد بولس بشكل موجز، في هذا المقطع، النظرة إلى الكنيسة، "جسد المسيح" التي توسّع فيها مطوّلاً في 1 كور 12: 12- 30. فإن لم يعد الآن يتكلّم كما في 1 كور 12: 27 عن الكنيسة "جسد المسيح" بل عن "جسد واحد في المسيح"، فلأنه أراد أن يميّز شخص المسيح عن أعضائه. والمسيح سيسمّى في رسائل الأسر "رأس الجسد". إن وحدة المسيحيين هي وحدة حيّة وعضوية. هي وحدة في التنوعّ، لا في تشابه تام بين عضو وآخر (السلسلة من الأشياء المصنوعة). فيجب على كل عضو أن لا يبقى جامداً وغير ناشط. وعليهم كلّهم أن يقوموا بالوظيفة التي أوكلت إليهم. وتذكر سبع مواهب في 12: 6- 8: النبوءة، الخدمة، التعليم، الوعظ، التدبير، الإجتهاد، الفرح.
نحن في 1 كور أمام مثلث يتضمن: العبادة الأفخارستية (ف 11). جسد المسيح (ف 12). المحبة الأخوية (ف 13). ونجد التعاقب نفسه في روم 12: "العبادة الروحية" في 12: 1 مع تلميح معقول إلى الافخارسيتا والمعمودية. ثم نقرأ: "جسد واحد في المسيح" (12: 5). وأخيراً، ممارسة المحبة الأخوية (12: 9- 16). هذه روح الخطبة على الجبل في هذا النصّ الأخير. والمحبّة المطلوبة فيه هي التي (حسب روم 5: 5) أفيضت في قلب الذين تبرّروا. فتلميذ المسيح يحبّ بالمحبّة التي بها أحبّه الله. نجد هنا (12: 9- 12) ذات العلاقة بين الحبّ والفرح والرجاء والثبات في المحنة، كما في 5: 2- 5.

ب- السلسلة الثانية (12: 17- 13: 14)
ونصل إلى السلسلة الثانية من النصائح: علاقات المسيحيين مع سائر الناس، أياً كانوا. فالتحريض الذي يبدأ في 12: 1 هو شامل جداً على مثال نقائض خطبة الجبل (مت 5: 38- 48). فالطلب "بأن نعمل الخير أمام كل الناس" (آ 17) يذكّرنا بما في مت 5: 16: "ليضىء نوركم أمام الناس". يطلب من المسيحي أن لا يردّ على الشّر بالشّر، أن يعطي الناس فكرة سامية عن المسيحية، أن يعيش بسلام مع الجميع، أن يترك الله يدين البشر، أن يطعم عدوّه ويسقيه. وأخيراً أن "يغلب الشّر بالخير". إن هذه العبارة الأخيرة ترتبط بالفكرة المركزية في روم 1: 8: إن سّر الحبّ الفدائي هو الوسيلة العظمى التي استعملها الله لينتصر على الشّر بالخير. وحين يحارب تلميذُ المسيح البغض بالحبّ، فهو يقتدي بالله. إنه يشارك في انتصار الإنجيل الذي هو "قوة الله لخلاص كل إنسان يؤمن" (1: 16). وإذ يشدّد الرسول كل هذا التشديد على واجبات المسيحيين تجاه العالم الوثني، فهو يدلّ أنه لا يريد أن يجعل من مجموعة المؤمنين جماعة منغلقة على ذاتها. إن وجب عليهم أنّ ينفصلوا (12: 2) فعلى مستوى العقلية والعادات. إنهم يشبهون الآخرين ويتميّزون عنهم. ففي إطار حياة مشترك، يكون لنا سلوك مقدّس. هذه هي المتطلّبة الأساسية في الشهادة المسيحية.
يعالج 13: 1- 7 الخضوع للسلطة المدنية، داخل فرضية سلطة نظامية تهتمّ بإحلال الخير المشترك (لا يتوقّف بولس عند الوضع حين تكون السلطة ظالمة). يؤكد بولس، لا على المستوى التاريخي، بل على المستوى المبدأي أن الله أسس السلطة التي هي انعكاس لقدرة الله. فهي، كقدرة الله، تمارس من أجل خير الإنسان. إذن يجب على الجميع أن يطيعوها، ولهم في هذه الطاعة فائدة.
لقد نالت السلطة المدنية من 13: 1- 7 تكريساً سامياً، فاعتبرت آتية من عند الله. ولكن هذا النصّ لا يشير إلى ملكوت المسيح بطابعه الروحي المحض. ولا يتيح لنا كما قيل في العصور الوسيطة أن نظنّ أن السلطة المدنيّة تخضع للكنيسة ولرئيسها المسيح. بل إن التعليم البولسي يتضمن خاصية السلطة السياسية.
وكانت فرضية عن "السلطات التي هي فوقنا" (العليا): إن الرسول يرى وراء السلطات السياسية قوّات الملائكة التي تشكل السلطات السياسية أداة لها وظهوراً. فهذه القوات الملائكية عينها (حسب 1 كور 2: 8) وجّهت البشر المسؤولين عن موت المسيح. هي الآن خاضعة للمسيح المجيد، ولكن بقيت لها إمكانيّة إعادة الحياة إلى رغباتها الشيطانية. أما البرهان المقدّم فهو أن "السلطات" (أو القوّات) في صيغة الجمع تدلّ عند بولس على القوى السماوية (1 كور 15: 24؛ كو 1: 16؛ 2: 10، 15؛ أف 1: 21؛ 3: 10؛ 6: 12). ولكن أكثر الشرّاح يرفضون هذه النظرية. فاللفظة اليونانية تنطبق على السلطات السياسية في العالم اليوناني وفي العالم اليهودي. وهذا ما يثبته روم 13: 2 مع المقابلة بين السلطات والحكّام.
وبعد طلب الطاعة للدولة، يعود بولس في 13: 8- 10 إلى واجبات المسيحيين تجاه سائر البشر. وهذا يعني أن هذا المقطع هو امتداد لما في 12: 17- 21. فالعبارة "المحبّة المتبادلة" (آ 8) لا تدلّ فقط على محبّة المسيحيين بعضهم لبعض. إنها متطلّبة تدلّ على الشمول في المحبة. كما في العبارة التي تسبقها بشكل مباشر: "لا يكن لأحد عليكم دين". حين نقرأ العبارتين معاً نفهم أننا لا نستطيع أبداً أن ندفع "الدين"، دين المحبّة للآخرين مهما كانوا. هنا نعود إلى إعلان آ 10: "المحبّة هي تمام الناموس". هي تمام كل ناموس، الناموس الموسوي وغيره.
ويشرح بولس في آ 11- 14 للمسيحيين أن عليهم أن لا يتركوا رذائل الوثنيين تسيطر عليهم. فلَيلُ الضلال سيزول ويحلّ محلّه الخلاص الاسكاتولوجي بكل أبعاده، أي: إنتصار المسيح (والجماعة المسيحية) على عالم الخطيئة. وهو انتصار أقرب إلى مؤمني رومة مما كانوا عليه ساعة اعتنقوا الإيمان. كل هذا يدلّ على أن فكرة المجيء الثاني كانت حاضرة لدى الرسول حين كتب هذه السطور. وانتشار الإنجيل كان سريعاً، بحيث ظنّ أن الغلبة النهائية صارت قريبة. ولكنا نخطىء خطأ فادحاً إن تحدّثنا عن حسابات زمنية (متى تكون النهاية). فبول يكتشف في نموّ الرسالة علامات تسبق الخلاص النهائي. فلا نطلب منه أكثر من ذلك.

ج- السلسلة الثالثة (14: 1- 15: 13)
وهذه سلسلة النصائح الثالثة: العلاقات بين "الأقوياء" و"الضعفاء" داخل الجماعة المسيحية في رومة. هذا التوسّع الطويل يعطي أفضل تعبير عن النظرة المسيحية للاخلاق. سنتوسّع فيه فيما بعد. أما الآن فنكتفي بطرح سؤال أولي يشرف علي فهم هذا المقطع: من هم هؤلاء "الضعفاء" وهؤلاء "الأقوياء" في جماعة رومة المسيحية؟ يجب أن ننطلق من الضعفاء لنكتشف الوضع في رومة.
"الضعيف في الإيمان" هو المسيحي الذي يميّز بين طعام وطعام، الذي يمتنع عن اللحوم والخمور (14: 2- 17، 21). الذي يميّز بين الأيام (14: 5)، فيختار هذا اليوم أو ذاك ليقوم بعمل أو ليمتنع عن شيء من الأشياء (مثلاً، يقال اليوم: لا "نفصل" الثياب يوم الثلاثاء، لئلا يموت صاحبها فيوّرثها للآخرين). والضعيف هو أيضاً المسيحي الذي يتردّد (14: 23) ويرتاب، فلا يعرف ماذا يفعل. إنه متحيرّ، موسوس. ووسوسته لا أساس لها. يرى أن بعض الاطعمة هي نجسة، مع "أن كل شيء طاهر" (14: 20).
و"الأقوياء" الذين نفترض أنهم كانوا الأكثرية في جماعة رومة، هم مسيحيون غريبون عن هذه الوسوسات، فلا يميّزون طعاماً عن طعام، ويوماً عن يوم. ولقد جعل بولس نفسه بين الأقوياء. قال: "نحن الأقوياء" (15: 1). وطلب من "الضعفاء" أن لا يدينوا الأقوياء (آ 2- 12). ولكنه اهتم بأن يعطي درساً للأقوياء: طلب منهم أن لا يشكّكوا "الضعفاء" (14: 13- 21) وقدّم لهم المسيح نفسه كمثال للتجرّد (15: 1- 7).
رأى بعض الشرّاح القدماء، ومنهم اوغسطينس، أن الضعفاء هم المتهوّدون، أي المسيحيون الذين ما زالوا متعلّقين بالفرائض اليهودية (كما في غلاطية). ولكن المسألة التي طرحها المتهوّدون في كلاطية كانت مسألة إيمان بالمسيح (المقلقون في غلاطية هم متهوّدون زعزعوا أسس المسيحية). أما صدق الإيمان المسيحي لدى "الضعفاء" في رومة، فلا شكّ فيه. لهذا يعاملهم الرسول بلطف المسيح ووداعته. ثم إن الشريعة الموسوية لم تكن تحرّم اللحم والخمر إلا على الكاهن أثناء خدمته، وعلى المنذور. وأعلن ايرونيموس ويوحنا الذهبي الفم وتيودورس المصيصي أن الضعفاء هم يهود أرتدوا حقاً إلى المسيحية وحافظوا على الختان. ولكننا نلاحظ أن نصّ روم لا يتكلّم أبداً عن الختان.
وقابل اوغسطينس وبلاجيوس ضعفاء رومة مع مسيحيّي كورنتوس الذين سمّوا هم أيضاً "ضعفاء" (1 كور 8: 7، 9، 10، 11، 12؛ 9: 22) إذ رفضوا أن يأكلوا من اللحوم المذبوحة للأصنام. وما يسند هذا القول هو تعليمات 1 كور 8: 1- 13؛ 10: 23- 33 التي أرسلها بولس إلى جماعة كورنتوس المقسومة حول مسألة هذه اللحوم، والتي تشبه بألفاظها ومدلولها ما نقرأ في روم 14: 1- 15: 13.
وجب على المسيحيين أن يتجنّبوا الشكوك (روم 14: 13، 20، 21؛ 1 كور 8: 9- 13). وطلب منهم بولس أن لا يحزنوا الأخ بطعام (روم 14: 15؛؛ 1 كور 8: 12). وذكّرهم أن المسيح قد مات عن الأخ الضعيف (روم 14: 15؛ 1 كور 8: 11). وفرض عليهم أن لا يطلبوا بأنانية ما يرضيهم (روم 15: 1؛ 1 كور 10: 33). وهناك واجب كل مسيحي بأن لا يدمّر عمل الله، بل أن يبني (روم 14: 19؛ 15: 2؛ 1 كور 8: 1؛ 10: 23). ويشدّد الرسول على الطابع الثانوي لمسائل الطعام والشكر الواجب لله حين نتناوله (روم 14: 6، 17؛ 1 كور 8: 8؛ 10: 30).
تقاربات عديدة. ولكن يجب أن لا تنسينا الفرق الأساسي بين وضع الجماعة المسيحية في 1 كور وفي روم. فلا حديث عن اللحوم المذبوحة للأوثان في روم. وهذه المسألة تتعلّق بتعدّد الإلهة (ليس الوثن بشيء، 1 كور 8: 4). ويعارضها بولس بإعلان هذه العبارة التي لا تجد ما يقابلها في روم.
ولهذا تبدو النتيجة الوحيدة التي نستخلصها من هذه التشابهات: إن بولس يبدو قاسياً حيال مسائل أساسية متعلّقة بالإيمان (كما في غل). غير أنه يقبل بإختلاف في المواقف في الأمور الثانوية. فبين المسيحيين من يكونون جريئين ومتحرّرين. أما الآخرون فيخافون. لا يتعجّب الرسول من ردّات الفعل المختلفة، ولكنه يطلب أن لا تضّر التوافقَ والمحبة.
وهناك حلاّن يتوزعان الشرّاح. الأول، إن أكل البقول لدى "الضعفاء" يرتبط بممارسات نسكية انتشرت انتشاراً واسعاً في العالم القديم، اليوناني (جماعة فيتاغور) واليهودي (الاسيانيون. كما يتحدّث عنه فيلون الأسكندراني). الثاني، تصرّف الضعفاء هو تصرّف المسيحيين المتهوّدين الذين ظلّوا متعلّقين تعلّقاً عميقاً بفرائض الشريعة الموسوية، فما أرادوا أن يتركوها وإن لم تكن ضرورية للخلاص. وهذا ما يميّزهم عن المتهوّدين في غلاطية.
هناك معطيات تدعونا إلى الأخذ بالطرح الثاني وإن لم نجد حلاً للإمتناع عن الخمر. فما قاله بولس (14: 14- 20: لا شيء نجس. كل شيء طاهر) يدلّ على التمييز الطقوسي بين الطاهر والنجس، ويشير إلى كلام يسوع حول نجاسة اللاويين والنجاسة الباطنية التي تؤخذ وحدها بعين الإعتبار (مر 7: 14- 23 وز). ثم في خاتمة روم 15: 1- 13، تطلب آ 1- 2 من "الأقوياء" ان يهتموا بخير "الضعفاء"، ومن كل مسيحي بأن ينسى نفسه من أجل منفعة الآخرين. هذا ما يقابل آ 7 التي تفرض على أعضاء الجماعة المسيحية أن يتقبّل الواحد الآخر. وتشير آ 3- 4 أيضاً إلى تجرّد المسيح (المرتبط بالصليب) في رسالته كما أنبأت بها الكتب المقدّسة. وتأتي آ 8- 10 فتذكر حنان المسيح تجاه اليهود الذين لأجلهم حقّق المواعيد ورحمة الله من أجل الوثنيين على ما قال الأنبياء في العهد القديم.

خاتمة
سيطر على هذا الفصل القسمة بين الضعفاء والأقوياء. ولكننا ما زلنا داخل الإيمان الواحد في كنيسة رومة. وقد يكون بين الضعفاء مسيحيون من أصل يهودي ومسيحيون من أصل وثني. ولكن تبقى القسمة الكبيرة هي بين العالم اليهودي والعالم الوثني. غير أن المسيح الفادي أزال الإنقسام بين البشر. وفيه قالت الرسالة إلى أفسد: "المسيح هو سلامنا. جعل من الشعبين (اليوناني، واليهودي) واحداً، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما أي العداوة" (أف 2: 14).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM