الفصل الثالث: روم رسالة واحدة

الفصل الثالث
روم رسالة واحدة

اتفق الشرّاح على صحة نسبة روم إلى بولس، ولكنهم لم يتّفقوا على وحدتها، بل اعتبر بعضهم أنها تألّفت من أجزاء جمُعت فيما بعد، وربّما تشوّهت. أشرنا في ما سبق إلى شهادات المخطوطات العديدة التي تحافظ على لفظة "برومة" في 1: 7، 15. كما أن لا شيء يسمح بأن نجعل 7: 25 ب (أنا بالعقل عبد لناموس الله، وبالجسد، باللحم والدم، بالضعف البشري، عبد لناموس الخطيئة) حاشية زيدت فيما بعد. كما أن التقليد المخطوطي لا يتيح لنا أن نضعها بعد آ 23 ("أرى في أعضائي ناموساً آخر يحارب ناموس عقلي، ويأسرني لناموس الخطيئة الذي في أعضائي").

1- وضع روم
أ- محاولات تفتيت
هناك شرّاح قطّعوا روم بشكل لا يقنع أبداً. تحدّث البعض عن رسالتين مدموجتين. كانت هناك رسالة موجّهة إلى الأمم، فزيدت عليها توسّعات كثيرة حول المسائل اليهودية. مثلاً، خلاص اليهود (2: 1- 5، 17؛ 3: 1- 20؛ 3: 27- 4: 25؛ 10: 1- 11: 36). ثمّ، مسألة الضعفاء (يأكلون البقول فقط) والأقوياء (14: 1- 15: 3). وأخيراً الحاشية التي في ذيل الرسالة (15: 4- 13). وتحدث آخرون عن 14: 1- 15: 13+ 16: 3- 20، على أنه مجموعة مميّزة داخل الرسالة (فكأنها رسالة داخل الرسالة). وراح بعض آخر يعتبر روم تجميعاً قام به ناشر أقدم مجموعة للرسائل البولسية. وهكذا نكتشف رسالة أولى (1: 1- 4: 25؛ 5: 12؛ 11: 36؛ 15: 13). ورسالة ثانية (12: 1- 21؛ 13: 8- 10؛ 14: 1- 15: 4 أ 7، 5، 6). ثم فتائت من مراسلات بولس مع أهل تسالونيكي (5: 1، 2- 11 و13: 11- 14). وزيادات آخرى (13: 1- 7؛ 16: 25- 27). وأخيراً حواشيَ مختلفة.
لا حاجة إلى الردّ على مثل هذه النظريات التي تنسى طبع بولس، وطريقة الإملاء. وقد يكون ترسيوس توسّع في هذا المقطع أو ذاك بناء على طلب بولس. ثم إن هؤلاء الشرّاح يقفون عند الوجهة الأدبية وينسون الناحية اللاهوتية التي توّحد روم. فهناك فكرة عقائدية واحدة ترد في أربعة أشكال متنوّعة. عرف بولس أن جميع الناس خطأة وأنهم يحتاجون كلهم إلى الخلاص بيسوع المسيح (1: 18- 5: 11). وكان مؤمناً فانطلق ممّا صرنا إليه في العماد. بيسوع آدم الجديد والإنسان السماوي صرنا خليقة جديدة (5: 12- 7: 6). وكان بولس عالم نفسه فبيّن أن الإنسان مقسوم بين الخير الذي يريده ولا يصنعه، والشّر الذي لا يريده ومع ذلك يصنعه (7: 7- 8: 39). وكان مؤرخاً، فأعاد قراءة تاريخ شعبه الذي رفض المسيح (ف 9- 11). وفي القسم الأخلاقي (ف 12- 15) يستخلص بولس نتائج هذا الإيمان في الحياة اليومية. ولهذا سوف نتوقّف عند توسع 13: 1- 7 والمجدلة الأخيرة في 16: 25- 27. هذان النصّان يطرحان مسائل نقدية جدّية.

ب- روم 13: 1- 7
قيل مراراً ان التعليمات حول الخضوع للسلطات المدنية في 13: 1- 7 تتكيّف بشكل سيّىء مع سياق الكلام. وراح البعض يعارض صحة نسبة هذه المقطوعة إلى بولس، فيقول إنها جاءت من الخارج ودسّت هنا. أعلن: إن 13: 1- 7 يتعارض مع الأفكار البولسية، ويفترض عالماً يمتدّ إمتداداً لا حدود له، مع أننا نجد في أمكنة أخرى ولاسيّما في 13: 11- 12 (حانت ساعة إستيقاظكم من النوم، لأن الخلاص أقرب إلينا) تأكيداً على الرجاء بنهاية عالم قريبة. وأعلن أن كلمة "اكسوسيا" تعني السلطة السياسية، بينما هي تعني في الرسائل البولسية السلطات الحاكمة أو تدلّ على القوى الكونية، بل الشيطانية.
وجاء من يعارض هذا الموقف المتطرّف. فلاحظ أن في عدد من نصوص العهد الجديد، تستعمل كلمة "اكسوسيا" دون العودة إلى الملائكة أو الشيطان. وأن الرسول يستعمل في هذا المكان اللغة الهلنستية كما عرفتها الإدارة المحلّية. أجل، إن المقطوعة التي هي موضوع نزاع تدخل في إطار هو بولسي كله.
وجب على الجماعة المسيحية الجديدة أن تتساءل حول علاقاتها مع السلطات السياسية؛ تساءلت: إن مُنع تلميذ المسيح من أن يتكيّف مع العالم الحاضر كما قيل في 12: 2 (لا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تحوّلوا إلى صورة أخرى)، فهل يفرض عليه أن يقطع كل علاقة بالمؤسسات؟ ألا تتوافق الطاعة للربّ مع التي تفرضها السلطة المدنية؟ لم يُطرح السؤال في أرض إسرائيل، أقله من زاوية المبدأ، لأن الشريعة الموسوية أعلنت أن لا ملك للشعب المختار إلا الله وحده. ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى المسيحي الذي لا يخضع للشريعة الموسوية. ولهذا طُرحت مسألة الموقف الواجب اتخاذه تجاه السلطة السياسية بشكل حاد في جماعة مسيحية تعيش في عاصمة الأمبراطورية.
كان قد سبق ليسوع وقدّم المبدأ من اجل الحلّ: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" (مر 12: 17 وز). بما أن المؤمنين ينعمون بهذا النظام السياسي، فهم مدعوون إلى المشاركة فيه على كل الصعد. مع العلم أن الواجب تجاه الله هو في مستوى يختلف عن الواجب تجاه قيصر. رأى عدد من الشرّاح أن نصّ روم يعود إلى هذا القول الإنجيلي. "الجزية لمن له الجزية، والجباية لمن له الجباية، والمهابة لمن له المهابة، والكرامة لمن له الكرامة" (13: 7). وما هو لافت أيضاً هو أن 1 بط الذي يطالب باحترام السلطات السياسية رغم انتظار "نهاية كل شيء" (4: 7: إذاً هناك توافق بين المعطيين)، يعود إلى كلمة المسيح فيقدّم نصحه: "اتقوا الله، اكرموا الملك" (1 بط 2: 17). المخافة واجبة لله وحده، والأكرام للملك. إن 1 بط 2: 17 يستغلّ أم 14: "إتقِ الله والملك". ولكنه تأثّر بالكلام الإنجيلي فدلّ على اختلاف بين الواجبات تجاه الله والواجبات تجاه الملك. فالمسيحي لا يخاف إلاّ الله. وإكرام الملك يأتي فيما بعد. هذا ما قاله الرسل للسلطات اليهودية: "إن الله أحقّ بالطاعة من الناس" (أع 5: 29).
ج- المجدلة في 16: 25- 27
نقرأ روم 16: 25- 27: "للقادر أن يثبّتكم في إنجيلي وفي بشارة يسوع المسيح على حسب اعلان السّر المكتوم منذ الأزمنة الأزلية، المعلن الآن والموضح بحسب أمر الله الأزلي، في كتب الأنبياء، لجميع الأمم لكي يخضعوا للإيمان. لله الحكيم وحده، المجد بيسوع المسيح إلى دهر الدهور. آمين". تتضمن هذه المجدلة إعجاب الكنيسة أمام السّر الموحى به، الذي شهدت له الكتب النبوية أي أسفار العهد القديم والعهد الجديد الذي انتشر الآن في العالم كلّه. نظرت الكنيسة إلى الماضي فابتهجت لأنها تحيا في زمن دار فيه اسم يسوع المسيح مفتاح التاريخ البشري ومصير كل إنسان.
أولاً: على مستوى التقليد المخطوطي
إعتبر بعض الشرّاح أن هذا المقطع هو حاشية زادها مرقيون. ولكن هذا الطرح لم يلقَ ترحيباً. فكان طرح آخر قدّمه عدد من الشرّاح، فرفض نسبة هذه المجدلة الإحتفالية إلى بولس. واختلفت الترجمات التي تتوجّه إلى القرّاء، وهكذا خرج الجدال من دائرة الباحثين. فماذا نقول؟
إن المخطوطات تتردّد حول الموضع الذي وُجد فيه هذا المقطع، وهذا ما يطرح على بساط البحث انتماءه إلى النصّ الأولاني. إذا كان أكبر الشهود يقرأونه بعد 16: 24 (نعمة ربنا يسوع المسيح معكم أجمعين! آمين)، فهناك المخطوط 020 الآتي من رومة ومن القرن التاسع، و044 الآتي من جبل آتوس والعائد إلى القرن الثامن أو التاسع، وعدد آخر من المخطوطات وعدد كبير من الآباء، يجعلونه بعد 14: 23 (أي في نهاية الفصل: كل ما ليس عن عقيدة فهو خطيئة). ثم إن المخطوط الأسكندراني (القرن الخامس) والرقم 025 (لنينغراد، القرن التاسع) وعدد من المخطوطات الجرّارة والترجمة الأرمنية يقرأونه مرتين: بعد 14: 23 وبعد 16: 24. وأقدم نصّ للرسالة إلى رومة، البردية 46 (يعود إلى القرن الثالث) يجعله بعد 15: 33 (آخر الفصل. "وليكن إله السلام معكم أجميعين آمين"). وغابت هذه المجدلة من اللاتينية العتيقة والترجمة الغوطية وبعض مخطوطات الآباء ومرقيون.
ثانياً: على المستوى العقائدي
تجاه هذه التقلّبات في التقليد المخطوطي، نتساءل: هل هناك اسباب جدية على المستوى العقائدي تتيح لنا أن نرفض نسبة هذه المجدلة (16: 25- 27) إلى بولس الرسول؟ قدّمت أسباب ولكنها ليست قيّمة، وبالأخصّ ليست حاسمة. فالطابع المدائحي للمقطع لا يمكن أن يكون اعتراضاً لا يمكن تجاوزه، حتى وان اعتبرنا أنه لا رسائل رسول الأمم ولا رسائل سائر الرسل تنتهي بهذه الطريقة. فالموازاة الوحيدة نجدها في يهو 24- 25: "وللقادر أن يقيكم من كل زلّة، ويوقفكم أمام مجده بغير عيب وفي الإبتهاج، لله الأوحد..." (أتكون زيدت مجدلة روم في الزمن عينه؟). ولكن لا ننسَ أن بولس ختم روم 1- 8 بمديح شكر في 8: 38- 30: "لا موت ولا حياة... تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في يسوع المسيح ربنا". والتوسّع حول مصير إسرائيل (ف 9- 11) قد انتهى هو أيضاً في تأمّل مليء بالأعجاب "في عمق غنى الله وحكمته وعلمه" (11: 33- 35). وقد أراد الرسول أيضاً ان ينتهي القسم الأخير من رسالته بل رسالته كلها التي هي تأمّل كبير في مخطّط الله، بمجدلة بدت بعض سماتها في تضمين مع بداية الرسالة. فإن 16: 26 (لكي تخضع جميع الأمم للإيمان) تتجاوب مع 1: 5 حيث نقرأ: "الذي به نلنا النعمة والرسالة ليطيع جميع الأمم للإيمان لأجل مجد أسمه". أجل، الإيمان الذي هو جواب للإنجيل يُلزم الإنسان بكليّته. إنه طاعة وخضوع. وهو يتضمّن أن يخضع الإنسان بحرّية لله الذي يكشف عن نفسه كالأمين والصادق.
لا شكّ في أن عبارة 16: 27 (لله الحكيم وحده) تطرح للوهلة الأولى سؤالاً. من جهة لا نجدها في مكان آخر من الرسائل البولسية. ومن جهة ثانية، القول بأن الحكمة هي صفة محصورة باللاهوت، موضوع عرفه العالم اليوناني ولاسيّما افلاطون. هنا نكتشف المسافة التي تفصل النظرة البيبليّة عمّا في العالم اليوناني. فالإله الذي تنشده مجدلة 6: 25- 27، قد تدخّل لكي يخلّص البشرية كلها بفضل تدبير هو ثمرة حكمته التي لا تسبر ولا تُستقصى. لهذا تمتدح هذه الحكمة التي تسطع في مشروع الخلاص الإلهي. أما عند أفلاطون، فالحكمة التي تُنسب إلى اللاهوت، لا تجعل نفسها في خدمة البشر من أجل خلاصهم. لهذا لا يدعو سقراط افلاطون أن يبارك هذه الحكمة ويمتدحها.
ونزيد فنقول: إن الإرتباط في 16: 25- 27 بين "السّر" والحكمة الإلهية هو خاصّ ببولس. فنحن نجده في 1 كور 2: 7 (حكمة بشكل سّر) وروم 11: 25 (السّر والحكمة البشرية). وسيُستعاد فيبرز في رسائل الأسر. في كو 1: 26- 28 (السّر الذي كتمه الله طوال الدهور... ننادي ونبشّر جميع الناس ونعلّمهم بكل حكمة). في أف 3: 8- 12 (لأبيّن تدبير ذلك السّر.... فيكون للكنيسة فضل إطلاع اهل الرئاسة على حكمة الله في جميع وجوهها). هذا السّر الذي أعلنه الإنجيل، يتناول شخص يسوع المسيح الذي هو علّة وجود وحجر غلقة للتاريخ البشري كله. إعتبر أحد الشرّاح أنه اكتشف في روم 16: 25- 27 فكرة مرقيون حول سّر ظلّ خفياً في العهد القديم أن يوم كشف بواسطة المسيح وانبياء العهد الجديد. ولكن يبدو أن "الأزمنة الأزلية" في آ 25، لا تدلّ على التاريخ الذي سبق التجدد، بل أزلية الله كما نقرأ في 1 كور 2: 7 (أعدّها الله قبل الدهور)؛ أف 3: 9 (طوال الدهور)؛ 2 تم 1: 9 (وهبها في المسيح يسوع منذ الأزل). أما "الأقوال النبوية" في آ 26 فتدلّ كما قلنا على كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد. وصمت "الأزمنة الأزلية" يعود إلى مخطّط الله الأزلي الذي ظلّ خفياً حتى مجيء المسيح، حتى وإن جعلنا القديمُ نستشفه ونشعر به مسبقاً. ولكن الكرازة الإنجيلية تعلنه الآن مستندة إلى شهادة الأنبياء في الكتاب المقدس.
ونجد شرحاً آخر لما في 16: 25. إن روم 16: 25 هو النصّ الوحيد في العهد الجديد الذي يجمع صمت الله إلى السّر. ثم إن صيغة الماضي (فعل تام) تعني صمتاً ما زال مع أنه قد انكشف الآن. "إن سّر الله يبقى سّر الله، وإن كُشف في يسوع المسيح. فالمسافة لا محدودة بين الله وكل ما ليس الله. فالله يبقى الله وإن عرفه البشر". هنا نتذكّر الإله الخفي الذي يكشف عن ذاته كالمخلّص في أش 45: 15، أو إعلان "غنى المسيح الذي لا حدّ له" في أف 3: 8.

2- روم 16: 1- 24 والفرضية الأفسسية
كانت خلافات حول 16: 25- 27 ونسبتها إلى بولس وإلى روم. ولكن الإتفاق تام حول ما تبقّى من الفصل أو 16: 1- 24. ولكن، هل انتمى هذا المقطع إلى النصّ الأولاني في روم؟ قال الرأي التقليدي بنصّ واحد يمتدّ على ستة عشر فصلاً. ولكن جاء من يقول بأن روم انتهت في 15: 33. ثم زيدت قطعة أفسسية تتضمّن ف 16. وهكذا رأى بعض الشرّاح في 16: 1- 24 رسالة (أو: جزءاً من رسالة) وجّهها بولس إلى أفسس لكي يوصيّ بفيبة في جماعة أفسس (16: 1- 2).
لا نستطيع أن نسند هذا الرأي إلى نسخة مرقيون للرسالة لأنه توقّف عند ف 14. فالنصّ الأصلي حسب هذه النظرية، يتضمّن أيضاً ف 15. ولكننا نستطيع ان نرتكز على المواضع المختلفة التي فيها وضعت مجدلة 16: 25- 27. فأقدم النصوص يجعلها بعد 15: 33 فتكون التحيّة الأخيرة.
وجاءت براهين تسند الفرضية الأفسسية.
أولاً: هل يُعقل أن يكون بولس عرف هذا العدد الكبير من المسيحيين في رومة وهو لم يذهب بعد إليها؟ ففي 16: 3- 16، يحيّي الرسول 26 شخصاً مع مجموعات من الناس (16: 5، 10- 11، 14- 15). والإشارات التي ترافق الأسماء تدلّ على أنه يعرف الأشخاص معرفة تامة. وأنه عمل معهم. ونلاحظ بطريقة عابرة عدد النساء اللواتي شاركن بولس في رسالته. فكيف نتخيّل أن يكون كل هذا العدد من الأشخاص قد ترك الشرق وأقام في رومة ساعة كتب بولس روم؟ وهناك أسماء تلفت الإنتباه في 16: 5. ابينتس هو "باكورة آسية" أي أول المرتدّين فيها. لا شيء يمنع من أن يكون قد جاء إلى رومة فيما بعد. غير أن لقب باكورة آسية يُفهم فهماً أفضل من قبل بولس إن كتب إلى أفسس لا إلى رومة. وهناك اكيلا وبرسكة (16: 3- 4) (في أع، نجد التصغير: برسكلة). كانا من البنطس، وأقاما في رومة. جاءا إلى اليونان، إلى كورنتوس، ثم إلى أفسس على أثر قرار كلوديوس يطرد اليهود من رومة (أع 28: 2). وكانا هناك ساعة كتب بولس 1 كور (رج 16: 19). قد نفترض أنهما عادا فيما بعد إلى أفسس لأن 2 تم 4: 19 (أرسلت من آسية) ترسل إليهما تحيّة وسلاماً. أما ندهش لهذا الرواح والمجيء؟
ثانياً: نعجب من التحذير القاسي في 16: 17- 20 (أن تحترسوا من الذين يحدثون الشقاقات والمعاثر، خلافاً للتعليم الذي تعلّمتموه). إن هذا التنبيه يُفهم فهماً أفضل في إطار الحرب التي قادها الرسول ضد المتهوّدين في آسية الصغرى (غل) أو في اليونان (1 كور). أن يكون أولئك المقلقين من المتهوّدين أو المتفلّتين على مستوى الأخلاق (فل 3: 19)، فالأمر سواء لأن روم لا تتحدّث عن مخاطر من هذا النوع عرفتها الجماعة. وتخيّل أحد الشرّاح مسافة بين تدوين ف 1- 15 وتدوين ف 16. في ذلك الوقت، وصلت إلى الرسول معلومات، دفعته إلى مثل هذا التحذير. وقد عرت حينذاك أن عدداً من الأشخاص الذين يعرفهم (وهم الذين يحيّيهم في 26: 3- 16) قد جاؤوا وأقاموا في رومة. أما يبدو هذا مصطنعاً؟ ويبقى السؤال: كيف يتكلم بولس بلهجة متسلّطة إلى جماعة رومة التي لم يؤسّسها؟
ثم يجب أن نتذكر أن بردية شسترباتي (بردية 46) التي هي أقدم شاهد، تجعل مجدلة 16: 25- 27 حالاً بعد 15: 33. أما نستطيع أن نظّن أنه وجدت نسخة روم لا تتضمّن ف 16؟
ولكن هذه الفرضية لم تقنع عدداً كبيراً من الشرّاح. فلا شهادة في الأجيال الأولى ولا في التقليد النصوصي تساند الفرضية الأفسسية التي تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدّم أجوبة. وتساءل أحدهم: ما هذه الرسالة التي لا تتضمّن إلا سلامات؟ فلا معنى لها. وان اعتبر ف 16 جزءاً من رسالة طويلة، فلماذا احتفظ فقط بهذا الجزء، ولماذا ضمّ إلى روم؟
ثم لا يُقال لنا ان بولس التقى شخصياً بكل الذين يحيّيهم في روم 16. أما نقرأ تحيات خاصة في كو وهي كنيسة لم يزرها بولس؛ ثم إن السلامات المتعدّدة في روم هي وسيلة يؤمّن بها حسن الإستقبال له ومساندته في جماعة لم يؤسّسها.
والتحذير القاسي وغير المنتظر في 16: 17- 20 لا يفاجئنا. وكم مرة قرأنا في الرسائل البولسية مثل هذا التبديل في اللهجة؟ مثلاً 1 كور 16: 19- 20 و22. وهناك تعارض مدهش بين 2 كور 1- 19 و10- 13: إنتقل بولس من الوداعة والحنان إلى اللهجة القاسية والتهديد. وقد قيل ان الذين "يحدثون الشقاقات" هم أقرب إلى 2 كور 10- 13 منه إلى المتهوّدين في غل. ومهما يكن من أمر، هذا التحذير هو تدبير وقائي من أجل عمل يستعدّ له بولس.

خاتمة
بعد هذه الجولة الواسعة، عدنا إلى ما قاله التقليد الكنسي: الرسالة إلى رومة هي رسالة واحدة. فبول كاتب ولكنه يحيرّنا بطريقة كتابته، ويطرح علينا عدداً من الأسئلة. رسالته هي صورة عن شخصيته الغنية. فلماذا نريد ان نحصرها في أطرنا الضيّقة وفي منطق يتحدّى كل منطق؟ لماذا لا نترك نفوسنا كالسابح في المياه، فلا نتوقّف عند سطح البحر، بل ننزل إلى الأعماق وهناك نكتشف ذلك الوحي الذي اختبره بولس على طريق الشام، فحاول ان يفتح قلوبنا على عمق غنى الله وحكمته وعلمه؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM