الفصل الثاني: أصالة روم وصحة نسبتها إلي بولس

الفصل الثاني
أصالة روم وصحة نسبتها إلي بولس

عرف الشرق روم وقرأها وتأمّل فيها دون أن يطرح سؤالاً نقدياً حولها. أمّا في الغرب فكان بعض التساؤل حول أصالتها وصحة نسبتها إلى بولس. ولكن الجميع أقرّوا بها اليوم وقد استعملها الآباء الرسوليون منذ اكلمنضوس الروماني في رسالته إلى الكورنثيين (32: 2؛ رج روم 9: 5- 8: منهم المسيح بحسب الجسد الذي هو فوق كل شيء؛ 35: 5؛ رج روم 1: 29- 32)، وأغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى الأفسسيين (9: 3؛ رج روم 6: 4: دفنا معه بالمعمودية للموت) والمغنيزيين (6: 2؛ رج روم 6: 17: كنتم عبيدا للخطيئة) والتراليين (9: 2؛ رج روم 8: 11: الذي أقام يسوع من بين الأموات يحيي أجسادكم المائتة)، والسميرنيين (1: 1؛ رج روم 1: 8- 14)، وبوكيلربوس في رسالته إلى الفيليبيين (3: 3؛ 6: 2؛ رج روم 13: 8- 10؛ 14: 10، 12).

1- أصالة روم
يتفق الشرّاح على القول بأن روم قد أرسلها بولس خلال رحلته الرسولية الثالثة، وزمن إقامته في الشتاء في كورنتوس، وقبل أن يحمل إلى أورشليم نتاج ما جمعه من مساعدة للكنيسة الأم (1 كور 16: 1- 4: يحملون إحسانكم إلى أورشليم... وإن كان من الموافق أذهب أنا نفسي ويذهبون معي). إستعدّ بولس لرسالة جديدة في الغرب، وطلب من الجماعة المسيحية في رومة أن تساعده على تحقيق هذا المشروع الرسولي الذي يقوده إلى أسبانيا (1: 11- 14؛ 15: 22- 24: إذا ما إنطلقت إلى إسبانيا، فاني أرجو أن أشاهدكم عند مروري وأن تشيّعوني إلى هناك).
أن تكون روم قد كتبت من كورنتوس، فهذا ما يثبته ذكرُ فيبة شماسة (خادمة) كنيسة كنخرية التي هي مرفأ كورنتوس الشرقي (16: 1). وواقع يدلّ على أن بولس هو ضيف غايوس (16: 23) الذي تتحدّث عنه 1 كور 1: 14. لن نتوقّف هنا عند نظرة غريبة عجيبة تجعل روم قبل 1 كور، وقد كتبها بولس من أفسس في خريف سنة 54!
متى كُتبت روم؟ هنا تختلف الآراء باختلاف الكرونولوجيا (التسلسل الزمني) التي يأخذ بها الشرّاح ليتحدّثوا عن مجمل الرسالة البولسية. يرى أحدهم أن روم كتبت في شتاء 57- 58. ويبدو أن هذا هو الأصحّ. فمنهم من قال 58 أو 59، وآخرون: 55 أو 56. قد نستطيع أن نجد نقطة استدلال في السنتين اللتين قضاهما بولس كسجين في قيصرية بعد سجنه في أورشليم على أثر ضغط اليهود على السلطة الرومانية. قد حصل هذا السجن حين كان فيلكس وفستوس واليين، وتبل أن يستدعى فيلكس إلى رومة (أع 24: 26). هذا يفرض علينا القول بأن روم تسبق بسنتين هذا الإستدعاء الذي كان في عهد نيرون الذي تدشّن سنة 54. من المؤسف أننا لا نجد وثيقة تقول لنا بالتحديد متى أُستدعي فيلكس إلى رومة.
ونقرأ 16: 22: "وأنا ترسيوس، كاتب هذه الرسالة، أسلّم عليكم في الرب". هذا لا يذكّرنا فقط بأن بولس كان يُملي رسائله. بل يفرض علينا أن نتساءل في أي معنى كتب ترسيوس (سكرتير بولس) روم. هناك فرضيات ثلاث. الأول: أملى بولس رسالته حرفاً حرفاً. الثانية: أملى على ترسيوس جوهر الرسالة وتركه يتوسّع فيها. الثالثة: لعب ترسيوس دوراً هاماً، فألّف بنفسه الرسالة متقيّداً بتعلميات بولس. نحن نأخذ بالفرضية الأول، لأننا أمام نصّ يرتبط إرتباطاً حميماً بتعليم خاصّ ببوله. ولكن مع العلم بأن الإملاء لم يتمّ في يوم واحد، بل على مراحل، وهذا ما يفسّر وجود التكرار أو التبديل المفاجىء على مستوى الموضوع.

2- مقابلة بين روم و1 بط
إن مضمون روم يدعونا إلى أن نقابلها مع سفرين آخرين في العهد الجديد: رسالة يعقوب ورسالة بطرس الأولى. إن العلاقة بين روم ويع مسألة معروفة. وسنعود إليها. ولكن نبدأ بالمقابلة بين روم و1 بط.
توجّهت روم إلى جماعة غريبة كلياً عن رسول الأمم، ومرتبطة برسالة بطرس لدى المسيحيين الآتين من العالم اليهودي. يبدو أن 1 بط ارتبطت بالرسالة إلى رومة. فما هي التشابهات بين الرسالتين؟
هناك تشابه ظاهر بين فرائض الطاعة للسلطات المدنية في روم 13: 1- 7 وفي 1 بط 2: 13- 14 حيث نقرأ: "إخضعوا إكراماً للرب، لكل سلطة بشرية: للملك فهو الحاكم الأعلى، وللحكام فهم مفوضّون منه لمعاقبة الأشرار ومكافأة الصالحين". هذا الخضوع يجد ذروته في خضوع المسيح المتألم (رج 1 بط 2: 21- 24). وتقول روم: "ليخضع كل واحد للسلطات المنصّبة، فإنه لا سلطان إلا من الله. والسلطات الكائنة إنما رتّبها الله. فمن يقاوم السلطات يعاند ترتيب الله...". يتحدّث النصّ عن الأشخاص الذين يملكون السلطة كما عن المؤسّسات.
وهناك تشابه لا شكّ فيه بين ما تقوله روم 6: 1- 11 عن نتائج سّر المعمودية وما نقرأه في 1 بط 4: 1- 3 من كلام لا ينفصل عن ذكر المعمودية في 1 بط 3: 21: إن المعمَّد "الذي تألّم في الجسد" وشارك المسيح في آلامه قد قطع كل علاقة بالخطيئة وأخذ يعيش لا بحسب الرغبات البشرية بل حسب مشيئة الله. ونستطيع أيضاً أن نقابل بين 1 بط 1: 14 (لا تتبعوا شهواتكم الماضية) وروم 12: 2 (لا تتشبّهوا بهذا العالم). وهناك العودة إلى أش 28: 6 في 1 بط 2: 6: ها أنا أضع في صهيون حجر زاوية كريماً. فمن آمن به لا يخيب) وروم 9: 33؛ 10: 11. نقرأ في 1 بط 3: 9: "لا تردّوا على الشّر بالشّر والشتيمة بالشتيمة". وفي روم 12: 17: "لا تكافئوا أحداً على شّر بشرّ". قالت 1 بط 4: 7: "أقتربت نهاية كل شيء". وروم 13: 12: "لقد تناهى الليل وأقترب النهار".
ماذا نقول في هذا الشأن؟ إن ما أوردناه لا يتيح لنا أن نستنتج أن صاحب 1 بط قد أخذ من روم، لأنه لا يستعيد أياً من المواضيع البولسية الخاصة كالتعارض بين الإيمان والأعمال، والتبرير بالإيمان، والروحانية المركّزة على المسيح، وتسمية الكنيسة جسد المسيح. لهذا فبالأحرى نقول إن 1 بط وروم تعودان بشكل مستقلّ إلى التقليد المسيحي الواحد الذي عرفته الكنيسة الأولى.
وقد نقول إن بطرس هو ينبوع مميّز للتقليد المسيحي الأولاني الذي إستقى منه بولس. فكل مرّة عاد رسول الأمم إلى أش 53 (نشيد عبد الله المتألم) ليحدّثنا عن سّر الفداء، فهو يعود إليه بشكل غير مباشر وينطلق من الكرازة الأولى. مثلاً في 3: 25: "سبق الله فأقامه أداة تكفير بالإيمان بدمه لإظهار برّه". وفي 4: 25: "أسلم لأجل زلاّتنا وأقيم لأجل تبريرنا" (رج أش 53: 6، 12 حسب اليونانية). وفي 5: 19: "كما جُعل الكثيرون خطأة بمعصية إنسان واحد، كذلك بطاعة واحد يجُعل الكثيرون أبراراً" (رج 8: 32). أمّا في 1 بط فاستغلال أش 53 هو عمل مباشر لاسيّما في 2: 21- 25 بشكل لم يعرفه كل العهد الجديد. "فالمسيح تألّم من أجلكم وجعل لكم من نفسه قدوة لتسيروا على خطاه. ما اقترف خطيئة ولا عرف فمه المكر... حمل خطايانا في جسده على الخشبة... وهو الذي بجراحه شفيتم. كنتم خرافاً ضالّين فاهتديتم الآن إلى راعي نفوسكم وحارسها". رج أش 53: 5، 6، 12، الذي يدلّ على عبد الله المتألّم الذي رأت فيه الكنيسة الأولى إعلاناً وصورة عن يسوع الذي مات لكي يخلّص البشر.

3- مقابلة بين روم ويع
إن العلاقة بين روم ويع هي مسألة متشعّبة كما لم يرف العهد الجديد مثلها. لقد اكتشف الشرّاح بين هذين السفرين بعض التشابهات: التعارض نفسه بين "السامع" و"العامل". نقرأ في يع 1: 22، 23، 25: "ولكن لا تكتفوا بسماع كلام الله من دون العمل به فتخدعوا أنفسكم... وأمّا الذي ينظر في الشريعة الكاملة، شريعة الحرّية، ويداوم عليها، لا سامعاً ناسياً، بل عاملاً بها، فهنيئاً له في ما يعمل... فالديانة الطاهرة النقيّة عند الله أبينا هي أن يعتني الإنسان بالأيتام والأرامل...". ونقرأ في روم 2: 13: "ليس السامعون للناموس هم أبراراً عند الله، إنمّا العالمون بالناموس يبرّرون".
ونجد العبارة عينها ولا نجدها في أي مكان آخر من العهد الجديد: "تعدّى على الناموس". نقرأ في يع 2: 9، 11: "وأما إذا حابيتم أحداً فترتكبون خطيئة وتحكم الشريعة عليكم كمن تعدّى عليها... لأن الذي قال: لا تزن، قال أيضاً: لا تقتل. فإن قتلت وما زنيت تعدّيت على الشريعة". وفي روم 2: 25، 27: "لا جرم في أن الختان ينفع بشرط أن تعمل الناموس. ولكن أن كنت تتعدّى الناموس (أو: الشريعة) فختانك ليس إلا قلفاً (أي: عدم ختان)". إن الوثني الذي يعيش بحسب الناموس يدينك "أنت الذي يتعدّى الناموس". في هذا المجال نقرأ غل 2: 18: "إن عدت أبني ما قد هدمت، جعلت نفسي متعدياً".
ونكتشف الصورة عينها عن الأعضاء التي هي أسلحة للبرّ والقداسة أو للائم والنجاسة. قال القديس يعقوب (4: 1): "من أين القتال والخصام بينكم؟ أما هي من أهوائكم المتصارعة في أجسادكم"؟ وقال بولس في روم 6: 13، 19: "لا تجعلوا أعضاءكم أسلحة إثم للخطيئة، بل أجعلوا أنفسكم لله، كأحياء عادوا من الموت، وأعضاءكم أسلحة برّ لله" (رج 7: 23: أهواء الخطيئة تعمل في أعضائنا).
ويتوسّع بولس، شأنه شأن يعقوب، في الفائدة من المحنة: "نفتخر حتى في الشدائد، لعلمنا أن الشدّة تنشىء الصبر، والصبر ينشىء الفضيلة المختبرة، والفضيلة المختبرة تنشىء الرجاء" (روم 5: 3- 4). نحن هنا أمام ما يصيب الشعب ولاسيّما الناس الأتقياء. هنا تُعرت صفات المؤمن، وهي تُبرز لا قوته، بل ضعفه. فنعمة الله تعمل في ضعفنا. ويقول يع 1: 2- 3: "إفرحوا كل الفرح، يا إخوتي، حينما تقعون في مختلف المحن فأنتم تعرفون أن امتحان إيمانكم فيها يلد الصبر".
ويلجأ يعقوب وبولس إلى مثال إبراهيم، ولكن كل واحد في خطّه: إستعمل يعقوب هذا المثال ليدلّ على ضرورة الأعمال. "برّره الله بالأعمال حين قدّم ابنه اسحق على المذبح. فأنت ترى أن إيمانه رافق أعماله، فصار إيمانه كاملاً بالأعمال" (يع 2: 21- 22). واستغلّ بولس المثال عينه ليثبت طرحه حول التبرير بالإيمان من دون الأعمال. "لو كان ابراهيم قد برّر بالأعمال لكان له فخر، ولكن لا عند الله" (روم 4: 2).
ولكن كان التعارض قاسياً بين ما قاله يعقوب وما قاله بولس. قال الأول: "ترون إذاً، أن الإنسان يتبرّر بالأعمال لا بالإيمان وحده" (يع 2: 24). والثاني: "نعتقد أن الإنسان يبرّر بالإيمان بدون أعمال الناموس" (روم 3: 28). أكّد لوثر (وتبعه آخرون) أن يعقوب عرف روم وأراد معارضتها. ولكن عدداً كبيراً من الشرّاح يكتفي بالقول إن يعقوب يقدّم برهاناً ضدّ تفسير خاطىء للتعليم البولسي. كما قال آخرون: إن يعقوب كتب بعد بولس بزمن طويل فما اهتمّ بما يقوله رسول الأمم، بل اكتفى بالردّ على انحلال خلقي نتيجة الغنوصية الناشئة. ودافعت فئة أخرى عن الرأي المعاكس: كتب بولس بعد يعقوب، فأراد أن يصحّح تعليمه حول الأعمال: إختلفت الآراء لأن البعض يعتبر يع رسالة قديمة بالنسبة إلى الرسائل البولسية، والبعض الآخر يعتبرها آخر ما ظهر من أسفار العهد الجديد.
إتفق بولس ويعقوب على أن السماع ليس بشيء من دون العمل، فما اختلفا حول مسألة الإيمان والأعمال لأنهما يعالجان مسألتين مختلفتين. قيل أن بولس يتحدّث عن عدم جدوى أعمال عفى عنها الزمن، أعمال الشريعة الموسوية كالختان وسائر الممارسات الطقسية. ربما. ولكن الرسول لا يميّز بين شريعة وشريعة. ولكنه يستبعد من أجل التبرير الأول كل استحقاق، كل عمل بشري. أما يعقوب فلا يقف عند هذا المستوى، بل يكتفي بأن يندّد بالإيمان "النظري" وبأن يشدّد على ضرورة الأعمال الصالحة، وهي ضرورة يعلنها بولس مثله. ذاك الحلّ كان حلّ القديس اغوسطينس الذي قال في "المسائل المختلفة": "لا يتعارض قولا الرسولين بولس ويعقوب، حين يقول الواحد إن الإنسان يبرَّر بالإيمان دون الأعمال، ويقول الآخر بعدم جدوى الإيمان بدون الأعمال. فذاك (أي يعقوب) يتحدّث عن الأعمال التي تسبق الإيمان. وهذا (أي بولس) عن تلك التي تتبع الإيمان، كما بيّن ذلك بولس نفسه في مواضيع عديدة".
ماذا اعتبرنا أن رسالة يعقوب كُتبت قبل الرسائل البولسية، وهي تعود إلى سنة 46- 47، هكذا لن نجد أي تعارض مع المجمع (المجمع في 2: 2 يدلّ على الجماعة المسيحية)، كما لا نجد أثراً للجدالات حول الشروط المفروضة على الوثنيين من أجل دخولهم في الكنيسة. تشّربت يع من العالم اليهودي، فلا نكاد نجد فيها فكرة مسيحية خاصة. وقد سبقت مجمع أورشليم، والأزمة التي حاول أن يحلّها. تذكر اسم يسوع المسيح مرتين (1: 1؛ 2: 1) وتدعو اسم الرب على المؤمنين والمرضى (2: 7؛ 5: 10؛ 14؛ رج أع 2: 21، 38). وتتحدّث عن مجيء الربّ (5: 8). هي تعود إلى العهد القديم أكثر من أي سفر من أسفار العهد الجديد، وهذا ما يجعلها "وعظة يهودية" كيّفها كاتب مسيحي مع إيمانه. ومن جهة ثانية، هي صدى لتعليم يسوع لاسيّما في خطبة الجبل، دون أن نكتشف أي اتصال أدبي بينها وبين وثيقة مكتوبة.
إذا كان الأمر هكذا، فيع ليست نقداً للتعليم البولسي وقد جاءت قبله. وإن كان الأمر غير ذلك، فلا أساس لهذا الإنتقاد لأن رسول الأمم، شأنه شأن يعقوب، يتحدّث عن إيمان يحمل ثمراً. فما قاله يعقوب عن إيمان ينشىء الأعمال الصالحة يجد ما يقابله في العهد القديم، في الأناجيل (مت 3: 8- 10؛ 7: 16- 27؛ 12: 33- 35؛ 21: 28- 31؛ 25: 31- 46)، في العالم اليهودي المتأخّر (الإيمان يرافق الأعمال، 4 عز 7: 34- 35...).

خاتمة
إن روم وُلدت في قلب الرسالة البولسية. وُلدت في كورنتوس فقدّمت لنا تعليم بولس هناك. وإستلهمت الينابيع المسيحية فجاءت قريبة من 1 بط ومن يع. كان يعقوب قد قال في 2: 10: "من ابتعد عن نقطة واحدة في الشريعة تعدّى الشريعة كلها". مثل هذه العبارة قد تكون انطلاقاً لبولس ليفتح طريقاً تعليمياً جديداً. وهكذا يدلّ على أنه مرسل كبير ولاهوتي من الدرجة الأولى. هذا ما سوف نكتشفه في الفصول اللاحقة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM