الفصل السابع عشر: إنجيل شفاء صاحب اليد اليابسة

الفصل السابع عشر
إنجيل شفاء صاحب اليد اليابسة
(متّى 12: 9- 14؛ مرقس 3: 1- 6؛ لوقا 6: 6- 11)

في دراسة الروايات الإزائية التي تورد حادثة شفاء صاحب اليد اليابسة (متّى 12: 9- 14؛ مرقس 3: 1- 6؛ لوقا 6: 6- 11)، سنعرض أوّلاً مقارنة بين الأطر الكتابيّة حيث تندرج هذه الرواية، ثم نحاول إعطاء ترجمة حرفيّة لهذه النصوص مع التركيز على الفوارق بينها. بعد ذلك سنتوقّف على ثلاث طرق مختلفة لتفسير النصوص، فندرس رواية مرقس بالطريقة التاريخيّة- النقديّة، ورواية متّى بالطريقة السيميائيّة (أو: الرمزيّة) المبسّطة، ورواية لوقا بطريقة التحليل البلاغيّ. في الختام، ومن خلال مقارنة مع العهد القديم، نستخلص معنى رمزيًا هو، دون شك، في أصل رواية شفاء الرجل ذي اليد اليابسة.

1- مقارنة الأطر الكتابيّة المباشرة لرواية الشفاء
نظرة سريعة إلى ما يُحيط بالروايات الإزائيّة تُخوّلنا استخلاص الجوّ العام الذي وُضعت فيه هذه الروايات والفكرة التي لأجلها وضع كلُّ إنجيلي روايته في إطار خاص به.

متّى
أ أنت الآتي أم ننتظر آخر؟ (11: 3)
العمي يُبصرون والعرج يمشون... والمساكين يُبشَّرون (استشهاد من أشعيا) (11: 5).
ويل... وحمد... (11: 16- 27)
تعالوا إليّ... احملوا نيري عليكم وكونوا لي تلاميذ... (11: 28- 30).
التلاميذ يقتلعون سنبلاً... ابن الإنسان هو ربّ السبت (12: 1- 8).
شفاء الرجل ذي اليد اليابسة (12: 9- 14).
شفاهم جميعًا... هوذا فتاي الذي اخترته... (استشهاد من أشعيا) (12: 15- 21).
طرد الشيطان (الذي يُقسّم الإنسان)... أفلا يكون هذا ابن داود؟ (12: 22- 29).
التجديف على الروح القدس... ويل أبدي (12: 30- 32).
الخلاصة: أعمال يسوع، وبخاصة عمله يوم السبت، تُشير إلى هويته وإلى أنّه متمّم انتظار الأنبياء. أعماله هي أساس الحكم: ويل أو راحة نفس، والدعوة موجّهة للجميع حتى يُصبحوا تلاميذ له.

مرقس
دعوة الرسل الأوّلين (1: 14- 20).
شفاءات متعدّدة (1: 21- 2: 12).
دعوة متّى... المرضى هم في حاجة إلى طبيب (2: 13- 17).
صوم تلاميذ يوحنا... صوم تلاميذ يسوع العريس (2: 18- 22).
التلاميذ يقتلعون سنبلاً... ابن الإنسان هو ربّ السبت (2: 23- 28).
شفاء الرجل ذي اليد اليابسة (3: 1- 6).
شفاء كثيرين... الأرواح تعترف "أنت ابن الله" (3: 7- 12).
اختيار الاثني عشر (3: 13- 19).
الخلاصة: أعمال يسوع هي ص بون أعمال التلاميذ (راجع نهاية إنجيل مرقس 16: 17- 18).

لوقا
دعوة الرسل الأوّلين (5: 1- 11).
شفاءات متعدّدة (12: 5- 26).
دعوة متّى... المرضى هم في حاجة إلى طبيب (5: 27- 32).
صوم تلاميذ يوحنا... صوم تلاميذ يسوع العريس (5: 33- 39).
التلاميذ يقتلعون سنبلاً... ابن الإنسان هو ربّ السبت (6: 1- 5).
شفاء الرجل ذي اليد اليابسة (6: 6- 11).
اختيار الاثني عشر (6: 12- 16).
التطويبات والويلات (6: 17- 26) وتعاليم مختلفة.
الخلاصة: هناك تواز بين أعمال يسوع وتعاليمه: إنّها أعمال وتعاليم موجّهة للرسل (راجع مطلع أعمال الرسل 1: 1- 2).

1- النص اليوناني


2- ترجمة حرفية
متّى 12: 9- 14

9ثمّ انصرف من هناك وجاء
إلى مجمعهم،
10وها إنسان له يد يابسة.

فسألوه قائلين:
"هل يحلّ
في السبت الشفاء؟" لكي
يشتكوا عليه.




11فقال لهم:
"أي إنسان منكم له خروف واحد فإن سقط هذا يوم السبت في حفرة أفما يمسكه ويُقيمه؟ 12فكم هو أفضل إنسان من خروف.
لذلك يحلّ يوم السبت
عمل خير".




13ثمّ قال للإنسان: "مدّ يدك".
فمدّها.
فعادت سليمة كالأخرى.
14فخرج الفريّسيّون،

أخذوا استشارة
ضدّه ليُهلكوه. مرقس 3: 1- 6

1ثمّ دخل
من جديد إلى المجمع،
وكان هناك إنسان له اليد يابسة.

2وكانوا يراقبونه
هل
في السبت يشفيه لكي
يشتكوا عليه.

3فقال للإنسان الذي له اليد اليابسة
"قم في الوسط".

4وقال لهم:




"أيحلّ يوم السبت
عمل صلاح أم عمل شرّ،
تخليص نفس أم قتلها؟"
أمّا هم فسكتوا.
5ثمّ أجال نظره فيهم
بغضب مفجوعاً من قساوة قلوبهم،
قال للإنسان: "مدّ اليد".
فمدّها.
فعادت يده.
6فخرج الفرّيسيّون للوقت
مع الهيرودسيّين،
أعطوا استشارة
ضدّه ليُهلكوه. لوقا 6: 6- 11

6وحدت أنّه في سبت آخر دخل هو
إلى المجمع وراح يعلّم.
وكان إنسان هناك ويده اليمنى
كانت يابسة.
7وكان يراقبه الكتبة والفريّسيّون
هل
في السبت يشفي لكي
يجدوا ما يُشكى عليه.
8أمّا هو فكان قد علم أفكارهم
فقال للرجل الذي له اليد اليابسة:
"قم وقف في الوسط".
فانتصب ووقف.
9فقال يسوع متوجّهاً إليهم:




"أسألكم هل يحلّ يوم السبت
عمل صلاح أم عمل شرّ،
تخليص نفس أم إهلاكها؟"

10ثمّ أجال نظره فيهم جميعاً،

قال له: "مدّ يدك".
ففعل.
فعادت يده.
11أمّا هم فامتلأوا شراسة

وراحوا يتباحثون فيما بينهم ماذا يفعلون بيسوع.


2- مقارنة إزائيّة
* يجعل لوقا الشفاء في "سبت آخر" بينما تبقى حادثَتي اقتلاع السنبل والشفاء في سبت واحد عند متّى ومرقس.
* يحدّد متّى أكثر من مرقس ولوقا المكان الذي دخل إليه يسوع. إنّه "مجمعهم" وليس فقط "المجمع"، وذلك للتركيز على الانفصال بين المجمع اليهودي والكنيسة.
* يركّز لوقا على البُعد "التعليمي" لوجود يسوع في المجمع وبالتالي للشفاء الذي سيقوم به.
* يُبرز متّى ومرقس إنسانًا له يد يابسة (متّى: له يد يابسة، أي إحدى يَديه؛ مرقس: له اليد اليابسة، كأن له يدًا واحدة). أمّا لوقا فيُعطي بُعدًا مزدوجًا للوضع القائم. يستعمل "واو العطف": كان إنسان هناك ويده اليمنى كانت يابسة. هناك إنسان وهناك اليد اليمنى- أداة العمل- معطلّة.
* يستعمل الإزائيّون الثلاثة كلمة "إنسان" في رواياتهم، إلاّ أنّ لوقا قد استبدلها مرّة واحدة بكلمة "رجل" (ذكر).
* ليس هناك مراقبة من قبل الفرّيسيّين في رواية متّى. إنّهم يحاولون مناقشة مبدأ الشفاء في السبت عامةً من خلال سؤال: هل يحلّ...؟ المراقبة عند مرقس تطال شفاء يسوع لهذا الإنسان يوم السبت، أمّا عند لوقا فتتسّع لتشمل الشفاء (بشكل عام) الذي يقوم به يسوع في البيت.
* يذكر لوقا المراقبين- الكتبة والفرّيسيّين- لأنّه جعل الشفاء في "سبت آخر" بينما تتّصل روايَتي متّى ومرقس بما جرى مع الفرّيسيّين عندما اقتلع التلاميذ السنبل في السبت عينه.
* معرفة يسوع لأفكار الكتبة والفرّيسيين مذكورة عند لوقا: معرفته بكيفيّة فهمهم لشريعة السبت، ومعرفته بنواياهم ضدّه.
* عند متّى يبقى الإنسان في مكانه. عند مرقس ولوقا يدعوه يسوع للقيام في الوسط. لوقا يؤكّد على أنّ أمر يسوع الأوّل (قم وقف في الوسط) قد تحقّق في حين أنّ مرقس لا يهتمّ بهذا التوضيح.
* يُجيب متّى على السؤال المطروح بشأن مبدأ "الشفاء يوم السبت" بالطريقة الربّانيّة. يُعطي مثلاً (عبرة) يُنهيه بسؤال يستنتج من خلاله حلاً إيجابيًا جاعلاً من الشفاء عمل خير. عند مرقس ولوقا يأتي السؤال مباشرة من يسوع لأنّ الفرّيسيّين لم يسألوه عن شيء بل راحوا يُراقبونه.
* يهتمّ مرقس بذكر "سكوت" الفرّيسيّين أمام سؤال يسوع، بينما يعتبر متّى ولوقا أن يسوع لا ينتظر جوابًا على سؤاله. في الحالَتين، الكلمة النهائيّة هي ليسوع.
* من مميّزات مرقس التوقّف على دقائق الأمور: سكتوا، بغضب، مفجوع، قساوة قلوبهم.
* يُركّز الإزائيّون الثلاثة على تتميم ما طلب يسوع من الإنسان (الطلب الأوّل عند متّى والثاني عند مرقس ولوقا) وعلى النتيجة الإيجابيّة التي حصل عليها الإنسان بعد أن مدّ يده.
* النتيجة عند متّى: عادت سليمة كالأخرى إذ إنّ له يدًا يابسة؛ عند مرقس ولوقا: يده كأداة عمل.
* وحده لوقا يذكر حالة الفرّيسيّين النفسيّة: امتلأوا شراسة. فالعمل الذي قام به يسوع يطالهم مباشرة ويطال تعاليمهم.

4- قراءة تاريخيّة- نقديّة لرواية مرقس
"لا يمكن الاستغناء عن هذه المنهجيّة التاريخية البيبليّة في أيّة دراسة علميّة لمعنى النصوص القديمة. وبما أن البيبليّا هي كلمة الله في لغة الإنسان وقد تمّ تأليفها بواسطة كتّاب بشريّين في كل فصولها ومراجعها، فإنّ فهمها لا يقرّ بشرعيّة هذه المنهجيّة وحسب، بل يتطلّب استخدامها... إنّها منهجيّة تاريخيّة... لأنّها تسعى إلى توضيح التطوّرات التاريخيّة في تكوين النصوص... إنّها منهجيّة نقديّة لأنّها تعمل انطلاقًا من معطيات علميّة، موضوعية بقدر الإمكان، في كل خطوة من خطواتها، من نقد النصّ إلى نقد أسلوب التحرير... إنّها منهجيّة تحليليّة لأنّها تدرس النصّ البيبليّ، بالطريقة ذاتها التي تدرس فيها أيّ نصّ قديم، وتشرّحه كلغة بشريّة... أمّا فيما يخص تضمين المنهجيّة تحليلاً متزامنًا للنصوص، فيجب الاعتراف بشرعيّة هذه العمليّة لأنّ النصّ في حالته النهائيّة، وليس كما دوّن سابقًا، هو التعبير عن كلمة الله. ولكنّ درس النصّ من خلال زمانه المتطوّر والمتتالي يبقى ضروريًا لنُدرك الديناميكيّة التاريخيّة التي تُحرّك البيبليا وليظهر غنى تشعّبها".
بعد دراسة الإطار العامّ الذي ترد فيه رواية مرقس ومراحل تطوّر النصّ (طبقاته أو تاريخه) نتوقّف على تركيبته وعلى المواضيع الكرستولوجيّة الكبرى التي يعرضها النصّ.

أ- الإطار العامّ
يفتتح مرقس إنجيله بعنوان يُعبّر فيه عن المضمون: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" (1: 1أ). يبدأ الإنجيل بثلاثة تعريفات بيسوع: الأول من النبيّ أشعيا (1: 2- 3)، الثاني من يوحنّا المعمدان (1: 7- 8)، الثالث من الروح القدس (1: 10- 12). يبدأ يسوع كلامه بجملة يُلخّص فيها المضمون الأساسي لبشارته: "لقد تمّ الزمان، واقترب ملكوت الله؛ فتوبوا، وآمنوا بالإنجيل" (1: 15). اتّباع الرسل الأربعة الأوّلين (1: 16- 20) هو تعبير واضح عن فعاليّة هذه البشارة.
تظهر فعاليّة هذه البشارة أيضًا من خلال الأعمال والتعاليم التي سيقوم بها يسوع. يوم واحد في كفرناحوم (1: 21- 34) سيشهد شفاءات عديدة تُذهل جميع الحاضرين. يوم آخر من البشارة في الجليل (1: 35- 45) يجمع بين التعليم والشفاءات ويجعل الناس يأتون إليه من كلّ جهة.
لن يدوم هذا الانذهال خاليًا من معارضة الفرّيسيّين. يعرض مرقس خمس مواجهات بينهم وبين يسوع في إطار عمل قام به يسوع أو تلاميذه (2: 1- 3: 6):
- شفاء المخلّع (2: 1- 12)
- الجلوس مع العشّارين والخطأة (2: 13- 17)
- جدل بشأن الصوم (العروس الذي سيُرفع) (2: 18- 22)
- اقتلاع السنبل (2: 23- 28)
- شفاء صاحب اليد اليابسة (3: 1- 6).
المواجهات الثانية والثالثة والرابعة مبنيّة بشكل متواز (عمل، سؤال، جواب). في الثانية هناك عمل قام به يسوع (الجلوس مع العشّارين والخطأة)، وسؤال من الفرّيسيّين موجّه للتلاميذ، أمّا الجواب فيأتي من يسوع: إنّه طبيب الخطأة. في الثالثة هناك عمل قام به التلاميذ (عدم الصوم)، وسؤال موجّه ليسوع، وجواب يأتي منه: إنّه العريس الذي سيُرفع. في الرابعة هناك عمل قام به التلاميذ (اقتلاع السنبل يوم السبت)، وسؤال من الفرّيسيّين موجّه ليسوع، وجواب يأتي منه: إنّه ربّ السبت. يعتبر بعض الشرّاح أنّ هذه المواجهات الثلاث هي وحدة أدبيّة قديمة استعملها مرقس مضيفاً إليها المواجهتَين الأولى والخامسة.
ترتكز هاتان المواجهتان على شفاءَين: شفاء المخلّع وشفاء صاحب اليد اليابسة يوم السبت. يُلاحظ فيهما غياب التلاميذ الذين كان لهم دور في المواجهات الأخرى. إذا كانت المواجهة قد أبرزت سلطان إبن البشر في مغفرة الخطايا- هذه المغفرة التي تعود إلى الله وحده- فماذا تُبرز المواجهة الأخيرة الموازية لها؟
الإطار العام هو إطار مواجهات قويّة تصل مع نهاية النصّ الذي سندرسه إلى التخطيط لقتل يسوع. هذه المواجهات أدخلها مرقس منذ بدء إنجيله. لا نرى أعداء يسوع شرسين كما هم في مطلع إنجيل مرقس وفي محاكمة يسوع. ويبقى شخص يسوع هو الأبرز (العريس الذي سيُرفع، سيموت ويقوم).

ب- تاريخ النصّ
الرابط بين نصّنا والنصّ الذي يسبقه هو أنّ أحداثهما تجري في يوم السبت. ويبدو أن ذكر يوم السبت فيهما لم يكن في أصل الرواية وإن كان الآن، في حالة النصّ النهائيّة، يُعطي المعنى الأساسي للمواجهة بين يسوع والفرّيسيّين. كان ذكر يوم السبت يُضاف عامة لإعطاء مبرّر للفرّيسيّين لمعارضة يسوع الذي كانت أعماله كافة تزعجهم (راجع مثلاً يو 5).
في رواية اقتلاع التلاميذ للسنبل، كيف يُمكننا شرح وجود الفرّيسيّين في يوم السبت بين الزروع مع العلم أنّ المسافة المسموح اجتيازها كانت قصيرة؟ هل كانوا فرّيسيّين مزارعين؟ ويقول أيضًا، جواب يسوع الذي يستشهد بالكتب لم يتطرّق إلى موضوع يوم السبت في مخالفة داود ومن معه للشريعة.
في شفاء صاحب اليد اليابسة، نلاحظ، إذا قارنًّا روايات الإزائيّين، أنّ الرواية التي يلتقون محليها تمامًا. هي حادثة الشفاء دون ذكر يوم السبت منذ البدء عند الثلاثة. قد يكون في أصل هذه الرواية الحادثة التالية: "دخل المجمع، وكان هناك رجل له يد يابسة. فقال للرجل: مُدّ يدك، فمدّها فعادت يده سليمة".
في مرحلة ثانية، وقبل الكتابة الإنجيليّة، تحوّلت رواية حادثة الشفاء إلى رواية مواجهة حول مفهوم السبت بين يسوع والفرّيسيّين. وفي النصّ الحالي نرى أنّ حادثة الشفاء تشكّل خلفيّة الرواية، بينما يحتلّ الخلاف بين يسوع والفرّيسيّين المكانة البارزة.

ج- تركيبة النصّ وشرحه
تُبرز رواية مرقس عنف المجابهة من خلال التركيز على التناقضات بشكل موسَّع. تُظهر هذه التناقضات بنية نصّ مرقس:
- يسوع يدخل المجمع
- يد يابسة
- مراقبة يسوع من الفرّيسيّين
- سؤال من يسوع
- عمل صلاح
- عمل شرّ
- تخليص
- قتل
- سكوت من الفرّيسيّين
- نظرة شاملة من يسوع
- يد صحيحة
- الفرّيسيّين يخرجون من المجمع.
يبقى يسوع وحده في مواجهة المعارضين (لا نجد ذكرًا للتلاميذ أو للجموع). لا نعرف هويّتهم إلا في نهاية النصّ. إنّهم يُراقبونه ليروا إن كان سيشفي صاحب اليد اليابسة يوم السبت لكي يشتكوا عليه دون أن يكترثوا بالمريض. سوف يظلّون صامتين حتى عندما وجّه يسوع إليهم سؤالاً. بالمقابل، نرى يسوع يعمل كل شيء بوضوح لكي يُزيل كلّ التباس. يأخذ المبادرة لشفاء المريض دون أن يطلب أحد منه ذلك الشفاء. إنّه يتحمّل مسؤولية كلّ ما سيحدث. يدعو المريض إلى وسط المجمع ثم يطرح على أعدائه سؤالاً لاهوتيًا: أيحلّ يوم السبت عمل صلاح أم عمل شرّ، تخليص نفس أو قتلها؟ سؤال يسوع يتطلّب جوابًا إيجابيًّا لأنّه، بحسب الربّانيّين، يُمكن مخالفة شريعة السبت في حالة خطر الموت الحتمي المباشر... وهذه الحالة ليست مطروحة في وضع صاحب اليد اليابسة!
لن يدخل يسوع في متاهات المناقشات. بالنسبة إليه، السبت هو وقت الإنقاذ، إنّه زمن الخلاص: عدم شفاء المريض يُصبح قتلاً. وعدم شفاء المريض، الذي هو قتل، يُصبح مخالفة للوصيّة الأساسيّة: لا تقتل.
وحده مرقس يُركّز على وضع أعداء يسوع: أمّا هم فسكتوا، في حين أنّ الجواب على سؤال يسوع لا يختلف عليه إثنان: أجال يسوع نظره فيهم بغضب. ونقول أيضًا: وحده مرقس يذكر ردّة فعل يسوع- وهذا من مميّزات مرقس. ولكنّه يُبرّر هذا الغضب بأنّ يسوع كان مفجوعًا من "قساوة قلوبهم". عبارة "قساوة القلب" أو "قساوة الرقاب (الأعناق)" كانت تُلخّص كلّ خطايا الشعب من ترك الله وعبادة الأوثان إلى نسيان عمل الله الخلاصي والابتعاد عن الإيمان والشريعة، وبالتالي عن العهد. وبكلمة واحدة، "قساوة القلب" هي الاتهام الجوهري الوحيد الذي كان يوجّهه الله لشعبه.
اللازمة المعتادة (انذهال الجموع وتعجّبهم) التي يضعها عادة مرقس في نهاية رواياته للمعجزات تختفي من روايتنا هذه لتأخذ مكانها استشارة إهلاك يسوع. وحده مرقس يوضح بأنّ أعداء يسوع هم الفرّيسيّون والهيرودسيّون. يوحّد بين فئتيّن متعاديتيّن: الأولى معارضة للوجود الروماني والثانية موالية له. إنّه توحيد بين القوى الدينيّة والقوى السياسية.
يخرج أعداء يسوع من المجمع. خروجهم يأتي معاكسًا لدخول يسوع إلى المجمع في بداية النصّ. هذا يعني أنّ يسوع بقي في المجمع بعد أن كشف حقيقة الذين يعتبرون أنفسهم مدافعين عن الشريعة وهم في الواقع يُخالفونها.
قرار قتل يسوع هنا، في مطلع إنجيل مرقس وفي بداية حياة يسوع. العلنيّة، يظهر سابقًا لأوانه. إنّه يُخالف الواقع التاريخيّ. هذا القرار يبدو واقعيًا عند الدخول المسيحاني إلى أورشليم (11: 18؛ راجع أيضًا 15: 1). فمرقس لا يُريد إبراز معارضة محدّدة تاريخيًّا في هذا الوقت أو ذاك. إنّه يرغب في إظهار أوّل مواجهة جذريّة بين يسوع وأعدائه ضمن إطار الآلام والصليب والموت والقيامة.
المسألة الأساسيّة بالنسبة إلى مرقس هي أبعد من أن تكون مسألة مناقشات لاهوتيّة عقائديّة أو مسألة سرد بسيط لمعجزة صنعها يسوع. همّه الأوّل هو همّ كرستولوجيّ.

د- وجه يسوع المسيح من خلال نصّ مرقس
- يظهر يسوع أوّلاً كرجل حرّ، له استقلاليته، يعمل دون حرج أو خوف من أحد. حرّ أمام مطاردة أعدائه، مراقبتهم لم تُبعده عن إتمام غايته؛ حرّ أيضًا أمام المفهوم الذي كان سائدًا للشرائع المقدّسة كشريعة السبت.
- ليسوع قدرة تُعطي الخلاص وتُحرّر الإنسان من المرض. كلمة يسوع تخلق الإنسان من جديد في كلّ أبعاده. قدرته تُحرّر الإنسان من نير الشريعة التي تقتل، ولا سيّما شريعة السبت.
- لم يهدم يسوع الشريعة، لكنّه أعاد إليها مفهومها الأصليّ الذي هو خدمة الإنسان. فالشريعة أصلاً هي رمز الحياة وليست أداة الموت. فالمعنى الجوهري للشريعة لا يقضي بمنع بعض الممارسات، بل عمل الخير بدل الشرّ، تخليص النفس بدل قتلها. فالسبت مثلاً الذي هو علامة حبّ الله لشعبه لا يُمكن إلاّ أن يكون في خدمة الإنسان. فالشريعة التي تأتي من الله لا يُمكن أن تُعطي إلاّ الحياة.
- كلمة يسوع وعمله هما مقياس الدينونة. عندما أعطى بهما معنى الشريعة الجوهري، كشف عن قساوة قلوب أعدائه. تصرّفه أثار كرههم له فقرّروا قتله في يوم السبت. لقد تعدّوا في يوم السبت وصيّة أساسيّة- لا تقتل- عندما فضّلوا ترك المريض وعندما قرّروا إهلاك يسوع.

5- قراءة سيميائية مبسّطة لرواية متّى
"من الطرق المسمّاة متزامنة أي التي ترتكز على دراسة النصّ كما هو موضوع أمام القرّاء بشكل نهائي، هناك منهجيّة التحليل السيميائي التي انتشرت بقوّة في بعض الأوساط، منذ حوالي عشرين سنة... يعتمد التحليل السيميائي على ثلاثة مبادئ أو افتراضات أساسيّة:
- كلّ نصّ يُشكّل في حدّ ذاته وحدة المعنى. والتحليل السيميائي يهتم بالنصّ كاملاً، وبالنصّ فقط، ولا يستحضر معطيات خارجيّة مثل المؤلّف والموجّه إليهم وأحداث الرواية وتاريخ التدوين.
- لا وجود لمعنى إلاّ من خلال العلاقة، خاصة العلاقة بين الفوارق. فتحليل النصّ يقوم، إذن، في إقامة شبكة علاقات (متناقضة أو متعاكسة) بين العناصر. وانطلاقًا من هذه الشبكة يتكوّن معنى النصّ.
- يحترم كلّ نصّ قواعد لغويّة، أي عددًا من القواعد أو البُنى الخاصة؛ فنجد في مجموعة الجمل المسمّاة خطابًا، مستويات مختلفة في التعبير، لكل منها قواعده اللغويّة.
... إنّ المنهجيّة السيميائيّة، عندما لا تضيع في معارج لغة معقّدة، وعندما تُعبّر ببساطة عن عناصرها الأساسيّة، تستطيع أن تجعل المسيحيّين يتذوّقون دراسة النصوص البيبليّة، واكتشاف بعض أبعاد معانيها، دون أن يمتلكوا كلّ المعارف التاريخيّة المتعلّقة بنشأة النصّ وبإطاره الاجتماعيّ الثقافيّ...".
الأشخاص الذين يدخلون في النقاش هم من جهة يسوع الذي عُرفت قدرته على الشفاء، ومن جهة أخرى، الفرّيسيّون الذي يسهرون على العمل الدينيّ والنظام الاجتماعيّ.
موضوع النتهاش: احتمال إجراء شفاء يوم السبت.
المقارنات والصور سوف تُظهر ما هو بالتحديد مضمون النقاش وما هي أبعاده.
نقطة الانطلاق تذكر الوضع القائم: "وها إنسان له يد يابسة"، بالصدفة، يمكننا أن نزيد. إنسان مفرد، له وضع خاص. لم تمنع إعاقته من المجيء إلى هنا. ليست اليد عضواً حيوياً: الحياة ليست في خطر. ونقول أيضًا، هذا الإنسان لم يطلب شيئًا.
لا شيء يُظهر بأنّ الفرّيسيّين قد لاحظوا وضع صاحب اليد اليابسة. لكن من المؤكّد، إذا افترضنا أنّهم رأوه، هو أنّهم لم يتوقّفوا على وضعه الخاص. السؤال الذي طرحوه على يسوع هو سؤال عام: "هل يحلّ في السبت الشفاء؟" يُركّز السؤال على المسموح والممنوع. إنّه سؤال نظري، لكنّه ليس سؤالاً جدليًا فقط، لأنَّ النيّة وراء طرحه لم تكن سليمة: "لكي يشتكوا عليه". وهذا ما فهمه يسوع لأنّه لم يكتف بالجواب على هذا السؤال على المستوى النظري، لكنّه جمع بين العمل والكلمة وذلك على حساب حياته. عمل يسوع تخطّى توقّعات الفرّيسيّين. سؤالهم يفترض أنّ يسوع قادر على الشفاء يوم السبت. لكنّ جواب يسوع وعمله كانا بمثابة تحدٍّ فاضح. في البدء أرادوا أن يشتكوا عليه، ولكن بعد ما عمله يسوع، انتهى بهم الأمر إلى تصميم على إهلاكه. مسألة الحياة والموت ستُطرح انطلاقًا من وضع دون أهميّة كبرى. ماذا كان يحتوي ردّ يسوع حتى اعتبره الفرّسيّون إلى هذا الحدّ خطيرًا؟
يبدأ ردّ يسوع أولاً بعرض مثَل. ينطلق هذا المثل من طريقة تصرّف الذين يتحدّثون مع يسوع، وذلك لوضع طريقة تصرّفهم في تناقض مع نظريتهم: "أيّ إنسان منكم له خروف واحد فإن سقط هذا يوم السبت في حفرة أفما يمسكه ويقيمه؟"
إذا أردنا أن نفهم جواب يسوع، يجب معرفة ما يمثّله الخروف. ما هي القيمة الصوريّة (الرمزيّة) المعروضة في هذا الردّ؟ نحن أمام نقطة دقيقة جدًا وهي التي تُقرّر وجوب العمل في السبت. الخروف سقط والمطلوب هو إقامته. لم يُذكر بأنّه جُرح أو وقع على ظهره مما قد يؤدّي إلى موته. بالمقابل يذكر النصّ أنّ الخروف "واحد". من هنا يمكننا أن نستنتج معنيين محتلَمين: إمّا أنّ للخروف قيمة اقتصاديّة تجعل إقامته ضرورة يُمكن معها كسر شريعة السبت؛ وإمّا أن الخروف "واحد" بمعنى أنّه مميّز وفريد وله قيمة بحدِّ ذاته وبالتالي يُمكن كسر شريعة السبت من أجل هذه القيمة الفريدة.
الخروف، حسب النصّ، هو "واحد" و"سقط في حفرة". فالمشكلة المطروحة هي معرفة إذا كان بالإمكان صرف النظر عنه على أساس أنّه كميّة لا أهميّة لها. إذا كان للخروف قيمة اقتصادية فقط، يأتي الجواب بالايجاب، ويُصرف النظر عنه مقابل شريعة السبت لأن الإنسان لم يخسر شيئًا كبيرًا؛ وكذلك المجتمع عامة لن يتأثر بفقدان خروف واحد. أمّا العلاقة الأساسيّة التي يتكلّم عنها النصّ والتي تربط بين الإنسان والخروف، فليست على المستوى الاقتصاديّ. فالنصّ يُركّز على العلاقة التي تربط الإنسان مع ما سقط وما يجب إقامته لأنّه فريد بالرغم من قلّة قيمته الاقتصاديّة. إقامة ما هو وحيد وفريد ومميّز، والذي يتركه عادة المجتمع ساقطًا في مكانه، هذا ما يدلّ على العبور من المستوى الاقتصاديّ إلى المستوى الرمزي الذي هو الفرادة (فريد من نوعه)، والشريعة في معناها الجوهري تؤمّن هذا العبور بين المستويَين. من هنا يأخذ الشخص (الفريد، الوحيد) القيمة نفسها التي للجماعة. وهذا ما يُشكّل خطرًا على التنظيم المجتمعي العام. والفرّيسيّون الذين يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن حسن النظام في المجتمع لم يغلطوا حين اعتبروا يسوع خطرًا. لذلك أرادوا التخلّص منه.
المثل الذي أعطاه يسوع يُظهر بأن ما سيعمله يوم السبت ليس "شاذًا عن القاعدة". هناك ضرورة لإقامة الخروف في يوم السبت دون التريّث إلى الغد. وجوابًا على سؤالهم يعتبر يسوع أنّه ليس فقط مسموحًا الشفاء في السبت بل هو واجب ضروري. فالسبت جُعل لهذا: وقاية الذي سقط لأنّه فريد.
التطبيق على الإنسان يتبع المثل مباشرة: "فكم هو أفضل إنسان من خروف. لذلك يحلّ يوم السبت عمل خير". يأخذ هذا التطبيق بُعدَين:
- أولاً، هناك بُعد العلاقة بين الإنسان والخروف: الإنسان أفضل من خروف. فإذا كان بالإمكان تخليص الخروف يوم السبت فكم بالأحرى الإنسان. والفرّيسيّون لا يُمكنهم أن يرفضوا ذلك الأمر دون أن يرفضوا إنسانيتهم: "أفي إنسان منكم...".
- ثانيًا، هناك بُعد عام وشامل. فالمسألة ليست مسألة شفاء وحسب، بل مسألة "عمل خير".
لو توقّف يسوع عند هذا الحدّ من الردّ لكان جوابه مناسبًا: لقد أجاب على سؤال الفرّيسيّين. لكنّ يسوع لم يكتف بهذا المقدار من الجواب. استغلّ وجود صاحب اليد اليابسة ليجمع بين ما قاله عن الإنسان عامة والعمل على شفائه: "مدّ يدك". على عكس الفرّيسيّين، يسوع يضع المبدأ الذي يُنادي به موضع التنفيذ. إنّه يُخاطر بنفسه في سبيل خير الإنسان والإنسانيّة.
ولنُلاحظ أنّ في عمليّة الشفاء يكتفي يسوع بإعطاء الأمر. فالإنسان، عمليًا، هو الذي مدّ يده. مدّها فعادت صحيحة طبيعيّة كالأخرى. لم يشأ يسوع أن يستعمل الإنسان يدًا واحدة فقط. إنّه لمن المؤسف أن لا يستغل الإنسان كلتي يدَيه.
وهكذا تظهر أبعاد النقاش: ما يُبرهنه شفاء صاحب اليد اليابسة هو أنّ يسوع جاء يهتم بالأشياء الصغيرة والبسيطة ويُحييها ويُعيد الاعتبار إليها بقدر ما هي منسيّة ومرذولة من قبل الشريعة أو النظام الإجتماعيّ. وإذا كان هناك من ضرورة ملحّة وقصوى للقيام بذلك يوم السبت فهذه الضرورة هي ضرورة إنجيليّة.

6- قراءة بلاغيّة لرواية لوقا
"... البلاغة هي فنّ تأليف خطب مقنعة. والنصوص البيبليّة هي كلّها على درجة معيّنة من الإقناع. فالإلمام بالبلاغة يُشكّل جزءًا من العدّة العاديّة للمفسّرين... للتحاليل البلاغيّة حدود. فعندما تقتصر على الوصف دون الاستنتاج، تكون نتائجها غالباً إنشائيّة وحسب... يُثير تطبيقها على النصوص البيبليّة أكثر من سؤال: هل كان مؤلّفو النصوص من الأوساط الأكثر ثقافة؟ إلى أيّ مدى التزموا بأساليب البلاغة في مؤلّفاتهم؟...".
بعد عرض سريع للإطار الكتابيّ الذي ترد فيه رواية شفاء صاحب اليد اليابسة في إنجيل لوقا نتوقّف على بنية الرواية لنستخلص المعاني التي ضمّنها لوقا روايته.

أ- بنية إطار الرواية عند لوقا
يُشكّل القسم 5: 17- 6: 11 من إنجيل لوقا إطارًا لرواية شفاء صاحب اليد اليابسة. وحدة هذا القسم تأتي من وحدة الأشخاص الذين يتجادلون مع يسوع. يدخل الفرّيسيّون للمرّة الأولى في إنجيل لوقا في مطلع هذا القسم (5: 17) ويرافقون كلّ الأحداث الواردة فيه. هناك تضمين يحدّ هذا القسم بكامله: ذكرٌ لتعليم يسوع وللشفاءات التي تجري على يده في مطلع القسم (5: 17) وفي نهايته (مطلع الرواية التي تستوقفنا، 6: 6). وهناك أيضًا بنية هذا القسم التي تجعل منه وحدة متكاملة.
- شفاء مع مجابهة (5: 17- 26).
- مجابهة (5: 27- 35).
- مثل مزدوج (5: 36- 39).
- مجابهة (6: 1- 5).
- شفاء مع مجابهة (6: 6- 11).
* يروي كل من المقطعَين الأوّل والأخير شفاء قام به يسوع. نرى فيهما الفرّيسيّين "يفكّرون" (5: 21) و"يراقبون" (6: 7)، أمّا يسوع فكان يعلم أفكارهم (5: 22 و6: 8). وفي الحالتين نرى أنّ الرجل الذي شُفي كان معاق القدمَين (مخلّع لا يستطيع المشي) أو معاق اليد اليُمنى. ونرى أيضًا المريضَين "في الوسط" (5: 19 و6: 8). والاثنين سوف يدعوهما يسوع "قم واحمل" أو "قم وقف"، والإثنان سيقومان. بالمقابل، ينتهي الشفاء الأوّل بتمجيد الله بينما ينتهي الثاني بشراسة الفرّيسيّين.
* في المقطعَين الثاني والرابع نجد مجابهتَين. موضوعهما هو "الأكل". وفيهما أيضًا يتوجّه الفرّيسيّون إلى التلاميذ. فموضوع الأكل فيهما هو أكل التلاميذ مع العشّارين (في الرواية الموازية في إنجيلَي متّى ومرقس يجري الحديث عن مؤاكلة يسوع للعشّارين- متّى 9: 11 ومر 2: 16) وأكل التلاميذ للسنبل بعد اقتلاعه وفركه يوم السبت. يُلاحظ أيضًا أنّه في الإطار بأكمله لا ترد كلمة "التلاميذ" إلاّ في هذين المقطعَين.
* ينتهي الجزء الأوّل من البنية (أي المقطعان الأوّلان قبل المقطع المحوري) بالإشارة إلى رفع العريس (5: 35) كما ينتهي الجزء الثاني (نهاية القسم) بالإشارة إلى سعي الكتبة والفرّيسيين لقتل يسوع (6: 11).
* المثل المحوري يتحدّث عن الثوب الجديد والخمر الجديدة. يسوع الذي يأتي بمنطق جديد لن تستوعبه زقاق قديمة كالكتبة والفرّيسيّين، بل تُهيّأ له زقاق جديدة كالتلاميذ والعشّارين والخطأة التائبين. الشريعة- الخمر القديمة- طيّبة إذا لم تفقد روحها؛ وهذا هو دور يسوع: إعادة الروح للحرف.

ب- بنية الرواية عند لوقا
6 وحدث أنّ في سبت آخر دخل هو إلى المجمع وراح يعلّم
وكان إنسان هناك ويده اليمنى كانت يابسة

7 وكان يراقبه الكتبة والفرّيسيّون
هل في السبت يشفي لكي يجدوا ما يُشكى عليه.

8 أمّا هو فكان قد علِم أفكارهم فقال للرجل الذي له اليد اليابسة:
"قم وقف
في الوسط".
فانتصب ووقف.

9 فقال يسوع متوجّهًا إليهم:
"أسألكم
هل يحلّ يوم السبت عمل صلاح أم عمل شرّ
تخليص نفس أم إهلاكها؟"

10 ثمّ أجال نظره فيهم جميعًا، قال له:
"مدّ يدك".
ففعل.
فعادت يده.

11 أمّا هم فامتلأوا شراسة وراحوا يتباحثون فيما بينهم
ماذا يفعلون بيسوع.

يتألّف نصّنا من مقدّمة تليها تركيبة محوريّة لسائر النصّ.
تشرح المقدّمة في مرحلة أولى ما يعمله يسوع، وفي مرحلة ثانية إعاقة المريض. أمّا رواية الشفاء فتركيبتها البلاغيّة مؤلّفة من خمسة أجزاء مبنيّة بشكل محوريّ.
الجزءان الأوّل (آ 7) والخامس (آ 11) يحتويان السؤالين اللذين يطرحهما الكتبة والفرّيسيّون. والسؤلان مطروحان بأسلوب غير مباشر.
في الوسط (المحور آ 9) نجد سؤالاً ثالثاً بأسلوب مباشر. يطرحه يسوع بصوت عال ويُشدّد عليه إذ يبدأه بالتنبيه: "أسألكم". ويُركّز عليه أيضًا بالتكرار المعنوي (صلاح أم شرّ؛ تخليص أم إهلاك). هذا التناقض المحوري المزدوج (صلاح- شرّ؛ تخليص- إهلاك) كان موجوداً في السؤال الأوّل (يشفي- يُشكى عليه). لن يبقى من هذه الثنائيّة في السؤال الثالث إلاّ الفعل "يفعلون" الذي يأخذ معنى سلبيًا بعد ذكر الشراسة.
بين هذه الأسئلة الثلاثة هناك جزءان متوازيان (آ 8 وآ 10). يبدأ كلٌّ منهما بوصف يسوع في علاقته بالكتبة والفرّيسيّين. بعد ذلك يتوجّه فيهما يسوع بأمر لصاحب اليد اليابسة؛ ثم يأتي التركيز على تتميم الأمر من قبل المريض. ينتهي الجزء الثاني بذكر شفاء اليد.

ج- الأفكار الرئيسيّة في رواية لوقا
- طوال هذه المجابهة لم ينطق الفرّيسيّون والكتبة بكلمة أمام يسوع. سؤالهم الأوّل كان داخلياً لم يُعلنوه بصوت عال؛ لكنّ يسوع كان يعلم أفكارهم. وسؤالهم الثاني بعد الشفاء كان مُتداولاً بينهم بعيدًا عن مسمع يسوع. أمّا يسوع، الوحيد الذي يتكلّم بصوت عال في النصّ، فسؤاله الذي يأتي علانية، مُكرّر بشكل يُزيل كلّ التباس، وموجّه بشكل صريح، أمام جسامة المشكلة. لا يُمكن أن تبقى الأمور مخفيّة تحت ستار الخبث؛ يجب أن تُقال الأشياء بصراحة، وأن تطرح الأسئلة بوضوح.
- سؤال يسوع يتطرّق بالطبع إلى تصرّفه الخاص: أليس له الحق في الشفاء، في عمل صلاح، في تخليص نفس المريض الذي انتصب في الوسط على حسب صَلب يسوع؟ لكنّ هذا السؤال يتناول أيضًا طريقة تصرّف الكتبة والفرّيسيّين الذين كانوا يترقّبون الفرصة السانحة ليشتكوا على يسوع، ليعملوا شرًّا، ليُهلكوه. فكلام يسوع لا يحتوي فقط إعلانًا عن تصرّفه، بل أيضًا دينونة لأعدائه. ففي سؤاله كشف ودينونة.
- في مقدّمة الرواية ذُكر أن يسوع كان يُعلّم في المجمع. لكنّ النصّ لا ينقل لنا محتوى هذا التعليم بل الشفاء الذي عمله يسوع. العمل الذي قام به يسوع كان تعليمًا بالأعمال. فجوابًا على أفكار الكتبة والفرّيسيّين سعى يسوع لإعطاء المعنى الحقيقي لشريعة السبت. والكتبة والفرّيسيّون لم ينتقدوه لأنه كان يُعلّم في السبت، بل لأنّه كان يشفي. فالشفاء بالنسبة إليهم هو عملٌ، خلافًا للتعليم. أظهر يسوع من خلال هذا الشفاء بأن حقيقة السبت مؤلّفة من وجهين متكاملين لعمل واحد.
- السبت جُعل لتحرير الإنسان. يسوع يعمل بشريعة السبت لأنّه يُتمِّم ما عمله الله مع شعبه من تحرير من العبوديّة في مصر. إنّه يعمل صلاحًا ويُعطي حياة وحركة كاملة للإنسان المريض. أمّا الفرّيسيّون الذين يعتبرون أنفسهم عارفي الكتب، فإنّهم ينتهكون شريعة السبت مرّتين: يُفضّلون أن يبقى الإنسان مريضًا وعاجزًا بدلاً من تحريره يوم السبت، ويسعون في يوم السبت لإهلاك يسوع، سائرين عكس وصيّة "لا تقتل".
- الإنسان الذي شُفي في ذاك السبت كانت يده اليُمنى يابسة، أي أنّه كان عاجزًا عن العمل. كان محكوماً عليه بسبت مستمر، أو بالأحرى لم يكن باستطاعته حفظ شريعة السبت لأن الراحة في يوم السبت كانت مرتبطة جوهريًا بالعمل في الأيّام الستّة السابقة. فيسوع لم يكتف فقط بحفظ شريعة السبت، ولم يكتف أيضًا بدعوة الكتبة والفرّيسيّين لفهم المعنى الحقيقي للسبت، بل أعطى المريض أن يحفظَ شريعة السبت من خلال إعطائه إمكانيّة العمل في سائر أيّام الأسبوع.

7- الختام: قراءة رمزيّة لرواية شفاء صاحب اليد اليابسة
لن نُكرر في الخاتمة الخلاصات اللاهوتيّة أو الكرستولوجيّة التي استنتجناها من قراءاتنا المختلفة لرواية شفاء صاحب اليد اليابسة. كلّ ما توصّلنا إليه جوهري ويدخل في المعنى الأساسي لرواية الشفاء. ولكن، برأينا، كلّ ما ذكرناه عن خطورة يسوع وتهديده للمصالح الفرّيسيّة وتعاليمهم، وعن تفسيره الجريء للشريعة ولمعنى السبت وللتغييرات التي أتى بها، لم يكن كافيًا لجعل الكتبة والفرّيسيّين يُقرّرون قتله في نهاية هذه الرواية. نجد مدارس تفسيريّة متحرّرة عديدة قد خالفت التفسيرات الفرّيسيّة ولها مفاهيم متطوّرة في هذا المجال، لكنّ الجدال والمجابهات بينها ظلّت على مستوى النقاش والتحزّب فقط. فما هو السبب الأساسيّ الذي رآه الفرّيسيّون بيسوع والذي دفعهم لأخذ القرار بالتخلّص منه؟ لا شكّ أن القراءة الرمزيّة، التي سنتطرّق إليها والتي ترتكز على بعض المقاربات الكتابيّة بين الرواية وكتب العهد القديم التي يعرفها الفرّيسيّون عن ظهر قلب وخاصة سفر التكوين وبالتحديد رواية الخلق الثانية، سوف تُجيب على هذا السؤال.
تك 2: 8- 9: "وغرس الربّ الإله جنّة في عدن شرقًا وجعل هناك الإنسان الذي جبله. وأنبت الربّ الإله من الأرض كلّ شجرة حسنة المنظر وطيّبة المأكل وشجرة الحياة في وسط الجنّة وشجرة معرفة الخير والشّرّ".
تك 3: 22- 23: "وقال الربّ الإله: هوذا آدم قد صار كواحد منّا يعرف الخير والشّرّ. فلا يمدّنّ الآن يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل فيحيا إلى الأبد. فأخرج الربّ الإله آدم من جنّة عدن ليفلح الأرض التي اخذ منها".
إذا قرأنا النصّ السبعيني للمقطعَين السابقَين مع رواية لوقا نجد أنّهما يستعملان العبارة نفسها "في الوسط" حيث أنبت الربّ الإله شجرة الحياة وحيث طلب يسوع من صاحب اليد اليابسة أن يقف. مع العلم أنّ فكرتَي "وسط الجنّة" و"وسط المجمع" تتقاربان. نجد أيضًا تقاربًا بين شجرة معرفة "الخير والشرّ" وسؤال يسوع عن عمل "الخير" (في إنجيل متّى؛ مرقس ولوقا يتحدّثان عن الصلاة) و"الشرّ" (عند مرقس ولوقا).
لقد استعملت الرواية الثانية للخلق في البداية عبارة "الإنسان" وفي النهاية عبارة "آدم" (الرجل الذكر). نصّ لوقا أيضاً يستعمل عبارة "الإنسان" في البداية وبعد ذلك عبارة "الرجل".
المقاربة الأساسيّة الثالثة هي استعمال العبارة نفسها في حكم الربّ الإله وفي الشفاء الذي قام به يسوع: "فلا يمدّنّ يده" و"مدّ يدك". والجدير بالذكر أنّ كلمة "الآن" في حكم الربّ الإله أساسية لفهم العلاقة بين النصيّن. فالآن، أي بعد السقطة، لا يستطيع الإنسان أنّ يمدّ يده إلى شجرة الحياة. "الآن" تعني أنّه سيأتي وقت بعد هذه "الآن" يستطيع فيه الإنسان أن يقف في وسط الجنّة حيث هي شجرة الحياة وأن يمدّ يده ويأخذ من ثمرها ويأكل منه فيحيا إلى الأبد... وهذا ما حقّقه يسوع.
لماذا قرّر الكتبة والفرّيسيون قتل يسوع؟ لأنّهم فهموا هذه المقاربة وهذا البُعد الرمزي الذي يجعل من يسوع الشخص المناسب الذي يُعطي الإنسان إمكانيّة الحياة إلى الأبد. الربّ الإله أعطاه إيّاها في البدء، ولمّا أضاعها أرجعها إليه يسوع. خاتمة حياة يسوع الأرضيّة كانت الصليب لكنّ قيامته هي البرهان الأكيد على أنه سيّد الحياة ومعطيها.
الأب أنطوان عوكر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM