الفصل الثامن عشر نهاية مرقس: رسالة المؤمنين والآيات

الفصل الثامن عشر
نهاية مرقس: رسالة المؤمنين والآيات
(مر 16: 15- 20)

كتب الإنجيلي مرقس خاتمة إنجيله بثماني آيات فقط (مر 16: 1- 8) تروي لنا ذهاب النسوة إلى القبر حيث وجدن أن الحجر قد دُحرج وقد أبلغهنّ ملاك جالس عن اليمين قيامة المسيح وطلب إليهن أن يبشّرن الرسل (آ 7). ولكنّ النسوة هربن خائفات ولم يقلن لأحد شيئًا (آ 8).
ولكن هل من المعقول أن ينتهي إنجيل مرقس بهذه الطريقة المأساوية المفاجئة؟ كيف نطابق بين طلب الملاك إلى النسوة بنقل البشارة للرسل وبين صمت النسوة؟ ماذا حدث بعد القيامة؟
هذه التساؤلات حول الفراغ الذي تركته خاتمة الإنجيل الثاني، دفعت مرقس أو أحد تلاميذه ليكتب خاتمة طويلة (مر 16: 9- 20) اعتاد الشراح على تسميتها بالخاتمة القانونية، هذه الخاتمة تستوحي بشكل واسع من إنجيل لوقا ويوحنا وبخاصة من كتاب أعمال الرسل. تخبرنا هذه الخاتمة القانونيّة أن المسيح القائم من الموت أرسل تلاميذه إلى الرسالة الشاملة فالمؤمنون تصحبهم الآيات، باسمه يطردون الشياطين ويتكلّمون بلغات لا يعرفونها ويمسكون الحيّات بأيديهم وإن شربوا شرابًا قاتلاً لا يؤذيهم ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون.
سنعالج في حديثنا هذه الآيات التي تتبع المؤمنين بحسب التصميم التالي:
أولاً: هل تتبع الآيات الرسل أم المؤمنين؛
ثانيًا: الرسالة الشاملة والآيات.
ثالثًا: الإيمان واللاإيمان أمام الآيات.
رابعًا: طرد الشياطين.
خامسًا: التكلّم باللغات.
سادسًا: الآيات الأخرى.

أولاً: هل تتبع الآيات الرسل أم المؤمنين
لا يستعمل المسيح القائم من الموت صيغة المخاطب فيقول مثلاً للتلاميذ: هذه الآيات تتبعكم، باسمي تطردون الشياطين... ولكنه يستعمل صيغة الغائب فنرى أن الآيات تتبع المؤمنين؛ هل هذا يعني أن المسيح استثنى الرسل من صنع الآيات؟
حين أرسل يسوع الإثني عشر إلى الرسالة أعطاهم سلطانًا على شفاه المرضى وطرد الشياطين: "أقام منهم إثني عثر لكي يصحبوه فيرسلهم يبشّرون ولهم سلطان يطردون به الشياطين" (مر 3: 14- 15). ولكنّ خاتمة مرقس القانونية لا تهتمّ بموضوع الأحد عشر، بل هي توجّه أنظارنا إلى انتشار الرسالة الشاملة بين الوثنيّين على يد تلاميذ الرسل كما وردت في كتاب الأعمال. وبالفعل إننا نرى المسيح القائم من الموت يرسل الأحد عشر إلى الرسالة ولا نعلم هل توصّلوا إلى الإيمان أم لا؛ لم يتوقف كاتب هذه الخاتمة عند هذه الأمور لأنه يكتب في مرحلة متأخرة من القرن الأول؛ يعتبر هذا الكاتب أن المؤمنين يعرفون أخبار الظهورات للرسل فلم يلجأ إلى التكرار.
وهناك أمر آخر يدفعنا إلى الاعتقاد أن هذه الخاتمة كُتبت في مرحلة متأخرة وهو الرسالة الشاملة بين الوثنيين؛ فالرسل لم يتوجهّوا إلى تبشير الوثنيين إلاّ بعد مجمع أورشليم (عام 49) كما أن بطرس قد عمًد بيت كورنيليوس الوثني بتدخّل خاص من الروح القدس (أع 10) وهكذا جرى لفيلبس مع خازن ملكة الحبشة (أع 8: 26- 40)؛ وقد جاهد بولس فترة طويلة ليُقنع الرسل بضرورة تبشير الوثنيين (أع 15؛ غل 2).
لذلك نعتبر أن خاتمة مرقس القانونية تشكّل إجمالة تُضاف إلى مجموعة الإجمالات في إنجيل مرقس (مر 1: 14- 15؛ 1: 2- 2؛ 7: 3- 19..) يختصر فيها كاتب الخاتمة القانونيّة مواضيع لاهوتية عميقة: الإيمان، العماد، الخلاص، صنع الآيات وغيرها، واعتبر الكاتب أن المبشّرين استلموا رسالتهم من المسيح القائم من الموت.

ثانيًا: الرسالة الشاملة والآيات
تتفرّد خاتمة مرقس القانونية بعرض الرسالة الشاملة إلى الوثنيًين بحسب التصميم التالي:
أ- الارسال إلى البشارة في الخليقة كلها.
ب- من يؤمن ويعتمد يخلص ومن لا يؤمن يُدان.
ج- الآيات تتبع المؤمنين.
نحن لا نجد في الأناجيل الأخرى هذا الارتباط بين تبشير وتعميد الوثنيين من جهة، وبين سلطان الآيات الممنوح من جهة أخرى.
فالمسيح، في إنجيل متّى، يرسل تلاميذه لتبشير الأمم وتعميدهم باسم الآب والابن والروح القدس (مت 28: 19). ولكنّنا لا نجد في هذا المرجع، الذي يوازي خاتمة مرقس، ذكرًا لمنح سلطان الآيات!
من الواضح أن كاتب الخاتمة القانونية قد شاهد الآيات تجري على يد المبشّرين في زمن متأخّر من حياة الكنيسة؛ ولكنّنا نتساءل: لماذا سبّق كاتب هذه الخاتمة سلطان الآيات ووضعه أثناء إرسال المسيح القائم تلاميذه؟ وبعبارة أخرى: ما هو الارتباط الذي أراده الكاتب بين قيامة المسيح وسلطان الآيات؟
يقول كتاب الأعمال إن قيامة المسيح هي تجلّي قدرة الله وهي برهان عن قدرته الفائقة. ويستعمل كتاب الأعمال عبارة: الله أقامه 13 مرّة للدلالة على هذه القدرة (أع 2: 24؛ 3: 15...). ولكنّ قدرة الله لم تتوقّف عند قيامة المسيح بل هي تستمرّ في التاريخ؛ لذلك أعطى المسيح القائم من الموت قدرته الفائقة إلى تلاميذه بأن يصنعوا الآيات لتبرهن هذه الآيات صدق شهادة الرسل والمبشّرين الذين شاهدوا المسيح القائم من الموت. وبالفعل نجد في كتاب الأعمال توضيحًا لهذا الارتباط بين الشهادة بقيامة يسوع وصنع الآيات: "كان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الرب يسوع تصحبها قوّة عظيمة" (أع 4: 33).
إن الناس الذين يشاهدون آيات الرسل والمبشّرين يجدون نفوسهم أمام قيامة المسيح، لأنهم يختبرون الآيات التي هي نتيجة القيامة: فالمسيح القائم أعطى الرسل سلطان الآيات ليشهدوا لقيامته.
هذا هو السبب الذي دفع كاتب خاتمة مرقس ليربط بين الارسال إلى البشارة وصنع الآيات. لذلك يشرح بطرس شفاء المقعد (أع 3) في هذا الإطار مبرهنًا أن الإيمان باسم يسوع القائم من الموت أعطى القوة للمقعد: "أقامه الله من بين الأموات، ونحن شهود على ذلك... والإيمان الذي من عند يسوع هو الذي وهب لهذا الرجل كمال الصحة هذه" (أع 3: 15- 16).
باختصار نقول: إن الآيات هي تأوين القيامة في حياة الكنيسة.

ثالثًا: الإيمان واللاإيمان أمام الآيات
من الواضح أن الفكرة الاساسية التي تسيطر على خاتمة مرقس القانونيّة هي التعارض بين الإيمان واللاإيمان؛ وقد عرض الكاتب تفكيره على مرحلتين:
- في مرحلة أولى (مر 16: 9- 14) أثناء ظهور الربّ للمجدليّة والتلميذين والأحد
- في مرحلة ثانية (مر 16: 15- 20) في مناسبة إرسال الأحد عشر إلى الرسالة.
ففي المرحلة الأولى نلاحظ أن المجدلية شاهدت الرب وآمنت ولكن الأحد عشر لم يصدّقوا كلامها؛ كذلك الامر بالنسبة للتلميذين في الطريق؛ وقد ظهر القائم من الموت أمام الأحد عشر ووبخهم على قلة إيمانهم. ونحن لا نعلم إذا كان الاحد عثر وصلوا إلى الإيمان أو لا، فالمسيح أرسلهم فورًا إلى الرسالة. هكذا نستنتج في هذه المرحلة الأولى أن الكاتب أراد أن يعرض لنا إيمان بعض الشهود ولاإيمان البعض الآخر.
أما في المرحلة الثانية فالمسيح القائم من الموت يرسل الأحد عشر إلى الرسالة الشاملة بين الوثنيين، وهذه الرسالة ستعطي نتيجة إيجابية أو سلبية: فمن يؤمن ويعتمد يخلص ومن لم يؤمن يُدان. إن الإيمان وقبول العماد هما النتيجة الطبيعية لسماع البشارة في حين أن اللاإيمان هو رفض البشارة وهو يؤدي إلى الدينونة.
بالنتيجة تؤكّد الخاتمة القانونية أن الآيات تتبع المؤمنين الذين قبلوا البشارة؛ وبعبارة أخرى، إن الآيات لا تعني شيئاً لغير المؤمنين؛ فالآية تتطلّب الإيمان وهي لا تملك قيمة برهانية إلاّ للنفوس المحضّرة. وهنا نلتقي بمعنى آخر لكلمة آية وهو علامة ونحن نجده بوفرة في العهد الجديد:
- الاسخريوطي أعطى علامة (سيميون) لعظماء اليهود (مت 26: 48) وهي أن الذي يقبّله يكون هو فامسكوه. هذه العلامة يفهمها فقط الاسخريوطي وعظماء اليهود، إنها لغة تخاطب بين فريقين يجهل فريق ثالث مضمونها، لذلك لم يفهم التلاميذ الموجودون في البستان معنى هذه العلامة، هذه القبلة. بقي معنى هذه القبلة مغلقًا عليهم ولكن بالطبع فهم يسوع معنى هذه القبلة بقدرة فائقة الطبيعة فقال للاسخريوطي: أبقبلة تسلم سيدك؟
- يقول بولس في 2 تس 3: 17 "هذا السلام بخط يدي أنا بولس تلك علامتي في كل رسائلي"؛ هذه العلامة يعرفها بولس وتعرفها الكنائس التي تعوّدت على قراءة رسائله، ومن الطبيعي أن هذه العلامة لا يفهمها الذين هم خارج الكنائس.
نلاحظ بعد هذا العرض أن الآية هي أحيانًا علامة لا يفهمها إلا المؤمنون؛ إذًا ليس من الضروري أن يتبع الإيمان الآيات وهذا ما شدّد عليه إنجيل يوحنا الذي يقول: "أتى يسوع بجميع هذه الآيات بمرأى منهم ولم يؤمنوا به" (يو 12: 37).
إن الآيات تبعت المؤمنين وتتبعهم إلى اليوم، وهي برهان على صدق شهادة المبشّرين بقيامة المسيح. ولكن حتى تكون معاني الآية مفهومة ومقبولة، علينا أن نفتح قلبنا بالإيمان لندرك عمق معانيها.

رابعًا: طرد الشياطين
يحتلّ طرد الشياطين مكانًا مهمًا في العهد الجديد. فنشاط يسوع الرسولي في إنجيل مرقس بدأ بطرد الشياطين في كفرناحوم (مر 1: 23- 28). وحين انتقل يسوع إلى البلاد الوثنية، إلى بلاد الجراسيين، طرد الشياطين هناك (مر 5: 1- 20 وز) وطرد الشيطان من الصبي المصاب بالصرع (مر 9: 14- 29 وز).
كذلك يعطي العهد الجديد تسميات عديدة للشيطان وهذه أهم التعابير المستعملة:
1- الشيطان (= ساتان) تعني الكلمة العبرية العدو (مت 4: 10؛ مر 1: 13؛ لو 10: 18).
2- الشيطان (= ديمون) تعني الروح الشرير (مت 8: 31؛ رؤ 16: 14).
3- ابليس (= ديابولوس) (مت 4: 1؛ لو 8: 12؛ يو 13: 2).
4- الروح النجس (= بنوماتوس اكاسارتوس) (مت 10: 1؛ مر 1: 23؛ لو 4: 36).
ونجد إلى جانب هذه التسميات بعض التسميات الأخرى المشتقّة منها. أمام هذه التسميات المتعددة يصعب علينا أن نحيط بكل معاني الشيطان في العهد الجديد. ونلاحظ عند مقابلة نصوص الإنجيليّين الموازية التي تتكلم عن طرد الشياطين، أن متى ومرقس خفّفا في قليل من الاحيان الوجهة الشيطانية لبعض النصوص لدى مرقس. وهذه بعض الامثلة التي توضح ذلك الامر:
أ- حين يروي مرقس شفاء ابنة المرأة الكنعانية التي فيها روح نجسه (مر 7: 25) نلاحظ أن متى يقول في النص الموازي "إبنتي مجنونة جدًا" (مت 15: 22). هكذا نكون قد انتقلنا من الإبنة التي فيها روح نجس (مرقس) إلى الابنة المريضة (متى).
ب- نجد في تبشير يسوع الاول في الجليل لدى مرقس أن يسوع كان يشفي المرضى ويخرج الشياطين (مر 1: 39) غير أن مت 4: 23 الذي يوازي هذا النص يتجاهل طرد الشياطين؛ وهكذا فعل لوقا مثله (لو 4: 44).
ج- في حادثة شفاء الجموع عند البحر لدى مرقس (مر 3: 7- 12) نرى أن الارواح النجسة خرّت أمام يسوع وقالت إنك أنت ابن الله؛ ولكنّ نص متى الموازي (مت 4: 24- 25+ 12: 15- 16) يتجاهل موضوع الشياطين.
إن تخفيف متى ولوقا الوجهة الشيطانية لهذه النصوص لدى مرقس، يجعلنا نعتقد أنه أثناء تبشير الرسل أخذ مفهوم الشيطان المعروف لدى الناس يتغير تدريجيًا؛ كان الناس يعتقدون أن الشيطان يمتلك الإنسان، فتغيّر هذا المفهوم وأصبح الحديث يدور عن الإنسان المريض.
ونلاحظ أن مرقس نفسه في إنجيله، شرح طرد الشيطان في هذا المفهوم الجديد؛ فإذا قرأنا طرد الشيطان في كفرناحوم لدى مرقس (مر 1: 23- 28) نلاحظ أن الإنجيلي الثاني يقول إن الجموع دُهشت وقالت: ما هذا؟ تعليم جديد بسلطان! حتى الارواح النجسة يأمرها فتطيعه! يوجّه مرقس انتباهنا إلى أن الجموع، أمام معجزة طرد الشياطين، دُهشت من تعليم يسوع الجديد الذي يلقيه بسلطان؛ في حين أن طرد الشيطان حل في مرتبة ثانية في اهتمام الجموع.
في هذا الاطار شرح يسوع انتصاره على الشياطين في معرض ردّه على الكتبة الذين اتهموه، إنه يطرد الشياطين بأركون الشياطين فقال: "إذا كنت أنا بروح الله أطرد الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله" (مت 12: 28). إن يسوع بكلامه عن ملكوت الله الذي أقبل، دشّن مرحلة جديدة في تاريخ الخلاص؛ إن تقسيماته على الشياطين تعني أن ملك الشيطان قد انتهى وتأسّس ملكوت جديد؛ لذلك تتّخذ التقسيمات على الارواح بُعدًا اسكاتولوجيًا.
تابع الرسل والمؤمنون من بعدهم رسالة يسوع بطرد الشياطين، (أع 16: 18)؛ لهذا شدّد كاتب خاتمة مرقس القانونية على هذا الموضع؛ إن المبشّرين الأوّلين كانوا يعظون البشارة الجديدة؛ حين يصل الموعوظون إلى الإيمان، كان المبشّرون يطردون منهم الارواح النجسة ويمنحونهم سرّ العماد؛ ولا نزال نلاحظ حتى اليوم أثر التقسيمات في منح سر العماد، فالكاهن في رتبة العماد يقسّم على الأرواح قبل أن يمنح السرّ.

خامسًا: التكلّم باللغات
1- النصوص الكتابية
يعرض لنا العهد الجديد في عدة مواضع أن بعض المؤمنين الأوّلين كانوا يتكلّمون باللّغات:
أ- حين كان التلاميذ في العلّية، حلّ عليهم الروح القدس، فأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغاتهم، أي بلغات الشعوب الأخرى (اع 2: 7).
ب- حين اعتمد كورنيليوس وأهل بيته على يد بطرس، سمعهم المؤمنون يتكلّمون بلغات ويعظّمون الله (اع 10: 46).
ج- حين وضع بولس يديه على تلاميذ يوحنا المعمدان في أفسس، نزل عليهم الروح القدس فأخذوا يتكلّمون باللغات ويتنبّأون (اع 19: 6).
د- يقدّم بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس شرحاً مفصّلاً عن موهبة التكلّم باللغات؛ فيقول بولس إن الروح أعطى تنوّع الألسن إلى بعض المؤمنين (1 كور 12: 13) ووهب البعض موهبة تفسير الألسن (1 كور 12: 10) وهذه الموهبة تُكمّل الأولى؛ ويعتبر بولس أن الذي يتكلّم باللّغات لا يُكلّم الناس بل الله فما من أحد يفهم كلامه فهو يقول في الروح أشياء خفية (1 كور 14: 2)؛ لذلك يجب وجود شخص يُترجم خطبته إلى لغة مفهومة؛ اذا دخل غير المؤمن إلى اجتماع يتكلّم فيه الجميع بلغة غريبة، يقول عنهم إنّهم مجانين (1 كور 14: 23).

2- أشكال التكلّم باللغات
إذا دققنا في قراءة هذه النصوص التي نجدها في كتاب الأعمال وفي الرسالة الأولى إلى كورنتوس نلاحظ أننا أمام شكلين من أشكال التكلّم باللّغات:
أ- الشكل الأول: الرسل والمؤمنون الأولون يُلقون خطئا انخطافية تتضمّن عباراتٍ غير مفهومةٍ في أيّة لغةٍ بشرية (كورنيليوس وأهل بيته، أع 10: 44- 46؛ أهل كورنتوس، 1 كور 14: 23).
ب- الشكل الثاني: تكلّم الرسل والمؤمنون بلغات غير لغاتهم ولكنّ هذه اللّغات هي لغات الشعوب الغريبة وهي مفهومة من السامعين الغرباء (الرسل بعد حلول الروح في العلية، أع 2: 8، 11).
نلاحظ بعد دراسة هذين الشكلين من التكلّم باللغات أنه يوجد ارتباط وثيق بين عطيّة الروح وموهبة التكلّم بالألسن؛ فجميع المناسبات المذكورة في أعمال الرسل رافقها حلول الروح القدس وبولس يتكلّم عن مواهب الروح (1 كور 14: 1). كذلك نلاحظ تلازمًا بين التكلّم باللغات والنبوءة؛ إن الأناشيد التي يرفعها المتكلّمون باللغات إلى الله هي من نوع النبوءة؛ إنها صلوات انخطافية ألهمها الروح القدس للمؤمنين الذين قبلوا الروح، لذلك أخذ المؤمنون يمدحون الله الذي صنع العظائم. ولعلّ التكلّم باللغات والنبوءة هي أناشيد مُلهمة شبيهة بنبوءة زكريا والد يوحنا المعمدان الذي تنبّأ قائلاً: "تبارك الربّ إله إسرائيل..." (لو 1: 67- 68). كذلك قالت مريم: تعظّم نفسي الربّ... (لو 1: 46).
لاحظ كاتب خاتمة مرقس القانونية انتشار موهبة التكلّم باللّغات في الكنيسة فاعتبرها أنها آية تُضاف إلى الآيات الأخرى التي منحها المسيح القائم من الموت لتلاميذه؛ إن المؤمنين الذين نالوا الروح القدس سبّحوا الله باللغات سواء أكانت هذه اللّغات مفهومة لدى مستمعيهم أم كانت لغات إنخطافيّة.

سادسًا: الآيات الأخرى
ذكر كاتب الخاتمة القانونية، إلى جانب الآيات التي ذكرناها، آيات أخرى بقوله: يُمسكون الحيات بأيديهم، وإن شربوا شرابًا قاتلاً لا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيُشفون.
لقد أعطى المسيح لتلاميذه سلطانًا يدوسون به الحيّات (لو 10: 19)؛ وحين كان بولس في جزيرة مالطة، أثناء رحلة الأسر، خرجت أفعى من الحطب وتعلّقت بيده، فظنّ الناس أنها ستقتله، أما بولس فنفض الأفعى في النار ولم يلحقه أذى (أع 28: 3- 5).
يقول أوسابيوس في كتابه "تاريخ الكنيسة 3، 39" نقلاً عن بابياس أن يوستوس الذي كان ينافس متيا ليحلّ مكان الإسخريوطي، حزن عند اختيار متيًّا فشرب سمًا مميتًا ولكنه لم يشعر بالأذى بفضل نعمة الرب.
يُخبرنا كتاب الأعمال أن حننيا وضع يديه على شاول الذي فقد بصره على طريق دمشق، فشُفي بولس (أع 9: 12، 17)؛ كذلك حين كان بولس في مالطة وضع يديه على والد بوبليوس، حاكم المدينة، فشفاه (أع 28: 8).

خاتمة
إن الآيات التي صنعها يسوع، ومن بعده الرسل والمبشّرون، هي أعمال خارقة أظهرت قدرته ومجده ودفعت الناس إلى الإيمان. ولكننا نلاحظ أنه، حتى أثناء بشارة المسيح، بدأت الآيات تأخذ معنى جديدًا؛ فأمام الذين جاؤوا إليه طالبين آية ليؤمنوا، رفض يسوع أن يعطيهم آية سوى آية يونان النبي (مت 12: 38 ي)؛ إن يونان الذي بقي في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال أضحى صورة عن المسيح الذي مات. لعلّ آية الصليب هي الآية الكبرى التي قدّمها يسوع لمستعميه المتشكّكين لكي يؤمنوا.
وقد تطابق بولس الرسول مع المعلّم الألهي فأعلن إلى أهل كورنتوس قائلاً: "إن اليهود يطلبون الآيات واليونانيّين الحكمة، أما نحن فنبشّر بالمسيح مصلوبًا" (1 كور 1: 22- 23).
لقد أخذت الآيات معنىً جديدًا، معنىً روحيًا، وأصبحت مُغلقة عن عين الجسد؛ لذلك لا يمكن فهمُ معانيها الا بعين الإيمان؛ فالإيمان هو شرط أساسي لمعرفة مدلول الآيات.
إن الآيات تحرّك فينا موقفًا مثل الذي حركته لدى نيقوديموس؛ إن معلّم الشريعة هذا لاحظ، بعد رؤية الآيات، إنه لا يستطيع أحد أن يقوم بهذه الآيات إلا من كان الله معه؛ لهذا السبب أتى إلى يسوع.
لعلّنا نتخلّى عن طلب رؤية الامور الخارقة ونستعيضُ عنها برؤية آيات روحية تفعل في قلوبنا المؤمنة وذلك بواسطة عمل الروح.
الخوري
نعمة الله خوري

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM