الفصل الثالث عشر: المعجزات في كتاب أعمال الرسل

الفصل الثالث عشر
المعجزات في كتاب أعمال الرسل

كتاب أعمال الرسل يغصّ بالمعجزات. فهي كثيرة ومتنوّعة، تبدأ مع حلول الروح القدس يوم العنصرة وترافق الرسل طوال مسيرتهم. فالكرازة والتعليم لا يمكنهما أن يسرِّعا حركة الإيمان والتوبة والاعتماد باسم يسوع لترسيخ الجماعات المسيحيّة الاولى ونموها. لذلك كانت المعجزات، وبكثرة، في عهد الكنيسة الأولى لكيما تعمّ البشرى المسيحية أكثر أنحاء الأرض وتكون مدعومة بالقوى والعجائب لاظهار فعالية كلمة الله التي يذيعها الرسل والتلاميذ الاوّلون.
فالمعجزات في تبشير الكنيسة دلالة على فيض الروح عليها كما فاض على يسوع في المعمودية وبرهان على أن التعليم المعطى، مثله مثل تعليم يسوع، يختلف عن تعليم الفريسيين والكتبة وحكماء اليونان لأنه يعطى بسلطان (راجع مرقس 1/ 27).
ومع كون كتاب أعمال الرسل مرجعًا هامًا بالنسبة للكنيسة، فهو مع ذلك لم يحظ باهتمام كبير لدى الشراح والمفسّرين. فهو من ناحية يستعرض قسمًا مهمًا من ذاكرة الكنيسة الأولى، ومن ناحية ثانية، يكمل عمل الانجيلي لوقا ويشكل القسم الثاني من كتابه المقدم إلى تيوفيلس، ليطلعه على وقائع الامور المتعلقة بالشهادة للكلمة. ويتميز عمل لوقا، كما يشير إلى ذلك في مقدمة الانجيل، بالاطلاع الدقيق على الامور وكتابة الاحداث بطريقة مرتبة نقلاً عن شهود عيان (راجع لو 1/ 1- 4). وما يصح في الانجيل يصح أيضًا في كتاب أعمال الرسل. مع الاشارة إلى أن لوقا، الذي نقل أخبار الانجيل عن شهود عيان، كان هو أيضًا شاهدًا، على الأقل، بالنسبة لقسم من الأخبار والاحداث التي يرويها في كتاب الاعمال. من هنا يتوجب علينا أن نقدم عمل قراءة كتاب الاعمال ونحن متنبهون إلى هذه الميزات الخاصة في عمل لوقا، وأعني بها الدقة والترتيب وشهادة الرسل والكنيسة الاولى. وهذه الملاحظة تنطبق أيضًا، وربما بنوع خاص، على دراسة المعجزات. في دراستنا هذه سنحاول أولاً أن نضع فهرسًا كاملاً بالمعجزات على حسب أنواعها، وننظر بعد ذلك في الترتيب الوارد فيها، وننتهي بتفسير البعض منها، مركزين على النظرة اللاهوتية الخاصة عند القديس لوقا، كما تظهر من خلال أعمال الرسل.

1- فهرس بالمعجزات
نلفت النظر أولاً إلى أننا تحت اسم معجزة، ندرج ومن دون تمييز، كل الظواهر الخارقة العادة، من أشفية وظهورات وحلول الروح وعقابات... أي كل ما يظهر قوة الكلمة الفاعلة وفعالية الروح القدس في الكنيسة الناشئة. ونحن ندرك تمام الادراك أنه ليس من السهل أن نحصر أخبار المعجزات الاحدى والخمسين الواردة في كتاب أعمال الرسل وتصنيفها تحت عدة أنواع: فكل أعجوبة أو معجزة هي عملٌ فردٌ مميّز. وهناك فروقات واضحة ضمن النوع الواحد كالأشفية مثلاً أو الظهورات. ولكن، ومع أخذ هذه الفرادة والفروقات بعين الاعتبار، سنحاول حصر هذه المعجزات في الانواع التالية:

أ- الظهور أو الرؤيا
تحت هذا العنوان نورد جميع الظهورات والرؤى المختلفة، حتى الليليّة منها. لأنها هي أيضًا تشير إلى تدخل خارق العادة من قبل الرب يسوع أو الروح القدس أو ملاك الرب. هناك 14 نصًّا تحدثنا عن ظهورات أو رؤى مماثلة، هي:
1") 1/ 6- 11 صعود الرب إلى السماء وظهور ملاكين للرسل.
2") 7/ 54- 56 اسطفانوس يرى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمينه.
3") 8/ 26 ملاك الرب يكلم فيلبس ويأمره بأن يذهب نحو الجنوب باتجاه غزة.
4") 8/ 39 روح الرب يخطف فيلبس فغاب عن نظر الخصي ووجد في أزوت.
5") 9/ 1- 9 ظهور الرب لشاول على طريق الشام.
6") 9/ 10- 16 رؤيا حنانيا ليذهب ويضع يديه على شاول.
7") 10/ 601 رؤيا قرنيليوس وطلب الملاك منه بأن يستدعي سمعان بطرس.
8") 10/ 10- 16 رؤيا بطرس مع سماع الصوت الذي يدعوه ليذبح ويأكل من الحيوانات المعتبرة نجسة.
9") 10/ 19- 20 الروح يعلم بطرس بقدوم الموفدين من لدن قرنيليوس
10") 15/ 6- 7 الروح القدس وروح يسوع يمنعان بولس وسيلا من التبشير في آسيا وميسية.
11") 16/ 9- 10 رؤيا في الليل لبولس يستدعيه فيها رجل مقدوني ليعبر الى مقدونية
12") 18/ 9- 10 رؤيا لبولس في الليل يشجعه فيها الله لكي يتكلم ولا يسكت. فلن يصيبه سوء في قورنتس
13") 23/ 11 الرب يشدّد بولس في رؤيا ليلية ويخبره أنه سيشهد لله أيضًا في روما.
14") 27/ 22- 25 بولس يشجّع رفاقه في السفينة ويطمئنهم بأن ملاك الرب ظهر له في الليل وأعلمه بأن جميع من في السفينة سيسلمون.

ب- حلول الروح القدس
الروح القدس حاضر بقوة في جميع صفحات الكتاب. إنه روح الرب أو روح يسوع وهو البطل الأول في الرواية. ظهوره الأول يوم العنصرة حرَّك الرسل والتلاميذ الاول ودفعهم إلى الشوارع ليشهدوا للرب يسوع. ولكن، ومع كون هذا الحلول الأول هو الأهم، كلّمنا أيضًا الكتاب عن حلوله مرات أخرى على أشخاص أو كنائس محلية نذكر أهمها:
1") 4/ 31 بعد ابتهال الجماعة وصلاتها شاكرة الله على إطلاق سراح بطرس ويوحنا، تزلزل المكان وامتلأوا جميعًا من الروح القدس فأخذوا يعلنون كلام الله بجرأة.
2") 10/ 44- 47، حول الروح القدس على قرنيليوس وأهل بيته قبل أن يتقبَّل العماد من بطرس.
3") 19/ 1- 7 حلول الروح القدس بوضع يدي بولس على مؤمني أفسس الذين كانوا اعتمدوا بمعمودية يوحنا فراحوا يتكلمون بلغات غير لغتهم ويتنبأون.

ج- تحرير من السجن
إن تقييد الرسل والتلاميذ الاولين وزجّهم في السجون يعتبران انتصارًا على الكلمة وقمعاً للبشرى الجديدة ووقف انتشارها بين الناس، لذلك يتدخل الله ليحرّرهم ويسجل بالتالي انتصارًا للكلمة والبشرى على جميع الاعداء. هناك ثلاثة نصوص تتكلم عن التحرير من السجن والقيود:
1") 5/ 17- 21 ملاك الرب يحرر الرسل من السجن الذي زجهم فيه عظيم الكهنة.
2) 12/ 6- 11 ملاك الرب يحرّر بطرس من السجن بعد أن زجه فيه هيرودس إرضاء لليهود.
3") 16/ 25- 30 تحرّر بولس وسيلا من السجن في فيلبي على أثر زلزلة شديدة منتصف الليل، وارتداد السجان.

د- النبوءة
المقصود بالنبوءة هنا العلم بما سيحدث في المستقبل بالنسبة للكنيسة أو للعالم أو لبعض الافراد. وهذا العلم، الذي يدركه من نال الموهبة من الروح القدس. موجه لتدارك ما سيحدث والاستعداد له كما ينبغي. هكذا لا تفاجأ الجماعة أو الاشخاص بأحداث تعرضهم إلى الضياع بل يستعدون كما ينبغي لمواجهتها. هناك نصان نبويان واضحان:
1") 11/ 27- 28: أغابس ينبئ في أنطاكيا عن المجاعة الكبرى التي ستحدث.
2") 21/ 10- 11: أغاب ينبئ في قيصرية عن سجن بولس من قبل اليهود وتسليمه للرومان في أورشليم.

هـ- عقابات ومحاربة السحر
السحرة والعرافون كانوا منتشرين بكثافة في العالم القديم. وكان لهم مراكز مرموقة لدى الحكام والنافذين. اصطدم بهم الرسل والتلاميذ الاولون لانهم بشعوذاتهم كانوا يعيقون البشارة ويحاولون أن يبتزَّوا الناس أو يخلطوا ما بين أعمالهم وما يقوم به الرسل من معجزات. لذلك استنزل الرسل عليهم العقابات القاسية وكذلك على غيرهم الذين استهانوا بالبشارة. لدينا عدة نصوص مختلفة تشير إلى هذه العقابات وهي:
1") 5/ 1- 11 بطرس يحكم بالموت على حنانيا وسفيرة لانهما كذبا على الروح القدس.
2") 8/ 18- 24 بطرس يعاقب سمعان الساحر في السامرة.
3") 12/ 21- 23 ملاك الرب يضرب هيرودس فيموت لأنه تمادى في كبريائه واعتبره الشعب إلهاً.
4") 13/ 6- 12 بولس يعاقب الساحر بريشوع بالعمى في قبرص.
5") 16/ 16- 18 بولس يخرج روح عرافة من جارية في فيليبي.
6") 19/ 13- 17 الروح النجس يهزم أبناء ليسقواس السبعة لأنهم استعملوا اسم يسوع لاخراجه من دون الإيمان.

و- أشفية جماعية وطرد الارواح النجسة
شفاء المرضى وطرد الشياطين أو الارواح النجسة يشكلان الناحية المهمة من السلطان الذي أعطاه الرب لرسله ووعدهم بأن يرافق هذا السلطان المؤمنين باسمه لكيما يكمِّلوا عمل الله في العالم. عدا الأشفية الفردية يحدّثنا أعمال الرسل خمس مرات عن أشفية جماعية وطرد أرواح نجسة أو أعاجيب كثيرة وآيات. وهي تباعًا:
1") 5/ 12- 16 أعاجيب وآيات كثيرة تجري على أيدي الرسل في جماعة أورشليم حتى إن ظلَّ بطرس كان يشفي المرضى عند مروره على أحد منهم.
2") 8/ 6- 8 على أيدي فيلبس في السامرة تم طرد أرواح نجسة وحصلت أشفية كثيرة.
3") 14/ 3 بولس وبرنابا يجربان آيات وأعاجيب في أيقونية.
4") 19/ 11- 12 الله يجري عجائب غير مألوفة عن يدي بولس (المناديل التي مست جسد بولس كانت كافية لتشفي المرضى وتطرد الارواح).
5") 28/ 9 بولس يشفي سائر مرضى جزيرة مالطة.

ز- أشفية فردية
لهذه الأشفية الفردية أهمية بالغة. فعلى أثرها عادة تتم أشفية وعجائب أخرى كثيرة. كما يستغلها الرسل ليعلنوا البشارة وليكلموا الناس عن يسوع الذي باسمه تمَّت الأعجوبة. وهذه الأشفية تخفي أيضًا رمزيّة إيمانيّة أو تعبدّية ذات مدلول غني مثلها مثل أحياء الموتى. يذكر كتاب الأعمال خمسة أشفية فردية فقط، من ضمنها شفاء شاول- بولس بوضع يدي حنانيا:
1") 3/ 1- 10 شفاء مقعد الباب الحسن في هيكل أورشليم على يد بطرس.
2") 9/ 17- 18 شفاء شاول وعودة النظر إليه بوضع يد حنانيا.
3") 9/ 32- 35 شفاء انياس المقعد في اللّد على يد بطرس.
4") 14/ 8- 18 بولس يشفي كسيحا في لسترة.
5") 28/ 8 بولس يشفي والد ببليوس من الحمّى والزحار.

ح- إحياء الموتى
بين المعجزات تتخذ أعجوبة إحياء الموتى الأهمية الاولى فهي شهادة واضحة على قدرة الرب الذي تتم باسمه واعتراف علني بأنه سيد الحياة ومعطيها. يذكر لنا كتاب الأعمال أعجوبتين فقط من هذا النوع:
1") 9/ 36- 42 بطرس يحمى طابيثا في يافا.
2") 7/20- 12 بولس يحيي افطيخس في طراوس.

ط- السلطان على الحيات
من مواعيد الرب لرسله والمؤمنين به من بعدهم أنهم سيكون لهم السلطان على الحيات فيمسكونها بأيديهم ولا يحصل لهم أي أذية (مر 16/ 18 ولو 10/ 19). لم يعمد كتاب الأعمال إلى اظهار هذه القدرة إلاّ مرّة واحدة مع القديس بولس في جزيرة مالطة وهو مبحر إلى روما.
وهذه المعجزة تظهر ببساطة أكثر من غيرها ردّة فعل الناس. فمن موقف يحكم على بولس بأنّه قاتل، لأنه بعد نجاته من البحر يقتص منه العدل الالهي بواسطة الافعى، إلى موقف نقيض يعتبره إلهاً لأنَّ سم الأفعى لم يؤثر به: 28/ 1- 6.

2- ترتيب المعجزات
لقد تعمّدنا في وضع الفهرس، أن لا نميّز بين معجزة وأخركما، بل أوردنا تقريبًا كل الظواهر الخارقة العادة من دون أن نعرضها لحكم العقل الناقد أو نقيسها بمقاييس علم شرح الكتاب المقدس الحديث الذي يرتكز على تحديد الانواع الأدبية وتقييم النص على ضوء التحليل الأدبي والتاريخي الدقيق. وذلك احترامًا منا لقدسيّة النص بحدّ ذاته ومواجهة هذا النص ببساطة القارئ، الذي يحاول أن يرى، مثله مثل القديس لوقا، تدخّل الله وحضوره، في الاحداث المألوفة ليضفي عليها جوًا إلهيًا يواكب عمل الإنسان ويكمله ويقدسه. على هذا الصعيد يمكننا أن نعتبر أن المعجزة الكبرى وربما الوحيدة التي تدور في فلكها كل المعجزات الأخرى، هي معجزة تأسيس الكنيسة ونموها وثباتها ووحدتها وسط اضطهادات كثيرة من اليهود ومن الشعوب معًا، ووسط تجاذبات فكرية واجتماعية عديدة من الداخل والخارج. فانتقال البشرى من العالم اليهودي إلى العالم الوثني مثلاً كان بامكانها وحدها أن تزعزع وحدة الكنيسة وتقسّمها منذ البداية. ولكن وعي الرسل وانصياعهم لعمل الروح القدس وشركة الصلاة وإفخارستيا الرب يسوع، كل ذلك دفعهم للانطلاق موحدين، مع تمايز العقليات والمفاهيم، إلى خدمة الكلمة ونشر البشارة بين الشعوب.
أما ما يعرضه علينا كتاب الأعمال من معجزات فلا يمكن القول بأنها كل ما قام به الرسل، خاصة وأنه يتوقف فقط على أعمال قطبين، هما بطرس وبولس، مع إشارة إلى اسطفانوس وفيلبس. ولا يمكن القول أيضًا إنها كل ما قام به بطرس وبولس. فهو يطلعنا أولاً على بعض ما قام به بطرس. ثم ينطلق مع بولس ليطلعنا على أهم ما قام به هذا الأخير. يمكن القول باختصار إن أعمال الرسل، مثلها مثل الإنجيل الذي لم يطلعنا على كل ما قام به يسوع بل على نماذج معيّنة من أعماله وتعاليمه، تطلعنا فقط على نماذج من أعمالهم. فالاعمال إذًا هي نماذج مختارة من حياة الكنيسة الاولى قد وضعها لوقا في ترتيب معيَّن. هذا الترتيب يتبع ما يأتي في مقدمة الكتاب:
"ولكن الروح القدس ينزل عليكم فتنالون قوة وتكونون لي شهودًا في أورشليم وكل اليهودية والسامرة حتى أقاصي الأرض" (أع 1/ 8).
لذلك لا نعجب إذا رأينا لوقا، مع انتقاله من كنيسة أورشليم واليهودية إلى السامرة والجليل مع فيلبس وبطرس ومن ثم إلى أنطاكيا ومنها إلى العالم اليوناني والروماني، يحافظ على موازاة واضحة في المهمة والعمل بين بولس وبطرس وبالتالي بين كنيسة الأمم وكنيسة أورشليم. هنا يظهر عامل الترتيب في أخبار لوقا. فكما أنقذ ملاك الرب بطرس من السجن كذلك أنقذ أيضًا بولس. وكما شفى بطرس مقعدَ الباب الحسن وإنياس في اللد كذلك شفى بولس أيضاً كسيحًا في لسترة ووالد ببليوس من الحمى والزحار في مالطا. وكما جرت على يد الرسل وخاصة بواسطة ظل بطرس معجزات كثيرة كذلك أيضًا أجرى الله عجائب غير مألوفة على يدي بولس بواسطة المناديل التي كانت تلامس بدنه. وكما أحيى بطرس طابيثا في يافا كذلك أحيى بولس أفطيخس في طراوس. وكما عاقب بطرس سمعان الساحر في السامرة كذلك عمل بولس أيضًا ببريشوع في قبرص. وكما حلَّ الروح القدس على الرسل الاثني عشر واخذوا يتكلّمون بلغات كذلك حلَّ أيضًا على مؤمني أفسس فأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغتهم ويتنبّأون. ويضيف لوقا، وكأنه يريد أن يفهمنا بطريقة غير مباشرة وجه الشبه مع ما حدث للرسل: "وكان عدد الرجال كلّهم نحو اثني عشر رجلاً" (19/ 7).
إن ترتيبًا كهذا في سرد المعجزات وتوزيعها بين كنيسة أورشليم وكنيسة الشعوب مرورًا بكنيسة السامرة التي كان لها أيضًا نصيب منها، ليس من قبيل الصدفة بل هو اختيار مقصود وذو مدلول لاهوتي كنسي سنتكلّم عنه في حديثنا بعد دراسة بعض المعجزات. نود فقط أن نلفت النظر هنا إلى أن لوقا في روايته للمعجزات، يعكس عليها اللون المحلي سابقًا عصرنا بمفهوم الانثقاف الذي تنبَّهت له الكنيسة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني.

3- تفسير بعض المعجزات
لن ندخل هنا في غمار التفسير التحليلي المفصل، حيث كل معجزة تتطلّب وحدها محاضرة خاصة، بل سنركز على بعض الشروحات الأساسية التي تتناول تفسير المعجزة انطلاقًا من عناصر في النص أو من الخلفيّة الثقافية التي تساعدنا على استشفاف الرسالة والمعنى المقصودين منها.

أولاً: شفاء مقعد الباب الحسن
لا يمكن التغاضي عن الرمزية التي تخفيها هذه الاعجوبة، رمزية نابعة من البعد الاجتماعي- الديني. فالمقعد رهن لمن ينقله ولمن يعطيه الصدقة ليعيش. وهو موضوع على الباب الجميل الذي يفصل ما بين رواق الوثنيين وحوش النساء ولا يمكنه بالتالي الوصول إلى المكان المخصّص لليهود في الهيكل ليؤدي العبادة. بشفائه، أصبح إنسانًا حرًّا قادرًا على عبادة الله وتسبيحه، فدخل مع بطرس ويوحنا إلى الهيكل ولازمهما وهو يسبِّح الله. هكذا الإيمان يقود صاحبه وينقله من مكان إلى آخر، من رصيف التهميش الاجتماعي والديني إلى الكنيسة المنفتحة على الشعوب (رواق سليمان: حيث بدأ بطرس يفسّر ما حصل).
أما الأهم في تفسير هذه الاعجوبة فهو ما يرد على لسان بطرس، تجاه تعجب الناس وتساؤلهم. فهو يربط الاعجوبة بقيامة يسوع من الموت. فبفضل الإيمان باسم يسوع تمت الأعجوبة (أع 3/ 11- 16). إن بطرس، بكلمته هذه، ينقذ الاعجوبة من سوء فهم الناس لهم. "لماذا تحدّقون إلينا، كأننا بذات قوتنا أو تقوانا جعلناه يمشي" (أع 3/ 12). فالأعجوبة من دون الكلمة هي كسيف ذي حدَّين. لذلك كانت الكلمة لتشرح معنى الأعجوبة مركزة على البعد اللاهوتيّ المسيحاني الكرستولوجيّ. بواسطة الإيمان باسم يسوع الذي مات وقام من الموت تحصل الاعجوبة. إنّها إذًا تعبير عن إيمان الكنيسة التي تستدعي اسم يسوع، لا كأن لها سلطان عليه، مثلما يفعل الساحر، بل انطلاقًا من الإيمان بحضوره فيها ومعها بعد قيامته.

ثانيًا: شفاء مقعد لسترة (14/ 8- 18)
هذه المعجزة توازي في ترتيب لوقا معجزة مقعد الباب الجميل. ولكن المعطيات الوثنيّة تختلف عن اليهودية وكذلك ردة الفعل. فاليهود اكتفوا بالتعجّب والتساؤل. أما الوثنيون فرأوا في بولس وبرنابا ظهورًا للآلهة فيما بينهم فدعوا برنابا زوشًا وبولس هرمس، وتجمّعوا وراحوا ينادون بلغتهم، التي لم يفهمها الرسولان، "تمثل الآلهة بشرًا ونزلوا إلينا". وكانت المفاجأة الكبرى بالنسبة للرسولين عندما تقدّم منهما كاهن معبد زوش ليقدّم لهما الاكاليل والذبائح.
ردة فعل بولس وبرنابا أتت بسرعة وعفوية فمزّقا ثيابهما استنكارًا لكفر كهذا، ودخلا بين الجمع ليُعلنا أنهما ليسا بآلهة بل بشر ضعفاء، وراحا يعظان الناس عن الله الحي خالق السماء والأرض، إذ لم يكن ممكنًا أن يحدّثاهم عن يسوع وهم ما زالوا عبدة أصنام. وبالرغم من تفسير الرسولين، يختتم لوقا، لم يتوصل بولس وبرنابا إلى أن يتخلَّصا من الناس ويصرفاهم عن تقديم الذبائح لهما إلاّ بمشقة كبيرة.
إن الميتولوجيا اليونانية تنقل أخبارًا عديدة عن الآلهة الذين يتمثّلون بشرًا ويسيرون بين الناس. أحد هذه الاخبار يرويها أوفيديوس اللاتيني في كتابه "الاستحالات" فيقول بأن زوشًا وهرمس تنكّرا بزي البشر وزارا منطقة فريجيا القريبة من لسترة فلم يستقبلهما أحدٌ سوى زوجين طاعنين بالسن وفقيرين فتقاسما معهما القليل الذي لديهما.
في هذا الوسط الثقافي لم تساعد المعجزة على بدء التبشير باسم يسوع، بل لفتت النظر إلى الرسولين بولس وبرنابا كحضور لآلهة غريبة وليس كشاهدين ليسوع القائم من الموت. كما أن خطاب الرسولين لم ينفع في شرح ما حدث للجموع وما يكمن وراء المعجزة. وأعتقدُ أن الرسل تعلموا منها كيف يمكنهم التعاطي مع المجتمع الهليني فتوقفوا عن عمل المعجزات. لأن المعجزة تتطلب استعدادًا معينًا لتُفهم فهمًا صحيحًا وإلا فالنتيجة تأتي عكس ما يُقصد بها. ويمكن الاستنتاج أنه حيث لا يمكن أن تتكمل الاعجوبة بالبشرى المسيحية أي باللاهوت المسيحاوي والكنسي فهي غير مبرّرة.

ثالثًا: طرد روح عراف من جارية في فيليبي (16/ 6- 108)
هنا أيضًا لم يُفهم عمل بولس، وقد تعرّض هو وسيلا إلى السجن بسبب المعجزة التي أجراها. والسؤال الذي يراودنا يدور حول سبب اغتياظ بولس وردة فعله بإخراج روح العراف منها. فما تقوله الجارية يلفت انتباه الناس إلى بولس وسيلا والرسالة التي يبشران بها. فهما في نظرها "عبيد الله العلي" ويبشّران بطريق خلاص (من الخلاصات) (وليس بطريق الخلاص الوحيد). ولكن يظهر أن المشكلة تكمن في هذا التعريف ببولس وسيلا وبموضوع بشارتهما "طريق خلاص". فلقب "الله العلي" كان يُعطى لزوش. وهذا ما يعرض الرسولين إلى إمكانيّة اعتبارهما رسولين لزوش وليس ليسوع كما أن بشارتهما "طريق الخلاص" من الممكن أن تعتبر طريقًا من بين عدّة طرق للخلاص.
لذلك يأتي كلام الرسول بولس ليؤكّد هويتهما ويزيل الالتباس. إنهما رسولا يسوع المسيح وباسم يسوع المسيح يأمر الروح بأن يخرج منها. لا يجوز اذًا أن يخلط الناس بين يسوع المسيح وأي إله آخر. فيسوع وحده هو الذي مات وقام ليهدي البشر إلى طريق الخلاص الوحيد. لذلك ولو تعرّض بولس وسيلا للسجن بسبب هذه المعجزة، إلاّ أنهما أدّيا الشهادة الحقّة عن يسوع بالرغم من عدم فهم الناس لهم خاصة أولئك الذين يهتمون فقط بالربح ويسخّرون الناس والآلهة في سبيل إنماء ثروتهم.

خلاصة
استنادًا إلى ما ذكرنا سابقًا يمكننا أن نستنتج ما يلي:
1- إن المعجزة ذات أبعاد كنسية. فهي تشير أولاً إلى حضور الرب في الكنيسة بواسطة الروح القدس وبقوة كلمته الفاعلة. كما أنها تعبر بتنوعها عن غنى هذه القوة. فالكنيسة تكمل عمل يسوع في التاريخ وهي تدعو العمي ليروا والمقعدين ليمشوا.... والموتى ليقوموا. إنها كنيسة يسوع، رب الحياة الذي انتصر على الموت بقيامته.
2- المعجزة هي علامة حيوية الكنيسة، كنيسة أورشليم وكنيسة أفسس، كنيسة الماضي كما كنيسة اليوم. هذه العلامة ينبغي أن تُفهم وتساعد المؤمن وغير المؤمن على تحديد موقفه من يسوع ومن كنيسته. فإما أن يقبل ويغتني وإما أن يرفض ويضطهد أو ينفصل عن جماعة المؤمنين.
3- المعجزة تعبّر عن تجاوب الله مع حاجة كنسِمته. وهذه الحاجة تختلف بين زمان وزمان وبين مجتمع وآخر.
في كنيسة أورشليم كانت الحاجة بأن تتنقّى الكنيسة من الأخوة الكذبة والمرائين فمات حنانيا وزوجته سفيرة. وفي كنيسة السامرة كانت الحاجة بأن تتنقّى البشارة من أساليب السحر، لذلك عاقب بطرس سمعان الساحر الذي كان يلازم فيلبس ويلازمه. وفي كنيسة الشعوب كانت الحاجة بأن تتضح فرادة البشرى المسيحية فلا يكون التباس بين المسيح والآلهة المتعددة ولا تعتبر بشارته طريفا كباقي الطرق، فأخرج بولس الروح من الجارية.
4- يمكن القول باختصار: إن أعجوبة لا يكون مصدرها المسيح وبيئتها الكنيسة ولا تؤدي إلى معرفة أكبر للمسيح وعيش أقوى في الكنيسة تكون أعجوبة باطلة، ولا فائدة منها بل قد تؤدّي إلى نتيجة عكسيّة. فالأعجوبة إذًا تجد نقطة ارتكازها على المسيح وتكون بيئتها الطبيعيّة الكنيسة، أو هي توصل إلى الكنيسة.
الاباتي بولس التنّوري

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM