الفصل الثاني عشر: الآيات في الإنجيل الرابع

الفصل الثاني عشر
الآيات في الإنجيل الرابع

مقدمة
المفردات التي يستعملها العهد الجديد للكلام عن المعجزة هي التالية:
عمل قوة= Dynamis (119 مرة في العهد الجديد، متى 12- مرقس 10- لوقا وأعمال 15+10- غير موجودة في إنجيل يوحنا)، آية، علامة= Semeion (77 مرة في العهد الجديد، متّى 13- مرقس 7- لوقا وأعمال 11+13 يوحنا 17)؛ أعجوبة= Téras (16 مرة في العهد الجديد- مرة واحدة عند كل من متّى ومرقس ويوحنا)؛ عمل= érgon (169 في العهد الجديد، متى 6- مرقس 2- لوقا 2- يوحنا 27)؛ عمل مدهش= Thaumasia(مرة واحدة في العهد الجديد عند متى 21/ 15)؛ أمور عجيبة= Paradoxa (مرة واحدة في العهد الجديد عند لوقا 5/ 26).
أول ما يلفت النظر في الإنجيل الرابع هو وجود عدد قليل جدًا من "المعجزات" بالمقارنة مع الأناجيل الإزائية. فإن ثلث إنجيل مرقس مكرّس لروايات المعجزات، بينما يكتفي يوحنا بإدراج سبع "آيات" فقط صنعها يسوع خلال حياته العلنية. من المؤكد أن اختيار هذا العدد المحدد ليس عشوائيًا، بل له هدف معين، كما يقول يوحنا نفسه في نهاية إنجيله: "وأتى يسوع أمام التلاميذ بآيات أخرى كثيرة لم تكتب في هذا الكتاب، وإنما كتبت هذه لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولتكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه" (20/ 30- 31؛ راجع أيضًا 21/ 25).
من جهة أخرى، فإنَّ يوحنا لم يستعمل قط كلمة dynamis (عمل قوة- معجزة).
بالنسبة إلى الإزائيين، كانت المعجزات تدل على حضور ملكوت الله بين الناس. ونحن نعلم أن يوحنا لم يتحدّث أبدًا عن الملكوت ولم يرو أية حادثة من حوادث طرد الشياطين المذكورة في الأناجيل الإزائية كعلامة لاقتراب ملكوت الله. تجدر الإشارة هنا إلى أنه بالرغم من غياب روايات طرد الشياطين عند يوحنا، فإن هذا الانجيل يشدّد على أن بواسطة حضوره في العالم، حقّق المسيح انتصارًا على الشيطان (راجع 8/ 44؛ 12/ 31؛ 16/ 33 "اليوم يطرد سيد هذا العالم").
يفضّل يوحنا استعمال كلمة "آية" Semeion للإشارة إلى معجزات يسوع كما استعمل أيضًا كلمة érgon "عمل". أما كلمة térata "أعاجيب" فترد مرّة واحدة في 4/ 48 مع كلمة "آيات": "إذا لم تَرَوا الآيات والأعاجيب لا تؤمنون".


جدول بالآيات السبع الواردة في الإنجيل الرابع

1- تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل (2/ 1- 11)
2- شفاء ابن موظف الملك (4/ 46- 54)
3- شفاء مقعد عند بركة باب الغنم (5/ 1- 9)
4- تكثير الأرغفة والسمكتين (6/ 1- 15)
5- المشي على البحر (6/ 16- 21)
6- شفاء الأعمى منذ ولادته (9/ 1- 7)
7- إعادة لعازر إلى الحياة (11/ 1- 44).

الآية أو العلامة Semeion
لقد جرت العادة أن تترجم كلمة Semeion بكلمة "آية" أو بكلمة "علامة". فالمعنى الأصلي لـ Semeion هو أقرب إلى العلامة، ويمكن تحديد معناه "بشيء أو حدث ما يساعدنا على التعرّف إلى شيء آخر أبعد وأعمق من المعنى الذي يحمله بحدّ ذاته".
والكتاب المقدس مليءٌ بالعلامات المستخدمة في علاقات الناس بعضهم مع بعض (علامات حربية، علامات رمزية، علامات طقسية... الخ). ولكن أهمّها هي تلك التي يدلّ فيها الله على قدرته اللامتناهية وحبّه العظيم لشعبه، من خلال ما يفعله من أجل خلاصهم. العلامات التي تعبّر عن عمل الله الخلاصي كانت تتجلّى بالآيات والمعجزات (بالعبرية أوتوت وموفتيم، باليونانية Semeia Kai terata).

الآيات في الأناجيل الإزائية وأعمال الرسل
لا يقتصر استعمال كلمة "آية" على الإنجيل الرابع، بل نجدها أيضًا في الأناجيل الإزائية وأعمال الرسل. ولكي نبرز ميزة الإستعمال اليوحنوي، من المفيد دراسة المعاني التي تحملها هذه الكلمة عند الإزائيين.
استُعملت كلمة Semeion (آية) في ثلاثة معان مختلفة:
1- بالمعنى النهيوي أو الاسكتلوجي، للدلالة على علامات نهاية الأزمنة وتلك التي ترافق المجيء الثاني (راجع مثلاً متى 24/ 3، 24، 30).
2- كبرهان دفاعي (Apologétique) يطلبه أخصام يسوع لتبرير ما يعلنه عن هويته (مثلاً متّى 12/ 38- 39؛ 16/ 1- 4؛ لو 23/ 8). بهذا المعنى، كانت الآية تحدّيًا ليسوع من قِبَل أخصامه، ولذلك كان يرفض مجاراتهم.
3- وأخيرًا تشكّل كلمة (Semeion) مع كلمة "أعجوبة (Teras) تعبيرًا اصطلاحيًا كثيراً في أعمال الرسل للدلالة على معجزات يسوع والرسل (أعمال 2/ 22، 43؛ 4/ 30؛ 5/ 12؛ 6/ 8؛ 7/ 36؛ 14/ 13؛ 15/ 12). يبدو أن هذا التعبير "الأعاجيب والآيات" يجد جذوره في الترجمة السبعينية للعهد القديم (راجع خروج 7/ 3؛ تث 4/ 34؛ 6/ 22؛ 7/ 19؛ 26/ 8؛ 29/ 3؛ إرميا 32/ 21؛ أشعيا 8/ 18).
هناك نصّان فقط في الإنجيل الرابع تحمل فيهما كلمة Semeion معنى البرهان الدفاعي الذي يطلبه أخصام يسوع (راجع 2/ 18 و6/ 30) تمامًا كما في الأناجيل الإزائية. أما بالنسبة إلى المعنى النهيوي أو الاسكتلوجي، فمن الصعب جداً إيجاد معنى مطابقًا عند يوحنا، نظرًا للرؤية المميزة والجديدة التي ينفرد بها يوحنا للاسكتولوجيا والتي تختلف بالطبع عن تلك التي نجدها عند الإزائيين.

مميزات الآيات اليوحنوية
العنصر الخاص بإنجيل يوحنا هو العلاقة بين الآيات والإيمان. تكفي نظرة سريعة إلى روايات الآيات لكي نلاحظ كيف أن الآيات مرتبطة جداً بالإيمان:
2/ 11 "هذه أولى آيات يسوع أتى بها في قانا الجليل، فأظهر مجده فآمن به تلاميذه".
2/ 23 "ولما كان في أورشليم مدة عيد الفصح، آمن باسمه كثير من الناس، لما رأوا الآيات التي أتى بها".
3/ 2 نيقوديموس يأتي لرؤية يسوع ليلاً ويعثر عن إيمانه قائلاً: "رابي، نحن نعلم أنك جئت من لدن الله معلّمًا، فما من أحد يستطيع أن يأتي بتلك الآيات التي تأتي بها أنت إلاّ إذا كان الله معه".
4/ 54- 55 آمن موظف الملك وعائلته جميعاً عند رؤية آية شفاء ابنه.
7/ 31 "فآمن به من الجمع خلق كثير وقالوا: "أيجري المسيح من الآيات حين يأتي أكثر مما أجرى هذا الرجل؟".
9/ 16 جدال حول يسوع عندما شفى الأعمى "كيف يستطيع خاطىء أن يأتي بمثل هذه الآيات؟".
10/ 41- 42 "فأقبل إليه خلق كثير وقالوا: إن يوحنا لم يأت بآية، ولكن كل ما قاله في هذا الرجل كان حقًا". فآمن به هنالك خلق كثير.
417/1- 48 عبّر عظماء الكهنة والفريسيون عن قلقهم: "فإنَّ هذا الرجل يأتي بآيات كثيرة. فإذا تركتاه وشأنه آمنوا به جميعًا...".
12/ 37 عمى اليهود ورفضهم بالرغم من الآيات: "أتى يسوع بجميع هذه الآيات بمرأى منهم، ولم يؤمنوا به".
قبل أن نحدّد طبيعة العلاقة الموجودة بين الآية والإيمان، يجب التنبّه إلى الأمور التالية:
- يرفض يسوع الآية التي يطلبها أخصامه كبرهان تبريري لما يعمله (راجع 2/ 18 و 6/ 30).
- لا يطمئن يسوع كلئا للذين يؤمنون به عند رؤية الآيات التي كان يقوم بها (راجع 2/ 23- 24؛ 6/ 26)، خاصة وأنه لا يريد أن تكون الآيات والعجائب الطريق الوحيد الذي يؤدّي إلى الإيمان: "إذا لم تروا الآيات والأعاجيب لا تؤمنون؟" (4/ 48). لذلك يعلن قائلاً: "طوبى للذين يؤمنون ولم يروا" (20/ 92).
إذًا، فالرؤية ليست شرطاً لازمًا للإيمان، إنما بالعكس، فالإيمان الحقيقي يجعل الإنسان قادرًا على رؤية أعمق: "ألم أقل لك إنك إن آمنت ترين مجد الله؟" (11/ 40).
فالآيات هي إظهار مجد الله لأولئك القادرين على إدراك سر يسوع. أي إنّها وسيلة للوصول إلى الإيمان الحق: التأمل في مجد يسوع، مجد الابن الوحيد (1/ 14؛ 30/20- 31).

معنى الآيات اليوحنوية
هذه الفكرة تجد جذورها في العهد القديم إذ كانت الآيات تدلّ على ناحيتين مهمتين من الوحي: إظهار عظمة الله بشكل مرئي من خلال أعمال قديرة من جهة، وتجلّي الله غير المنظور للبشر من خلال هذه الأعمال القديرة والعجيبة.
وتحمل الأعمال العجيبة التي يقوم بها يسوع حسب إنجيل يوحنا معنيين:
- هذه الأعمال الخارقة تشكّل دعوة لقبول السر العظيم الذي حلّ بين البشر من خلال يسوع. بهذا المعنى يقترب يوحنا من فكر الإزائيين كما يتطابق أيضًا مع المعنى السائد في العهد القديم: تُظهر الأعمالُ الخارقة يد الله القديرة الحاضرة والعاملة بين الناس.
- أما المعنى الثاني، والذي يتميّز به إنجيل يوحنا، فهو يدلّ على أنّ الخلاص وصل إلى ملئه مع يسوع. أي إن يسوع هو ملء وحي الله الخلاصي. والتأمّل بما يقوم به يسوع يحمل الإنسان على إدراك يُعلن أن الله التكدير والبعيد وغير المنظور، حاضر فعليًا من خلاله. هكذا يصبح يسوع بين الناس حضور مجد الله بين الناس بشكل منظور.
وحدها قدرة الله يمكنها أن تشرح وتبرر عظمة الأعمال التي يقوم بها يسوع. فالآيات هي إشعاع المجد المنظور في الابن المتجسد (sarx). الإنجيل الرابع مقتنع أن الخلاص الموعود والحقيقي قد تحقق في شخص يسوع، ولذلك يرى في أعماله وفي تصرفاته حلول الله الفعلي بشكل كامل ونهائي. لا يمكن للخلاص أن يأتي بأي شكل آخر. أصبح من الممكن ملاقاة الله والتأمل في مجده من خلال يسوع.
نفهم هكذا لماذا فضَّل يوحنا كلمة آية أو علامة للدلالة على الأعمال الخارقة التي كان يقوم بها يسوع. هذه الآيات تقود القارئ (أو المستمع) إلى أبعد بكثير من الحدث بحد ذاته، لتحمله على إدراك مصدر الأعمال التي يقوم بها يسوع، والتأمل بمجد المتجلي فيه.
بهذا المعنى، تكون الآية شهادة حيّة تخبر عن يسوع، عن هويته، عن مصدر رسالته: من هو ومن أين أتى.
يمكننا القول أيضًا إن العنصر الذي يميّز الآيات اليوحنويّة هو أن يسوع هو الذي يأتي بها! لذلك يؤكّد الانجيلي أن يوحنا المعمدان لم يأت بأية آية (10/ 41)، خاصة أنه لا يمكنه القيام بهكذا أعمال. لأن في لاهوت الإنجيل الرابع آيات تخصّ الابن وحده، الذي يقول إنه يفعل بحسب ما رأى وسمع من الآب (راجع 5/ 19 و30).
يركّز يوحنا إنتباهه إذاً على أساس الآيات ومصدرها وليس على نتائجها وحسب. أهمّية الآيات تكمن في الوحي الذي تحمله عن يسوع، إذ تظهر للناس مصدر أعمال يسوع ومعنى رسالته، والسبب الأساسي والعميق لحضوره في العالم.
وهنا أيضًا يكمن الفرق الأهم بين الآيات اليوحنوية والمعجزات التي نجدها في الأناجيل الإزائية وأعمال الرسل: كان التركيز في هذه الكتب على أهمية المعجزات في مسيرة إنشاء الملكوت وترسيخه من خلال الصراع ضد الشر والشرير (متى 12/ 28 "أما إذا كنت أنا بروح الله أطرد الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله"؛ راجع أيضًا أعمال 10/ 38). لذلك نجد علاقة قوية بين المعجزة وطرد الشياطين. أما يوحنا فقد سلك طريقًا مختلفا وشدّد على هوية يسوع (على كونه الابن والمسيح) وعلى كونه مرسلاً من الآب ليخلّص العالم.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الحوار أو الجدال والخطب التي غالبًا ما تتبع الآيات التي نجدها في إنجيل يوحنا تتعمّق في المعنى الذي تشير إليه تلك الآيات وتكمل معناه.

شهادة الآيات
تساهم الآيات بإظهار هوية يسوع وبترسيخ إيمان التلاميذ وكل الذين تبعوه وآمنوا به مسيحاً وابن الله. ومع ذلك يعي الإنجيلي أن الآيات تبقى شهادتها أحيانًا صامتة للذين يرفضون الانفتاح على الوحي. أما للمؤمنين، فإنها تتخطى الحدث الخارق أو العجيب بحد ذاته لتشير إلى هوية يسوع الحقيقية.
ما هي الشهادة التي تحملها الآيات اليوحنوية السبع عن يسوع؟
- في حادثة تحويل الماء إلى خمر (2/ 1- 11)، وهي الآية الأولى التي يدرجها يوحنا في إنجيله، يتضح لنا أنها تظهر مجد يسوع (2/ 11: فأظهر مجده وآمن به التلاميذ). وهذا المجد مرتبط بكونه الابن الوحيد المتجسد: "والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا فرأينا مجده، مجدًا من لدن الآب لابن وحيد ملؤه النعمة والحق" (1/ 14). تفتح هذه الآية عيون التلاميذ على أن الله حاضر في يسوع وعلى أن هذا الحضور القائم على المحبّة محل العهد القديم القائم على الشريعة. آية تحويل الماء إلى خمر ترمز إذًا إلى أن عهد الله الحقيقي والدائم مع شعبه يتحقّق الآن في يسوع.
- آية شفاء ابن موظف الملك (4/ 46- 54) وآية شفاء المقعد عند بركة باب الغنم (5/ 1- 9) تحملانا على التأمّل في كلمة يسوع القادرة على إعطاء الحياة الجديدة. فالولد كان قد أشرف على الموت (4/ 47). وبعد أن استمع يسوع لموظف الملك أعلن وقال: "اذهب، إن ابنك حي" (4/ 50). بالنسبة للإنجيلي، حققت كلمة يسوع انتصارًا على الموت. وهذه الآية ترمز إلى أن يسوع جاء يعطي الحياة الجديدة للإنسان. ولا ننسى أن موظف الملك آمن هو وأهل بيته (4/ 53). والقارئ المتنبه يتذكر ما قاله يسوع: "من آمن بالابن فله الحياة الأبدية" (3/ 36). وكذلك فالمقعد الذي شفاه يسوع قد استعاد حياته بعد ثمان وثلاثين سنة قضاها في المرض. والجدال الذي يلي هذه الآية يؤكد هذه الفكرة، لكي يبرر يسوع عمله يوم السبت، شبَّه عمله بعمل الله المتواصل الذي يرافق الخليقة بعنايته ويبقيها في الحياة (راجع 5/ 17 والتفسير الذي يعطيه العلماء لعمل الله المتواصل)، وهذا يضع يسوع على مستوى الله ذاته، الأمر الذي أغضب اليهود وجعلهم يتآمرون لقتله (5/ 18).
- آية تكثير الأرغفة والسمكتين (6/ 1- 15) أشعلت حماس الجموع الحاضرة وجعلتهم يفكرون أن يسوع هو النبي الآتي إلى العالم (راجع 6/ 14)، ولكنّهم لم يفهموا المعنى الحقيقي للآية التي تدل إلى أن يسوع هو الخبز الآتي من السماء ليعطي العالم الحياة (راجع 6/ 33، 35/ 51) كما يشرح يسوع نفسه في الخطبة التي تتبع الآية (6/ 22- 65). وبما أن الخبز الآتي من السماء هو بعلاقة مع المن (راجع خروج 16/ 1- 36)، فهذا يعني أن يسوع هو المسيح المنتظر، علمًا بأن المن كان معتبرًا طعام الشعب المسيحاني (راجع مز 78/ 23- 24؛ 105/ 40؛ الحكمة 16/ 20- 23). وتأتي آية المشي على البحر (6/ 16- 21) لتوضح معنى آية تكثير الخبز. فإننا نجد في وسط النص عبارة: "أنا هو" (6/ 20) التي تشكل محور الآية وتحملنا على الإدراك أن الله نفسه حاضر في يسوع وبالتالي تشهد للمصدر الإلهي ليسوع "الخبز من السماء". كما أن المشي على الماء هو إظهار لألوهية يسوع لأن العلماء اليهود كانوا يؤمنون ويعلمون أن الله وحده قادر على السيطرة على عناصر الطبيعة والمشي على البحر.
- آية شفاء الأعمى منذ ولادته (9/ 1- 7) والحوار- الجدال الذي يتبعها، تشير إلى يسوع نور العالم. كما نرى من خلال هذا النص أن الآية بحدّ ذاتها لا تقود الإنسان إلى الإيمان إلا إذا كان منفتحًا على البشرى التي يحملها المسيح: فمن جهة نجد الأعمى الذي شُفي وأصبح شاهدًا ليسوع الذي شفاه، ومجاهرًا بإيمانه بالرغم من التهديدات، ومن جهة أخرى نجد أن اليهود (أو الفرّيسيّين) الذين انطووا وانكمشوا في معرفتهم وكبريائهم ورفضوا فتح عيونهم لرؤية النور، بقوا هكذا في ظلام الخطيئة خارجًا عن الحياة الجديدة التي يحملها يسوع المسيح (علمًا بأن إنجيل يوحنا يربط بين النور والحياة).
- الآية الأخيرة التي يرويها يوحنا في إنجيله هي إعادة لعازر إلى الحياة (11/ 1- 44). هذه الآية تحمل شهادة للتلاميذ من جهة، وتشكل إحراجًا كبيرًا لأخصام يسوع من جهة أخرى. إنها الآية الأخيرة قبل حلول "ساعة يسوع" التي ينتصر فيها على الموت بموته على الصليب. وإذا كانت الآيات تشير إلى صفة معينة من صفات يسوع وتساهم بإظهار هويته ورسالته بين الناس من ناحية أو من أخرى، فإنَّ آية إحياء لعازر تحتوي على مجمل هذه النواحي وتطال عمق الإيمان، لأنها تدلّ على يسوع الذي هو "القيامة والحياة" (11/ 25). تشهد هذه الآية على مسيحانية يسوع وعلى سلطته على الموت والحياة مثله مثل الله. وهذه الآية تساهم بتبيان مجد الله ومجد الابن أمام الناس (راجع 11/ 4 و40) كمدخل للمجد الكامل الذي سيتمجّده الابن على الصليب وفي القيامة. أمام هذه الآية العظيمة، آمن الكثير من اليهود (11/ 45) ولكن المسؤولين رفضوا الانفتاح على المعنى الذي تحمله الآية بالرغم من معاينتهم لها ولغيرها من الآيات (11/ 47). وهكذا قرّر عظماء الكهنة والفريسيون قتل يسوع. والملفت أن الإنجيلي، وبطريقته التهكّمية المعتادة، يضع على لسان قيافا عظيم الكهنة، ومن خلال حكم الموت الذي يصدره، السبب الذي يموت لأجله يسوع، فيكون أخصام يسوع ذاتهم قد ساهموا بالشهادة للخلاص الذي يحقّقه يسوع: "... فتنبّأ أن يسوع سيموت عن الأمّة، وليس عن الأمّة فحسب، بل ليجمع أيضًا شمل أبناء الله" (11/ 51- 52).

خاتمة
جاءت الآيات في إنجيل يوحنا كاملة حاملة المعاني العميقة وشهادات ساهمت بالكشف عن هوية يسوع الحقيقية ومصدره الإلهي وطبيعة رسالته بين الناس. ولكنها كما قلنا كانت ترمز لهذه الحقائق وتشير إليها انطلاقًا من أحداث معيَّنة. وكانت تمهيدًا لإدراك السّر الرهيب، سر الصليب الخلاصي حيث تتدفق الحياة الجديدة، ويتمجّد الابن. لذلك فإنَّ الآيات جميعها تقود المؤمن نحو ساعة المجد هذه. هناك من يتساءل إذا كان الصليب آية أو حتى القيامة، ولكن تسميتها هكذا يقلّل مما تحمله من معنى بحد ذاتها، دون حاجة رموز أو إشارات تعزّزها. لا عجب إذا بأن تنتهي الآيات بانتهاء القسم الأول من الإنجيل الرابع والذي يسمّيه معظم العلماء "كتاب الآيات". أما القسم الثاني الذي يبدأ مع نهاية الفصل 11 فيعرض للمؤمن ما رمزت إليه الآيات وذلك بإظهار حب الابن غير المتناهي للإنسان الذي يتجلّى ببذل ذاته على الصليب والحياة الجديدة التي تتدفق من هذا الموت الفدائي ومن القيامة التي يظهر فيها بوضوح المجد الكامل ليسوع المسيح.
الأب وليد الخوري الأنطوني

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM