الفصل التاسع: المعجزة في الإنجيل بحسب القديّس متى

 

الفصل التاسع
المعجزة في الإنجيل بحسب القديّس متى
أو علامات الزمن المسيحانيّ

تتضمّن الأناجيل الأربعة روايات عدّة للمعجزات، من بينها الشفاءات، وهي إحدى أعمال يسوع التي تأنَّى التقليد في الحفاظ عليها.
نلاحظ، وبحسب إنجيل مرقس، أن أولى المعجزات التي أتى بها يسوع هي شفاء ممسوس في مجمع كفرناحوم خلال خدمة يوم السبت (مر 1: 21- 28)، في الوقت الذي يفتتح فيه لوقا سلسلة المعجزات في إنجيله، في كفرناحوم أيضًا، ضمن إطار أكثر حميميّة وذلك في منزل سمعان بطرس، وهو مَن شفى يسوع حماته المريضة (لو 4: 38- 41). أمّا بالنسبة إلى يوحنا فإن أولى الآيات التي يوردها هي آية تحويل الماء إلى خمر خلال وليمة عرسٍ في قانا الجليل (يو 2: 1- 12).
غير أن نصّ متّى يتميّز في هذا الصدد، كما في مجالات أُخرى، بخصائص عدّة. فهو، خلافًا للإنجيليّين الثلاثة الآخرين، لا يفتتح سلسلة المعجزات بمشهد معيّن. إنما بموجزٍ لعمل يسوع الرسولي يظهر فيه التعليم مع الأعاجيب بطريقة متزامنة ومتكاملة:
"وكان يسوع يطوف كلّ الجليل، يعلّم في مجامعهم، ويُنادي ببُشرى الملكوت، ويَشفي الشعب من كلّ مرض وعلّة. وذاع صيته في سوريا كلها، فحملوا إليه جميعَ من كان بهم سوء، مصابين بأمراض وأوجاع مختلفة، وممسوسين ومصروعين ومُقعدين، فشفاهم. وتبعته جموعٌ كثيرة من الجليل والمدن العشر، وأورشليم واليهودية وعبر الاردن" (متّى 4: 23- 25).
يلي هذا الموجز مباشرة العظة على الجبل (متّى 5- 7)، التي يتبعها فصلان يطغى عليهما الاسلوب الروائي، فنميّز فيهما مجموعة عشر معجزات (أصابع يَدَي الانسان العشرة) (متّى 8- 9)، لنعود فنجد، بعد ذلك، الجملة الواردة في الموجز المذكور أعلاه وقد تكرّرت حرفيًا تقريبًا:
"وكان يسوع يطوف المدن كلّها والقرى يعلّم في مجامعهم، ويُنادي ببشرى الملكوت، ويشفى الشعب من كل مرض وكلّ علّة" (متّى 9: 35).
فمن الواضح أننا أمام قسم طويل، متين التركيب، يفتتحه ويختمه مقطعان متشابهان يشكّلان حدودًا له:
* موجز عن التعليم والمعجزات (متّى 4: 23- 25)
* التعليم: العظة على الجبل (متّى 5- 7)
* المعجزات (متّى 8: 1- 9: 34)
* موجز عن التعليم والمعجزات (متّى 9: 35).
إن هذه اللوحة بشقَّيها تقدّم لنا جوهر العمل الذي قام به يسوع، في بدء حياته العلنيّة، كمعلّم وصانع معجزات. فيسوع يتكلّم ويعمل، فيأتي عمله تثبيتًا لكلامه. والمعجزات الواردة في الفصلين الثامن والتاسع تتبعها معجزات أُخرى طبعًا، لأنها عنصر لا يُمكن إهماله أو تجاهله في الكرستولوجيا، إلاّ أنَّ كلّ إنجيلي يعرضها بحسب رؤيته الخاصة. غير أنَّ البنية الأدبية المركّبة عن سباق تصوّر تجعلنا نستدلّ إلى أنّ متّى يُعبّر عن جوهر رؤيته في هذين الفصلين.

1- بعض المميزات الخاصة بمتّى
أ- الشكل الأدبي
إنَّ متّى أمين بالإجمال للشكل الأدبي الذي يستعمله الإزائيون عادة في روايات المعجزات، ولكنه يميل إلى إيجازها. فالعنصر الروائي مُختصَر. ويمكننا أن نلاحظ في رواية شفاء المُقعد، مثلاً (متّى 9: 1- 8) غياب المنزل والجمع المضايق وتفنّن من يحملون السرير، لكي يتمكنوا من إيصال المقعد إلى أمام يسوع. أما الخطاب، على العكس، فهو أساسي. فمتّى لا يختصر أبدًا الجدل القائم بين يسوع والكتبة، لا بل إنَّ يسوع يلفظ كلمة إضافية يوجّهها إلى المُقعد لا ترد في النصوص الموازية وهي "ثقْ" (متّى 9: 2). فذلك كلّه يمنح المعجزات المتَّاوية هيئة متينة البنية، ولكن مختصرة بعض الشيء نظرًا لغياب التفاصيل التزيينيّة في رواية تقتصر أغلب الأحيان على ما هو أساسي.

ب- الموضوع الكرستولوجي
إنّ غياب الزخرفات والأشخاص الثانويين يُسلّط أضواء الرواية على طالب الشفاء وعلى يسوع، وهو المحور، لا بل المحور عينه. فهو يتمّم عمله بكلمة: ففي موجز الشفاءات (متّى 8: 16) يوضح النصّ أنَّ يسوع كان "يطرد الأرواح بكلمة"، وهذا تفصيل خاصّ بمتّى. فهو يفعل مثلما يتكلّم، بسلطان وبأقلّ عدد من الأفعال الماديّة، إذ إنّ الشفاء مباشر. إنها قدرة الله التي تفعل بوضوح عن طريق تعابيره الجسديّة وكلمته، دون أن تحدّها الوساطة البشريّة أو تخفّف من مفاعيلها. وبهذه الطريقة تصبح الرواية لقاءً شخصيًا بين يسوع، المنادى دائمًا بـ "يا ربّ"، وبين ذاك الذي "يدنو" منه و"يسجد" أمامه. وهذان فعلان عزيزان على قلب متّى.

ج- موضوع الإيمان
إنّ ما يجعل الشفاء ممكنًا هو إيمان من يطلب الشفاء أو إيمان أولئك الذين يحيطون به. فمتّى يذكرُ الموضوع حيثما يرد ذكره في النصوص الموازية له. فهو يُعلن للمرأة النازفة أنَّ إيمانها شفاها (متّى 9: 22)، ويسأل الأعميين عن إيمانهما قبل أن يشفيهما (متى 9: 28- 29). وتشكّل معاودة التطرف إلى الموضوع خطًا بارزًا يربط الفقرات بعضها ببعض طوال الفصلين المركّزين على المعجزات. غير أننا نرى يسوع مندهشًا بشكل خاص أمام إيمان الوثنيين، فيحلو لمتى أن يبرز هذا الإيمان كإيمان قائد المئة مثلاً (متّى 8: 10- 13)، وإيمان المرأة الكنعانيّة (متّى 15: 21- 28)، ممّا يجعلنا نستخلص أنّ هذا الموضع عزيز جدًا على قلب متّى.

د- الموضوع الكنسي
إنّ موقف الجموع التي تمجّد الله الذي منح الناس سلطانًا كهذا عند شفاء المُقعد (متّى 9: 8) لهو أمر معبّر وموثّر. فالمقصود هو السلطان على مغفرة الخطايا. ولكن يبقى السؤال إلى من تشير كلمة "الناس". فهل الجموع تدرك قيمة السلطان الذي يتمتّع به يسوع ابن الإنسان؟ إنه سلطانٌ يقتصر امتلاكهُ عادةً على الله، في حين أنّ شفاء المُقعد قد أظهر أنه مُنحَ لشخص بشريّ معيّن. ما من شك في ذلك، غير أنّ مثل هذا الجواب يبقى دون إيفاء معنى النص حقّه.
إذا قرأنا النصّ في إطار القسم الذي ينتمي إليه، يتبيّن لنا أن "الناس" الذي يتمتعون بالسلطان لمغفرة الخطايا هم تلك الشريحة من الناس التي تشكّل الكنيسة، والتي كانت جماعة تلاميذ يسوع، ما قبل الفصح، إستباقًا ونواةً لها.
كما أن الإنجيلي يُظهر لاحقًا في النص بوضوح كبير، وقد استعان بمفردات أخرى تتركّز حول كلمتَي "الحل" و"الربط"، أنَّ القدرة على مغفرة الخطايا هي بين يَدَي جماعة الكنيسة (متّى 16: 19 و18: 15- 18).
تتيح لنا هذه الفكرة أن نستخلص البُعد الكنسي الثابت في روايات الشفاء عند متّى. فيسوع الشافي وطارد الشياطين يعمل كمؤسّس للكنيسة التي تتمتّع على غراره بالصلاحيات نفسها. وفي عظة إرسال التلاميذ، التي تبدأ فورًا بعد قسم المعجزات العشر، يعهد إليه بمهمّة تتناسب تمامًا مع الأعاجيب التي أتى بها، منذ وقت قليل، على مرأى منهم: "إشفوا المرضى، أقيموا الموتى، طهّروا البرص، واطردوا الشياطين، مجانًا أخذتهم، مجانًا أعطوا" (متّى 10: 8).
فالربّ الذي يستنجد به البؤساء وينادونه هو اليوم ربّ الكنيسة: فهل سيقوم بأقل ممّا قام به في السابق، وهو عمانوئيل، القائم من بين الأموات، والحيّ أبدًا في ما بيننا: "وها أنا معكم كلّ الأيام إلى نهاية العالم" (متّى 28: 20)!؟!...

2- قسم المعجزات (متى 8- 9)
يتضح لنا إذًا أنّ المعجزات في الإنجيل بحسب متّى لا تقتصر على كونها حوادث خارقة العادة تُستخدَم كسند لبراهين دفاعية هدفها تبرير أُلوهة يسوع.
في الواقع، إنّ الفصلين الثامن والتاسع من متّى بعيدان كلّ البعد عن أن يكونا سلسلة من عشر معجزات بالإضافة إلى بعض المقاطع التي ترد فيها بعض العظات أو روايات من نوع آخر.
فبعد الأعاجيب الثلاث الأولى: الأبرص (متّى 8: 1- 4)، وقائد المئة (8: 5- 13)، وحماة بطرس (8: 14- 15)، يُبيّن لنا الكاتب، عبر وقفة، أن يسوع الشافي هذا يُتمّم نبوءة أشعيا: "ولما كان المساء قدّموا إليه ممسوسين كثيرين. فطرد الأرواح بكلمة، وشفى أيضًا جميعَ مَن بهم سوء. فتمَّ ما قيل بالنبّي أشعيا: "أخذ عاهاتنا، وحمل أمراضنا" (متّى 8: 16- 17). فهو يشفي آخذًا عاهاتنا وحاملاً أسقامنا، فيتضامن مع بؤسنا وشقائنا.
وكذلك أمر الانطلاق إلى شاطئ بحيرة طبريّة الشرقي الذي يطلق رواية تسكين العاصفة، يتبعه كلامٌ عن متطلبات اتّباع يسوع، وهو كلام قد لا يمتُّ إلاّ بصلة بسيطة في الظاهر مع هذه الرواية التي يقطعها (متّى 8: 19- 22).
ثم نجد أنفسنا مرّة ثانية أمام وقفة جديدة تشهدها سلسلة المعجزات بعد شفاء المُقعد لتردَ دعوةُ متّى لإتّباع يسوع بالإضافة إلى جدالين في الموضوع نفسه (متى 9: 9- 17). أما الخاتمة، التي تردُ مباشرة بعد الآية التي تقفل اللوحة المزدوجة في التعليم والشفاءات، فتعالج بؤس الجموع الناتج عن تهاون رعاتها وليس عن شدّة أمراضها الجسدية: "ولما رأى الجموع تحنّن عليهم، لأنهم كانوا منهوكين، مطروحين مثل خراف لا راعي لها" (متّى 9: 36).
في سياق النصّ الذي يشمل الفصلين، يتنقّل يسوع كثيرًا من مكان إلى آخر، كما أنّ القسم يتضمّن ذهابًا إلى الأرض الوثنيّة على الضفة الأخرى من البحيرة، وهذا يساهم في إضفاء معنى عليه (متّى 8: 18- 9: 1). تتكرّر غالبًا في هذا القسم بعض الأفعال الغنيّة جدًا بالمعاني: أوّلها فعل "تبع" (9 مرّات: متّى 8: 1، 10، 19، 22، 23؛ 9: 9 مرتين، 19، 27) المرتبط جدًا بحالة التلمذة وبالموضوع الكنسيّ، وهما عنصران عزيزان على قلب متّى، وفعل "قام" أو "نهض" وهو أحد أبرز التعابير في تقليد العهد الجديد التي تشير إلى القيامة (8 مرّات: متّى 8: 15، 25، 26؛ 9: 5، 6، 7، 19، 25). كما أن كلمة "تلميذ" ترِدُ كثيراً في هذين الفصلين (8 مرّات: متّى 8: 21، 23؛ 9: 10، 11، 14 مرتين، 19، 37).
بالإضافة إلى أنّ الذين تحدثُ معهم المعجزات ليسوا فقط أشخاصًا نالوا الشفاء؛ إنهم بحسب متّى جمهور من الناس الواقفين بين رجال ونساء آخرين يتبعون يسوع. إنهم الكنيسة المولودة وهي يهوديّة في جذورها، ولها أن تمتدّ إلى الأرض الوثنيّة. والأشخاص الذي يميل الدين اليهودي إلى إبعادهم أو جعلهم في المرتبة الثانية هم أول من ينضمون إليها: كالأبرص (8: 1- 4)، والوثني (8: 5- 13)، والمرأة (8: 14- 15). وفيها يُحتفَل بالغفران (9: 1- 8) ويجد العشارون والخطأة مكانًا لهم (9: 9- 13)، ويُصبح عدد كبير من العادات القديمة بالية (9: 14- 17). إن نوعية التعليم المُعطى تتلازم مع سلامة الأعضاء، بالمعنى الأشمل للكلمة، لأنّ الأقدام التي استعادت قوتها تُمكّن صاحبها من السير وراء يسوع، والعيون التي تفتَّحت تُبصر النور (9: 27- 34). إن المعجزات الخاصّة تصبّ كلّها في معجزة الكنيسة الدائمة المتجَذّرة في الإيمان؛ ولذا نرى أنّ اللوم الشديد والأكبر الذي يوجّهه يسوع إلى تلاميذه، بحسب متّى، هو "قلّة إيمانهم".

3- أفعال الآتي
ذات يوم، أرسل يوحنا المعمدان من سجنه مَن سأل يسوع: "أأنت هو الآتي، أم ننتظر آخر؟" (متّى 11: 3)، لأنه دُهش من عدم رؤية المسيح القويّ الذي كان ينتظر أن يراه متجليًّا في شخص يسوع.
و"الآتي" لقبٌ مسيحاني. فأجاب يسوع مختارًا من سفر أشعيا (35: 5- 6؛ 42: 18؛ 61: 1) عدة آيات تُعبِّر عن رجاء إسرائيل: "إذهبوا وأخبروا بما تسمعون وتنظرون: العميان يُبصرون، والعرج يمشون، والبرص يَطهُرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون. وطوبى لمن لا يشُكُّ فيَّ" (متّى 11: 4- 6).
يذكّرنا هذا الاستشهاد بالأعاجيب التي أتى بها يسوع في الفصلين الثامن والتاسع من الإنجيل بحسب متّى. ولكن، كما أشرنا سابقًا، لا يمكننا عزل المعجزات عن مجمل رسالة المسيح: فهي تؤلّف وحدة متماسكة مع إعلان بشرى ملكوت الله: "أمّا إن كنتُ بروح الله أُخرِج الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله" (متّى 12: 28).
حتى إن المعجزات نفسها تكتسب معناها بسبب وفرتها أكثر منه بسبب المعنى الخاصّ بكل واحدة منها. فمتّى مثلاً يذكر الشفاءات وطرد الشياطين معًا، وهما نوعان من الأعاجيب يميّز بينهما مرقس بعناية. في الواقع لا يستعمل مرقس كلمة "شفاء" عندما يتحدّث عن الممسوسين. أما متّى فيختلف عنه: "وذاع صيته في سوريا كلّها، فحملوا إليه جميع من كان بهم سوء، مصابين بأمراضٍ وأوجاع مختلفة، وممسوسين ومصروعين ومُقعدين، فشفاهم" (متّى 4: 24).
فالأعجوبة ليست أولاً فعلاًً يدلّ على السلطان أو القوّة. فكلمة "سلطان" (Exousia) يستخدمها متّى للدلالة على أفعال يسوع التي لا تُعَدّ في العموم بين الأعاجيب: كتعليمه (7: 29) ومغفرة الخطايا (9: 6، 8) وتطهير الهيكل (21: 23، 24، 27) وسلطانه الشامل بعد القيامة (28: 18). فالأعجوبة بشكل خاص هي علامة الزمن المسيحاني الذي تَحقّق مع يسوع المسيح.
ففي الفصلين اللذين نعالجهما، يبدو المسيح يسوع كطبيب البشر والعريس المسيحاني (9: 12- 16)، وهما موضوعان هامان في التقليد السرياني. إنه المخلّص ولكنه المخلّص الذي يتجلّى لنا بملامح العبد المتألّم والممجّد الوارد ذكره في أشعيا والذي يحمل كل عاهة بشريّة ليبعث فيها قدرة خلاص شاملة: "فتمّ ما قيل بالنبي أشعيا: أخذ عاهاتنا وحمل أمراضنا" (متّى 8: 17= أشعيا 53: 4).
إنه العريس الذي يقترن بحالتنا ويستوعبها حتى النهاية ليشفيها من الداخل ويُدخلنا بالتالي إلى وليمة العرس في ملكوت أبيه. إنه العريس، والتلاميذ هم المدعوّون إلى العرس، ويجدر التذكير بأنه كثيرًا ما يُصوّر العهدُ القديم اللهَ على أنه عريس إسرائيل (راجع هو 2: 16- 22 وأش 54: 5- 7)، وذلك عمومًا في وعود ترتبط بالمستقبل. لقد أحبّ المسيحيون الأولون أن يكمّلوا هذه الصورة بصورة الاتحاد بين المسيح وكنيسته (راجع 2 قور 11: 2 ورؤ 21: 9- 10).
باختصار، يلتقي هذا القسم من الإنجيل بحسب متّى (8- 9) مع القسم الذي يسبقه (5- 7) فيكشف لنا وجه يسوع، ومن خلاله وجه الآب. فالأفعال القديرة هذه (Dunameis) التي يأتي بها يسوع، بقوّة الروح، تبيّن لنا هوّيته، إنه واقع ملكوت السموات الذي اقترب حقًا من البشر بشخص يسوع المسيح.
فالمعجزة هي أساسًا علامة. وما يهمّ قبل كل شيء ليس الحدث نفسه، بل ما يعنيه: ماذا يعني هذا؟ وباسم مَنْ يفعَل؟ أباسم رئيس الشياطين كما يدَّعي الخصوم (متّى 12: 24)؟ فيجيب يسوع: "أمّا إن كنتُ أنا بروح الله اخرج الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله" (متّى 12: 28).
نعود ونذكّر مرة أخرى أن المسألة الهامة ليست البحث إذًا "عمّا حدث" بحرفيّته، بل بالأحرى البحث عن معناه. وغالبًا ما توسّع الانجيليون في هذا المعنى من أجل المؤمنين، وبالتالي من أجلنا نحن اليوم: وهذا ما يجب أن نكتشفه قبل أيّ شيء آخر.
لقد نادى يوحنا المعمدان بملكوت السموات، ولكنّه لم يأت بآية واحدة. فمعه لم تكن الأزمنة الحاسمة قد افتُتحَت تمامًا بعد. فالشفاءات والتعليم الموجّهة إلى الجميع، ولاسيّما الفقراء، تؤلف مجموعة واحدة تُظهر أن النشاط المسيحاني يبلغ مع يسوع ذروته، دون أن ينتهي معه كما رأينا، إذ إنَّ البُعد الكنسي للمعجزات الواردة في الفصلين الثامن والتاسع من الإنجيل بحسب متّى يؤدّي إلى التعليمات التى أعطاها يسوع لتلاميذه بعد ذلك بقليل في عظة الإرسال (متّى 10: 8). إنها دعوة واضحة لهم ليقتدوا به. كما أنها في نظام تاريخ الخلاص إشارة واضحة إلى أن الزمن المسيحاني سيدوم إلى منتهى الدهور: "وها أنا معكم كلّى الأيام إلى نهاية العالم" (متّى 28: 20).

4- الآية المُثلى
إنَّ الآية الوحيدة التي يرغب الربّ، الذي مات وقام، أن يتركها للكنيسة، جماعة الملكوت، هي في آخر الأمر، آية العبد المتألم والممجَّد الذي يبذل حياته ويخلّص شعبه بتضامنه معه حتى النهاية. فالابن ظهر إبنًا حقًا في كونه مُتّخذًا صورة العبد، وبموته صار ممكنًا للبشر أن يكونوا مسامَحين، إذًا مخلَّصين. إنه المسيح العبد الذي حمل خطايا الكثيرين فاستطاع أن يسمّرها على الخشبة ويمنح الكنيسة السلطان بأن تفعل مثله. فالكنيسة نفسها مدعوّة لتسلك الطريق نفسه الذي سلكه العبد المتألم، ببذل ذاتها وتضامنها إلى أقصى حدود التضامن مع بؤساء هذا العالم، هذا إذا أرادت أن تكون أمينة للدعوة التي أوكلها إليها ربّها.
يجيب المسيح الفرّيسيّين والكتبة والصدوقيّين الذي جاؤوا يسألونه آية من السماء لجرّبوه، قائلاً إنه لن تعطى لهم سوى آية يونان النبّي، وقد ورد ذلك مرّتين في متّى (12: 38- 45 و16: 1- 4): "فأجاب وقال لهم: جيل شرير فاجر يطلب آية، ولن يُعطى آية إلاّ آية يونان النبّي. فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك شكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال" (12: 39- 40). إنها الآية المثلى.
ففي يسوع المسيح حلّت الأزمنة المسيحانية، وما الموت والقيامة إلاّ إعلانًا بحلولها. ومن لا يتنبّه لذلك يكون من "الجيل الشرير الفاجر" (16: 4؛ 12: 39)، أي غير المؤمن، لأنه بذلك يكون قد رفض الملكوت الذي اقترب بيسوع. والكنيسة، على مثال الربّ، مدعوة أن تكون هذا المكان حيث لا تنفكّ آية يونان تتجلّى كآية وحيدة تُمنَح للبشر من أجل فدائهم، والمكان الذي فيه لا ينقطع الاحتفال بفصح المسيح من أجل خلاص العالم إلى أن يأتي اليوم الذي يشرب فيه المسيح القائم من الموت والممجَّد، من عصير الكرمة الجديد مع تلاميذه في ملكوت أبيه (راجع 26: 29).

5- الدينونة
إنّ العبد يبذل نفسه بتضامنه مع الفقراء ومع إخوته الصغار. سيكون هذا التضامن وحده "الآية" التي يطلبها ابن الإنسان، يوم الدينونة، من تلاميذه حين يأتي في مجده ليتمكّنوا من المشاركة معه في الملكوت الذي أعدّه الآب منذ إنشاء العالم (متّى 25: 31- 46).
فالكنيسة هي، في الواقع، جماعة المدعوّين لا جماعة المختارين: "فالمدعوّون كثيرون، أما المختارون فقليلون" (متّى 22: 14)، وهي مدعوّة إلى أن تعيش الزمن المُعطى لها في الطاعة للتعليم الذي تَلَقَّته من معلّمها وسيدها، ومصيرُها النهائي مرتبط بذلك. إنَّ التعليم الأخير الذي أعطاه المسيح قبل الدخول في آلامه، كما رأينا في متّى 25، يذكّر التلاميذ باستحالة إقامة علاقة حقيقيّة معه خارج الحياة اليومية حيث يُمتحَن كلُّ إيمان صادق ويُبنى.
إنَّ "الإخوة الصغار" يرمزون إلى كلّ إنسان في الشدّة سواء أكان مؤمنًا أم لم يكن. وفي يوم الجزاء الأخير سيكافئ "المسيح- العبد" كلّ إنسان بحسب السلوك الذي اختاره تجاه القريب في البؤس، هو الذي صار ديّانًا إسكاتولوجيًا، مُعلنًا تضامنه مع "إخوته هؤلاء الصغار".
والقاعدة المتّبعة لتمييز البشر بعضهم عن بعض تقوم على ستة أفعال رحمة أساسيّة: إطعام الجائع، إرواء العطشان، إستقبال الغريب، إلباس العريان، زيارة المريض والسجين. والنقطة الحاسمة في هذا كلّه تكمن في الربط القائم بين أفعال الرحمة الستة وشخص المسيح.
إنّ إقامة الربط تتمّ من خلال التضامن الذي أعلنه المسيح الديّان مع "إخوته هؤلاء الصغار". وهذا التضامن يتجلّى في شكلين:
- من جهة يتضامن المسيح مع البؤساء الذي يتماثل مع مصيرهم. فيستعمل ضمير المتكلّم في الآيات 35- 36 ثم 42- 43 من متّى 25: "كنتُ جائعًا، كنتُ عطشان..." إلخ...
- ومن جهة أخرى يُعلن علاقة التضامن هذه صراحةً في الآيتين 40 و45: "الحقّ أقول لكم: كلّ ما عملتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه!".
إن هذا التضامن يُثير دهشة من يخضعون للدينونة. فلم يجمعوا قط بين بؤس الآخر وإعترافهم بالمسيح. وهذا الانتباه إلى بؤس القريب يُظهر العلاقة القائمة بين المؤمن وربّه، مما يعني عمليًا أنَّ السلوك الأدبي -والسلوك الأدبي وحده- يكشف جديّة التلاميذ في إعترافهم بابن الانسان.
وهكذا يهدف هذا المشهد العظيم للدينونة الأخيرة، باختصار، إلى الإشارة إلى الإطار الذي فيه يتجسّد الإيمان ويتجلّى. فلا يتمّ الإيمان الفعلي بالمسيح والاعتراف به إلاّ حيث يلتزم التلاميذ في أمانة الحبّ. وحدها الطاعة المتجسِّدة في الحياة اليومية والمتجلّية في الانفتاح على الآخرين وبؤسهم، تشهد لعلاقة حقّة بالمسيح. فالتنبيه حازم. إنّ الإنتماء إلى الكنيسة لا يمنح أيّة ضمانة. فالجميع، ولاسيّما المؤمنين، يسيرون نحو الدينونة: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا ربّ، يا ربّ! أما باسمك تنبّأنا، وباسمك أخرجنا الشياطين، وباسمك عملنا أعمالاً قديرة؟ فحينئذ أعلنُ لهم: ما عرفتكم البتّة. ابتعدوا عني يا فاعلي الاثم" (متّى 7: 22- 23).
لا يمكن للإيمان الذي نعيشه منذ الآن في الزمن أن ينفصل عن العمل وعن السلوك الأدبي. فالإيمان، في نظر متّى، هو فعلٌ والتزام. فلا يمكن أن تقوم علاقة حيّة وأصلية مع المسيح بمعزل عن الموت عن الذات (آية يونان النبّي) والالتزام العملي والمُخلص في قلب العالم الدنيويّ: "ليس كلُّ مَن يقول لي: يا ربّ، يا ربّ! يدخل ملكوت السماوات، بل مَن يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات" (7: 21). وتلك هي مشيئته: "إنه لا يريد أن يَهلكَ أحدٌ من هؤلاء الصغار" (18: 14). "فمن يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات هو آخي وأختي وأمي" (12: 50).
الخوري مكرم قزاح
من كهنة البرادو

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM