الفصل العاشر: المعجزة في إنجيل مرقس

الفصل العاشر
المعجزة في إنجيل مرقس

مقدمة
لقد تعرّف شعبُ الله القديم على الربّ كمخلّصٍ أولاً وكسيّد للتاريخ، قبل أن يتعرّف عليه كخالقٍ وصانعِ المبروءات. تعرّف عليه من خلال تدخّلاته المتواترة في التاريخ والأحداث الخلاصية.
لذلك يرى الكاتبُ الملهم يدَ الربِّ العاملة في كلِّ حدث، تاريخَ الخلاص.
تلك الأحداثُ- المعجزات، لم تكن مسرحًا "لعرض عضلات الله"، بل أعمالاً حسيّة مرئية تُظهر مجدَ الربِّ وتدبيرَهُ الخلاصي، وتقود الإنسانَ إلى الإيمان الحق. هذا ما يوضحه الكاتب الملهم في سفر الخروج بعد معجزة عبور بحر الأحمر: "وشاهد إسرائيل المعجزة العظيمة (حرفيًا: يد الربّ العظيمة) التي صنعها الربّ بالمصريّين، فخاف الشعبُ الربَّ وآمنوا به وبموسى عبده" (خر 14: 31) (نلاحظ كيف ربط الكاتب الملهم بين المعجزة ومخافة الربّ والإيمان به).
فرجلُ الكتاب المقدس، لا يتساءل عن كيفية حصول المعجزة بل عن معناها وغايتها. بهذا المفهوم العميق للمعجزة، قرأت الجماعة الأولى أعمالَ يسوع الخلاصية، فرأت فيها تجليّات القدرة الالهية العاملة في شخصه الالهي وتحقيقاً لسرّ خلاص البشرية وبالتالي الدعوة إلى الإيمان به ربًا وفاديًا. هذا ما أوضحه بطرس في عظته يوم العنصرة قائلاً: "إن يسوع الناصري، ذاك الرجلَ الذي أيّده الله لديكم بما أجرى عن يده بينكم من المعجزات، والأعاجيب والآيات... قد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت" (أع 2: 22 و24). فالمعجزة هي علامة لكل إنسان. لذا نرى في العهد الجديد، العبارتين Teras (المعجزة) Semeion (علامة) يسيران معًا دائمًا. فمعجزات يسوع هي آيات وعلامات تُعلن حلول الزمن الاسكاتولوجي. فهذا الزمن، هو ضمن إطار الانتظار المسيحاني، الوقت الذي يتجلّى فيه الله نهائيًا وبشكل كامل في يسوع المسيح فيكون آيةً لكل إنسان ويدخل في حوار خلاصي معه.

1- البنية الأدبية واللاهوتية لإنجيل مرقس
قبل الدخول في عمق الموضوع، لا بدّ من إلقاء نظرة شاملة على البنية الأدبية واللاهوتية لإنجيل مرقس، لأنها وحدَها تستطيع أن تكشف لنا هدفَ مرقس الحقيقي، أسلوبَه وتعليمَه، وبالتالي تساعدنا على فهم موضوعنا، المعجزة في إنجيل مرقس، فهماً كافيًا.
أغلبيّة الشرّاح البيبليين يتّفقون على أن إنجيلَ مرقس يُقسم إلى قسمين:
الأول (1: 14- 8: 26)، والثاني (8: 27- 16: 8)، يربط بينهما اعترافُ بطرس بمسيحانيّة يسوع في قيصرّية فيلبّس (8: 27- 30). هذا الاعتراف البطرسي يشبه حجر الغلق الذي يتوجّه إليه البناءُ كلُّه. فهو النقطة الأساسيّة التي عندها يجد السّرُ المسيحاني تفسيره.
فعلى القسم الأوّل من إنجيل مرقس (1: 14- 8: 26) يُشرف سؤال واحد: من هو هذا الرجل؟ منذ أول ظهور في مجمع كفرناحوم دَهشَت الجموع والسلطات وتساءلت: من هو هذا الرجل؟ من أين له هذا السلطان (1: 21- 28)؛ الشياطين يعرفون، ولكنّ يسوع كان يُسكتها ويُلزمها الصمت (نقطة مهمّة جدًا) (1: 24- 25؛ 34؛ 3: 12). تصرّف يسوع بسلطان وقدرة أدهشت السلطات والأهل والمواطنين وشككتهم: "ما بال هذا الرجل يتكلم بذلك؟ إنه يجدّف. فمن يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ اللهُ وحدُه"؟ (2: 7؛ 3: 21- 22؛ 6: 2- 3). كما اجترح يسوع معجزات عديدة في هذا القسم الأول (1: 14- 8: 26)، ولكنه فرض على الذين نعموا بها، الصمت (نقطة أساسية في معجزات يسوع بحسب مرقس). أراد أن لا ينكشف سرُّ شخصه.
بعد اعتراف بطرس (8: 27- 30) يبدو أنّ الستارَ سقط، وتوجَّه الإنجيل كلُّه إلى الصليب فالقيامة. فاعترافُ بطرس حرّك السفرَ من الجليل (القسم الأول، 1: 14- 8: 26) إلى أورشليم (القسم الثاني، 8: 27- 16: 8)، إلى تتميم سرّ الفداء.
هذا يدلّ على أن القسمَ الأول من إنجيل مرقس (1: 14- 8: 26)، هو الظهور المسيحاني السّري في الجليل الذي هيّىء للاكتشاف الكبير: إعتراف بطرس (8: 27- 30)، وهذا الاكتشاف أوصل الإنجيلَ إلى نهاية الدراما في أورشليم (8: 27- 16: 8). نستخلص من هذه البنية الأدبية واللاهوتية لإنجيل مرقس، أنّ المعجزات، وعددها 19 معجزة، تحتل الحيّز الأكبر من القسم الأول من إنجيل مرقس (1: 14- 8: 26)، ولا نجد في القسم الثاني (8: 27- 16: 20) سوى معجزتين: الصبيّ المصاب بالصرع (9: 14- 29) وأعمى أريحا (10: 46- 52).
فالمعجزات هي عنصر أساسيّ في إنجيل مرقس، إنها إبيفانيا، أي ظهور إلهي، تتجلّى فيها القدرة الإلهيّة الخلاّقة والعاملة دومًا في شخص يسوع المسيح.
لكي نكتشف سرّ هذه المعجزات ومعنَاها، لا بدّ من البحث أوّلاً عن ميزاتها ومفرداتها بحسب مرقس.

2- ميزات المعجزات عند مرقس
هناك مفردات خاصة بالإنجيلي الثاني، يستعملها في سرد خبر المعجزات.
أولاً: "الآيات أو الأعاجيب أو الخوارق" (Semeion). فالفرّيسيّون يطلبون من يسوع آية: "فأقبل الفريسون وأخذوا يجادلونه، طالبين منه آية من السماء ليجرّبوه" (مر 8: 11 ي)، أي طالبين منه عملاً كونيًا خارقًا يُثبت صحةَ مسيحانيته. أجابهم صراحة: "لن يُعطى هذا الجيل آية". لهذا رفض يسوع أن يُعطي "آية" لهذا الجيل، لأنه (أي يسوع) يرفض الإيمانَ المولود من الأعجوبة الكونيّة. (مثلاً: "عند الصليب، قال اليهود: "إن كان هو المسيح فلينزل عن الصليب ونرى فنؤمن"، مر 15: 32). لهذا حذّر يسوع تلاميذَه من هذه الآيات- الخوارق إذ قال لهم: وعندئذ إذا قال لكم أحد من الناس: "ها هوذا المسيح هنا، ها هوذا هناك! فلا تصدّقوه. فسيظهر مسحاءٌ دجالون وأنبياءُ كذّابون يأتون بآيات (Semeia) وأعاجيب (Terata) ليضّلوا المختارين لو أمكن الأمر" مر 13: 21- هذه الآيات- الخوارق، لا تدلّ على ظهور المسيح الحقيقيّ إطلاقًا، فلقد تركها يسوع للمسحاء الكذبة (راجع 13: 5- 6).
إن يسوع المرقسيّ حمل بقساوة على هذه "الخوارق المدهشة" وعلى كل أشكال المعجزات التي تُظهره "ككائن فوق الطبيعة"، لأنها أعمال تسحر وتضلل، فهي محفوظة للشرير وللمسحاء الكذبة. إذاً يبدو مرقس متحفظًا، شأنه شأن يسوع، فلم يتحدث عن "آيات" كما يفعل الخصوم الجائعون إلى المعجزات والظواهر الخارقة.
ولكن هذا التحفّظ سيختفي في نهاية الإنجيل المرقسي، أي بعد حدث القيامة، فتُذكر كلمة آية مرتين (مر 16: 17 و20). ففي الآية 17، يَعد يسوع بأن هذه الآيات ترافق المؤمنين. "فباسمي يطردون الشياطين ويتكلمون بلغات لا يعرفونها، ويمسكون الحيات بأيديهم وان شربوا سمًّا فلا يؤذيهم ويضعون أيديَهم على المرضى فيشفون".
إذن نحن لسنا أمام معجزات الرسل، بل أمام معجزات يجترحها سامعوهم الذين آمنوا: "... والذين يؤمنون تصحبهم هذه الآيات..." (آ 17). لهذا لم يقل يسوع "تطردون الشياطين" بل "يطردون الشياطين باسمي". وفي الآية 20، تظهر الآيات مع الفعل "رافق". إن دور الآيات هو تثبيت كلمة الأحد عشر: "والربّ يعمل معهم ويؤّيد كلمته بما يصحبها من الآيات" (آية 20).
ثانيًا: "أعمال القوّة dunamis". إن الشفاءات التي أجراها يسوع والتعزيمات، تسمّى في إنجيل مرقس: "عمل قوّة" أو بالجمع "أعمال القوّة". فأهل الناصرة تساءلوا قائلين: "من أين له هذا؟ ما هذه الحكمة التي أُعطيها حتى إنّ أعمال القوّة تجري عن يديه؟... ولم يستطع أن يُجري هناك شيئا من المعجزات... وكان يتعجّب من عَدم إيمانهم" (6: 1- 6). لم يستطع يسوع إجراء المعجزات لعدم إيمان الحاضرين (آية 6). (لكنه أجرى بعض الشفاءات). فعدم الإيمان يقوم بأن نضع علامة استفهام حول أصل يسوع الإلهي. فلا يكفي بأن نَقرّ أنّ في يسوع حكمة أعطاه إياها الله: "ما هذه الحكمة التي أُعطيها؟" (آية 2)، أو نندهش لكلماته: "فدهش كثيرٌ من الذين سمعوه" (6: 2)، أو نتحدّث عن السلطان الذي يملكه في صنع العجائب: "من أين له هذا؟" (آية 2). بل يجب أن نعلن ما أعلنه قائد المئة عند الصليب: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابنَ الله" (15: 39).
إن "أعمالَ القوّة" هذه أدهشت هيرودس أنتيباس وكلَّ السامعين بأعمال يسوع فقالوا: "إن يوحنا المعمدان قام من بين الأموات، ولذلك تَعمل فيه القدرة على إجراء المعجزات" (6: 14). ولقد استعمل يسوع هذه المفردات، فحين روى يوحنا على يسوع محاولة التلاميذ أن يمنعوا يهوديًا من طرد الشياطين باسم يسوع، أجاب يسوع قائلاً: "لا تمنعوه، فما من أحد يجري معجزة باسمي يستطيع بعدها أن يسيء القول فيّ" (9: 39).
باختصار، إن كلمة "عمل قوّة"، تشير إلى نشاط يسوع العجائبي في إنجيل مرقس. فما القصد من ذلك وما الهدف؟
ذكرنا آنفاً، أنَّ المعجزات (عددها 19) تحتل الحيّز الأكبر من القسم الأول (1: 14- 9: 26) من إنجيل مرقس، أي القسم الذي يهيّىء تدريجيًا إلى الإعلان البطرسي في قيصرية فيلبس (8: 27- 30). فيظهر لنا من ذلك، أنّ المعجزات تتجه نحو الاكتشاف الكبير، ألا وهو: اعتراف بطرس: "أنت المسيح" (8: 29). هذا هو محطّ أنظار المعجزات في إنجيل مرقس.
ولكن يجب أن ننتبه، إلى أن هذه الروايات ليست "براهين" حسيّة عن قوّة يسوع الفائقة الطبيعة. إن يسوع المرقسيّ يرفض مثل هذا المفهوم (لا يستعمل عبارة "آية")، كما أنّه فرض الصمت والسكوت على الشياطين وعلى كل الذين نالوا نعمة الشفاء.
ويُطرح السؤال الآن: لماذا فرض يسوع الصمت على الشياطين وعلى الذين نالوا نعمة الشفاء؟

3- المعجزات وفرض الصمت
أ- ألصمت المفروض على الشياطين
ليس مرقس معلّمًا كمتّى، ولا مؤرّخًا كلوقا، ولا لاهوتيًا كيوحنا، ولا مفكّرًا كبولس، بل هو إنجيلي، حامل البشرى: "يسوع الناصري هو المسيح ابن الله" (مر 1: 1).
هذه البشرى هي إيمان الكنيسة الرسولية بالمسيح الحاضر فيها والعامل في قلوب المؤمنين. فالإنجيل المرقسي إذًا، يعكس همَّ الكنيسة الأولى وهو: كيف التوفيق بين يسوع المسيح ابن الله الممجد والمسيح ابن الإنسان المتألّم، بين يسوع الإله ويسوع الإنسان.
وما يسمّيه الشرّاح "السرّ المسيحاني"، في إنجيل مرقس، هو الحرص، في القسم الأول من الإنجيل (1: 14- 8: 26)، على كتمان "مسيحانية" يسوع، والاكتفاء بسَرْد ما يثبت تلك "المسيحانيّة" وذلك في أمور أربعة: المعجزات، طرد الأرواح الشريرة، الجدالات مع اليهود، والامثال.
لقد حرِص يسوع، على ما يرد في القسم الأول من إنجيل مرقس، على كتمان مسيحانيته، وأعلنها في القسم الثاني (8: 27- 16: 20) منه، بعد إعلان بطرس إيمانه به
ففي القسم الأول من الإنجيل، يقوم يسوع أربع مرّات، بطرد روح شرير. فانتصاره على الشرير مقدّمة لانتصاره النهيوي عليه. والروح الشرير يشهد ليسوع أنّه ابن الله كما شهد له الآب نفسُه (مر 1: 11؛ 9: 7). ولكن يسوع يأمر الروح الشرير بالصمت وحفظ السرّ. لقد أتى يسوع ليقضي على ملكوت الشرير ويُقيم ملكوت الله: "ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟ أفجئت لتهلكنا؟ أنا أعلم من أنت: أنت قدّوس الله!" (1: 24؛ راجع 1: 15). فلقد نهى يسوع الأرواح النجسة عن إعلان سرّه (1: 25، 34؛ 3: 12)؛ ونهى المرضى عن إعلان شفائهم (1: 44؛ 5: 43؛ 7: 36؛ 8: 26)؛ ونهى الرسل عن إعلانه مسيحًا (8: 30؛ 9: 9)، لأن اليهود كانوا ينتظرون مسيحًا زمنيًا يملك بالقوة، وخشي يسوع أن يروا فيه ذلك المسيح (يو 6: 15؛ مت 13: 13). يُعرف هذا التستُّر في إنجيل مرقس، "بالسرّ المسيحاني"، وهو ليس أسلوبًا لمرقس، بل موقف تاريخي وقفه يسوع.
لذا كان يسوع يفرض الصمت والسرّ على الشياطين بعد كل عمل فيه يطرد الروح النجس. فكان يزجرها بقساوة: "إخرس أو أسدّد فاك!" (1: 25). والعبارات التي كانت تطلقها الشياطين: "أنت قدوس الله" (1: 24)، "أنت ابن الله" (3: 11)، "يسوع، ابن الله العليّ" (5: 7)... كلّها عبارات تكشف حقيقة هوية يسوع، وتؤلّف العمود الفقري للكرستولوجيا المرقسيّة.
لكمت يسوع لم يُرد أن تُطْلَق هذه العبارات علانية إلاّ في الوقت المحدّد لها، أي ساعة الآلام ("الساعة" حسب الإنجيلي يوحنا) هي الوقت المقرَّر لكشف "السرّ المسيحاني" علانية. لذا وقت محاكمة يسوع سأله رئيسُ الكهنة عن هويته (سؤال يذكّرنا بصرخات الشياطين): "أأنت المسيح، أبنُ المبارك؟" أجابه يسوع: "أنا هو" (14: 61- 62). بهذا الجواب تمّ الحكم على يسوع.
فيسوع فرض الصمت والسر على الشياطين، لا لأنه غيرُ مقتنع بالعبارات الكرستولوجية التي يطلقها هؤلاء، بل لأنه، بحسب مرقس، هناك وقت محدّد لإعلان هوية يسوع رسميًا.
فَفرضُ الصمت هذا هو تدبير وقائي اتخذه يسوع منعًا لأي تأويل سلبيّ أو خاطئ لمسيحانيته، وبالتالي فإن إفشاء هوية يسوع قبل الوقت المحدد لذلك، سيؤدي حتماً إلى ضياع مهمّة يسوع الخلاصيّة. ولكن حين أتت "الساعة" لم يتراجع يسوع أبدًا عن إطلاق العبارات الكرستولوجية، بل قال علانية لرئيس الكهنة: "أنا هو". هذا السرّ المسيحاني حفظه يسوع لساعة موته. فأمام رئيس الكهنة قال: "أنا هو". وأمام الصليب قال قائد المئة: "في الحقيقة، كان هذا الرجلُ ابنَ الله" (15: 39).
ب- الصمت المفروض على الذين أنعم عليهم بالشفاء
ذكرنا أيضا، أن مرقس يقتصد في ذكر خطب يسوع ويستفيض في الأخبار عن معجزاته، وتستغرق روايتُها نحو ثلث الإنجيل! هذه المعجزات هي دليل قاطع على تأييد الله المطلق ليسوع، وعلى حضور ملكوت الله في أعمال يسوع، وعلى قدرته الالهية، ولكنه يحذّر من نشر أخبارِها، ويوصي بحفظ السرّ فيها.
ففي الواقع، إنّ ذلك التشديد كان تحاشيًا لمسيحانية سياسية راسخة في أذهان معاصريه وتلاميذه، وتصحيحًا تدريجيًا لتلك المسيحانية وبالتالي هو دليل على وعي يسوع التام لحقيقة مسيحانيته.
إذا نظرنا إلى جدول المعجزات في مرقس، نلاحظ أن يسوع فرض الصمت في أربع حالات شفاء وإحياء: بعد شفاء الأبرص (1: 40- 45)، بعد شفاء المنزوفة وإحياء إبنة يائيرس (5: 21: 43) ، بعد شفاء الأصم الأبكم (7: 32- 37)، وأخيرًا بعد شفاء أعمى بيت صيدا (8: 22- 26).
لماذا فرض يسوع الصمت في هذه المعجزات الأربع فقط؟
إذا عدنا إلى إنجيلي متّى ولوقا، نرى أن هذه المعجزات تُظهر علانيّة مسيحانيّة يسوع. ففي جوابه على سؤال يوحنا المعمدان المسجون: "أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟" (مت 11: 3) يجيب يسوع معدّدًا أعماله العجيبة (مت 11: 5= لو 7: 22) مستوحيًا أقوال أشعيا العديدة، مشيرًا إلى العميان والعرج والصم (أش 35: 5- 6) وإلى المساكين (أش 29: 18- 19)، وإلى إحياء الموتى (أش 26: 19) وإلى تبشير المساكين (أش 61: 1- 2)، ومُفهمًا المعمدان أن الزمن المسيحاني قد بدأ، لا بالعنف، بل بالرفق، قولاً وعملاً (لو 4: 17- 21).
إن هذه المعجزات التي عدَّدها يسوع في جوابه على المعمدان في إنجيلي متى ولوقا، لهي دليل قاطع على حلول ملكوت الله بيننا. ولكن بالنسبة لمرقس، فإنه يرفض أن تكون هذه المعجزات "براهين" لمسيحانية يسوع وألوهيته (رغم أنه لا يُنكر هذه المعجزات). لذا نجد عند مرقس فكرتين متجاذبتين:
يُريد الإنجيلي أن يؤكّد أن ملكوت الله اقترب بشخص يسوع المسيح، وفي ذات الوقت يرفض أن تستنتج الجموع أنّ يسوع هو المسيح، لأن هذا العنوان لم يزل غامضًا عندهم، وعلى هذه اللفظة "مسيح" أن تتنقى من كل شائبه ومفهوم خاطئ، يجب أن تتنقى بالموت على الصليب: المسيح هو المصلوب.
لهذا الأمر، فرض يسوع الصمت على المستفيدين من الأشفية. فالملكوت يتوطد بالبشارة والإيمان، وهذا بالطبع يدخل في إطار مخطّط إنجيل مرقس كما نرى في المقدمة: "الزمان اكتمل وملكوت الله اقترب، توبوا وآمنوا بالإنجيل" (1: 15).
أخيراً نلاحظ عند مرقس، أنه عندما لا يُحفظ السّر والصمت، نرى أن الجموع التي عَرفَت بالمعجزة لا تستطيع أن تستخلص أن يسوع هو المسيح، بل تندهش لأعماله فقط ولا تطلق عليه أي عبارة كرستولوجية. لذا نستنتج من إنجيل مرقس أن سرّ مسيحانية يسوع لن ينضج ولن يظهر على حقيقته للجموع إلاّ على الصليب.

4- معنى المعجزات عند مرقس
أ- إعلانُ ملكوت الله بالمعجزات
قلنا إن المعجزات تحتل الحيّز الأكبر من القسم الأول لإنجيل مرقس (1: 14- 8: 30). وفي هذا القسم الخاص بسرّ المسيح، يحذّر يسوع تلاميذَه من أن يُعلنوا لأحد ما أعلنه لهم، أي أنّه المسيح الآتي، مُلزمًا إياهم بحفظ سرّه المسيحاني. ولا ترد لفظة "مسيح" في كل هذا القسم، سوى في المقدمة وفي إعلان بطرس إيمانه بيسوع مسيحًا. يعكس القسم الثاني الخاص بسرّ ابن الإنسان (8: 31- 16: 20) حيث يكثر استعمال لفظة "المسيح" (ست مرات) ولفظة "إبن الإنسان" (12 مرة). ولكنّ هذه البشرى التي أتى من أجلها يسوع يجب أن تتجسد في أعمال وأحداث. خاصة وأن البيئة التي ظهرت فيها هذه البشارة، كانت تعيش في خوف دائم من الأرواحِ النجسة وتَنسب إليها كلَ الشرور والآفات (أمراض، أوبئة، مرض عقلي...). ففي هذه البيئة الرازحة تحت سلطة الشياطين، أعلن يسوع أنّ الوقتَ حان ليُظهر الربّ قدرتَه ويحرر الإنسان من انحرافاته الجسديّة والعقليّة. وهذا ما حققه يسوع في صنعه للمعجزات إذ أعلن أن ملكوت الله قد حلّ بيننا. وهذا الإعلان يقوم على الكرازة والتعزيم والأشفية. وإنّ "يومَ كفرناحوم" (1: 21- 34) هو يوم مثالي لخدمة يسوع الرسولية. ففي هذا اليوم الكفرناحومي المبني على وحدة الزمان (يوم السبت) ووحدة المكان (كفرناحوم)، جمع مرقس عدّة أحداث: تعليم، طرد شيطان، شفاء حماة سمعان (نرى تجسيد الأبعاد الثلاثة لرسالة يسوع). فلقد أدهش عمله سكان كفرناحوم: "حتى أخذوا يتساءلون: ما هذا؟ إنه لتعليم جديد يُلقى بسلطان! حتى الأرواح النجسة يأمرها فتطيعه!" (1: 27).
يهتمّ مرقس بالحرب ضد الشياطين، وطرد الأرواح النجسة يحتلّ حيّزًا هامًا في إنجيله. ما هو قصد الإنجيلي من ذلك؟ هو كشف عن شخص يسوع واكتشاف تدريجي لهذا المعلّم. وبالتالي يريد أن يقود القارئ إلى إعلان الإيمان المسيحي، إلى التعرّف إلى يسوع المسيح وابن الله.
إن مرقس يتوخّى من المعجزات وطرد الشياطين أن يبرهن أنّ مملكة الشرّ المتسّلطة على الإنسان لا يمكنها بعد اليوم أن تقف أمام ملكوت الله الآتي في شخص يسوع المسيح. لذا بدأ يسوع عمله التبشيري بطرد الارواح النجسة والشفاءات، كعلامة حسيّة لمجيء ملكوت الله.

ب- المعجزات صورة نبوية لرسالة الكنيسة
يُركّز هذا المقطع (مر 3: 7- 6: 13) على دعوة الرسل الاثني عشر وعلى رسالتهم. وفي صميم هذا المقطع يوجد "يوم جديد" بعد يوم كفرناحوم (4: 1- 5: 43)، يسمّى "يوم الأمثال (أمثال السفينة) والرحلة المليئة بالمفاجآت"، أو "خطبة البحيرة" التي تركّز على "أسرار الملكوت". في هذه الخطبة يتكلم يسوع بالأمثال (مثل الزارع، 4: 11- 20؛ مثل السراج والمكيال، 4: 21- 25؛ مثل الزرع الذي ينمي من تلقاء ذاته، 4: 26- 29؛ ومثل حبة الخردل، 4: 30- 32؛ يتكلّم بالأمثال ليوضح خفيًا، بل ليُخفي عن الجموع ما كان يقوله للتلاميذ بوضوح (4: 11- 14)، ليُخفي عنها مسيحانيته. إذًا، في خطبة الأمثال (خطبة البحيرة)، كان يسوع يشرح أسرار ملكوت الله ويهيّئ التلاميذ للرسالة.
فما هو هذا الملكوت الذي سيُعلنونه؟ كيف ستكون نشاطاتُهم وما هي التزاماتهم؟ هناك أربع معجزات تؤلف وحدة متماسكة (4: 35- 5: 43، تسكين العاصفة، شفاء ممسوس، شفاء المنزوفة وإحياء إبنة يائيرس) ترسم أمام الرسل الطريق إلى الوثنيين. فيسوع الجالس في السفينة، هو في حركة دائمة في بحيرة الجليل، ونراه على دفعتين في "الضفة الأخرى" (4: 35؛ 5: 1) (الضفة الأخرى هي أرض الوثنيين)، ولكي نصل إليها لا بدّ من اجتياز البحيرة والمرور بالعاصفة الهوجاء التي تمنع السفينة من الوصول إلى ديار الجراسيين. إن مرقس يشدّد على هول العاصفة وعلى خوف التلاميذ وعلى دعوة يسوع لهم إلى الإيمان.
إن حدث تسكين العاصفة يُظهر أنّ على يسوع والاثني عثر أن يَتَحَدّوُا مخاطرَ البحر، مسكنِ الأرواح الشريرة، ليصلوا إلى "الضفة الأخرى". ففي خضمّ تجاربِ الرسالة، يجب على الاثني عشر أن يحفظوا الإيمان قوّيَاً بذاك الذي يتظاهر أنه نائم في مؤخّر السفينة.
إن الوصول إلى "الضفة الأخرى"، حرّرت المنطقة من الأرواح الشريرة الممثّلة في شخص الممسوس. فبعد أن تحرر الرجل من هذه الأرواح النجسة طلب أن يتبع يسوع (5: 18)، ولكن يسوع أبى استصحاب الرجل معه، ليبقى رسولاً شاهدًا له في بني قومه، فلا يحول إبعادُهم يسوع عن ديارهم دون متابعة الملكوت مسيرته فيهم.
فعلى الاثني عشر، أن ينطلقوا بالرسالة إلى الأمم، مع سلطة يسوع، كما انطلق وإياهم إلى أرض الجراسيين، فيطردون الشياطين، ويشفون المرضى، لأن القوة المكنونة في شخص يسوع لم تزل تعمل فيهم أبدًا.

ج- المعجزات علامات المسيح
في نهاية خبر تسكين العاصفة (4: 35- 41)، يخاف التلاميذ ويتساءلون: "من هو هذا؟ حتى الريح والبحر يطيعانه!" (4: 41). لقد ساور الشكُّ التلاميذ لضعف إيمانهم وأخذوا يتساءلون "من هو هذا؟ من هو يسوع؟" (آية 41). فشخصية يسوع كانت موضوعَ تساءل لدى الرسل والجموعِ (من هو هذا؟). لذا شدّد مرقس في خبر تسكين العاصفة على خوف التلاميذَ القليلي الإيمان وشدد على دعوة يسوع إلى الإيمان، فالإيمان وحده يبدّد الخوف.
وإذا أراد التلاميذُ أن يقوّوا إيمانَهم، فإنّهم يحتاجون إلى قوّة أخرى، إلى طعام "جوهري"، إلى خبز يُشبع ولا يَنْفُد، يجب أن يأكلوا على مائدة الله نفسها. في هذا الإطار، وضع مرقس، بعد "عظة البحيرة" (4: 1- 5: 43)، كتلة أدبية رئيسية (6: 30- 26:8) سُميت "مقال الخبز"، وهي تروي على دفعتين تكثير الخبز. (نجد كلمة خبز Artos 18 مرّة في هذه القسمة من الإنجيل). فعلى تساءل التلاميذ الخائفين: "من هو هذا؟" (4: 41)، يجيب مرقس بتنسيق تلك المجموعة من الأقوال والأعمال، ومراده أن يُظهر يسوع متمّمًا ما كان الناس يتوقّعون من المسيح العتيد. فيحدّد الإنجيلي موقعَ أول تكثير للخبز في أرض يهودية، على شاطئ بحر الجليل (6: 30- 44). أمّا تكثير الخبز الثاني فيجري في أرض الوثنيّين (8: 1- 10) (راجع 7: 31 ي)، وفي نهاية كل تكثير الخبز، يضع مرقس شفاءات.
ففي نهاية مقطع تكثير الخبز الأول، يضع شفاءَ أصمّ ألكن (7: 32- 37). وفي نهاية مقطع تكثير الخبز الثاني يضع شفاء أعمى بيت صيدا (8: 22- 26). يفهمنا مرقس من ذلك أن يسوع هو موسى الجديد (تث 18: 18- 19) الذي يقود شعبه من البرّية (6: 35) إلى المراعي الخصبة (6: 39) ويجدد من أجلهم عطيّة المنّ.
ويشدّد مرقس، على أننا هنا أمام الافخارستيا: طعام مسيحاني يجمع اليهود (أي الأبناء) والوثنيين ("... ومنهم من جاء من مكان بعيد" (8: 13)) إلى مائدة الملكوت. فيؤكّد في "مقالة الخبز" على دعوة الوثنيين إلى وليمة الافخارستيّا المسيحيّة، وعلى حقّهم في الانضمام إلى شعب الله الجديد. كان التكثير الأول لصالح الشعب اليهودي، أما التكثير الثاني فلصالح الشعب الوثني "الآتي من بعيد" (8: 3) (راجع يش 9: 6- 9؛ أش 60: 14؛ أف 2: 13، 17). حينئذ ندرك لماذا وضع مرقس الجدال حول الطاهر والنجس في موازاة مع معجزتي تكثير الخبز (7: 1- 23). ما من أحد يُستبعد عن مائدة الملكوت، لا اليهود ولا الوثنيون، لأن للكل مكانًا على مائدة الراعي المسيحاني (6: 34؛ 7: 36- 37؛ 8: 2).
إن "مقالةَ الخبز" تعرّفنا على حقيقة يسوع: إنه المسيح الذي يُعطي الجميع عطاءَ وافرًا من الخبز والكلمة والشفاء. أشبع الشعب اليهودي الذي كان "كخراف لا راعي لها" (6: 34). كما أشبع الوثنيّين الذين جاؤوا من البعيد (8: 3)، كما وهب السمع والنطق في أرض الوثنيّين، للأصم الألكن وأعاد النظر إلى أعمى بيت صيدا، أي إنه أعاد إلى العالم الوثني القدرة على الإيمان بالله الحيّ (أش 35: 5- 6). والسؤال الذي طرحه يسوع على التلاميذ: "ألكم عيون ولا تبصرون؟ وآذان ولا تسمعون؟" (8: 18) هو توبيخ ضمني على عدم إيمان التلاميذ وقساوة قلوبهم، وهو إشارة إلى ما لقي يسوع من صعوبة في هدي اليهود والتلاميذ إلى الإيمان به، على الرغم مما يرون من آيات.
تنتهي "مقالة الخبز" بإعلان بطرس عن مسيحانية يسوع: "أنت المسيح" (8: 29). إن توصَّل بطرس إلى إعلان مسيحانية يسوع، فذلك دليل على أنه شُفي من عماه وصَمَمه فانطلق لسانُه واعترف بيسوع مسيحًا.

د- المعجزات في إطار الإعلان عن الآلام
ذكرنا سابقًا، أنّ معظم المعجزات في مرقس ترد في القسم الأول من الإنجيل (1: 14- 8: 30) (القسم المسمّى: السرّ المسيحاني)، أمّا في القسم الثاني (8: 31- 16: 20) الخاص بسرّ ابن الإنسان، فلا يَذكُر الإنجيلي إلاّ معجزتين: الصبيّ المصاب بالصرع (9: 14- 29) وشفاء أعمى أريحا (10: 46- 52). فما المقصود من ذلك؟
بعد اعتراف بطرس بمسيحانيّة يسوع في قيصرية فيلبس، بدأ يسوع مرحلة جديدة يُعلن فيها ما ينتظره من مصير، من رذل، وألم، وقتل، وقيامة. وما كان التلاميذُ يتوقّعون هذا المصير: آمن بطرس بيسوع مسيحًا، ولكنّه لم يستطع أن يؤمن بسرّ آلامه، وموته وقيامته. فاعترض على تعليم يسوع اعتراض من يفكّر تفكيرًا بشريًا بحتًا، فيفوته سرُّ الآلام الكبير. وتحوّلت "الصخرة" التي يبني عليها يسوع كنيسَتَه إلى "حجر عثرة " يحول دون إتمامه ما أراد الآب من رسالة، فنتشبَّه بذلك الشيطان: "سرْ ورائي، يا شيطان، لأنّ أفكَارك ليست أفكار الله، بل أفكار البشر" (8: 33). إنّ بطرس بمعارضته آلام يسوع، يقوم مقام الشيطان الذي يحاول أن يردّ يسوع عن طاعة الله: فهو يهجر مكانه، لأن على التلميذ أن يسير "وراء" يسوع، فيتبعه في الزهد في النفس المعَبَّر عنه بقبول الصليب، أي بتعريض حياته للخطر في سبيل يسوع والبشارة (8: 34- 38).
إن شفاء الصبي المصاب بالصرع (9: 14- 29) يبرز أهميّة الإيمان.
فالتلاميذ الذين شككهم عثَار الصليب والقيامة قد توقفوا بإيمانهم عند المسيح إبن داود، ولم يستطيعوا أن يذهبوا إلى أبعد من ذلك أي إلى الجلجلة فالقبر الفارغ. لذا بقي إيمانُهم ضعيفًا ناقصًا لا يؤهّلهم لشفاء مريض كما قال والد الصبي: "... لقد سألت تلاميذك أن يطردوه، فلم يقدروا" (9: 18). فالتلاميذ بحاجة إلى خطوة جريئة تدفعهم في رأس الجلجلة، إنهم بحاجة إلى صرخة الصبي: "آمنت، فشدّد إيماني الضعيف" (9: 24).
أمّا شفاء أعمى أريحا (10: 46- 52) فيكشف لنا موقف التلاميذ من يسوع قبل دخول أورشليم. لقد بقي التلاميذ على موقفهم: يسوع المسيح إبن داود دون قبول عثار الصليب والقيامة. فَهُم يشبهون أعمى بيت صيدا الذي هو رمز لعمى التلاميذ، لهم عيون ولا يبصرون، وآذان ولا يسمعون (8: 18).
لا يريدون أن يروا في يسوع إلاّ ابن داود الذي سيعيد مجد المملكة الداودية. فأعمى أريحا، يدعوهم إلى أن يُشفوا من عماهم ويسيروا مع يسوع في الطريق ويدخلوا أورشليم.

هـ- المعجزات علامة انتصار يسوع على الموت
في حدث إحياء إبنة يائيرس (5: 21- 24، 35- 42)، نرى أنّ الوالد ينعم بإيمان قويّ، لأنه يطلب من يسوع أن يحيي إبنته "المشرفة على الموت" (5: 23)، إذ لا توجد أي وسيلة بشرية تستطيع أن تردّ الحياة للصبيّة. لقد وُضع إيمانُ يائيرس على المحك إذ قال له قومٌ: "إبنتك ماتت فلمَ تزعج المعلم؟" (5: 35). ولكن يسوع شجّع الوالد قائلاً: "لا تخف! آمن فقط!" (5: 36). ثم رافقه إلى البيت، فرأى يسوع الجموع في حالة اضطراب وبكاء وعويل: "ولمّا وصلوا إلى دار رئيس المجمع شهد ضجيجًا وأناسًا يبكون، يعولون" (5: 38). فالجموع بعيدة كلّ البعدَ عن يسوع وعن إيمان يائيرس. فقال يسوع: "لمَ تمت الصبيّة، وإنما هي نائمة، فضحكوا منه" (5: 39- 40). أجل بالنسبة لغير المؤمن لقد انتهى كلّ شيء: ماتت الصبيّة. أما بالنسبة ليسوع، فهي نائمة، لأن الموت بحضوره أصبح نومًا ورقادًا. هكذا فهم المسيحيّون الاولون الموت مع يسوع، إنه قيامة: "فقال يسوع للصبية: طليتا قومي! فقامت الصبيّة لوقتها وأخذت تمشي" (5: 41- 42). فيسوع الذي انتصر على الارواح النجسة وعلى الامراض والعاهات، انتصر أيضًا على الموت. فخبر إحياء إبنة يائيرس كُتب لتثبيت المسيحيّين الاوّلين في الإيمان بقيامة الاموات وبيسوع المنتصر على الموت.

و- المعجزات علامة تنير عمل وبصيرة التلاميذ
رأينا أن معجزتي الأصم- الألكن وأعمى بيت صيدا (7: 31- 37؛ 8: 22- 26) تدلان على حلول الزمن المسيحاني الذي اكتمل بيسوع المسيح. ولكن مرقس يذهب إلى أبعد من ذلك. ففي الإطار الادبي للمعجزتين، يتّهم يسوعُ تلاميذَه بالغباوة قائلاً: "ألكم عيون ولا تبصرون؟ وآذان ولا تسمعون؟" (8: 18). هذا يعني أنهم لم يفهموا شيئًا من كل ما قام به يسوع فيعاتبهم قائلاً: "ألم تفهموا حتى الآن؟" (8: 21). ولقد سبق لمرقس أن ذكر غباوة التلاميذ في معجزة الخبز الأولى، فقال "لأنهم لم يفهموا ما جرى على الأرغفة، بل كانت قلوبهم قاسية" (6: 52). فعبارة "قلوبهم قاسية"، هي تعبير بيبلي تعني أنّهم في وضع لا يمكنهم من فهم الإرادة الإلهيّة (راجع 10: 5).
فالتلاميذ إذًا، مُتهمون بالجهل والغباوة وعدم الإيمان. إنّهم يشبهون "سائر الناس" الذين "ينظرون نظرًا ولا يبصرون ويسمعون سمعًا ولا يفهمون" (4: 11- 12). فيسوع يوجّه الملامة إلى التلاميذ الأغبياء، وما شفاؤه للأصم الألكن ولأعمى بيت صيدا إلا علامة موّجهة إلى التلاميذ ليرفعوا البرقع عن أعينهم ليروا مجد الربّ ويعترفوا بيسوع المائت والقائم من الموت مخلصًا وفاديًا.

ز- المعجزات علامة تحرر لكل الكيان البشري
إن العهد القديم هو عهد انتصار تحقيق ملكوت الله على الأرض. ملكوتُ يكون فيه الإنسان محرّرًا من كلّ القيود: فالعميان سيُبصرون، والعرج سيمشون، والصم سيسمعون، والأسرى سيُطلقون والموتى سيقومون (أشعيا 42: 7).
هذا الانتظار، قد حقّقه يسوع في شخصه الإلهي، في أقواله وأعماله المُحرِّرة. ففي أول حياته العلنية بدأ يسوع "بحرب" لا هوادة فيها ضد كل القيود التي تأسر الإنسان. وأولى تلك القيود هي الأرواح الشريرة. جاء "يوثق الرجل القوي" (مر 3: 27) لينهب بيته وأمتعته ويحرّر المرضى من سلطته: "فشفى كثيرًا من المرضى المصابين بمختلف العلّل، وطرد كثيرًا من الشياطين، ولم يدعها تتكلّم لأنها عَرَفته" (1: 34). ففي اليوم الكفرناحوميّ العظيم والأوّل في حياة يسوع العلنيّة، نقرأ بوضوح جوهر رسالته في صرخة الروح النجسة. "ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟ أجئت لتهلكنا؟ أنا أعرف من أنت: أنت قدّوس الله" (1: 24).
في الحقيقة "يوم يسوع في كفرناحوم" (1: 21- 39) هو يوم مثالي لحياته التبشيرية. ففي كفرناحوم كان يعلّم ويشفي ويطرد الأرواح الشرّيرة، وهذا ما سيفعله في أي مكان. يهتمّ بكل الكيان البشري: في عقله جسده وروحه. كما يهتم بكل أبعاد حياته: الحياة الروحية: "دخل المجمع وأخذ يعلَّم..." (1: 21)؛ الحياة العائليّة: "ولمّا خرجوا من المجمع جاؤوا إلى بيت سمعان..." (1: 29)؛ وفي الحياة الاجتماعيّة: "... واحتشدت المدينة بأجمعها على الباب فشفى كثيرًا من المرضى..." (33:1- 34). فيسوع يهتم بكل الكيان البشري ليحرّره ويأتي به إلى الإيمان.

خلاصة
قد طالبت السلطات اليهودية يسوع أكثر من مرّة ببرهان يثبت أصالة رسالته. ويذكر مرقس (8: 11 ي) أن الفرّيستين طلبوا منه "آية Semeion من السماء"، أي برهانًا قاطعًا عن حقيقة مسيحانيته. مثل هذا الطلب، يؤدي إلى تجربة الربّ، كما جرّبه الشعب في البرّية. وفي آخر لحظة من حياة يسوع، كان هزء الرؤساء صدى لكلام المجرّب: "فلينزل الآن... لنرى ونؤمن، (مر 15: 32). لقد رفض يسوع المرقسي مثل هذه الآيات- الخوارق، كما رفض الإيمانَ الناتج عنها، فيسوع المرقسي لا يرضى إلاّ بالإيمان الناتج عن معجزة المعجزات: الصليب والقيامة. هناك يتجلى المسيح- الاله على حقيقته. إلى هناك وجّه يسوع المرقسي بطرس والرسل، وإلى هناك توجّه الكنيسة كلّ البشرية على كرّ الأجيال. فالصليب يكشف لنا حقيقة يسوع المرقسي، وهناك نتعرف عليه ونصرخ إلى الأبد مع قائد المئة: "في الحقيقة، كان هذا الرجلُ ابن الله!" (15: 39).
الخوري يوسف فخري

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM