الفصل السابع والأربعون
مواضيع الكتيّب الخامس
كان لنا أن ندرس في فصول سابقة مواضيع الكتيّب الثاني بتفصيل. وها نحن ندرس مواضيع الكتيّب الخامس، فنكتشف تقريبًا المواضيع التي تطرقنا إليها سابقًا.
1- موضوع الحكمة
لا يتكلّم القسم الأول من الكتيّب الخامس عن الحكمة، بل عن الحكيم والعاقل (ثلاث مرات في 25: 12؛ 27: 11، 12). وهو يتكلّم مرارًا عن الجاهل والأحمق والبليد في نظره (26: 1- 12؛ 3:27، 22). أما القسم الثاني فيهتمّ بالحكمة والحكيم والإنسان العاقل والعارف (7:28، 26؛ 29: 3، 8، 9، 11، 15). ويذكر الأحمق والجاهل (28: 26 ؛ 29: 9 ؛ 11: 20) والساخر (29: 8) والأمير الفاقد اللبّ.
يقابل الحكيم ذلك المتكّل على قلبه (26:28) الذي يختلف عن العاقل (16: 2: العقل هو شكل من أشكال الحكمة). نحن هنا أمام الاعتداد بالنفس ورفض لكل نصح من الآخرين (12: 15 ؛ 18: 1)0 الحكمة تجعل الإنسان في أمان. وهناك مثل يقابل بين الحكمة ومعاشرة الزواني (3:29) يستعيد ما قيل في السيّدة حكمة والسيدة جهالة (الجاهلة هي كالزانية رج 7: 11 ؛ 9: 13). وهكذا يؤكّد أم أن الحكمة لا تتوافق وأشكال الفجور (3:5- 11؛ 7: 1ي؛ سي 6:9-9).
ويتوسّع الكتيّب الخامس في ثمار الحكمة ويقدّر توبيخ الحكماء (25: 12 ؛ رج 3: 11 ؛ 8: 10؛ 15: 31). فحكة الابن مفيدة للأب واكليل مجد (3:29)، وهي تتيح له أن يجيب الساخر (27: 11؛ رج 10: 1؛ 15: 20 ؛ 23: 24 ي).
وممارسة الشريعة ترافق الفهم في ما يتعلّق بالهرب من الفاجرين. هنا تلتقي الحكمة والاخلاقيّة الدينيّة (28: 7).
وإذا ارتفعنا إلى مستوى مصالح الوطن، يلاحظ 28: 2 أن ثبات الحكيم يعود إلى وجود العاقل والمتعلّم (أي الحكيم) في السلطة (رج 14: 34). مثلُ هذا الملك يحيط به مستشارون عديدون (11: 14؛ 24: 6). ولكن القسم الثاني من الكتيّب الخامس يهمّه أن يبعد عن القصر المستشارين الأشرار.
وإذ يتكلّم الكاتب عن الجهّال يبيّن أنهم يتركون العنان لشهواتهم. أما الحكماء فيضبطونها (29: 11؛ رج 16:12 ؛ 14: 29 ؛ 27:17). ويقابل بين الساخرين الذين يُشعلون الفتنة في المدينة والحكيم الذي يردّ غضبه (8:29)، فيحدّد البعد السياسي لعلم أخلاقي أساسه الحكمة.
الجاهل هو الذي يرفض التأديب ولهذا فهو ينكسر (29: 1)؛ رج 28: 14 ي وصورة الإنسان الذي لا خير فيه في 6: 12- 15؛ رج 12: 1؛ 13: 18؛ 15: 10. إن الحكمة ترتبط بالعصا والتوبيخ (15:29، 17).
ويخصَّص 26: 1- 12 لإصلاح البليد. فلا مجد له ولا كرامة (26: 1، 8 ؛ رج 19: 10). لا خير فيه. إنه رسول رديء (6:26)، والويل لمن يرسله (7:26، 9؛ رج 28:17). ولكن من يقنعه أنه جاهل؟ لا فائدة فيه حين يقبض عليه جهله (26: 4 ي؛ رج 17: 12؛ سي 22: 12- 13). فالعصا وحدها تعيده إلى صوابه (3:26 ؛ رج 10: 13 ؛ 29:19). ولكن حتى العصا لا تفعل، والجهالة لا تترك الجاهل (22:27). وإن غابت فهي ستظهر من جديد (26: 11). والحكماء مقتنعون أن البليد يحمل الخطر: غضبه أثقل من الحجر (3:27). وإذا دخلت معه إلى المحكمة فلن تنجو ولن ترتاح 9:29، رج3:20).
الجاهل حكيم في عين نفسه وواثق بعقله (5:26، 12؛ 29:29). والكسلان (26: 16) والجاهل (28: 11) يهدّدهما هذا الشكل من الجهالة. نشير إلى أن من يثق بنفسه يعتبره 3: 5- 8 رجلاً خاطئًا ضد الربّ.
2- الملك والحاشية
وتهتمّ هذه المجموعة (أكثر من الكتيّب الثاني) بالملك وبن يحيط به. إن آ 2- 7 في ف 25 هي مكرّسة لهذا الموضوع (16: 10- 15: كتاب ملكي في المجموعة الثانية). ويقابل الكاتب بين الله والملك. الله سريّ ويحيط به السرّ. ولا نستطيع سَبْر خليقته. وهذا هو قلب الملك أيضاً. ولكن الله يخفي سرّه. أما الملك فيحاول كشف سرّ الاشياء. بهذا يكون المستشارون مفيدين له. قد يكون الحكيم أراد أن يبرّر (في 25: 2) دراسة الملك سليمان للطبيعة (1 مل 5: 9-14).
ويشير 25: 4- 5 إلى الحكم الملكي. أمام الملك يقف المستشارون. في الكتيّب الثاني، كان عددهم ضمانة الحُكم الناجح (11: 14؛ 15: 22؛ 18:20؛ 24: 6). في هذا الكتيّب نشدّد على صفة المستشارين. فالملك يتأثّر بهم. لهذا نبعد المستشار الشرير (25: 5 أ) فتسود العدالة من أجل خير العرش. يشير 25: 15 إلى هذه الامكانيّة دون أن يعطي حكمًا أدبيًا. وفي 29: 12، 26 نجد تلميحًا إلى محاولات التأثير على الأمير وإيقاعه في الغلط فيكون الخراب للمملكة (رج 1 مل 8:12- 11).
وإليك ظروف ونتائج الحكم العادل (29: 4، 14): إنصاف الفقراء دون رشوة (16: 12؛ 20: 28 ؛ 5:31)، العقل والفطنة (2:28؛ رج 11: 14).
هناك أقوال لا تذكر الملكَ، بل تتحدّث عن "الشرير" (28: 15، 16؛ 29: 2، 6، 7)، عن العبء (28: 12، 18؛ 29: 10، 16). نقابله بالاسد الزائر والدبّ الجائع (19: 12؛ 20: 2). ويفترض بعض الشراح أن هذه الأقوال عن الشرير الذي يقوم ويظلم ويحكم (3:28، 15، 28؛ 2:29، 16)، عن الثورة (2:28)، عن الأمير الذي لا عقل له (28: 16) أو الذي يُشرى (29: 4، 12) ويُطلب ودّه (29: 26)، هي تلميحات إلى ظرف سياسي ملموس.
يتعلّق 25: 6- 7 بالبلاط الملكي وقواعد اللياقة. الاعتدال الفطِن أفضل من الذلّ (رج لو 7:14- 11). هذا موضوع عزيز على قلب الحكماء من خارج إسرائيل. قد يكون "الرسول الأمين 13:25 (رج 7:13) خادم الملك. وقد يكون رسولاً خاصاً (رج 26: 6).
3- الله وعلم الأخلاق
ان هذه المجموعة تجعل الله يهتمّ بالاخلاق (مثل المجموعة الثانية) ولاسيّما في ف 28- 029 الله هو السامي (25: 2، الوهيم لا يهوه، يحيط نفسه بالسرّ، رج 30: 4؛ تث 28:29؛ سي 11: 4؛ 3: 21- 24؛ أش 15:45). ولكنه قريب من البشر حين يجازي. فالذي يتّكل عليه يمتلئ سمنًا (28: 25) ولا يصيبه شرّ (29: 25). يلتفت الربّ إلى خير عملناه للعدوّ ويجازينا خيرًا (25: 22). يدين كل واحد (29: 26)، ولكنه يعرف أن يكوًن رحومًا (13:28، المقطع الوحيد الذي يتحدّث عن هذه الصفة عند الله في أم). يتكلّم 28: 14 عن الخوف الذي فيه يعيش الإنسان، ولكنه خوف الله، وهذا الخوف يتعارض وقساوة القلب. وهناك مثل يعلن أن الله ينير عينَي الفقير وعينَي الظالم (29: 13)0 الرجل الظالم هو الغنيّ. هذا يعني أن الله ينير ضمير الأبرار والأشرار (22: 2 يبقينا على المستوى الطبيعي). "الذين يطلبون الربّ يفهمون كل شيء". وهكذا يدخل التقي في حلقة الحكماء (28: 5؛ رج9: 10؛ 1 كور 15:2؛ 1 تم 8:4).
وتظهر الشريعة في سلسلة من الأقوال (28: 4، 7، 9؛ 18:29). وقد سمّى الحكماءُ "الشريعة" تعاليم الآباء وتعاليمهم (8:1؛ 3: 1؛ 4: 2 ؛ 6: 20 ؛ 7: 2) وقد تعني تعاليم الحكيم (13: 14) أو تعليم الرحمة الذي في فم المرأة العاقلة (31: 26). إذا كان موقف الإنسان الذي يسمع الشريعة يحدّد موقف الربّ تجاه الصلاة (28: 9، المرة الوحيدة التي تُذكر فيها العبادة)، فهذا يعني أن الشريعة هي شريعة الله. أما في 28: 4، فالقرينة غامضة. نحن أمام شريعة تحدّد سلوكًا أخلاقيًا (تجاه الشرير في 28: 4) أو شريعة تكون ممارستها علامة الابن العاقل. فلو كنّا أمام تنبيه أبويّ فذكر الأب في 28: 7 كان قد ساعدنا على تحديده. ثم إن شريعة الربّ تؤسّس تعليمات الأب حول الفجور والزنى (20:6 ؛ 2:7).
ويقابل 18:29 هذه الشريعة والرؤية التي توقف الشعب عند حدّه. نحن هنا أمام الشريعة والنبوءة. وتُذكر أيضاً كلمة خطيئة (6:29، 16، 22). نستطيع القول إن ف 28- 29 خرجا من محيط حكمي يهمّه الوجه الديني لعلم الاخلاق. وهذا ما يدلّ على أصالة الكتيّب الخامس في سفر الأمثال
4- الأبرار والأشرار
لا يتوقف أم عند الكلمات المجرّدة. فقليلة هي الكلمات التي تحكي عن البرّ (صدق: 25: 5)، الإنصاف (مشفط 28: 5)، الشرّ (رعه 26: 26). وقد يتحدّث عن البغض (شناه: 26: 26) والصداقة (اهبه: 27: 5) والحسد (قنأه: 27: 4). ولكنه بالأحرى يهتمّ بالناس الذين يملكون هذه العواطف.
في 28: 5 يتكلّم عن الأشرار الذين يطلبون الربّ. كثروا، فكثرت خطاياهم (16:29)، وشكّلوا فخًا لنفوسهم أولاً (6:29؛ رج 28: 10) ثم للشعب الذي تأوّه من انتصارهم (2:29؛ رج 28: 12 ب ؛ 28:28 أ و 11: 10). إنهم يحاولون اهلاك المستقيمين (28: 10).
لا بد من التعارض بين الأشرار والأبرار، والواحد رجس للآخر (27:29)0 البار يحفظ الشريعة، والشرير يستهين بها (28: 4). ويعارض المستقيمُ الرجلَ الذي يسير في الطرق المعوجة (18:28 ؛ رج 10: 19)، والكاملُ رجلَ الدماء الذي يسبّب دمار البار (28: 10؛ 29: 10). فالشرير الهارب (28: 1) هو قاتل (28: 17). وقد يُشير الكاتب إلى القتل السياسي الذي اشتهر في مملكة الشمال قبل أيام حزقيا في يهوذا. ورفضُ حق الفقراء يذكّرنا بما قاله في هذا المعنى هوشع وعاموس (رج مز 1: 1- 2؛ 24: 4- 6؛ 26: 1- 12). أما البار فيعبّر عن بهجته حين يكون في جماعة الأبرار (29: 10)0 البار يعيش في أمان، والشرير في قلق وهو متأكد أنه سيسقط (28: 1، 17- 18؛ 29: 6- 16: يسقط الشرير في الحفرة التي حفرها، رج 27:26- 28). في 26:25 يوبّخ الكاتب البارَ الذي يرتجف أمام الشرير. هذا يعني أن ليس له ثقة بنفسه مثل الحكيم. كان مياها صافية فصار مياها عكرة وموحلة.
وهناك أمثال تفيدنا عن جوّ الحياة الوطنيّة، فتتكلّم عن فرح الشعب حين ينتصر الأبرار ويتكاثرون، حين يضعون أيديهم على الحكم (28: 12، 28؛ 29: 2؛ رج 11: 10) ويؤثرون على الملك.
5- الأغنياء والفقراء
الفقير الكامل هو أفضل من الغني صاحب الطرق المعوجة (28: 6؛ رج 19: 1). إنه واع، أما الغني فأعمى ويحسب نفسه حكيمًا (28: 11). ويحذّر الكاتب من الغنى الذي ربحناه بسرعة وبوسائل الغش. مثل هذا الغنى لا ينفع. فمن الأفضل أن نرحم الفقراء (8:28، 20 ؛ رج 19: 17). والإنسان الذي لا يشبع والذي يحكم عليه الكاتب في 25:28، هو الذي يسعى وراء الغنى بكل الوسائل حتى التي تحرّمها الشريعة (خر 24:22، تث 24: 10، 17؛ لا 35:25- 38). ويشجب الحكيمُ الرجل صاحب النظر الشرير (28: 12، 27؛ رج 23: 6). فالنظر الشرير أو الصالح (22: 9) والنظر الخفي يكشفان العواطف الادبيّة (ق 13:21). ويعتبر الحكيم أن من يظلم الفقير يُجرم إليه (3:28 ؛ 7:29). هذا ما يفعله الأشرار (رج ما فعله أحاب بنابوت حين أخذ له كرمه: 1 مل 21). أما مساعدة الفقير فتنال بركة من الله (27:28؛ رج 14: 21؛ 17:19).
6- المجازاة
تساعد الحكمة الإنسان ليحصل على الخير ويتجنّب الشر، وتمنح الملك ثباتًا لملكه (25: 4 ي)، والخادم كرامة (27: 18)، والعامل خيرًا كثيرًا (28: 19)، والحكيم خلاصاً شرط أن لا يتّكل على رأيه بل يستشير الآخرين (26:28)، والمتواضع رفعة (23:29). مقابل هذا، نتجنّب الفاقة حين نهرب من الجشع (28: 22)، ومعاشرة الزواني (3:29)، والذل فنبقى في مكاننا (6:25- 7)، والخزي حين نتكلم في المحكمة دون أن نفكر في ما نقول (8:25) أو حين نكشف سرًا نعرفه (9:25؛ رج 13:11)، وبغض القريب (17:25).
تبرز هذه النتائج الخيّرة أو الرديئة التي تتبع الأفعال البشريّة خارج أي جوّ أخلاقي. إنها تنبع طبيعيًا من الواقع (6:26، 10، 27؛ 28: 10؛ جا 10: 8- 10؛ سي 27: 26 - 29). والله لا يتدخّل بطريقة ظاهرة، كما انه لم يتدخّل أو لم يذكر اسمه في سفر استير مع أن خلاص الشعب هو عمله (أس 7: 10؛ 9: 2).
وتتضمّن المجازاة حكمًا أدبيًا، كما ترتبط باخلاقيّة دينيّة. هذا ما يقوله 13:28 عن نجاح أو فشل من يخفي ذنوبه أو يقرّ بها. وفي 28: 14: سعادة من يعيش في مخافة الربّ. طول الأيام لمن يبغض الكسب (16:28؛ رج 27:15). في 27:28: السعادة لمن يعطي الفقير. 8:29: السعادة لمن يحفظ الشريعة. والربّ مذكور في المجازاة: يردّ الخير الذي عملناه لعدوّ (25: 22)، يُشبع سمنًا من اتكل عليه (28: 25؛ 29: 25)، يبارك المستقيم (28: 20؛ رج 3: 33؛ 10: 6). فالاقرار بالخطايا ومخافة الله والرجوع إلى الشريعة وطول الأيام... كل هذا يذكّرنا بعبارات قرأناها في الشريعة والأنبياء والمزامير.
خاتمة
وهكذا يلتقي الكتيّب الخامس مع ما قاله الكتيّب الثاني. فلا عجب في ذلك، وكلاهما ارتبطا بسليمان وبالبلاط الملكي الواحد