الفصل الثامن والأربعون: الحكمة ابنة الله البكر

الفصل الثامن والأربعون
الحكمة ابنة الله البكر

يتّفق الشرّاح على القول بأن المدوّن الأخير لسفر الأمثال قد كتب مقدّمة لمجموعة الأقوال المأثورة التي جمعها رجال سليمان وحزقيا. في هذه المقدّمة، يحضّ المعلم تلميذه على الهرب من الشرّ وأسبابه، على اتّباع الخير. وبالأخص، على اتّباع الحكمة التي تقودنا إلى الخير، إلى الله. لأنها ابنة الله البكر.
نتوقف في هذا الفصل عند حمس محطات. الحكمة ابنة الله البكر. الحكمة نبيّة حاضرة ولكها مرفوضة. الحكمة نبيّة الحق. الحكمة الملوكيّة. الحكمة امّ تستقبل ضيوفها.

1- الحكمة بنت الله البكر
إن أصل الحكمة يعود إلى أبعد من خلق العالم، لأن الخليقة نفسها مطبوعة بطابعها. إن الحكمة، شأنها شأن كل موجود، قد خرجت من يد الله. ولكنها ترتبط مع خالقها بعلاقات مميّزة، لأن ظهورها قد صوّر بشكل ولادة أكثر منه خلقًا بحصر المعنى. نقرأ في 22:8: "الربّ ولدني أول ما ولد من قديم أعماله في الزمان ".
"ولدني " أفضل من "خلقني ". فالعمل يدلّ على من يلد. وهذا ما نكتشفه في نصوص موازية في العالم الفينيقي "ايل قونه " أي الإله الوالد. و"اشيرة قنيت " أي الالاهة الوالدة. ونستنتجه أيضاً من نصوص بيبلية تعتبر يهوه كذاك الذي يلد السماء والأرض (تك 14: 19- 22، رج مز 90: 2)، الذي يلد شعبه (تث 32: 6- 18)، الذي يلد كل إنسان (مز 139: 13).
الحكمة هي الأولى، هي الرأس والمبدأ. هي باكورة عمل الله. إن اللفظة تدلّ على أولويّة في الزمن كما في القدْر (تك 3:49). كانت الحكمة في رأس أعمال الله. في رأس طرق الله. وطرق الله هي ما يحقّقه بشكل ملموس في العالم، في الخطّ الذي أراده. ليست طرق الله فقط أعماله العظيمة (أي 26: 14؛ 40: 19)، بل شهادات أمانته عبر تسلسل الأحداث (تث 32: 4 ؛ مز 77: 14). وطرق الله هي أخيرًا فرائضه التي تقدّسنا (تث 5: 33). هناك ثلاثة معان تتساند: فالله يوحي كما يدبر ويدبّر كما يخلق. نقرأ في 8: 23: "من الأزل كوّنني، من البدء، من قبل أن كانت الأرض ".
صبّني الله كما في الحشا. صورة قريبة مما في أي 10: 10 الذي يصوّر الجنين: "سكبتني كاللبن (الحليب)، وجعلتني رائبًا كالجبن". وهناك من يقرأ: "نسجني" كما يُنسج القماش. هنا نتذكر أيضاً أي 10: 11: "كسوتني جلدًا ولحمًا وحبكتني بعظام وعصب". كما نتذكر مز 139: 13 (مع نموّ الجنين): "أنت ملكت قلبي، أدخلتني بطن أمي ". نحسّ وكأن الله "حبل " بالحكمة. وها هو الآن يلدها. "وُجدتُ وما كان غمر، ولا مياه في قلب الينابيع. قبل أن تُخلق الجبال وقبل التلال وُجدت، حين لم تكن أرض ولا مياه، ولا حفنة من تراب الكون " (8: 24- 26).
لم يكن بعد "غمر". وهكذا نعود إلى الإطار التقليدي في أخبار الخلق. وإذ أراد الكاتب أن يبرز أولويّة الكائن الذي سيخرج وجديده، كرّر بأن العناصر التي فيها سيقوم بنشاطه لم تكن وُجدت بعد. إذن، ولد الله الحكمة قبل الكون. هذا الذي سيلد الخليقة (مز 90: 2) يلد الحكمة هنا وحدها ويلدها قبل التلال. هذا يعني أن الحكمة تسمو على الإنسان الذي يبدو مضحكًا إن هو اعتبر أصله أصلها. قال اليفاز لأيوب بهزء: "هل وُلدت قبل التلال " (أي 15: 7 ؛ 38: 4)؟
بما أن الحكمة سابقة للكون، فقد أشرفت بجانب الله على تكوين الكون. "حين كوّن السماوات كنت هنا، وحين حوّق حول وجه الغمر، وحين ثبّت الغيوم في العلاء، وحين فجّر ينابيع المياه، وحين وضع للبحر حدًا فلا تعبر المياه حدوده، وحين أرسي اساسات الأرض، كنت حياله بأمان (أو: كنت بقربه هو المهندس) ".
بما أن الحكمة شهدت ما ظلّ خفيًا على أعين البشر، فوقفها فوق البشريّة، في الدائرة الإلهيّة. إن العهد القديم كله يكرّر أن الله خلق وحده: "أنا الرب صنعت كل شيء. انا الذي مددت السماوات وثبتّ الأرض: من كان معي" (أش 44: 24)؟ لم يكن أحد بجانب الخالق إلا الحكمة التي بدت صاحبة سلطان لدى البشر كانت حاضرة حين ظهرت السماء، حين برزت الأرض والبحر بأمواجه. حين أسس الربّ جنّة الأرض على الغمر كانت الحكمة بجانبه.
ماذا تصنع بجانبه؟ هل هي المهندس؟ هل هي طفل؟ صورتان تترافقان مع الحكمة التي تبدو كصبيّة ترقص من الفرح أمام ربّها: الله يعمل كل شيء، والحكمة ترافق عمل الخلق بعينها وقلبها.
هي شاهدة على هذا العمل. وهي القاعدة. فنحن نجد صفاتها في كل الخلق من توازن وغائيّة وتناغم. الله الذي يصنع كل سيء لا يصنع شيئًا بدونها. وهو يجعلها نصب عينيه حين يحرّك العوالم. فكل الخلائق تعكس هذه الحكمة، فتبدو صالحة على المستوى الخلقي والجمالي، بل على المستوى الوظيفي. فالخليقة تُفرح الله يومًا بعد يوم لأنها تبدو صالحة أي مليئة بالحكمة. يومًا بعد يوم تُفرح الحكمة الله، لأنها حاضرة في كل مكان، لأنها تملأ الخليقة. "كنت أفرحه يومًا بعد يوم، فارقص دومًا أمامه. أرقص في أرضه الآهلة وابتهج مع بني البشر" (31:8).
إن سعادة الله الآب تجد صداها في فرح ابنته الحكمة التي تتمتعّ بالعظائم المخلوقة وتبتهج في حضرة الخالق كما في رقصة عباديّة (2 صم 6: 5) لا تتوقف. وكما أن سعادة الله تجد ذروتها في خلق الإنسان، هكذا تجد الحكمة ذروة فرحتها حين تقيم مع البشر وإذ تذهب إليهم، لا تشعر أنها تركت الله. فهم مخلوقون على صورته ويعكسون حكمته. بل هم يعرفون الحكمة ويتبعونها حين تدعوهم لكي يكون بهم معها فرح لرب السماء والأرض.
إذا كان على البشر أن يخضعوا لنداءات الحكمة، فلأنها خرجت من الله. وُلدت وما خلقت، كما نقول في النؤمن عن يسوع المسيح: مولود غير مخلوق. هي وُجدت قبل العالم. إنها مبدأ أعمال الله. هذا هو اللقب الذي يعطه رؤ 3: 14 (رأس خليقة الله) للمسيح. إنها حاضرة حين صياغة الكون، وهي تطبع بطابعها كل الخلائق فتوجّهها إلى الخالق وتربط بين بعضها. إنها تبتهج أمام تناغم الكون ويصل حماسها إلى الذروة حين تقترب من الخلائق الذين يشبهون الله، من البشر، جميع البشر، لا أبناء ابراهيم فقط، بل أبناء آدم كلهم.

2- الحكمة نبيّة مع الأنبياء
الحكمة حاضرة في كل مكان، شأنها شأن الأنبياء، الذين يُسمعون صوت الله للبشر نقرأ في 1: 20- 21: "الحكمة تصيح في الشوارع، وفي الساحات ترسل صوتها. في رؤوس الأسواق تنادي وعند مدخل المدينة تقول ".
إن الحكمة تمتزج بالبشر تطلب الأماكن التي فيها يجتمعون. تذهب إلى حيث تدكهم وتحمل إليهم تعليمها. هذا ما كان يفعله الأنبياء. ذهب ارميا إلى معاصريه في الشارع (إر 11: 6) وقرب أبواب الهيكل (7: 2) والمدينة (17: 19) والقصر (22: 1- 6). وهذا ما سيفعله يسوع فيستفيد من التجمّعات لكي يلقي تعليمه (يو 37:7). وهذا ما ستفعله الكنيسة المهتمّة بإيصال كلمة الله إلى جميع البشر.
وتأتي نداءات الحكمة ملحّة، فتبدأ بأسئلة شبيهة بأسئلة الأنبياء (هو 8: 5 ؛ إر 4: 14 ؛ 26:23؛ 31: 22). "إلى متى يعشق الجهّال الجهل، ويمدح الساخرون السخرية؟ إلى متى يبغض البلداء المعرفة؟ ارجعوا واسمعوا توبيخي، فأفيض من روحي عليكم وأجعلكم تعرفون كلامي " (أم 1: 22- 23).
أفجّر روحي من أجلكم كينبوع مياه. إن الحكمة تتكلّم هنا كمعلّم يقدّم تعليمه. "أفجّر بدقة روحي وأعلن بخفر معرفتي " (سي العبري 25:16).
هي لا تفيض (بحصر المعنى) على السامعين الروح المحفوظ لله وحده (حز 29:39؛ أش 42: 1 ؛ يو 3: 1ي)، بل تعبّر عن ذاتها بسلطة إلهية. وهذا ما يبرهن عنه مواعيدها للذين يسمعون لها، وتهديداتها للذين يرفضونها.
الحكمة حاضرة في كل مكان، ولكن الناس يرفضونها ويرفضون نداءاتها. وهي تشتكي من الرفض الذي يواجهونها به بعبارات جعلها الله في فم النبيّ، حين تحدّث عن قساوة قلب شعبه. "دعوتكم فرفضتم دعوتي، ومددت يدي فلم يلتفت أحد. طرحتم كل عظة مني وأبيتم قبول توبيخي " (24:1- 25).
"دعوت فرفضتم ". هكذا تكلّم الله في إر 7: 13- 28 وفي كتاب عزاء إسرائيل (أش 50: 2؛ 65: 12؛ 66: 4). وقالت الحكمة أيضاً: مددت يدي من دون فائدة: رفضتم كل نصيحة أعطيكم إياها. نقرأ في مز 107: 11: "عصوا كلام الله واستهانوا بمشورة العليّ ". لا نجد في الإنجيل "نسخة" عن كلمات الحكمة أو الأنبياء، غير أن يسوع يشدّد على ضرورة السماع (مت 15:11)، على فطنة من يعرف أن يسمع فيجد السعادة (مت 24:7-27؛ لو 11 : 28). وسيحزن يسوع حين يرى الشعب يرفض نداءات الله، ولاسيّما تلك التي يوجّهها الآب بواسطة ابنه. وكالحكمة، سيقول يومًا هذا التعبير المليء بالمرارة: "قلت لكم ولم تصدّقوا" (يو 10: 25؛ رج 8: 45 ي؛ 12: 37- 50). ورفض هذا التعليم الداعي الى التوبة، سيولّد نتائج دراماتيكية. قالت الحكمة: "لذلك أضحك في بليتكم وأشمت إن حلّ بكم رعب... تدعونني فلا أجيب. وتبكرون اليّ فلا تجدونني. ولأنكم أبغضتم كل معرفة وما اخترتم مخافة الربّ وأبيتم قبول مشورتي... " (1: 26 ي).
إن تهديدات الحكمة شبيهة بأقوال الله (تث 28: 36). وعواصف الذعر تذكرنا برياح الله الهاجمة (إر 23: 19). وهناك الفراغ الروحي لكل من رفض بعناد النداء إلى التوبة واستهزأ بالنعمة. سنجد هذا الكلام على شفتَي الربّ وشفتي الحكمة وشفتي يسوع. قال الرب في إرميا (8:11- 11): "يصرخون اليّ ولا أسمع لهم ". وقالت الحكمة هنا: "يدعونني فلا أجيب ". وقال هو 5: 6: "يطلبون الربّ فلا يجدونه ". وقالت الحكمة: "تبكرون الي فلا تجدونني ". وقال يسوع: "تطلبونني فلا تجدونني " (يو 7: 34 ي).
هذا الإله الذي يجده حتى الذي لم يطلبه (أش 65: 1). هذه الحكمة التي يلتقي بها الناس على مفارق الطرق. لن يجدهما الناس الذين رفضوهما. والمسيح نفسه لن يجدوه وهو الذي كانت كلماته صدى لكلمات يهوه والحكمة المشخَّصة.
مثل هذه النداءات، هي مواعيد حياة للذين يتقبّلونها، وتهديد بالموت للذين يرفضونها. هذه النداءات دوّت في أرض إسرائيل كما في الأمم. هذا ما أشار إليه أم 1: 20 ي. وهذا ما نجده أيضاً في سي 17: 1- 14؛ 8:18- 14؛ حك 13: 1- 9؛ أع 15:14- 17؛ 22:17- 29. فكل أبناء آدم قد مُنحوا عقلاً ومعرفة، وغمرتهم عطايا الخالق، فوجب عليهم أن يعرفوا صوته. ولكن سيبيّن بولس الرسول أن الله وحكمته ومسيحه سيكونون "مجهولين " في إسرائيل كما في الأمم. وسيُبرز عجز كل حكمة بشرية عن توجيه البشر إلى الحكمة الالهية التي تجلّت منذ البدء وتجسّدت أخيرًا في يسوع الناصري.

3- الحكمة وإعلان الحق
الحكمة هي نبيّة تتوجّه إلى جميع البشر نقرأ في 8: 1- 5: "أن الحكمة تنادي، وجهارًا ترفع صوتها، من على رؤوس القمم، وفي الدروب ومفارق الطرقات، وبجانب الأبواب عند مدخل المدينة، وفي النوافذ ها هي تصبح: أنا أناديكم أيها الناس، وأقول لكم يا بني آدم: على الجهّال أن يتعقّلوا، وعلى البلداء أن يتعلّموا الفهم ".
نجد الحكمة في موقفها النبوي، وهي تحاول أن تصل إلى الناس حيث هم، وتتوجّه إليهم أينما اجتمعوا. همّها أن تحرّك قلوبهم لأنها رأتهم يتصرّفون بالجهل والبلادة، يتصرّفون بدون فطنة ولا تعقّل. فلا بدّ من اخراج الجهل كما تخرج الشياطين، وفرض الحقيقة فرضاً عليهم.
أجل إن الحكمة هي نبيّة الحقيقة. وهي تقول: "بالكلام الصريح أنطق فادعوا، وبالاستقامة أفتح شفتَي. إن في يلهج بالصدق، وشفتي تمقتان الكذب. كلام فمي كله صدق لا التواء فيه ولا اعوجاج. كله مقنع لدى الفهيم وقويم عند من وجد المعرفة. خذوا مشورتي لا الفضة، واختاروا المعرفة لا الذهب. فالحكمة خير من اللآلئ، كل الجواهر لا تساويها" (6:8- 11).
إن هذا الاعلان يشكّل بيانًا تتجمّع فيه مفردات متوازية تحدّثنا عن الحق والصدق. هناك الاستقامة. ستقول الحكمة أمورًا واضحة. لن يخرج من شفاهها إلا الكلمات البعيدة عن الالتواء والزلل (إر 31: 9؛ أش 26: 7)، التي تمنح السعادة (عز 8: 21)، التي لا اعوجاج فيها ولا دوران (تث 18:6). فالله هو استقامة. طرقه مستقمية (هو 14: 10) وأحكامه (مز 67: 5) وأقواله (مز 33: 4- 5). نقرأ في أش 45: 19: "أنا الربّ أتكلم بالصدق وأخبر بما هو حقّ ". هذه المطالبة التي يتلّفظ بها الرب، قد استعادتها الحكمة فدلّت على امتيازاتها الإلهيّة.
وهناك الصدق أي المتانة والثبات تجاه كل محنة وصعوبة. وهناك البر فالله هو البارّ في كل طرقه (مز 145: 9) كما في جميع أقواله. وفي العهد الجديد، يسوع هو الذي جاء يتمّ كل برّ (مت 3: 15). وهناك الصراحة. هكذا يقف الإنسان مستقميًا أمام محاوره.
صفات أربع تتحلّى بها الحكمة. وهي تقابل ثلاث رذائل: الكذب، المكر، الاعوجاج.
هنا نتذكر تث 32: 3- 6: "نادوا باسم الرب. وهبوا عظمة لإلهنا. صوّرَ الكائنات وعمله كامل، وكل طرقه عدل. الله أمين لا جور عنده، وهو الصادق المستقيم. وبنوه الذين جعلهم بلا عيب فسدوا، فيا لجيل متعوّج ملتوٍ ! أبهذا تعترف بجميل الربّ، أيها الشعب الأحمق الجاهل؟ أما هو أبوك الذي خلقك، الذي أبدعك وكوّنك "؟
هناك تقارب عجيب بين ما يُقال عن الله وما يُقال عن الحكمة بالنسبة إلى الصدق والحقّ والاستقامة. والمسيح الذي هو الحقّ المتجسّد سوف يصطدم "بالجيل الكافر والمعوج " (مت 17:17).

4- الحكمة الملوكية
إن الاستقامة المطلقة هي البراعة العظمى وينبوع أفضل نجاح. بعد أن تحدّثت الحكمة عن تعلّقها بالحق، ها هي تعلن ارتباط الحقّ بالعقل الذي يلج الأمور في أعماقها. "أنا الحكمة أساكن الفطنة، ولي المعرفة وحسن التدبير. من يخف الربّ يبغض الشرّ ويبغض الكبرياء والزهو وطريق الرعاع وكلام الكذب. لي المشورة وحسن الرأي. أنا الفطنة، والجبروت لي " (8: 12- 14).
مثل هذه الصفات سيجعلها سفر أيوب في الربّ. "لله العلم والجبروت، وله وحده المشورة والفهم. عنده العزة وصواب الرأي " (أي 13:12- 16). وسوف نرى هذه الصفات في الملك المسيح. "روح الحكمة والفهم والمشورة، روح القوة والمعرفة والتقوى" (أش 2:11).
لا تصوَّر الحكمة كما يصوَّر المسيح، ولكنها مدعوّة لأن تلعب في العالم دورًا مماثلاً لدوره. هي لا ترتدي الشارات الملوكية، ولكنها تلهم الذين يرتدونها، وبواسطتها يستطيعون أن يملكوا. تقول الحكمة: "بي الملوك يملكون والحكام يحكمون بالعدل. بي الرؤساء يرأسون والأمراء يقضون في الأرض ".
إقامة الملوك وتوجيههم يرتبطان بسلطان الله الذي أغدق على سليمان كل المواهب الضروريّة من أجل حسن الإدارة (1 مل 3: 4- 5). فالرب وحده يستطيع أن يُخرج من نسل داود ملكًا مسيحًا بقدر "أن يملك ويكون حكيمًا، ويجري الحق والعدل في الأرض " (إر 23: 5). وسيعلن ابن سيراخ فيما بعد القاعدة العامة: "الحكم في الأرض بيد الربّ، يولّي عليها الرجل الصالح في الوقت المناسب " (10: 4). وحين تقدّم الحكمة نفسها على أنها معطية الملوك تسكوا الصولجان، فإنها تنسب لنفسها امتيازات الهيّة. هكذا أكّدت للمؤمنين بها أنها لن تخيّبهم أبدًا، بل تحمل إليهم السعادة. "أنا أحب الذين يحبوني، ومن بكّر في طلبي وجدني " (17:8).
ويسوع نفسه لن يستعمل عبارات أخرى لكي يكشف عن حنان الآب. "أطلبوا تجدوا" (مت 7:7). سوف تنالون كل خير، سوف تنالون الروح القدس (لو 13:11). ولكن مع أم ما زلنا على مستوى الخيرات الماديّة نحصل عليها على هذه الأرض. "الغنى والكرامة معي ودوام الثروة والرخاء. ثمري خير من الذهب الابريز، وغلّتي خير من الفضة النقيّة. أسير في طريق الحق، وأجتاز مسالك الأنصاف، فأورث من يحبونني، وأملأ خزائنهم كنوزًا " (8: 18- 21).
ولكن لا نحصر خيرات الحكمة في المالي والممتلكات. فهي تحمل معها أكثر من الغنى الماديّ. هي تحمل الاستقامة والفطنة والديانة الحقّة المؤسسة على مخافة الله. وحين تسقي الناس من شرابها، فإنما هي تفتحهم على الوحي الإلهي.

5- الحكمة أمّ تستقبل ضيوفها
وتتابع الحكمة خطابها في سفر الأمثال فتقول لنا: "والآن، إسمعوا لي أيها الأبناء، فهنيئًا لمن يتبع طرقي.! إسمعوا المشورة وكونوا حكماء، ولا تنبذوا ما أقوله لكم. هنيئًا لمن يستمع إليّ ساهرًا عند بابي كل يوم، ناظرًا بجانب مدخل داري " (8: 32- 34).
أيها الأبناء، إن الحكمة تتكلّم هنا بعاطفة الأمومة وسلطتها، فتذكرنا بحنان الربّ تجاه أبنائه (إر 3: 14، 22 ؛ أش 1: 2، 4؛ 30: 1، 9؛ هو 2: 1؛ تث 14: 1؛ 32: 5، 19). وهي تفعل مثل يهوه فتكرّر لهم ولا تملّ (إر 23:7) بأن يثابروا على تعليمها، بأن لا يتركوا دارها، بأن يتعلّقوا بها تعلّقهم ببيت الربّ (مز 84: 11). هكذا يتشبّهون بها. يصبحون أبناء الحكمة، يتحلّون بالحكمة. وهكذا تنمو حياتهم. "من وجدني وجد الحياة ونال رضى من الربّ. من أخطأني أضرّ بنفسه، ومن أبغضني أحبّ الموت " (8: 35- 36).
الحياة أو الموت. هذا ما تعرضه الحكمة على البشر إن قبلوها كانت لهم الحياة. وإن رفضوها الموت. في هذا المجال نقرأ في 11: 19: "العدل يؤدّي إلى الحياة، ومن اتبع السوء فلموته ". وفي 28:12: "في السبيل الصادق حياة، وفي الرجوع عنه موت ". وحين تفعل الحكمة ما تفعل، فهي تتصرّف مثل الله الذي هو الحيّ (تث 32: 40؛ خز 5: 11)، الذي هو ينبوع كل حياة (مز 36: 10). الله وحده يستطيع أن يجعل البشر أمام هذا الخيار: إما الحياة معه، وإما الموت بعيدًا عنه. نقرأ تث 30: 15- 20: "انظروا ! ها أنا اليوم جعلت بين أيديكم الحياة والخير، الموت والشر.. ما آمركم به اليوم هو أن تحبّوا الربّ إلهكم وتسلكوا في طرقه وتعملوا بوصاياه... حينئذ تحيون. وإن زاغت قلوبكم عني ولم تسمعوا لي... فإنكم تهلكون... أشهد عليكم اليوم السماء والأرض: جعل (الله) بين أيديكم الموت والحياة، البركة واللعنة. فاختاروا الحياة لتحيوا أنتم وذريتكم. أحبّوا الربّ إلهكم واسمعوا كلامه وتمسّكوا به لأن به حياتكم وطول أيامكم ".
حياة مع الله، موت بدون الله، حياة مع الحكمة، موت بدون الحكمة. حياة مع يسوع المسيح، موت بدون يسوع المسيح. قال يوحنا في رسالته الأولى: "الله أعطانا الحياة الأبديّة، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن له الحياة، ومن ليس له الابن فليس له الحياة" (5: 11- 12). أجل، إن الحياة التي في الله قد تجسّدت في يسوع ابن الله الذي صار جسدًا، لكي يستطيع البشر أن يصيروا أبناء الله.
وإذ أرادت الحكمة أن تغذّي هذه الحياة الإلهية، عرضت على البشر وليمة من التعليم تشبه ولائم العيد في أفراحنا. "الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة" (9: 1). قد نفكّر بالهيكل. كما نستطيع أن نفكّر بمدرسة دينيّة وأخلاقيّة كما في سي 53:51 (حسب العبرية): "تعالوا اليّ أيها المحتاجون الى التأديب، ولازموا مدرستي ". إن هذا المنزل المعدّ للتربية والتعليم هو واسع كبير، شأنه شأن القصور. فالحكمة تحتاج إلى مساحات واسعة لأنها تستعدّ لإرسال الدعوة إلى جموع تشارك في وليمة قد أعدّتها لهم. "ذبحت ذبائحها ومزجت خمرها، وهيّأت مائدة طعامها" (9: 2). ومن أجل هذا التجمّع، أرسلت جواريها يعلنّ الخبر. "أرسلت جواريها تنادي من فوق أعالي المدينة" (9: 3). هكذا يستطيع الجميع أن يعلم بالدعوة الموجّهة إلى سكان المدينة.
جوارٍ في خدمة الحكمة أرسلتهن في مهمة. هكذا يرسل الله عباده الأنبياء إلى البشر ليعلموهم بإرادته (إر 7: 25، 25: 4؛ خز 38: 17 ؛ زك 1 :6). وتتحدّث بلسان الأنبياء القاسي داعية الجهّال إلى وعي جهلهم وقبول دعوتها: "حيّد إلى هنا يا جاهل: وتقول لمن يعوزه الفهم: تعال كل من طعامي واشرب الخمر التي مزجت. أتركوا الجهّالة فتحيوا وسيروا في طريق الفطنة" (9 ك 4- 6).
أناس لا قلب لهم يفهم. بلداء وتنقصهم الفطنة. هم لا يفكّرون في المعنى الأخير لحياتهم. توجّه إليهم الحكمة كلامها. تدعو كل واحد منهم. تتدخّل مباشرة في حياة الشخص وتحدّثه بدالة المحبة. إنها تعارض عشتار "الغاوية". فكا كانت النسوة المكرّسات لإلاهة اللذة يدعين الرجال للاقتراب منهن (13:9- 18) للمشاركة في وليمة الزنى وما تحمل معها من موت وما ترمز إليه من جحود إيمان، كذلك جاءت الحكمة المكرّسة لرضى الله فألحّت على البشر بأن يتبعوها لكي يقاسموها وليمة الخلاص التي ترمز إلى إيمانها وأمانتها.
قال الرب للبشر: "اسمعوا لي تجدوا طعامًا.. إسمعوا لي تحيَ نفوسكم " (أش 55: 2- 3). وقدّمت الحكمة خبز التعليم الذي يهب الحياة، وهذه الوليمة ترمز إلى ولائم العهد الجديد التي إليها يدعو الله جميع البشر (مت 8: 11 ؛ 22: 1- 10). كما ترمز إلى الافخارستيا حيث يصبح جسد كلمة الله طعامًا محييًا (يو 6 ؛ مت 26: 26). كما ترمز إلى وليمة لعالم الآتي وتجمع البشر الذين خلّصهم المسيح بعد أن انتصر على الشرّ (مت 26: 29 ؛ رؤ 19 : 9 ).
في كل هذه الولائم نجد الخمرة التي هي ينبوع حياة وفرح (قض 13:9؛ مز 104: 14-15 ؛ زكْ 10: 7؛ جا 7:9؛ 10: 19 ؛ سي 40: 20 حسب العبرية: الخمر والغناء يسرّان القلب). الخمرة ترمز إلى التعليم، وهي مع الحنطة والزيت أعظم ما تقدّمه الأرض المقدسة.

خاتمة
بدت لنا الحكمة على أنها بنت الله البكر. وُلدت قبل كل شيء، وكانت حاضرة ساعة الخلق، فكانت القاعدة والمهندس. الحكمة صديقة البشر وهي تطب رفقتهم. وكنبيّة تعلن الحق تدعوهم دومًا إلى التوبة. فإن توجّهوا إليها، غمرتهم بالصفات الملوكيّة، وربّتهم كما تربّي الأم أولادها، وأطعمتهم كضيوف لها يتغذّون من تعليمها. فلهذا يجب أن نحبّها كأخت لنا (7: 4) وعروس (4: 5- 9). فهي تملك فيض الحياة والغنى والسلام (3: 13-20).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM