الفصل الثالث والأربعون
موضوع الحكمة
نبدأ مع هذا الفصل دراسة عن التعليم الاخلاقي في الكتيّب الثاني (10: 1- 16:22). فبعد موضوع الحكمة يرد الحديث عن البرّ ثم اخلاقيّة العلائق البشرية، وأخيرًا، نظرة إلى الإنسان في استعداداته الداخليّة وسلوكه وعواطفه.
1- التعليم الأخلاقي في الكتيّب الثاني
تحدّثنا في المقدمة عن قسمة هذا الكتيّب قسمين. القسم الأول: 10: 1- 33:15. القسم الثاني 16: 1- 22: 16. لقد حاول القسم الثاني في بدايته أن يجمع الأقوال اليهوية (16: 1- 9، 11) أو التي تتحدّث عن يهوه، ثم التي تتحدّث عن الحكمة الملكية (16: 10، 12- 15). ثم إن القسم الثاني لم يهتمّ كثيرًا بالمقولات الاخلاقيّة مثل العدالة والظلم. مقابل هذا، شدّد على مسائل المجازاة دون الرجوع إلى الربّ. هذا لا يعني أن الله بعيد عن اهتمامات الكاتب. فهو يتحدّث عن الله أكثر مما يفعله كاتب القسم الاول. ففي ف 15 نجد ذكر"يهوه " 9 مرات. ولكن نجد في القسم الأول عبارة "يمقته الربّ " التي تفترض حُكمًا دينيًا على سلوك أدبي (11: 1، 20؛ 22:12؛ 8:15، 9، 26)، وهذا ما لم يفعله القسم الثاني (15:17 ؛ إن 25: 10، 23، يستعيد 11: 1، وفي 27:21، لا نجد اسم الله بينما نجده في نصّ يوازيه: 8:15). ويتطرّق القسم الثاني (أكثر من القسم الاول) إلى العلائق الإنسانية في قلب العائلة والمجتمع (الصداقة، الاحسان، المعاشرة)، إلى بعض الفضائل الاجتماعية (التواضع، الصبر، الفطنة)، إلى موقف الشهود.
وها نحن نقدم أولاً موضوع الحكمة فنساعد القارئ لا أن يبني لاهوتًا أو علمًا أخلاقيًا (وهذا ما لم يهتمّ به جامع الأمثال) بل أن يقرأ ببعض السهولة أقوالاً مفتّتة في هذا الكتيّب الثاني الذي عنوانه: المجموعة السليمانيّة الأولى.
لا نجد في هذا الكتيّب مديحًا للحكمة كما في 13:3- 20؛ 8: 1ي؛ 9: 1-6. هذا لا يعني أن لا قيمة للحكمة في نظر الحكماء القدماء ووارثيهم. إنهم في الواو يهتمّون بالحكماء لا بالحكمة، بالجهلاء لا بالجهالة: نجد 15 مرّة كلمة حكمة، 57 مرّة كلمة حكيم. فالكلمات الملموسة تميّز الشخص: تتحدّث عن الجاهل والمجنون والاحمق والفاقد اللب 53 مرة، مقابل 13 مرة عن الجهالة والجنون. ونزيد 11 مرة عن الساخر والمحتال.
الحكمة هي موضوع طلب. تقدّم نفسها للإنسان الفهيم (17: 24). أما الأحمق فلا يعرف أن يراها. فإذا أردنا أن نجدها، نبحث عنها على شفاه الفهيم (13:10؛ رج 10: 31 ؛ 15: 7 حيث نتكلم عن المعرفة) وفي قلبه (14: 33). لقد أعطى الساميون القدماء دورًا كبيرًا للقلب في الحياة النفسانيّة. فهو يحرّك الارادة والعقل النظري والعملي، كما يحرّك العواطف. فالحكيم هو إذًا رجل "قلبه حكيم" (8:10 ؛ 11: 29). والأحمق هو رجل فقد قلبه فنقصه الحسّ والادراك: 13:10، 21 ؛ 12:11؛ 12: 11؛ 15: 21؛ 18:17 ؛ رج 6: 32؛ 7:7؛ 9: 4، 16؛ 24: 30. هناك موازاة بين بيتَيْ 8:19 (اللبيب والفهم) وتقارب بين 10: 13 ب (من يعوزه الفهم) و 29:19 ب (الجهّال أو الكسالى).
إذًا من المفيد أن نعاشر الحكماء (13: 20). ومن المضرّ (أو عديم الجدوى) أن نصاحب الجهّال (7:14) حيث لا نجد "شفاها عارفة". ولكن الحكمة موجودة لدى المتواضعين (11: 2).
الحكمة ثمينة جدًا مثل "الشفاه العارفة" (20: 5) التي تشهد لها. قيمتها تفوق قيمة الذهب والفضة والحجارة الكريمة (16:16 ؛ رج 3: 14- 15؛ 8: 11؛ أي 28 :1 ي). كل غنى في يد الجاهل لا معنى له (16:17)، وهولا يساعده على اقتناء الحكمة. بل هو لا يهتمّ للحكمة. أما الحكمة التي تعبّر عنها كلماتُ إنسان أو مشورته فهي "مياه عميقة" (20: 5؛ 18: 4) باردة، فائضة، شفّافة.
2- ثمار الحكمة
لا ينسب الحكماء إلى الحكمة النجاح في الحياة. فهي تُحسب مع الفطنة وبُعد النظر كسبب الثبات والطمأنينة والحياة. فالصورة في 14: 1 (المرأة الحكيمة تبني بيتها والغبيّة تهدمه بيديها) تذكّرنا بما نقرأ في 9: 1 (الحكمة بنت بيتها). الحكمة تبني (3:24) والجهالة تهدم. الرجل الفطن يرى الشرّ مسبقًا فيتجنّبه (14: 16؛ 3:22؛ 27: 12). وهذا غير ممكن للجاهل والذي لا خبرة له (16:21).
مثل هذه الحياة المتينة المحميّة من الشرّ والموت (الذي هو نتيجة الجهالة) يسمّيها الحكماء "الحياة". فالحياة هي أسمى ثمار الحكمة. فالحكمة (في شكلها التأديبي) تقودنا على "طريق الحياة" (7:10). إنها "ينبوع حياة" (13: 14) لمن يسمع لها. وهذا ما نقوله عن العقل (22:16). حين نقول إن "لسان الحكماء يشفي " (18:12)، نعلن أنه يعطي الحياة. إن "طريق الحياة" التي تقود إلى فوق تعارضُ "طريق الجحيم " (أو: الشيول) إلى تحت (15: 24). يفترض الكاتب أن الجحيم هي تحت وأن الإنسان ينزل إليها (7: 27). وفي جا 3: 21 يتعارض "فوق" و "تحت "كمكانين تذهب إليهما نسمة الناس والبهائم بعد الموت. لسنا هنا في معرض الحديث عن السماء والأرض (لا في جا ولا في أم). وفي مكان آخر من التوراة، يبدو الجحيم بشكل هاوية نسقط فيها لأنها "تحت " (مز 16: 10 ؛ 55: 16؛ تك 37: 35؛ عد 6 33:1). ومقابل هذا نقول إن الحياة هي "فوق ". في نظر الحكماء، تشير الحياة (طريق الحياة) إلى واقع أوسع من وجودنا على الأرض. فحكماء مصر يستعملون كلمة حياة بمعنى حياة أخلاقيّة وحياة روحيّة تتضمّن اتّحادًا بالله. فإذا كان الحكيم يجهل ما يمكن أن تكون هذه الحياة بعد الموت، فهو يأمل بأنها (بما أن هذه الحياة روحيّة) ستُعطى له، وتبعده عن الجحيم (الشيول) والموت. واطمئنان الحكيم الذي يعبّر عنه 15: 24 يمكن أن يفسَّر على ضوء مز 9:16- 11 (رج مز 73: 24). وراح بعضهم إلى القول إننا مجبرون على التأكيد على وجود حياة عتيدة في 18:23 و 14:24 ب.
والمعرفة ثمرة أخرى من ثمار الحكمة. إنها خير يكتنزه الحكماء (10: 14)، وهي تقيم عند الناس الفهيمين (14،6) الذين يطلبونها بقلوبهم (15: 14). شفتا الحكيم تفيضان المعرفة (7:15) ولسانه يجعلها محبوبة (15: 2). إقتناؤها يفترض بحثًا يتابعه القلبُ الفهيم وأذن الحكماء (18: 15). المعرفة ترافق التأديب، والحكيم يحبّهما معًا. عينا الربّ تحميانه (22: 12) لأنه يحبها. فالعلم يساعد البار على الخلاص (11: 9) من الدمار.
وان يكن العلم نبيلاً وثمينًا فيجب أن نكتمه (23:12). لماذا؟ هذا سؤال لا يجيب عليه الحكيم. قد يكون بسبب الطابع الحميم الشخصي لهذا الغنى، الذي يُعتبر عطيّة من الله.
بما إن العلم يرتبط ارتباطاً مباشرًا بالحكمة، فهذا يُلقي الضوء على بعض الكلمات والأفكار الخاصّة بالحكماء. هناك علاقة بين الحكمة والفهم (16: 21 ؛ 17: 28). فموقف الحكيم والفهيم (المشبع بالفطنة) يعارض موقف الأحمق والثرثار (17: 27). وهناك علاقة بين الحكمة والفطنة (23:16؛ رج15:12)، وبين الحكمة والتيقظ.
فالتيقّظ يساعدنا على السهر على سلوكنا لنجعله حكيمًا (8:14)، لئلا نصدّق كل ما يقال، لنزِنَ الأعمال التي نقوم بها (14: 15).
الحكيم فهيم ولهذا يسمع النصيحة بدل أن يعتدّ باستقامة حكمه (15:12؛ رج 14: 12؛ 16: 25 ؛ رج 3: 5- 7). ولهذا يعلن الكاتب سعادة الأهل أمام حكمة ابنهم (10: 1؛ 15: 20) وحزنهم بسبب حماقته (17: 21- 25 ؛ 13:19؛ رج 10: 1). ونلاحظ أيضاً كرامة المعرفة للإنسان الفهيم (18:14) وسعادة من يقتني حسن التدبير ويحتفظ بالفهم (8:19).
ولكن لا الحكمة ولا الفطنة ولا المشورة تقف أمام الربّ (21: 30). أجل، يقول الحكماء، إن مصدر حكمتهم الربّ (20: 27). وسيعود الحكماء إلى هذه الفكرة وسيجدون في الله ينبوع الحكمة البشرية.
3- اقتناء الحكمة
هذا هدف يليق بالحياة، هذا مشروع حقيقي. ويجب أن نجد معلّم الحكمة. نكتشف الحكمة على شفتَيْ الرجل العاقل (10: 13 ؛ 15: 7) وفي قلبه (14: 33) أو على شفتَيْ البار (14: 7). نلاحظ أن النصّ لا يشير إلى الشيوخ، إلى المعلّمين الذين اختبروا الحياة، إلى الأسفار التي تتيح لنا أن نوسّع عالم البحث والخبرة (مز 119: 100؛ أي 32: 4؛ سي 25: 5- 6؛ 34: 11). إن الحكمة خير خاص ينتقل إلى الآخرين عبر اتصال حميم (13: 20). ولهذا فليست وقفًا على فئة دون أخرى كالكتبة مثلاً. وليست نتيجة تبادل دولي، وسيبيِّن أم نموّ الحكمة في إسرائيل.
لا تُقتنى الحكمة إلا بالله والخضوع للتأديب والتوبيخ (يجتمعان بحيث لا نقدر أن نفصلهما، رج 10: 17؛ 12: 1؛ 32:25). وتظهر هذه الكلمات في تربية الاولاد (13: 24؛ 15: 5؛ 27:19؛ 22: 15). وتبدو العصا وسيلة فاعلة للتأديب والتنبيه. ولكما يدلاّن مرارًا على العناصر التي تكوّن الحكمة (19: 20؛ رج 12: 1). "الابن الحكيم يسمع لتأديب أبيه " (13: 1). "الحكيم يسمع الموعظة" (عصه رج 12: 15). من يبدو متقبّلا "يقتني حسن التدبير" (15: 32) ويقيم وسط الحكماء (15: 31). هذا التنبيه هو طريق الحياة، إنه تنبيه الحياة (17:10؛ رج 23:6). من لا يسمعه يضلّ (17:10؛ 27:19) ومن يحتقره يموت (15: 10). فعلى الإنسان الفطن أن يقيم له اعتبارًا (15: 5)، ولا يني الحكماء يعدّدون المناع التي يحصل عليها من يتقبّل التأديب، والشرور التي تصيب من يرفضه. فعلينا أن نختار بين العار والكرامة (13: 18)، بين المعرفة والجهالة (12: 1).
تتأسّس الحكمة على قبول التأديب وهي تعتمد أيضاً على قبول الوصايا (8:10 ؛ رج 13:13 ؛ 19: 16). فمن احتقر الوصايا هلك، ومن حفظها استحق خير جزاء. لا تقود "الوصيّة" أو"الكلمة" إلى تعليم الأهل والمعلّمين (كما في 3: 1؛ 6: 20؛ 7: 1، أو 1: 8؛ 2:4؛ 2:7). فالمفرد (الكلمة، الوصية رج 13:13 ؛ رج 23:6 ؛ 28: 4، 7، 9؛ 29: 8،: كلمة "تورة" أو شريعة) يدلّ على شيء خاصّ ومعروف وجدير بالاهتمام. وهناك قرابة بين التنبيهات الاشتراعيّة وتلك التي نجدها في المزامير التعليميّة (مز 8:19- 9 ؛ 119: 53، 87). فقبل ابن سيراخ (سي 24: 1ي) أحسّ أم أن الحكمة ترتبط بالشريعة.
4- رفض الحكمة
ولكن هناك أناسًا يرفضون كل تأديب وتنبيه. يسمي أم البليدَ (بعر، رج البعير) (12: 1) والساخر (لص رج 13: 1)، فلا تحاول أن تقنع (15: 12) الساخر الذي لا يقدر أن يقتني الحكمة (14: 6)، بل استعمل العصا. وهذا سيكون عبرة للبسطاء وعقابًا له (19: 25، 29 ؛ 21: 11). هذه الوسائل تؤثّر على الولد، ولكنها لا تنفع الأحمق والفاقد اللب (13:10 ؛ 17: 10). فمئة ضربة لا تفعل مثل توبيخ إنسان فهيم.
وهكذا يتحدّد وجه الأحمق والمجنون والجاهل، وهم قريبون من الساخر (رج 14: 6؛ 2:15). فجنونهم هو ضلالهم (8:14)، وهو يُخرجهم من ذاتهم (3:20) في خصومات لا تنتهي. فالأحمق في حمقه هو أخطر من الدبّ الذي حُرم من صغاره (12:17) وكلمات الحماقة لا تستجلب في النهاية الا الغضب والضرب (6:18).
ومع ذلك فالأحمق يستلذّ بجنونه ويفرح (15: 21). وهذا الفرح يتجسّم في المجون (10: 23) الذي يصبح غريزيًا وعاديًا كالحكمة للحكيم. فالجاهل هو متكبّر (14: 3)، ولا يهمّه أن يكون فهيمًا، بل أن يُبرز وجهة نظره مهما كانت (18: 2). وإذ يصنع هذا يُظهر حماقته (12: 23؛ 16:13 ؛ 15: 2). هو لا يستطيع أن يفكّر، فيعمل بحسب نزواته ويتيه (18: 1؛ 2:19) ويخبط خبط عشواء في أجوبته ولا يسمع من يحاوره (13:18). إن هؤلاء المجانين يشبهون رجلاً يبني بيتًا "غير معقول " فيرث الريح (29:11).
وجنون الأحمق يحمل عاقبته في ذاته (16: 22). هو يبدّد ماله (21: 20) ويهدم بيته (14: 1؛ رج 10: 14) ويظهر عجزه عن التعرّف إلى الشرّ وتجنّبه (16:14 ؛ 3:22) ويحمّل أهله الشقاء (10: 1؛ 17: 21، 25؛ 13:19).
5- الحكمة الملوكية
إحتفظ الكتيّب السليماني الأول بآثار أصول ملكيّة، آثار أقوال الحاشية في الحكمة. فالنظر إلى المُلك أو المَلك يعكس وجهة الموظّف الاداري (14: 28). هو يفسّر احصاء داود الذي انتقدته بعض الأوساط (2 صم 24: 1- 17). وتظهر هذه الوجهة في أقوال أخلاقيّة تتعلّق بالقصر الملكي. وهي تذكّرنا بأهمية استعطاف السلطان (14: 35 ؛ 19: 12؛ 20: 2) وممارسة الفضائل التي تحوز رضاه (22: 11).
ويقدم ف 16 درسًا في الاخلاق داخل القصر (16: 10- 15) وذلك بعد درس يهوي (16: 1- 9). فالاهتمامات الملكية واليهوية لا تزال ممزوجة (25: 22- 3:21 ؛ 2:25- 3). ونحن نجد مديحًا يتلوه أحدُ رجال الحاشية، "وشفتَيْ ملك " تحسرون قولاً إلهيًا (16: 10)، وضرورةَ اكتساب عطف الملك (16: 13؛ 14: 15)، وتذكيرًا بواجبات الملك ولاسيّما واجبات العدالة (16: 12) والرحمة والصلاح (20: 28). لا تعود هذه الاخلاقيّات بوضوح إلى يهوه، ولكن الصفات المطلوبة من الملك هي تلك التي يوردها الفكرُ البيبلي إجمالاً. فالملك يقدر، مثل الله، أن يزيل الشرّ من أمام وجهه بواسطة العدالة (20: 8، 26).
ولكن الملك ليس إلهًا في إسرائيل. ولهذا يعرف الحكماء أن قلب الملك، وان عظيمًا، هو في يدي الله الذي يحرّكه كيفما شاء (21: 1).
ولفت انتباه الحكماء بطانة الملك. فذكّروا بالقواعد النموذجيّة لتصرف الضبّاط والرسل (17:13) الذين يمكن أن يكونوا موظّفين خاصين (13:25؛ 26: 6). أما الفضائل التي يرغب فيها الملك فهي "نقاوة القلب " و "النعمة على الشفتين "، والنوايا الصالحة والأقوال المؤاتية.
وتشدّد أمثال عديدة (11: 14؛ 15: 22؛ 18:20 ؛ 24: 6)، على عدد المستشارين الذين يديرون أمور الدولة في السلم كما في الحرب. ففي أيام داود كان الملك يسأل الله في الظروف الخطيرة بواسطة الاوريم والتوميم (حجارة صغيرة ترمى فنستعلم بها ما يجب ان نفعل. زال استعمالها بعد زمن داود). ولكن الأمثال تفهمنا أن هذه القرارات تؤخذ في مجلس الملك. ولكن الأنبياء لم يكونوا موافقين على هذه الطريقة في العمل، ولهذا هاجموا هؤلاء المستشارين (أش 28: 14) الذين يدفعون الملك إلى اعلان الحرب أو إلى عقد معاهدة دون الرجوع إلى "فم الله " (أش 30: 2). هذه المقاطع وانتقادات الحكماء ضد الأشرار هي المقاطع الوحيدة التي تذكر عمل هؤلاء المستشارين الحكماء الذين هاجمهم الأنبياء ولاسيّما إرميا (8: 9). وسيتّفق حكماء الاخلاق والأنبياء على شجبهم بعد أن ولّى زمان القول الكهنوتي المعتبر آتيًا من عند الله.
6- الحكمة اليهوية (نسبة إلى يهوه أي الرب)
ترتبط الحكمة بالربّ وبوحيه (33:15). وسيعبّر الحكماء عن الفكرة نفسها بطريقة خاصّة: بداية الحكمة (أو رأس الحكمة) مخافة الربّ (9: 10 وفي 1: 7: نقطة انطلاق المعرفة مخافة الربّ). وما نقرأه في سي 1: 1- 10 ثم في سي 24: 1ي عن تماثل الحكمة للشريعة يشهد على الاهتمام بجعل الحكمة حقيقة لاهوتيّة. ولكننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة على مستوى المجموعة السليمانيّة الأولى.
وينسب الحكماء مرارًا إلى مخافة الربّ موهبة حياة طويلة، وهذا ما يُنسب أيضاً إلى الحكمة (10: 27؛ رج 9: 10- 11 ؛ 14: 27، 19: 23). وهكذا يلتقون بمواعيد سفر التثنية من أجل المخلصين للربّ (تث 6: 2 ؛ 11: 21). فمخافة الرب هي كالحكمة تأديب صالح (33:15). وأساسها حياة مستقيمة، حياة الحكماء (14: 2).
قال 20: 27 (آية غامضة): "روح الإنسان سراج الله ". وهذا يعني أن الفكر البشري الذي هو مركز الحكمة والمعبّر عنها، هو عطيّة من الرب وهو يعكس نوره. وفي أيّ حال، فالمعرفة التي هي شكل فكري وديني للحكمة، يحميها الرب (22: 12) الذي يخزي أقوال الماكرين.
وتقدَّم مخافةُ الربّ (التي هي أساس الحكمة والمعرفة) على أنها ينبوع خيرات يرغب فيها الإنسان ويطلبها لدى الحكماء. إنها نجاح وسبب حياة وملجأ ضد الشقاء (14: 26- 27؛ 23:19). فالسعادة التي تمنحها تستحقّ أن يقيم فيها الإنسان (15: 16) وهي أثمن من كل خير.
إذا كان الربّ هو كافل النظام الأخلاقي في دوره كمجازٍ ، فهو أيضاً الإله السامي بطبيعته. لا ينسب إليه الحكماءُ، كما فعل الأنبياء، عملَ الخلق والسيادة على الكون والتاريخ، بل يعلنون سلطانه المطلَق على حياة الأفراد. هو يوجّه خطاهم (20: 24) وينجح مشاريعهم (19: 21) ويقرر مصيرهم (16: 33). حقا، الإنسان يقرّر، والله يدبّر (16: 1، 9). لقد صنع الاذن والعين (20: 12) وخلق الفقير كالغني (22: 2)، وهو وحده يهب الخلاص (21: 31) فيجعل المركبات والخيول باطلة ويُحدر الشرّ إلى مهاوي الشقاء (12:21).
خاتمة
هذه هي الحكمة كما تبدو في المجموعة السليمانية الأولى. إنها ترتبط بالبرّ وبمخافة الربّ. وهي تنفع الملوك والموظّفين الكبار في البلاد. أما ثمارها فنجاح في الحياة، وحماية من الشرّ والموت، ومعرفة وفهم وعلم. هذه الحكمة هي عطيّة من الله: تنتقل من الآباء إلى البنين، ومن المعلّم إلى التلميذ. فالويل لمن يرفضها، لأنه يكون قد طلب الموت لنفسه