الفصل الحادي والأربعون
الرب إله الضعفاء
يصوّر أم الربّ كمن يهتمّ اهتمامًا خاصاً بعالم الإنسان. وهذا واضح في عدد من الأقوال حول اهتمام الله بأمور اجتماعيّة تشكّل موضوع هذا الفصل والذي يليه. ففي هذه الأقوال يصوّر الربّ في ارتباطه بالأفراد، وفي رغبته بمجتمع يتميّز بالعدالة والصدق، بمجتمع لا تسئ فيه فئة إلى فئة، بل "يسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا، وصبيّ صغير يسوقهما" (أش 6:11).
1- اهتمام الربّ بالضعفاء في أم
هناك عدد من الأقوال تصوّر الربّ الذي يرتبط بالضعفاء وبالذين ليس لهم من يدافع عنهم. فالمجموعات التي هي عُرضة للمعاملات السيّئة، تجد حماية في تعليم ديني وخلقي. في هذا المجال، يبدو الربّ إلهًا شخصيًا يحامي عن حقّ الضعفاء.
أ- الضعفاء كمجموعة وما يقابلهم
المجموعة الرئيسية من الشعب التي تعرف الصعوبات والتي بها يهتمّ الله اهتمامًا خاصاً، هي مجموعة الفقراء. هذا لا يعني أن الكاتب يتعاطف دومًا مع الفقر. فالفقر يرتبط بالكسل (10: 4؛ 19: 15 ؛ 20: 13) والطمع (13: 8) والافراط (21: 17؛ 23: 21). لا يشرح أم لماذا يكون الشعب فقيرًا، بل لماذا يجب أن يعمل. فالحديث عن الفقير يملأ أم مع "رش " (17: 5 ؛ 2:22؛ 13:29. رج في العربية: رثّ)، "دل" (14: 31. رج في العربية: ذلّ)، "أبيون " (14: 31. أي الوضيع). هناك علاقة وثيقة بين الله وبين هؤلاء الناس. وهذا واضح من أقوال نقرأها في 14: 31 (من يظلم الوضيع يستهن بخالقه)، 17: 5 (المستهزئ بالفقير يستهين بخالقه).
وهناك الأرامل (15: 25: الربّ يحمي الأرملة) والأيتام الذين يقفون مع الفقراء والذين لا معين لهم. ونحن نقرأ في 23: 10- 11: "لا تزح الحدود القديمة، ولا تدخل حقول الأيتام، لأن الربّ وليّهم قدير يردّ عدوانك عنهم ".
يبدو 24: 11- 12 عائدًا إلى شخص يخضع لظلم في المحكمة، وسينفَّذ فيه حكمُ الاعدام رغم براءته. هذا الشخص يمثِّل البريء الذي ليس له من يساعده. فان "ساعدته " جازاك الربّ حسب عملك.
يتحدّث النصّ عن الفقير الذي هو خليقة الله، شأنه شأن الغني (22: 2: كلاهما صنعهما الربّ)، شأنه شأن الأبله (29: 13: الربّ ينير أعين كليهما). نحن هنا أمام حقوق الإنسان الشخصيّة، وقيمة الإنسان الفقير. فالغني والأبله (أو: الماكر) واعيان بأن الله سيحاسبهما على طريقة عيشهما.
إن الأرملة في 15: 25 تقف أمام المتباهي. والمتباهي في 16: 19 يبدو شخصاً مقتدرًا لا ضمير له. إنه يستفيد من وضع المرأة التي ليس لها من يدافع عنها. لهذا يقول الحكيم: "تواضعُ الروح مع المساكين ولا اقتسام الغنيمة مع المتكبِّرين ".
ب- التزام الله بالضعفاء
إن التعارض في 15: 25 يصوّر الربّ ملتزمًا في اتجاهين متكاملين: بشكل سلبي، ضد المتكبرين. وبشكل إيجابي من أجل الأرامل. "الربّ يزيل بيوت المتكبرين، ويحمي حمى الأرملة".
ليس من السهل أن نعرف كيف يرتبط شطرا هذا الآية الواحد بالآخر. هل يصوّران طريق الربّ حين يعمل مع مجموعات مختلفة من الناس؟ أم يدلّ على أن المتكبر يهدّد الضعفاء الذين تمثّلهم هنا الأرملة؟ المعنى الثاني يبقى معقولاً. هنا نتذكّر تث 19: 14: "لا تضمّ حدود أحد من بني قومك ". هذا هو المعنى المادي بالنسبة للأرض التي تمتلكها الأرملة. وهناك أيضاً المعنى الآخر الذي يحافظ على شرف الأرملة.
كان من الصعب على المرأة أن تحافظ على أرض العائلة وتحميها من تعدّيات الأقوياء. فماذا يكون وضع الأرملة التي يستغلّها جيرانها، بل أقاربها فيزيحون الحدود بين أرضهم وأرضها؟ يبرز هذا القول دور الربّ في الدفاع عن الضعفاء والمحافظة على حدود أملاك عيالهم. الربّ هو الإله الشخصي الذي يحامي عن حق الأفراد ضد كل تهديد يأتي بشكل خاص من شخص لا ضمير له. "من يتحنّن على الفقير يحسن إلى الله، والربّ على إحسانه يكافئه " (17:19).
الله يحسب حساب كلّ عمل نقوم به من أجل الفقير. هذا يعني أنه قريب جدًا من الفقير، وأن التحنّن يجعل الله مدينًا للإنسان. هذا يدلّ على علاقة حميمة بين الربّ والإنسان.
ونقرأ في 22: 22- 23: "لا تقهر الفقير لأنه فقير، ولا تسحق المسكين في القضاء. فالربّ يردّ التهمة عنهما ويسلب نفوس سالبيهما". وفي 10:23- 11: "لا تزح الحدود القديمة". نحن هنا أمام وضع فيه يعد الله بأن يثأر للضعفاء في المجتمع. واللغة المستعملة هنا هي لغة القانون مع تشديد واضح على المجازاة. فالربّ نفسه يرافع عنهم، يدافع عن قضيّتهم (في المحكمة).، ولا يكتفي بأن يسلب ممتلكات سالبيهم، بل نفوسهم وحياتهم. هذا ما يدلّ على أن القه هو وليّ الأرملة واليتيم. فالوليّ كلمة قانونية تفترض رباط الدم بين الوليّ وقريبه. فحين نقول إن الله يتصرّف كالوليّ بالنسبة إلى اليتيم والأرملة فيدافع عن حقوقهم، هذا يشير إلى علاقة عائلية فيها يضع الله على كتفيه مسؤوليّة اجتماعيّة لا يريد أحد غيره أن يقوم بها. إن 23: 10- 11 و 15: 25 تشكّلان مثلين عن الاعتقاد باهتمام الله بالحفاظ على أملاك العائلة وعلى الحدود القديمة بين القبائل (لا 23:25 ي).
وما يشدّد عليه 24: 11- 12 ليس فقط الإنسان الذي يُساق إلى الموت، بل اهتمام الله بالعدالة ومسؤوليّة الشخص الذي يعي الطريقة الجائرة التي بها تعامل مع هذا الوضع. "فإن قلت: لا علم لي بهذا، فالربّ الذي يزن ما في القلوب ويتبيّنه ويراه ألا يعرف "؟
من الصعب أن نحدّد بدقّة الظروف التي عليها يطبّق هذا القول. بل يبدو من المعقول أن ممارسة فاسدة (أو: غير كافية) للعدالة ستكون السبب في الحكم على إنسان بريء.
وميزة هذا النصّ أيضاً هو أن الربّ يجعل من المتفرِّج الذي لا علاقة له بالأمر، مسؤولاً عن مصير هذه الضحيّة. هذا يعني أن الله معنيّ بوضع إنسان يُحكم عليه، وأنه مرتبط بما سيفعله إنسان لمساعدة أخيه الإنسان.
ج- اهتمام الله بالعدالة الاجتماعية
هناك بعض الأقوال في أم، وهي تدلّ على اهتمام الربّ بالعدالة الاجتماعيّة التي لا تتوجّه بشكل مباشر إلى ظلم بعض الأفراد في المجتمع. لا شكّ في أن هذه الأقوال تدلّ على أن الله معنيّ بأمور البشر، وهو يردّ بقساوة على الذين يسيئون معاملة القريب ويخدعونه، وبالتالي يبلبلون النظام الاجتماعي.
نجد في 10: 1- 22: 16 عددًا من الأقوال تتعلّق بالموضوع عينه: إستعمال المعايير الصحيحة أو الكاذبة. في 11: 1: "ميزان الغشّ يمقته الله، والمعيار السليم ينال رضاه ". في 16: 11: "للربّ قبّان العدل وموازينه، وكل معيار سليم معياره ". في 20: 10: "استعمال مكيالين ومعيارين كلاهما غشّ يمقته الرب ". في 23:20: "استعمال مكيالين يمقته الربّ، وموازين الغش لا تجوز".
يندّد الكاتب بالمعايير الغاشة. هي رجس عند الربّ مثل عبادة الأوثان وذبائح الأطفال. إن الربّ يمقت مثل هذا الخداع الذي يضرب بشكل خاص الفقير والضعيف. الرجس والرضى يدلاّن على ردّة فعل عند الله ضدّ نوعين من التصرّف (11: 20؛ 22:12؛ 15: 5 ؛ رج 32:3؛ 16:6- 19؛ 9:15، 26).
قرأنا هذه الآيات الأربع التي تتعلّق بموضوع خاص وترد في المجموعة عينها. إن هذا الموضوع مشترك بين العهد القديم والحكمة في خارج إسرائيل. فاستعمال المعايير الغاشّة والموازين الكاذبة مسألة مشتركة في الشرق القديم. ولكن تصوير المسألة جاء بشكل عام بحيث لا نستطيع أن نستنتج شيئًا عن زمن هذه الأقوال ومكانها.
إن هذه المسألة الاقتصاديّة والاجتماعيّة يُنظر إليها في ارتباطها بالله. فلا بدّ من أن يتساءل الإنسان لماذا تُناقش هذه المسألة المرتبطة بالتجارة انطلاقًا من نظرة دينيّة. فإن كنا لا نستطيع أن نؤكد إلى أي درجة كان لهذه الأقوال هدف من أجل بعض الناس في المجتمع، فمن اللافت أن الله يصوَّر مرتبطاً ارتباطاً وثيقًا حميمًا بهذه المسألة. ومع هذا، فاستعمال هذا الخط من التفكير الديني ضدّ الجور الاقتصادي يدهشنا جدًا على ضوء المناخ العام في الكتاب. فالمدلول القائل بأن الله معنيّ بالعالم وبحياة الأفراد يخترق سفر الأمثال ويثير شجبًا مؤسسًا على اللاهوت لممارسة اقتصاديّة غير عادلة.
ونستطيع أن نورد مقطعًا آخر (16:6- 19): "هناك ستة يبغضها الربّ، بل سبعة تمقتها نفسه: عينان متعاليتان ولسان كاذب، ويدان تسفكان الدم البريء، وقلب يزرع أفكار الشرّ، وقدمان تسرعان إلى المساوئ وشاهد زور ينشر الكذب، ويلقي الخصام بين الإخوة".
إن هذا القول يصوّر العلاقة القويّة بين المسائل الدينيّة والمسائل الاجتماعيّة والخلقيّة في تعليم الحكماء. فنجد لائحة بمختلف أنواع التصرّف الذي يبغضه الربّ ويعتبره رجسًا. كلّ هذه التصرّفات تدمّر المجتمع والعلاقات بين الأفراد. لهذا قال الشرّاح بأنها تسلب القريب وتدمّره، بأنها سلوك معاد للمجتمع. إن سلوكًا من هذا النوع يجعل الأقوياء ضد الضعفاء، وإن لم ينحصر القول في معاملة سيّئة تطال بعض الفئات، بل يكون له هدف عام. نحن هنا أمام تفكير يرتكز على الله. فهذا السلوك يُشجب لا بسبب تأثيره على الشعب، بل لأنه رجس عند الربّ الذي هو إله شخصي يُشرف على حياة الشعب، وهو معنيّ بالعدالة والمعاملة الحسنة بين الأفراد.
2- أم وسائر تقاليد العهد القديم
أ- التقاليد الحكمية
إن اهتمام الله بالضعفاء وبالذين ليس لهم من يحميهم، وأولهم الفقراء والأرامل واليتامى، يشهد عليه سفر أيوب. فأصدقاء أيوب يعتبرون أن أيوب اقترف خطيئة كانت السبب في سوء حاله. وفي النهاية يتهمّ اليفاز أيوب بشكل مباشر:
"أخذت رهنًا من أخيك بغير حقّ، وسلبت العراة ثيابهم. حرمتَ العطشان ماء، ومنعت خبزك عن الجائع. ببطشك امتلكت كل الأرض، وبجاه رفيع سكنت فيها. أرسلت الأرامل فارغات، وحطّمت أذرع اليتامى" (أي 22: 6- 9).
وإن أيوب يعرف أن "الأشرار ينقلون التخوم، ويسلبون القطعان ويحتفظون بها. يستاقون حمار اليتيم، ويرتهنون ثور الأرملة. يزيحون الفقراء عن الطريق، ومنهم يختبئ مساكين الأرض... يحصد (الفقراء للآخرين) حقولاً لا يملكونها ويقطفون للأشرار كرومهم. يبيتون عراة بلا لباس وفي البرد لا كساء لهم " (أي 2:24- 7).
من اللافت أن نلاحظ أن الخطايا التي يشير اليفاز إليها، هي معاملة سيّئة للضعفاء والذين لا مدافع لهم في المجتمع. وهذا ما يقوله أيوب، فيشارك أصدقاءه رأيهم، بأن هذا التصرّف ضدّ القريب في الظروف الصعبة هو خطيئة كبيرة ينتظرها عقاب الله القاسي. غير ان أيوب يحافظ إلى النهاية على برارته وعلى أنه لم يستحقّ هذا العقاب. فيقول:
"إن كنت استهنت بحق عبدي أو أمتي في شكواهما عليّ، فماذا أفعل حين أواجه الله؟ وكيف أجيبه حين يسأل؟ أما صانعي في البطن صانعه، واحد صوّرنا في الرحم؟ هل حرمت الفقير بيته (طلبه، حاجاته)، أم تراني أكلت مال الأرملة؟ أو أكلت لقمتي وحدي ولم يشاركني فيها اليتيم؟ أرأيت هالكًا من العري أو بائسًا لا كسوة له ولم يباركني بكل قلبه حينما تدفّأ بصوف غنمي؟ إن كنت رفعت يدي على اليتيم مع كل نفوذي في مجلس القضاء، فلتسقط كتفي من كاهلي ولتنكسر من مفصلها ذراعي. بل كنت أخاف من نقمة الله ولا قدرة لي أمام جلاله " (أي 13:31- 23).
إنَّ إعلان أيوب عن براءته يشمل مجالات أخرى في الحياة كالزنى والشرك (أو عبادة الأوثان) والرياء. غير أن الاتهامات ضد أيوب، وقسمه يشدّد على الاهتمام بالفقير والمحتاج والاعزل الذي ليس له من يدافع عنه، هي أمور بغاية الأهميّة من المنظار اللاهوتي.
ونجد في سفر الجامعة بعض الملاحظات حول الشرّ في القضاء (3: 16: رأيت شرًا في موضع الحق والعدل)، حول مضايقة الأقوياء للضعفاء (4: 1: دموع المظلومين الذين لا قدرة لهم)، حول الظلم يحلّ بالفقراء (5: 7). وهذا ما يقوده إلى أن يعبّر عن ثقته بعدالة من أجل الذين لا معين لهم. هذه الأمثلة تدلت على أن هذه المسائل الاجتماعيّة كانت مهمّة في نظر الحكماء ساعة دوّن هذا الكتاب.
لا تشير المزامير إلى هذه المسألة، مع أن موضوع مضايقة الفقراء واهتمام الله بهم، حاضر في عدد من المزامير. نقرأ في مز 35: 10: "عظامي جميعها تقول: من مثلك أيها الربّ ينقذ المساكين البائسين من سالبيهم الأقوى منهم ". وفي 68: 5- 7: "الربّ اسمه فاهتفوا أمامه. أبو اليتامى ومعين الأرامل... الله يُسكن الشريد بيتًا ويخرج الأسرى إلى الانفراج " (رج 72: 12- 14 ؛ 82: 1- 4؛ 109: 16، 22). نشير هنا إلى أن الفقير لا يدلّ فقط على فئة اجتماعيّة، بل على انتماء ديني خاص: جماعة الأتقياءْ والأمناء لله وعهده، وهم يقابلون الأشرار.
ب- سائر التقاليد
إن اهتمام الله بالفقراء والأرامل والأيتام وسائر الفئات التي تعيش في ظروف صعبة، أمر تشهد له مختلف تقاليد العهد القديم. فالشرائع تطب أن لا تفسد العدالة ضد الفقير. "لا تسكت عن إنصاف المسكين في دعواه " (خر 23: 6؛ لا 19: 15: لا تحابوا عظيمًا، بل احكموا للآخرين بالعدل). "لا تحرّف حكم غريب ولا يتيم، ولا ترتهن ثوب أرملة" (تث 17:24؛ رج 19:27).
تؤكّد الشريعة أن الله نفسه يحكم من أجل اليتيم والأرملة (خر 22: 22- 24 ؛ تث 17:10- 18). وهو يأمر بالطعام من أجل هؤلاء الفئات. "إذا حصدتم حصيد أرضكم، فلا تحصدوه إلى أطراف حقولكم... ولا تعودوا إلى قطف ما تبقّى من عفارة كرومكم... بل اتركوا ذلك للمسكين والغريب " (لا 19: 9- 10 ؛ رج تث 14: 28- 29؛ 7:15- 11؛ 12:26-13).
وعبّر الأنبياء عن اهتمام الله وعنايته بهذه الفئات الاجتماعية، وندّدوا بالذين يضيّقون عليهم ويسيئون معاملتهم. نقرأ في أش 1:23: "كلهم يحبّ الرشوة، ويسعى وراء الربح. لا ينصفون اليتيم بشيء، ولا تصل إليهم دعوى الأرملة". وحز 7:22: "يعاملون الغريب بالظلم، ويضطهدون اليتيم والأرملة". وفي عا 6:2- 8: "يبيعون الصدّيق بالفضة، والبائس بنعلين. يمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب، ويزيحون المساكين عن طريقهم. يستلقون على ثياب مرهونة" (رج 4: 1؛ مي 2: 1- 2؛ ملا 5:3).
وتعود المزامير إلى المساكين وتقابلهم مع الرجل الشرير. "ألبائسون لا يُنسون إلى الأبد، ورجاء المساكين لا يخيب " (مز 9: 19). "الشرير بتباهى ويظلم المساكين، فيؤخذ بالمكائد التي دبّرها" (2:10 ؛ رج 6:12؛ 35: 10؛ 18:40؛ 2:4...). يبدو الربّ في المزامير كالمساعد والمحامي والملجأ بالنسبة إلى الفقراء وسائر فئات الشعب البائسة. الربّ "ينتقم ممّن يسفك الدماء ويذكر صراخ المساكين " (مز 9: 13). "إسمع آهات المساكين وقوِّ قلوبهم يا رب. أصغ بأذنك يا الله لتنصف اليتيم والمقهور" (17:10- 18؛ رج 12: 6؛ 6:14...).
ونجد أيضاً موضوع الموازين والمعايير في أماكن عديدة. نقرا في دستور القداسة: "لا تجوروا في الحكم ولا في المساحة والوزن والكيل، بل لتكن موازينكم وعياراتكم عادلة" (لا 19: 35- 36). وفي القانون الاشتراعي: "لا يكن في كيسك معياران، كبير وصغير. ولا يكن لك في بيتك كيلان، كبير وصغير. بل ليكن لك معيار وافٍ عادل، ومكيال وافٍ عادل على وجه الأرض التي يعطيك الربّ إلهك، لأن الربّ إلهك يعيب كل جائر يفعل ذلك " (تث 13:25- 16). هذا رجس عند الربّ. هذا يمقته الربّ (أم 11: 1؛ 20: 10، 23). وحزقيال (45: 10- 12) يشدّد أيضاً في خطّ التيار الكهنوتي على الموازين العادلة. كل هذا الكلام وُضع في فم الله فدلّ على أن الله معنيّ بحياة كل شخص في المجتمع. ثم ارتبط بالمشاركة في الليتورجيا والدخول إلى الهيكل كما نقرأ في مز 15: 1 ي؛ 3:24- 6: "من يحق له أن يصعد إلى جبل الربّ ويقف في مقامه المقدّس؟ النقيّ اليدين، الطاهر القلب، الذي لا يسيء إلى أحد".
3- أم والحكمة المجاورة
ما قلناه عن الربّ الإله الشخصي بالنسبة إلى الضعفاء والعزّل، نستطيع أن نجده في الحكمة الخارجة عن إسرائيل (مثلاً في اوغاريت والنصوص حول كارت وأقهات) كما وجدناه في أم وسائر أسفار التوراة.
أ- بلاد مصر
كان الأغنياء يُعتبرون في المملكة القديمة هديّة من عند الآلهة. وما كان الناس يتكلّمون كثيرًا عن الفقر، مع أنه من واجب الملوك الديني مساعدة الفقير. والسبب المعطى لمساعدة الفقير، هو أن الغني قد يصبح فقيرًا فيجد نفسه في حاجة إلى إحسان. فالغنى والفقر هما من عند الله. وجاء تحطّم النظام الاجتماعي في المملكة القديمة فحمل تبدّلاً في العقليّة. وفي زمن المملكة الحديثة كان تحوّل تامّ في النظرة إلى الغنى والفقر. وفي زمن التقوى الشخصي، رُفع الفقير وجُعل مثالاً للتواضع. فالفقير يُذكر مرارًا ويصوّر بشكل إيجابي مع السلالتين 19- 20 ولاسيّما في الصلوات والمدائح. وهكذا سمّيت الديانة في تلك الحقبة "ديانة الفقراء".
يقول "تعليم فتاح حوتب " إن الله ينجح الإنسان ويكافئه بالغنى. وهو يحرّك الرأفة والاهتمام بالفقراء. ويتضمّن التعليم أيضاً أقوالاً حول السلوك في المجتمع.
ويتضمّن "تعليم مريكارع " و "تعليم امنمحات " و "الفلاح البليغ " نصوصاً حول مسؤولية الحاكم من أجل الاهتمام بالفقراء واليتامى والأرامل. ونجد بشكل خاص تقابلاً بين "تعليم امينوفي " ومواد من الحكمة الإسرائيلية. فالفصل الثاني يحذّر السامعين من إساءة معاملة بعض الفئات، وينبّهنا إلى أن الدمار سيكون مصير الذين يضيّقون على الآخرين. "إحذر أن تسرق بائسًا، أن تهاجم أعَرج. فالذي يصنع شرًا، يرذله البحر وتحمله أمواجه إلى البعيد".
ويتوقف ف 6 عند موضوع احترام الأملاك. ويأمر بوضوح أن لا يتعدّى أحد على حدود الأرملة. مثل هذا التصرّف يقود إلى الدمار. "لا تحرّك العلامات على حدود الحقول. ولا تبدّل موقع حبل القياس. لا تكن طماعًا من أجل قليل من الأرض، ولا تتجاوز حدود الأرملة. إحذر أن تدمّر حدود الحقول لئلا يحملك الرعب إلى البعيد. فالإنسان يرضي الله بقوة الربّ حين يتميّز حدود الحقول ".
ويحذّر ف 11 من الطمع بأملاك الفقير وخبزه. "لا تشتهِ خيرات الفقير، ولا تجعِ إلى خبزه. فخيرات الفقير كتلة في الحلق، تجعل الإنسان يتقيأ". أما ف 13 فيقدّم مثلا عن الاهتمام بالفقير وينصح بالرأفة عند "جدولة" الديون: "إن وجدت دينًا كبيرًا على فقير، فاجعله ثلاثة أقسام. إنسَ اثنين واحتفظ بواحد". ويتوّقف ف 16 عند موضوع المعايير الكاذبة والصادقة، ويحذّر من الغش. فالإله تحوت الذي يخترع المعايير يراقب الصادق منها. "لا تحرِّك الموازين ولا تبدّل المعايير. لا تقلّل من أقسام القياس. لا تشته قسمًا من الحقول ولا تهمل أصحاب الخزينة (للدولة). فالقرد يجلس على الميزان وقلبه هو في اللسان. أين يكون الإله عظيمًا مثل تحوت الذي استنبط هذه الأشياء وصنعها؟ لا تجعل لنفسك معايير ناقصة، فهي مليئة بالخطأ عبر قوة الله ". ونقرأ أيضاً: "الكيل هو عين رع " (ف 17).
وإن ف 35 يمنع الإساءة إلى الأعمى والأصمّ والأخرس والأبله. فالإله هو باني الإنسان، وقد كوّن كلّ واحد بشكل مختلف.
إن المقابلات بين "تعليم أمينوفي " وسفر الأمثال حول المسائل الاجتماعيّة، هي عديدة. وهناك في أمينوفي عدد من التشبيهات الموجودة، التي تتضمّن برهانًا لاهوتيًا يدلّ على أن مصر رأت أهمية هذه المسألة بالنسبة إلى الإله. لا تتحدّث النصوص المصرية عن الإله الشخصي المعني بالخلائق كما يفعل أم، وهذا هو الفرق بينما وبين أم.
وتعود التعاليم الديموتية إلى المسائل الاجتماعيّة واهتمام الإله بالضعفاء. ونجد في "بردية انسنجر" موضوعِ المعايير الصادقة والكاذبة، كاستعارة عن طبائع البشر "إن الإله العظيم تحوت أقام ميزانَا ليجعل القياسات على الأرض مستقيمة. جعل القلب مخفيًا في اللحم من أجل قياس عادل لما يخصّه. إن كان العالم ليس متزنًا فعلمه لا ينفعه. والجاهل الذي لا يعرف الاتزان ليس ببعيد عن الاضطراب ".
وتحافظ "بردية انسنجر" على الاعتقاد القديم بأن الله يعطي الغنى والفقر، وأن الإنسان يستطيع أن يفعل الشيء القليل ليبدّل الوضع. "هناك من يعيش من قليل فيوفّر، ومع ذلك صار فقيرًا. وهناك من لا يعرف (أن يوفّر)، ومع ذك فالقدر أعطاه الغنى. ليس الحكيم الذي يوفّر هو الذي يجد الفائض، ولا الذي يصرف هو الذي يضحي فقيرًا. فالإله يعطى الغنى في الطعام من دون دخل. ويعطي الفقر أيضاً في كيس الدراهم من دون مصروف".
وفي "بردية انسنجر" نرى أن الإله يهتمّ اهتمامًا شخصيًا وعميقًا بمساعدة الفقراء. نحن هنا قريبون جدًا من أم. "إن قلب الإله يُسرّ حين يكون الفقير شبعانًا أمامه. إن زادت ممتلكاتك فأعط جزءًا منها للإله. هذا الجزء هو للفقير. فالإله يسمح للإنسان بأن يقتني الغنى شرط أن يعمل الخير. فالذي يعطي الطعام للفقير يرحمه الإله رحمة لا حدود لها. فقلب الإله يسرّ بإعطاء الطعام اكثر من قلب الاناء".
ب- بلاد الرافدين
وننتقل إلى حكمة بلاد الرافدين لنرى ما يوزاي صورة الله في أم. إنه معنيّ بالمجتمع كما بحياة الأفراد، وخصوصاً الضعفاء والذين ليس لهم من يدافع عنهم. ففي "نصائح الحكمة" البابلية يعود قسم إلى عدم رضى الإله الشخصي وشمش (الإله الشمس الذي يرى كل شيء ويهتمّ بالعدالة) حين يداس المسحوق. "لا تشتم المسحوق... لا تهزأ منه وتنتقده. فإله هذا الرجل سوف يغضب. لا يرضى شمش فيجازيك شرًا. أعطِ خبزًا للطعام وجعة للشراب. إمنح ما يُطلب، أمّن له (الخير) وأكرمه. ففي هذا يجد إله الرجل مرضاته، يسرّ شمش فيكافئك خيرًا. إعمل الإحسان واخدم كل أيامك ".
في المديح "لنينورتا" يُعدّد وجهُ اللوحة السلوك الرديء مثل الزنى والافتراء ومضايقة الفقير والضعيف. ويتوجّه الوجه الآخر إلى الله حين يدخل في مقدسه. و "مديح شمش " الذي هو جزء من الأدب الحكمي البابلي يلفت انتباهنا إلى الطريق التي بها يقدّم شمش العون للأفراد ولاسيّما للمعوزين. فهناك جزء يقول إن شمش يحب اللاجئين الهاربين، الأسرى والمرضى، وإنه يعاقب الرجل الذي يشتهي امرأة قريبة، واللص، والقاضي الذي يأخذ رشوة (إن فئات الشعب تتوجّه إلى شمش فيسمع لها). هنا يرد موضوع المعايير الكاذبة والصادقة، واشارة إلى ردة الفعل عند شمش وعند الناس.
"إن التاجر الذي يمارس الكذب حين يمسك الميزان، الذي يتلاعب بالمعايير، فينزل... يخيب أمله على مستوى الربح ويخسر رأس المال. والتاجر المستقيم الذي يمسك الميزان ويعطي المعيار الصالح، كل شيء يقدّم له بقياس صالح. إن التاجر الذي يمارس الكذب حين يمسك كيل القمح، فيقيس القمح بأصغر مكيال ويطب كميّة كبيرة (من الفضة) ثمنًا، لعنة الشعب تسبقه قبل وقته. إن طلب سداد الدين قبل الوقت المحدّد يقع الخطأ عليه. ووارثه لا يعرف أن يراقب ممتلكاته، وإخوته لا يريدون أن يهتموا بوضعه. والتاجر المستقيم الذي يزن قمحه بأكبر مكيال ويكثر من أعمال الرحمة، فإن شمش يرضى عنه ويطيل أيام حياته ".
لاحظ بعض الشرّاح أن الحديث عن حماية شمش للفقراء، أمر متواتر. ولكن لا نجد ذكرًا واضحًا للأرملة واليتيم، كما لا نجد إشارة إلى الغريب الذي يقيم وسط الشعب.
في المحاولات الفكرية الآتية من بلاد الرافدين، لا نجد أمورًا كثيرة عن علاقة الله بالضعفاء. فحين يبكي المتألمون في "لودلول بال ناماقي "، في "حوار حول الشقاء البشري "، في "الربوبية البابلية"، حين يبكون شقاءهم والجور الذي يصيبهم، هم يشدّدون على براءتهم في لغة عباديّة لا حسب مقولات اجتماعيّة (أي 31). هذا الواقع يثبت ملاحظتنا بأن لا انشداد بين الحكمة والعبادة في بلاد الرافدين، وانهما ارتبطتا الواحدة بالأخرى أكثر مما في إسرائيل. فالمسائل الاجتماعية كانت مهمة في حكمة بلاد الرافدين، ولكنها لم تكن بالأهمية الكبرى بالنسبة إلى الآلهة. فالهمّ الاجتماعي يبرز بشكل عام حين يعود المتألم في "الربوبية البابلية" إلى الفوضى التي يختبرها حوله.
"إن الناس يمتدحون كلام الرجل القوي الذي تعلّم القتال، ولكنهم يحطّون الضعيف الذي لم يقترف ذنبًا. يثبتون موقف الشرير الذي يعتبر الرجس بالنسبة إليه حقًا، ويطردون الرجل المستقيم الذي تنبّه إلى مشيئة إلهه. يملأون بيت الظالم بالذهب، ويفرغون بيت الفقير من زاده. يسندون القوي... ويدمّرون الضعيف ويدوسون من لا قوّة له ".
خاتمة
لقد رأى الحكماء في الربّ إلهًا معينًا في كل مجالات الحياة التي يتأثّر بها الفرد. واتفقت سائر التوراة على التأكيد باهتمام الله بالمساكين والأرامل واليتامى والمسحوقين. واهتمَّ الآلهة في مصر بالرأفة والعدالة تجاه الضعفاء والعزّل. وظهر أيضاً موضوع المعيار الصادق والكاذب. وفي بلاد الرافدين، بدا اوتو شمش إله العدالة فاهتم بالسلوك الاجتماعي. كما ظهر كالمحامي عن الضعفاء والذين لا سند لهم من جهة، وكالديّان للذين يسيئون معاملة هؤلاء