الفصل الثالث عشر
الحكمة تقدم أوراق اعتمادها
8: 1 – 36
يشكّل هذا الفصل مديحًا للحكمة (آ 12- 31). فبعد أن يقدّمها الكاتب ويتحدّث عنها في صيغة الغائب (آ 1- 3، 11)، يورد خطابها في صيغة المتكلّم (آ 4- 10). وتعود النهاية إلى آ 10 والنداء إلى الأبناء واعلان سعادة من يسمع أمثولة الحكمة (آ 32- 36). من هنا نقسم الفصل ثلاثة أقسام: أولاً: مقدمة للخطبة (آ 1- 11). ثانيًا: خطبة تقدم فيها الحكمة نفسها (آ 12- 31). ثالثًا: خاتمة ودعوة إلى الطاعة (آ 32- 36).
تقدّم الحكمة نفسها هنا كما في 1: 20- 30، وتتكلّم فتثبت تعليم معلّمي الحكمة. في
ف 1 كانت تهدّد. أما الآن فهي تقدّم مواعيدها وتنشد أصلها وعظمتها.
أ- المضمون
أوّلاً: المقدّمة (8: 1- 11)
تتضمّن هذه الآيات نداء للاصغاء واستعدادًا لقبول كلام الحكمة كما سيبرز من بها في آ 4- 10. إنها تتوجّه كعادتها إلى البشر، بل إلى كل البشر (آ 4 ب) ولاسيّما البسطاء والجهّال.
وتتميز هذه المقدّمة باظهار الحكمة وكأنها شخص حيّ. هي بنفسها تنادي. تبدأ أ 1 بشكل سؤال: أمّا هي الحكمة التي تنادي، أمّا هي الفطنة التي تطلق صوتها؟ نحن أمام أهمية الواقع وأصالته. ثم تشدد آ 6- 9 على أهميّة الخطبة اللاحقة وعلى صدقها. ولقد أراد الكاتب أن يلقي ضوءاً خاصاً على الحكمة. إنّها تظهر على الطرقات التي تقود إلى المدينة. ولا يمكن إلا أن نشاهد ما تقدّمه (آ 2- 3، رج 3:9). وهي تحدّد موقع الكشف عن ذاتها في الصدق والوضوح (آ 7- 10). ما ستقوله مهمّ جدًا (آ 6) ورفيع جدًا. فبما أنّها الحكمة، يحقّ لها أن تتكلّم.
وتجاه هذا الجديد تردّد آ 10 في فم الحكمة موضوعًا معروفًا هو قيمة التأديب، قيمة الحكمة (3: 14؛ 8: 19؛ 16: 16). وسيؤكّد الكاتب هذا الكلام في آ 11 التي تذكّرنا بما نقرأ في أي 28.
ثانيًا: خطبة الحكمة (8: 12- 31)
حين تقدّم الحكمة نفسها تضع أمامها وجهتين مختلفتين: وجهة حكمة عمليّة وهي فضيلة ملوكيّة ومفيدة لكل من يجدها (آ 12- 21). وجهة كائن يرتبط ارتباطاً خاصاً بالله الخالق (آ 22- 31). لا تترك الحكمة وظيفتها التي تقوم بإنارة العقول في بحثها عن سعادة الإنسان ونجاحه. وإن فُضّلت على الذهب والفضة والحجارة الكريمة التي هي علامة واضحة عن الغنى (آ 19، رج آ 10 ي)، فهذه الخيرات لا تؤمّن النجاح للإنسان من دون الحكمة.
* ما هي الحكمة
الحكمة هي أولاً معرفة ومهارة في العمل واستعدادات ترافق وتساكن الدهاء (آ 12؛ رج 1: 4). ولكن هذه الفضيلة تمارَس مع الاعتدال. من هنا رُفض كل اكتفاء وشرّ (آ 13 ب). زيدت آ 13 أ (مخافة الربّ بغض الشرّ) لتعطي صورة يهوية لمقطع لا يعود إلى الديانة، بينما المقطع الثاني يتشرّب بالديانة اليهوية.
وتقدم آ 14- 16 ما سمّي "الحكمة الملوكية". مثل هذه السمات سنجدها في الكتاب كلّه (16:28 ؛ 4:29، 14...)، وهي تدلّ على اهتمام الحكماء بالملك وبحاشيته (14: 28 ، 35 ؛ 16: 10- 15 ؛ 20: 28...). فالحكمة هي، في خدمة الملوك والأمراء والقضاة، فضيلةُ الاعتدال والانصاف في الحكم. وهي أيضاً عقل وفطنة. وبالإضافة إلى هذا، تذكرنا آ 14 بالصفات التي هي ثمار روح الربّ والتي ستكون صفات المسيح الداودي (أش 11: 2)، بل صفات الربّ نفسه (أي 13:12). وحين شبّهت الحكمةُ نفسها بالعقل، وحين نسبت إلى نفسها هذه الصفات التي تنبع من الله، أقامت في حياة حميمة مع الكائن (الله) دون أن تطمح إلى وحدة الطبيعة مع الله. وفي آ 15 ستقول الحكمة عن نفسها إنها ينبوع سلطة مثل روح يهوه (قض 10:3؛ 34:6).
وتوصل آ 17- 21 إلى كل محبّي الحكمة خير امتلاكها. معها نطمح إلى خيرات ثابتة وجوهريّة (آ 18- 21). ومعها نحيا في مناخ من الصدق والاستقامة والبرّ، الذي هو مثال الحكيم اليهوي (رج برنامج 1 :3؛ 9:2). فطلبُ الربّ وتبادلُ الحبّ بينه وبين الذين يجدونه، يؤلّفان الضمير الديني في تث 4: 29؛ 13:7 ؛ إر 13:29- 14 والذي نجده هنا في آ 17 (رج 34:3).
لا يتطلع القسم الثاني من الخطبة (آ 22- 31) إلى الحكمة في علاقتها مع البشر الذين توجّه مصيرهم، بل إلى الحكمة في علاقتها مع الله الذي تجد فيه أصلها.
تساءل صاحب سفر أيوب خلال نقاش بحث فيه عقلُ الحكيم عن ضوء فلم يجد، تساءل: أين يجد الحكمة (أي 28: 12؛ رج با 3: 15، 29- 30)؟ لقد ولج الإنسانُ أسرارَ الطبيعة، وعرف أن يحفر الجبال ويستخرج منها المعادن الثمينة والحجارة الكريمة. ولكن من أين تأتي الحكمة، هذا الخير الذي نرغب فيه أكثر ممّا نرغب في هذه الكنوز (أي 28: 20)؟ ورُممت الطريق: "الله يعرف دربها. هو يعرف أين تقيم " (أي 23:28 ؛ رج با 3: 32، 37)0 الحكمة هي مخافة الرب (أي 28:28).
أما في هذه الخطبة، فستقول لنا الحكمة أين تقيم هي لا تقيم "تحت "، في الأعماق، بل في العلى. فهي تقيم حيث يقيم الله، وهناك نقدر أن نتأمّلها. ولهذا جعلها الكاتب محلّ الله ليجيب عن سؤال البشر ولكن هذا لا يعني أن الحكمة مساوية لله، حاشا وكلا. فهي تظهر بجانبه، تعمل معه في العمل الذي يدل على حكمته، في خلق الكون وتنظيمه. ونحن نرى في آ 23- 31 نشيد خلق. إن آ 24-26 تذكّرنا بما يقول تك 1 :2-2: 5: تتحدّث عمّا لم يكن موجودًا في البدء، ثم تشدّد على عمل الله الخلاّق بحضور الحكمة (آ 27- 31). ونقابل هذا النشيد مع مز 104 الذي ينشد عمل الخالق لا حضوره الناشط.
وكان الكاتب قد أرانا في 19:3- 20 الرب وهو يؤسّس الأرض بحكمته وفطنته ومعرفته، وهي صفات تدل على مظاهر الحكمة في الإنسان. وهكذا تكون حكمة الإنسان مشاركة في حكمة الله. ولكن الحكمة تسمو في الله فتعمل العمل الأولي الذي يسمو على كل ما يقدر أن يصنعه البشر وإن امتلكت صفات تُنسب إلى روح الله، وتُعطى للمسيح الداودي ليشارك فيها (آ 14)، فهي في علاقة حميمة مع الله في كيانه وفي عمله. وستحدد آ 22- 31 أشكال هذه العلاقة، وتقدّم لنا أوراق اعتماد الحكمة.
* ما هو أصل الحكمة
تبدو أولاً قنية الله. سنتكلم فيما بعد عن كلمة "قنه " العبرية. اقتُنيتْ بالولادة (رج تك 4: 1؛ تث 6:32 ب، حيث تقرّب الابّوة من الخلق). والحكمة هي أيضاً متميّزة عن الله، ولكنها خارجة من حياته نفسها قبل سائر خلائقه. قالت اللاتينية الشعبية: امتلكني الله "، فأبعدت الصعوبة: إن الحكمة هي مع الله منذ الأزل. أما الكاتب العبري فلم يؤكد أن الحكمة هي كائن إلهي، لأن آ 23- 25 تعود إلى القول إنّها "كوّنت " و "وُلدت ". وإذا كان سي 24: 9 قد قال في نصّ مواز لنصنّا: خلقني، فهذا لا يؤثّر على ترجمتنا، لأنّنا لا نعرف أية كلمة عبرية ترجم ابن سيراخ. وقرأت الشعبية اللاتينية سي 24: 5: إني خرجت من فم العلي بكرًا قبل كل خليقة. هذه الآية غير موجودة في اليونانية، وهي تدل على خروج الحكمة من فم العلي كما تخرج الكلمة.
وهذا "التكوين " (مثل تكوين تمثال أو تنصيب ابن الملك رج مز 6:2) وهذه "الولادة" (آ 22- 24) لا يرتبطان ارتباط هويّة بخلق الكون. أولاً، تنبثق الحكمة من الله بشكل حيّ (الفعل يعني: وضع وأنجب بصعوبة). ثانيًا: إنّها قبل العالم: "منذ الأزل " (معولام في آ 23، مع كلّ ما تتضمّن هذه الكلمة من قدم وغموض)، "من قديم " (مأز في آ 22، التي تقابل الزمن القديم بالزمن الحالي، رج 2 صم 15: 34 والتي توازي "معولام " في مز 93: 2). وإذا قابلنا الحكمة مع سائر خلائق الربّ، كانت هي "أولى خلائقه " (قدم في آ 22)، "قبل أزمنة الأرض الأولى" (آ 23). وستبرز هذه الأسبقيّة بتعداد أعظم أعمال الله التي جاءت بعد تكوين الحكمة: الغمر، ينابيع المياه العميقة، الجبال والتلال، الأرض والحقول ومجمل عناصر (تراب) الكمون (آ 24- 26). نستطيع أن نقرّب هذا المقطع مما يقال في المسيح "بكركل خليقة" (كو 1: 15- 17). وفي كو 1:18- 20 وغل 3:4، 9 يسمو يسوع على عناصر الكون.
وهكذا تبدو الحكمة "مبدأ سبل " الربّ (آ 22)، أي مبدأ خليقته كما يقول الترجوم والسريانية البسيطة (الربّ برأني وخلقني في رأس خليقته وقبل أعماله كلّها).
* أعمال الحكمة
ويجعل الكاتب الحكمة توضح كيف كانت في مبدأ الخلق (آ 27- 31). هو حضور مع العمل الخلاّق (آ 27- 29). والأعمال المذكورة هنا ترتبط بتنظيم الكون المخلوق. ويعود النصّ إلى الغمر والينابيع والسماوات التي هي خلائق الله، ويلفت انتباهنا إلى النظام المفروض عليها والذي يثبّها في الوجود. وفوق هذا تقفز الحكمة مثل "مهندس ". لسنا هنا أمام نشاط خلاّق مكوّن من جهاد وتعب كما في أخبار الخلق عند سائر الساميّين. فالحكمة هي في نعيم قرب الله تلعب مع خليقته وتجد مسرّتها وسط بني البشر (سي 6:24-8 ؛ با 3: 37- 38).
ثالثًا: الخاتمة (8: 32- 36)
وتنتهي الخطبة بخاتمة أخلاقيّة (آ 32- 35). كان باستطاعتنا أن نربط هذا المقطع مع
آ 21. فالنداء إلى الاصغاء (آ 32 أ) وإعلان سعادة الإنسان الذي يسمع (آ 32 ب) لا يتعلّقان باعتبارات عن رباط الحكمة بالله، بل يجدان مكانه بعد المقطع الذي تظهر فيه الخيرات التي تُعطى للتلميذ المطيع.
إن آ 35- 36 تكمِّلان آ 18- 21. فالخيرات الموعود بها هنا هي خيرات روحيّة: الحياة ورضى الربّ يتعارضان مع الموت الذي ينتظر من يسيء إلى الحكمة (23:3؛ 4: 13، 22). لا نظنّ أن هاتين الآيتين (آ 35- 36) تفترضان أن الحكمة تشارك الله في كيانه وحياته، بحيث إنها إذا أغيظت عاقبت بالموت، وإذا أطيعت أعطت حياة النفس ورضى الربّ. فنحن لا نملك بعدُ الضوء الكافي على حياة النفس كمشاركة في حياة الله لنعبّر عن هذه الفكرة. ثم إن الحكمة تبدو في نصوص أخرى وكأنّها معطية الحياة (17:10 ؛ 13: 14؛ 16: 22 ي)، كما أن العمل بتنبيهاتها يبدو كتتمّة لعمل يرضي الله (2: 2- 5؛ 14: 2)، لأنّها إحدى مواهبه (2: 6). إنّ هذا النصّ يدلّ بالحري على أن مخافة الربّ والحكمة أمر واحد (7:1 ؛ 9: 10) وكلتاهما تقود ان إلى الحياة (7:3 ي؛ 11:9).
ب- تفسير الآيات
(8: 1- 3) ظروف الخطبة: كان المعلّم يتحدّث بهدوء ويقدّم اعتباراته في تحريضات نظريّة وأمثلة ملموسة، وها هي الحكمة تبدو كشخص حيّ وتقف أمام الناس. هي تنادي، تصرخ، ترفع صوتها (1: 20). أين تقف؟ على القمم، على الدروب، على مفارق الطرقات، عند مدخل المدينة، في النوافذ. إنها نشيطة، وهي تحاول أن تصل حتى إلى المسافرين (أش 40: 9؛ 41: 1- 9).
تقول السبعينية والسريانية البسيطة في آ 1: أنت تعلن الحكمة لتجيبك الفطنة. وفي آ 3 أ: تجلس قرب ابواب العظماء فيمتدّ صوتها عند المداخل.
(آ 4- 6) إلى من تتوجّه؟ نداؤها شامل، وهي تتوجّه إلى جميع البشر، يهودًا كانوا أم وثنيين، بسطاء أم جهالاً. تُوجّه خطبتها إلى الجميع وان لم تنتظر منهم توبة (4:1 ؛ 8: 32).
(آ 7- 11) صدق الحكمة. تتجمّع الكلمات: الصدق والكذب، الصدق والاعوجاج. وفي آ 9 تعلن استقامة حكمها. مثل هذا النداء إلى الضمير المستقيم قليلُ الوجود في العهد القديم (حز 18: 25) وقريب مما نقرأ في العهد الجديد (يو 3: 21 ؛ 7: 17). عرف العبرانيون بوجود الضمير في تمييز الخير والشرّ، ولكنهم لم يكتشفوا الكلمة فقالوا: دينونة القلب (سي 14: 1؛ 37: 13). يقابل الضميرُ الحكمة التي تعطينا الفطنة لنفهم الآراء ونقدّمها في الوقت عينه (1: 1- 6؛ 14: 6) إلى التلاميذ الذين يسمعوننا.
(آ 12- 21) طبيعة الحكمة. وإذ أرادت الحكمة أن تبرز قيمة مواهبها، عدّدت صفاتها التي تملكها بطبيعتها والتي تشكّل جوهرها، وتحدّثت عما تُحقّقه في العالم.
هي أولاً صفات يستطيع البشر أن يمتلكوها بالتربية والدرس (1: 1- 7)0 الفطنة، التواضع، المعرفة، مخافة الله، رجاحة العقل، حسن التدبير. ثم النتائج التي تصل إلى الملوك والأمراء في تدبير شؤون المملكة: المحبّة، الاستقامة الادبيّة. وسر عظمة الحكمة الاخير هو أصلها الإلهي ومشاركتها في عمل الخلق.
نقرأ في 31 حسب السبعينية والسريانية: مخافة الربّ تبغض الشرّ (أو الأشرار) والكبرياء والزهو وطريق السوء. وأنا أبغض طرق الأشرار المعوجة (أو الفم الملتوي). في آ 14: لي المشورة وحسن الرأي أو التوفيق أو الاطمئنان (السبعينية) أو الاستقامة (اللاتينية) أو التعليم (السريانية) أو النباهة والعقل والفطنة.
في آ 19 تقرأ السبعينية: الذهب والحجارة الكريمة. وفي 21 تزيد: لو أعلنتُ لكم ما يحدث كل يوم، لأستطعتُ أن اذكّركم بما يأتي من الأزل.
(آ 22) الربّ خلقني. في العبرية: "قنه ". رج في العربيّة قنا الله الشيء: خلقه. والقنا هو الخلق. وهناك قنى التي تعني اكتسب ولزم. في السريانية البسيطة: برا أي برأ وصنع وخلق. وفي اللاتينية مع أكيلا وسيماك وتيودوسيون: اقتنى. نلاحظ التلاعب على الألفاظ في تك 4: 1 بين "قين " (منها قايين) و "قنة" أي اكتسب بالانجاب. إذًا نحن أمام ولادة. في اليونانية: "كتيزو" أي خلق و صنع. استعمل إيرونيموس مترجم اللاتينية اقتنى ليحارب بدعة اريوس الذي جعل من الكلمة (هناك تماثل بين الحكمة والكلمة) مخلوقًا. نعود في كلمة "اقتنى" إلى 4: 5 التي تعني دفع ثمنا غاليا. ونعود في كلمة "خلق " إلى سي 1: 4، 9؛ 8:24- 9 (النصّ اليوناني دون العبري) الذي يفسّر سفر الأمثال. وهناك من يقول "ولدني " و "أنجبني " كما في آ 24.
"أول طرقه ". تدل كلمة "ريشيت " على الأفضل، على أول ثمرة، على أول ولد (تك 3:49؛ تث 17:21؛ مز 78: 51). والطريق تعني السلوك والتصرّف. وهناك نصّ في رأس شمرا (أوغاريت) قريب من نصّنا وقد ترجم: خلقني في بدء سلطانه. ولكن اختلفت الترجمات: بكرُ عمله أو بكر نشاطه. أما نحن فقلنا: أول ما خلق.
(آ 23) من الازل "صنعني " أو بالأحرى "كرّسني " ومسحني بالزيت. وهكذا تبدو الحكمة كشخص ملوكيّ. يعني الفعل حرفيًا: صبّ، وبالتالي صبّ الزيت من أجل تأسيس مدينة أو قصر وهناك من ترجم "نسجني " و "صوّرني " أو نصَّبني ملكًا وأوكل إليّ مهمّة ملوكيّة. من قبل أن كانت الأرض أو قبل أن يصنعَ الأرض (السبعينية).
(آ 24- 26) ويتوسّع الكاتب في الفكرة ذاتها بطريقة سلبية. في آ 24: ولدتْ (قلنا: حللتُ، راجعين إلى العربية) الحكمة قديمة، ولكن لها بداية. وهي بهذا تتميّز عن الله الذي هو قبلها وقد ولدها. ولكنها هي قبل كل خليقة. هنا يطرح السؤال حول الكيان السريّ للحكمة بعد ان سُمّي المسيح حكمة الله (1 كور 1: 30). فبين أقوال مار بولس وسفر الأمثال، نجد تساؤلات أي 28: 20- 27 وعرض سي 24: 1ي وبا 3: 038 الغمر هو ذلك السائل الذي تستند إليه دائرة الأرض وقبّة السماء (تك 1 ؛ مز 104، أي 38). في آ 25، قبل أن تخلق الجبال أو تنطبع (بالرجوع إلى العربية) أو تنغرس. رج أي 28: 9، الذي يتكلّم عن أصول الجبال. في آ 26 إذ لم يكن قد صنع الأرض وما هو خارج الأرض. عناصر الكون، منها يتألّف الكون كما قال الاقدمون. الكلمة العبرية (والأكادية) تعني "غبار"، تذكّرنا عبارة "عناصر الكون " بما قيل في غل 3:4 التي تقابل المسيح السامي. ولكن الرسول يستعمل العبارة في معنى آخر (أي القوى العاملة في الكون والتي تستعبد الإنسان).
(آ 27- 29) ويتوسّع الكاتب بصورة إيجابيّة في خلق الكون كما نقرأ في بداية سفر التكوين والمزمور 104، وكما نجد في الكوسموغونيّات (نظريات نشأة الكون) الشرقية. في آ 27: حوّق (أو رسم دائرة) حول وجه الغمر. جعل الله حدًا للمياه فلا تتعدّاه وتغمر الأرض. تستعيد حك 9: 9 فكرة حضور الحكمة حين تمّ العمل الخلاّق. في آ 28 يتكلّم عن المياه الفوقيّة والمياه التحتيّة (تك 1 :7). ولقد فهمت الترجمات آ 28 ب: وحين قويت ينابيع الغمر. لقد وضع الله حدًا للبحر (آ 29) وجعل العناصر في مكانها لكي ينتظم العالم بعد الفوضى الأولى (تك 1 :6، 9؛ مز 9:104).
(آ 30- 31) والحكمة التي هي باكوره عمل خلق العالم العظيم وتنظيمه، ستبقى ناشطة. ستكون العقل الذي رأس كل شيء، الذي ألهم هذا الانسجام العجيب.
آ 30: كنت حياله بأمان (أمون). هذا ما قلنا عائدين إلى العربية. فمعنى الكلمة العبرية غامض. قالوا: مهندس. فالحكمة تكون ذاك المهندس (أو المعلّم الفنان) الذي رسم التصميم وأوصى بتنظيم البناء. فهي قد عاونت الله بنشاط في عمل الخلق. وترجم آخرون: ولد محبوب يتلهّى أمام أبيه. وهكذا لا تشارك الحكمة في العمل الخلاّق، بل تبتهج به. مثل هذا الاقتراح يبدو منطقيًا مع النصّ القريب، ولكنه يتعارض مع الدور المحفوظ للحكمة في عمل الخلق حسب الفكر البيبلي اللاحق. فتفسير هذا المقطع لا يقدر أن يضع جانبًا يو 1: 1- 3 والمكانة التي يفردها هذا النصّ للكلمة في العمل الخلاّق. إن معنى "امون " كفنّان ومهندس وصانع "قليل الحصول في العبرية" (إر 52: 15، رج يش 7: 2)، ولكنه متواتر في الارامية. نقرا في اليونانية، ارنوزوسا أو الذي يضبط مجموعة، أو الذي يوافق. وفي السريانية. فرح بي كل يوم، ففرحت أمامه كل آن مبتهجا مع بني البشر نجد فكرة مماثلة في با 38:3- 4: 1 وسي 24: 11 (وجعل لي مقرا في المدينة المحبوبة، في أورشليم) حيث يكون مقام الحكمة في أرض إسرائيل (هذا يدلّ على انغلاق، لا على انفتاح وشمولية). وفي حك 1 :6 تشبَّه الحكمة بدوام حضور الروح بين البشر (مثل النصّ الذي ندرس). فالحكمة هي رفيقة الله الناشطة والظهور المحبّ والبهيج لعنايته من أجل بني البشر نستطيع القول إن هذه النصوص تعبّر عن رؤيتين للعلاقة التي تحقّقها الحكمة بين الله والبشر: إنها الشريعة (با، سي) إنها عنصر ناشط في عمل الله (أم 8، حك 7). أما آ 30- 31 فتوصلاننا إلى يو 1: 14.
(آ 32- 36) الخاتمة. تستعيد الخاتمة عبارات التحريض التي نجدها في كل الكتب الحكمية. تُعلن غبطة الذين امتلكوا الحكمة. تتحدّث آ 34 عن السهر، وقد رأى بعضهم في الكلمة، تلميحًا إلى ما ورد في تث 6: 9، 11: 20 عن كتابة فرائض الشريعة على عتبة الباب وقائميته (رج 1: 9؛ 3: 3، 22؛ 4: 9؛ 6: 21). وإن وعد الحياة (آ 35) المشبّه بالحكمة يتضمّن أيضاً رضى الرب. نحن إذًا على نقيض مع الموت في صورة الجرح أو الحب الجاهل.
ج- ملحق: هل الحكمة أقنوم أو شخص
تظهر الحكمة في ف- 1- 9 مرارًا وفي وجوه متعدّدة. إنها صفة، إنها فضيلة خيّرة وثمينة (8: 11) ننتظر منها أن تحمينا من الانجراف وراء الخراب: الزانية (5: 1- 3؛ 7: 4- 5)، رفقة السوء (2: 10- 19؛ 4: 13- 14). وبصورة إيجابيّة، إنها تقدّم لنا كل خير (25:1 ؛ 8:4، 10).
وهي تقدّم نفسها في 1: 20-33 ؛ 4:8- 10، 12- 21؛ 9: 1- 6. إنها سيّدة كبيرة تدبر بيتها الكائن في أعلى المدينة وهو بيت فخم (9: 1). تدعو إلى مائدتها جميع المارين (9: 2)، وتقدّم الحياة للعابرين في شوارع المدينة (1: 33؛ 8: 35؛ 9: 6).
كل هذا يظهر في شكل أدبي ولاسيّما في 9: 1- 6. ويمكن أن يكون هدفه اجتذاب التلميذ ليفضّل الحكمة على أي كنز آخر (8: 10 ي). وهذا التشبيه يجعل الحكمة قوّة خارجة عن مالكها (1: 1- 5؛ 2:4)0 الحكمة مشخَّصة بطريقة شعرية وهذا ما يعطي نداءها جاذبيّة أقوى.
وإن ف 8 (بعد 1: 20- 33) يطرح سؤالاً آخر: تعتبر الحكمة من العالم الإلهي. والكاتب يدعو القارئ إلى أن يتّخذها رفيقة حياته، لهذا فهو يشدّد على قيمتها الشخصيّة. إنها قديمة جدًا وقبل الخلائق، وقد كوّنت قبل التلال والغمر (8: 22- 26). وهي فوق هذا رفيقة الله في فعله الخلاّق (27:8- 31). فالسؤال هو إذن: كيف يتصوّرها ف 8 بالنسبة إلى الله؟ إن الإنسان يستطيع أن يمتلكها بالمشاركة. أما علاقتها بالله؟ نحن نجد الجواب في 8: 22: الربّ اقتناني. ترجمت السبعينية: خلقني كما في سي 24: 9. وقد قلنا إن هذه الكلمة تعني أيضاً الولادة. وهكذا تبدو الحكمة في علاقة وجود وثيقة مع الرب، إنها شبه باكورة قوّته الخلاّقة (رج تث 17:21 ؛ تك 3:49، البكر؛ رؤ 3: 14).
وهناك إيضاح آخر في نظرتنا إلى الحكمة: كانت هناك حين كوّن اللهُ العالم (8: 27- 29) وكانت كقوة نشيطة، كسيّد عمل. ولقد فسر مدراش براشيت ربا "امون " المهندس، لا ذلك الذي يعمل بيديه بل الذي ينظّم التصاميم. والكلمة تقابل "سيا" المصرية أو الفكرة الخلاّقة التي تنفّذها الكلمة. وقابلها علماء آخرون مع "معط " الذي هو نظام العالم المثالي.
وتعمل هذه الحكمة الناشطة بارتياح، وكأنّها تلعب. ولهذا اعتبر بعض الشرّاح أن "امون " تعني الولد والطفل والتلميذ (آ 30 ج). ويرى غيرهم في هذه اللفظة أشكال الحكمة الخلاّقة في عالم الفن والقوّة والفرح. قد تكون الحكمة فنانًا يرقص رقصة عباديّة أمام الله.
وأخيرًا نجد الحكمة في آ 31 على الأرض وهي تجد نعيمها بين أبناء البشر هذا ما يقوله بشكل آخر سي 24 فيجعل الحكمة (أي: الشريعة) قرب الله، ويُسكنها في أرض إسرائيل (رج با 3: 38).
أقامت الحكمة وسط البشر، بل في الانسان، فهل اعتُبرت كائنًا إلهيًا يشارك الانسان معها في الحضور الإلهي الشخصي؟ إليك كيف تبدو المسيرة بطريقة منطقيّة: خلق الله العالم بحكمة (3: 19- 20). هذه الحكمة هي إذن قبل الخلق (8: 22). لقد وجُدت الحكمة مع الله (8:.3). وهكذا تبرز شخصيّتها. فالحكمة كشخص تقيم وسط البشر فيرغبون فيها ويتوقون إلى امتلاكها لتبعدهم عن الشرّ والجحيم ولتحمل إليهم كل خير وتقودهم إلى الحياة (8: 19- 20، 35- 36).
هل هذه الحكمة هي الله؟ هل هي الله قبل الخلق، هل هي الله وسط البشر؟ لا شيء في نصوصها يسمح لنا أن نقول إن حكماء العهد القديم قدّموا جوابًا واضحًا عن هذا السؤال أو أعطوا تعبيرًا ينير دربنا. سيعبّر ابن سيراخ عن إعجابه أمام الحكمة فيجعلها كالتوراة التي تنزل من عند الله وتقيم وسط إسرائيل (سي 24). أما أم 8 فيجعل الحكمة في الله نفسه.
أن يكون "معط " (نظام العالم، النظام الإلهي والملكي) و "هو" و "سيا" (مبدأان خلاّقان في بعض الكووغونيات في ممفيس) قد اتخذوا شخصية إلهية (تصوّرات انتروبومورفية مع اشارات إلهية، اسم يرافقه تحديد إلهي)، فهذا لا يتيح لنا أن نؤكّد أن إسرائيل سار في الخطّ عينه ووصل إلى الهدف ذاته في تفكيره عن الحكمة. بالاضافة إلى هذا، اعتبرت هذه الكائنات المؤلَّهة (في مصر) من الدرجة الثانية فاتّحدت بآلهة آخرين وارتبطت بالآلهة الكبار والأولين. ومع هذا نجد في ف 8 تفكيرًا متقدّمًا عن الطبيعة الحقيقيّة لحكمة تكشف عن نفسها في عمل الله، وتقدّمُ نفسها للانسان. ويتابع ابن سيراخ (ف 24) وسفر الحكمة (ف 6- 8 ولاسيّما 7: 25- 27) هذه الانطلاقة مع اتجاهات مختلفة فيهيّئان الطريق لقبول روح الله المفاض حكمة على العالم، واللوغوس كلمة الله الخلاق.
وتعود بنا 32:8- 35 إلى الحكمة كقاعدة سلوك ومعلّمة حياة تستطيع أن تمنحنا رضى الربّ. وهذا الرضى يرافق حضور الحكمة. وهذا يدعونا إلى أن نتصوّر الحكمة من زاوية أخرى، من زاوية ارتباطها بالله. ومن خلال 1: 20- 33 تبيّن لنا أن الحكمة تتكلّم لغة هي لغة الله في الأسفار النبويّة.
فإذا تكلّمنا عن أقنوم وشخص، فنحن لن نفهم الحكمة على مثال الأقانيم الثلاثة. إن العهد القديم يفتح الطريق لوحي لاحق سيُفهم على ضوء كل الوحي، ولكنه لا يسبّق على وحي المسيح.
ووجَّه تفكيرُ الحكيم عقلَ المؤمن نحو البحث عن مهمّة الحكمة في العالم الذي خلقه الله يعونها. نحن أمام شكل آخر من أشكال مسيحانية وهو أكثر عقلانية وأكثر شمولاً مما نجد عند الأنبياء.
فالحكمة، كما صوّرت هنا، تنبثق من الله وتجد أصلها فيه. والتقريب مع مز 6:2 يدلّنا على أنها هنا لتُرسل إلى العالم على مثال الممسوح الملكي. وسيوضح ابن سيراخ وباروك هذه المهمّة ويحصرانها في إرسال الشريعة