الفصل السادس: روح الربّ عند يوئيل وزكريا

الفصل السادس
روح الربّ عند يوئيل وزكريا

1- روح الرب عند يوئيل (يوء 3: 1- 5)
أ- لمحة تاريخية
قلّ ما نعرف عن يوئيل شخصيًا أكثر من كونه ابن فتوئيل (1: 1) ومن أنّه على الأرجح عاش في أورشليم. أحبّها كثيراً وعرفها بشكل مفصّل من ناحية تاريخها وعباداتها. لم يكن يوئيل كاهنًا (1: 13- 14؛ 2: 17). وقد تنبّأ في زمن لم يكن شعب يهوذا قد سقط بعد ذلك في الفساد المفرط. ومن شأن هذا، أن يُرجّح وضعه، بين زمنين مختلفين إمّا في أوائل حكم يوآش أو بين حكمي يوآش وعزيّا (2 مل 11: 17- 18؛ 12: 2- 16)؛ وربما كان معاصرًا لهوشع وعاموس. وإمّا في القرن الرابع كون جماعة الله تعيش منغلقة على ذاتها داخل أسوارها (2: 7- 9) بقيادة شيوخها وكهنتها (1: 2، 13).
أمّا بالنسبة للظروف التي دفعته للكتابة، فهي تتمحور حول حدث تعرّي الأرض بجائحة جراد، فصار الطعام ضئيلاً وتوقفت عن بيت الله تقدمات الذبائح والسكائب (1: 13). ولكن بالرغم من أهميّة الموضوع بالنسبة للنبي يوئيل، فإننا نراه يلمِّح ضمنًا إلى غزوة ما، يشنّها أعداء سيخرّبون الأرض تخريبًا رهيبًا على شاكلة حملة الجراد. ويدعو بذلك إلى فعل توبة (2: 15- 17) وإلى ممارسة الأعمال الصالحة من قبل الرؤساء. ويتنبّأ بعدها بزوال الأعداء إلى أن يصف انسكاب الروح الإلهي الذي سيعقب ذلك (3: 1- 5).
ومن جراء هذا الوصف لانسكاب الروح كما سمّاه النبي يوئيل (3: 1- 5) ارتأينا أهمية الغوص والتعمّق ولو بشكل سريع في هذه الرؤية.

ب- تقسيم النص
يقسم النص ثلاثة أقسام:
الأول: (آ 1- 2) حلول الروح على كل البشر من دون استثناء.
الثاني: (آ 3- 4) عجائب تطال السماء والأرض فقط، لا الانسان.
الثالث: (آ 5) النجاة لكل من يدعو باسم الربّ فقط.
يتوازى القسم الأول مع الثالث لسبب واضح ألا وهو علاقة الروح بكل بشر في آ 1- 2 وعلاقة الربّ بسكان صهيون وأورشليم البشريين (آ 5).
إذًا يتمحور النص حول آ 3- 4 حيث نلاحظ علاقة الربّ بالخلق الجامد.
وتتوزّع عناصر النص على الشكل التالي:
أ- (آ 1- 2)
ب- (آ 3- 4)
أ أ- (آ 5)

ج- لاهوت النص ومعناه
أولاً: يبدأ الخلاص بسكب الروح (آ 1- 2، 5)
يبدأ النص بإعلان الربّ عن تدبيره (آ 1أ) فيستعمل النبي فعل "سكب" وهو الفعل نفسه الذي استعمله أشعيا في 32: 15؛ 44: 3 و59: 21؛ وحزقيال 39: 29، كي يتكلّم عن روح الربّ: "إني أسكب روحي". سيسكب الربّ روحه على كل "بشر" من دون استثناء. ولكنه يعود فيقول في آ 5أ إنّ النجاة ستكون فقط للذين "يدعون باسم الربّ". إذًا فالربّ يريد تخليص كل شعبه، ولكن البعض منهم يرفضون التجاوب معه وطاعته فينبذون اسمه ويطالهم الهلاك.
عندما يحلّ الروح، يطبع البشر بعلامات ثلاث:
* الأولى: النبوءة: "فيتنبّأ بنوكم وبناتكم" (آ 1ب).
إنّ النبوءة هي عمل روح الربّ كما برز بشكل واضح مع النبي حزقيال حين انتقل إليه الروح عندما سمع كلام الله: "فدخل فيّ الروح ثم تكلّم معي"، فأنهضه وأعطاه القوّة اللازمة كي يسمع كلمة الربّ التي سينقلها بدوره إلى الشعب، إلى بني اسرائيل (2: 2- 3).
وكذلك عندما نزل الربّ في الغمام وخاطب موسى، وأخذ من الروح الذي عليه وأحلّه على الرجال السبعين، أي الشيوخ، فلما استقرّ الروح عليهم، تنبأوا إلاّ أنّهم لم يستمرّوا. ولكن بقي في المخيّم اثنان استقرّ الروح عليهما فتنبّأا في المخيّم. وبعد ذلك أعلن موسى عن أمنيته قائلاً: "ليت كلّ شعب الربّ أنبياء بإحلال الربّ روحه عليهم" (عد 11: 24- 29). إذًا فالرغبة الأساسيّة وقمّة حلول خلاص الربّ على شعبه هما علامة النبوءة التي تأتي مع سكب الروح على الشعب من دون استثناء. والأشخاص الذين يستقرّ الروح عليهم هم الذين يدعوهم الربّ من بين الباقين أي الناجين من شعب صهيون (آ 5ج). فالدعوة تبدأ إذًا بثبات الروح على الانسان واستقراره.
* الثانية: الأحلام: "ويحلم شيوخكم أحلامًا" (آ 1ج).
إنّ النبي الذي يتكلّم عنه يوئيل يخاطبه الربّ في الحلم فقط كما قال الربّ لهارون ومريم في عد 12: 5- 6: "إنّ يكن فيكم نبي، أنا الربّ في حلم أخاطبه"، وليس في اليقظة كما هي حالة المختار وعبد الربّ موسى، لأنّ موسى كان يعاين مجد الربّ مباشرة وليس بالألغاز (آ 8). والحلم عادة لا يتكلّم فيه الانسان الذي يعيشه بل يسمع، وإن تكلّم فكلامه يكون من صنع الربّ، وإن وجّه أسئلة فيكون قد سألها قبل النوم أي في اليقظة. لذلك فالحلم إما أن يكون جوابًا على سؤال وإما أن يكون توجيهًا يتدخّل فيه روح الربّ كي يعطي الانسان علمًا بما عليه أن يفعل، كما هي الحال في تك 28: 12؛ 31: 10؛ 40: 5.
أما مع إرميا فالحلم كان يرافق عادة الأنبياء: "النبي الذي عنده حكم فليقصّه، والذي عنده كلمتي فليتكلّم بها بالحقّ" (23: 28). ويضيف أيضًا: "هاءنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة يقول الربّ" (23: 32).
* الثالثة: الرؤى: "ويرى شبانكم رؤىً".
والرؤية هي عمل الروح بالنبي أيضًا، ويظهر ذلك واضحًا في أقواد حزقيال: "ورفعني الروح بين الأرض والسماء وأتى بي إلى أورشليم في رؤىً إلهية" (8: 3؛ 3: 1- 2).
والعلامات الثلاثة تتضمّن معًا عملاً مباشرًا من الربّ بواسطة الروح. أما الشيء الملفت للنظر، فهو عدم التمييز في عمل الروح داخل الشعب لأنّه يطال الأمة والعبد، والحرّ والحرّة معًا.
أما الروح بعمله هذا فسيدخل بشكل واقعي على الشعب الساكن في جبل صهيون وفي أورشليم أي مكان قدسه ومسكنه. لذلك حيث يكون الروح يكون الربّ. والروح بذلك يدخل في تاريخ شعب الله كي ينجيه من أزمة المسّ به. والذي سينجو هو الذي يدعو باسم الربّ أي المؤمن. ومن بين الناجين سيكون هناك مدعوون أي أشخاص توهب لهم كلمة الله كي يتمّموا رسالة معيّنة بين الشعب ألا وهي إتمام تدبير الله الخلاصي في الأرض.
ثانيًا: الروح يظهر عمل الربّ بالعجائب والآيات (آ 3- 4)
يتدخّل الروح في حياة الشعب معلنًا عن حضور الربّ معه في الآيات والأعاجيب. فالسماء والأرض من صنع الربّ. لذلك يعلن الربّ من خلالهما أنّه الخالق وليس هناك من مخلوق بين السماء والأرض لا ينتمي إليه.
لذلك فهو الخالق الأوحد، الذي يستطيع التحكّم بعناصر الطبيعة كما يريد. فالنار وأعمدة الدخان تذكّران بالخروج من مصر أي بخلاص الشعب اليهودي من تحت نير العبودية. أما الظلمة، والقمر الذي ينقلب دمًا، فيذكّران بالشعب المصري الذي وقف في وجه تدبير الله الخلاصي عندما أراد إخراج شعبه من مصر. فيوم الربّ هو اليوم الذي سيتدخّل فيه الربّ كي يزيل الظلم عن الأرض ويخرج المسكين من تحت نير الظالم. والنجاة تطال فقط كل من يدعو باسم الربّ.

ج- الخاتمة
لماذا لا يسعنا ربط عمل الروح الذي يتنبّأ في يوئيل بالروح الذي يتنبّأ في حزقيال في 37: 27 حيث قال: "وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم وأجعل روحي في أحشائكم وأجعلكم تسيرون على فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها".
فدخول الروح في الرؤى والأحلام وعالم النبوءة لدى الانسان يخلق لهذا الأخير معلِّمًا واحدًا ألا وهو الربّ. فالذي يتجاوب مع تعاليم الربّ المباشرة له يبدأ بالاعتراف باسم الربّ فيستقرّ الروح عليه كي يصير نبيًا حقيقيًا منتميًا إلى شعب صهيون الساكن حول مسكن الربّ وقدسه. وبما أنّ السبي والجلاء تمّا بسبب إخفاق الشعب في تحقيق شريعة الربّ، لذلك فالنجاة والخلاص يبدأان بحفظ الشرائع التي عجز الانسان عن حفظها لوحده. لذلك فالروح هو الذي يدخل الانسان ويعلّمه فرائض الربّ ويعينه على العمل بها فينجو من السبي ويخلص.

2- روح الربّ عند النبي حجّاي وزكريا
بعد العودة من الجلاء سنة 537، وبعد محاولة لإعادة بناء الهيكل، والمضايقات الصادرة عن أهل السامرة لمنع ذلك، وأثناء النزاعات العنيفة الداخلية لإمبراطورية فارس خلال فترة حكم الملك داريوس (522- 486)، تأثّرت أورشليم بملكها زَرُبابل وكاهنها الأعظم يشوع بن يوصاداق (حج 2: 1- 2) وتوقّفت أعمال الترميم وأصيبت نفسية العائدين من السبي بالإحباط.
تدخّل أثناءها النبي حجّاي واعتمد تذكير الشعب بتاريخه الحافل بتدخّلات الربّ في حياته من أجل انقاذه وخاصة مساعدته في الخروج من مصر (2: 4). ويعتبر النبي حجّاي أنّ الله في مصر أعطى شعبه وعدًا ينبغي على هذا الأخير أن يتذكّره كي يستطيع الحفاظ على أمله ورجائه وإيمانه ويكمّل مسيرته (2: 5): "على حسب الكلمة التي عهدتكم بها عند خروجكم من مصر...".
ويرتبط الوعد عادة بشيئين، الذكرى والحضور. فعندما تتذكّر الحدث الخلاصي الإلهي ووعد الله وكلمته، تعي حضور الربّ وتبدأ صلة وصل بينك وبينه بشكل فعلي وليس بشكل وهمي، فيتحرّك الايمان ويتدخّل الربّ في تاريخك. هذا الحدث الخلاصي وهذا الوعد وهذه الكلمة تُصبح سرًا يتضمّن قانونًا إيمانيًا لا يستطيع اليهودي أن يزدريه ويهمِّشه لأنّه بقانون الايمان هذا يحرّك روح الربّ الذي يقيم داخل الشعب (2: 5) ويحقّق فعلاً هذا الحضور الالهي الذي لا يترك الشعب بل يساعده على الاستمرار والمضي قدمًا إلى الأمام دون تراجع.
إذًا فالروح حاضر ومقيم بين شعب الله ولكنه لا يتحرّك إلاّ إذا تلا الشعب قانون الايمان واعترف بصنائع الربّ وأبدى ثقة تامة بمقدرته على اتمام ما كان قد بدأه معهم وسيتمّمه. والحالة نفسها تتكرّر مع النبي زكريا الذي يردّد الشيء نفسه في أماكن اثنين من كتابه ويدعو إلى الاتّكال على روح الربّ من أجل اتمام ما كان قد بدأه زربابل في بناء الهيكل. فالقدرة والقوّة البشريّة لن تنفعا شيئًا ما لم يتدخّل روح الربّ لإتمام ذلك العمل (زك 4: 6) "لا بالقدرة ولا بالقوّة، بل بروحي، قال ربّ القوات".
وأثناء رؤيته (6: 1- 8) يقول: "انظر إنّ التي خرجت إلى أرض الشمال قد أراحت روحي في أرض الشمال" ويشير إلى أنّ عودة المسبيين ستتحقّق. وبما أنّ بناء الهيكل كان الهمّ الأكبر للشعب اليهودي لأنّه يرى فيه حلول الربّ وسكناه بين شعبه، فإنّ عبارة "قد أراحت روحي" تعني أنّ الهيكل سيتمّ بناؤه وروح الرب سيكون هناك.
أما المرّة الثالثة التي يذكر فيها زكريا الروح فإنّه يشير إلى الانبياء الذين تنبّأوا سابقًا بواسطة روح ربّ القوات (7: 12). فالروح إذًا هو الذي ينقل كلمة الله إلى النبي بهدف نقلها إلى الشعب وإنارته وتخليصه وخلق روح الأمل فيه كي يهديه إلى سبله وشرائعه وينقذه من الإحباط ويساعده على المضي في مسيرته كي يستطيع تحقيق عيش فعلي حول ربّ القوات.

3- الخاتمة
يعمل الرب في شعبه من خلال روحه الذي يتدخّل في تاريخه بوسائل متعددّة، منها حلول الملك المختار (أش 11: 1- 10) من أجل إحلال السلام والعدل بواسطة الحكمة والمشورة ونشر مخافة الله بين أفراد الشعب.
والروح بحدّ ذاته هو الذي يدعو الإنسان من بين الشعب ويختاره ويرسله بهدف تخليص المنكوبين وإخراج الأسرى من سجن الظلمة ونشر الكلمة. ويكشف الروح أثناء ذلك عن هويّة الربّ الإله خالقًا ومحبًا للبشر وضابطًا لكل شيء (أش 42: 1- 9). والروح بمسيحه يعزّي البشر ويخلّص الانسان من الهوان ويخلق شعبًا كهنوتيًا مباركًا من الرب بهدف خلق صلة وصل بين الله والأمم أجمعين (أش 61: 1- 11).
أمّا مع النبي حزقيال فالروح هو الذي يحوّل الانسان من الداخل ويزرع فيه كلمة الله، أي طرقه وسبله، ويعينه على عيشها. فيصبح الانسان خليقة جديدة، جديرًا بأن يعيش في أرض الله تحت ظلّ قداسته ويقاسمه الروح. وكل ذلك سيتحقّق من خلال النبي الذي بطاعته للروح سيصبح ملهمًا. وستصير كلمته ذات قوّة تحيي الأموات وتنشل الانسان المعدم من بين القبور. فتُخرج الشعب من لأسه كي تزرع فيه الأمل وجّعله يحيا السلام في أرض لا يعرف فيها سوى الرب لإله المدعو لأنْ يعبده هو فقط دون غيره (حز 37: 1- 14).
ويأتي النبي يوئيل ليضيف على عمل الروح الأمر الذي حلم به موسى ألا وهو انسكاب الروح على كل ذي بشر. وسيتم هذا الحدث في يوم الرب أي يوم الخلاص. ويُظهر الرب روحه عاملاً في الشعب كلّه إذ إنه حوّله إلى شعب نبوي يعيش من إلهامات الربّ وتوجيهاته. إذًا فالشعب الكهنوتي عند أشعيا النبي أصبح نبويًا عند النبي يوئيل.
وبالنهاية سيدعم الروح الشعب كي يستطيع الثبات في إيمانه ورجائه من أجل تتميم المسيرة التي بدأها الرب معه منذ اللحظة التي اختاره بها. هذا ما يقوله النبي حجّاي والنبيّ زكريّا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM