الفصل السابع: برنامج الروح في تاريخ الخلاص

الفصل السابع
برنامج الروح في تاريخ الخلاص من نبوءة يوئيل إلى أعمال الرسل

منذ الكلمات الأولى في الكتاب المقدّس حتى الكلمات الأخيرة، يكتشف المؤمن عمل الروح القدس. منذ البداية نرى روح الله يرفرف على وجه المياه ليخرج منها كل حياة. وفي النهاية، يقف الروح مع العروس ليدعونا نحن العطاش لكي نستقي مياه الحياة مجانًا، تلك المياه التي وُضعت في الفردوس ساعة الخلق. هذا الروح هو الذي "دوّن" الكتاب الدّس فعمل مع الكتّاب الملهمين، وهكذا كان تواصل رائع لتاريخ الخلاص منذ آدم وحواء، أو أول عائلة بشرّية، حتّى المجيء الثاني والساعة التي فيها يجمع المسيح في نفسه كل ما في السماوات وعلى الارض.
ونحن في حديثنا ننطلق من محطتين تنيران دربنا كلّه: يوئيل وسفر الأعمال. وعلى ضوء هاتين المحطتين نستخلص الخطّ اللاهوتي الذي يجعلنا نكتشف برنامج الروح من البداية إلى النهاية. ننطلق من فيض الروح مع الأنبياء فنصل إلى الرسل، وفي كلا القسمين نكون في برنامج الروح داخل كنيسة بدأت مع آدم وتصل إلى كمالها في مجيء المسيح.

1- أفيض روحي على كلّ بشر
هذا ما قاله يؤئيل متحدّثاً عن الزمن الجديد ويوم الرب، فتطلّع إلى فيض الروح في آيات ومدهشات، وإلى خلاص يحصل عليه كلّ من يدعو باسم الربّ. قال النبيّ: "أفيض روحي على كلّ بشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلاماً، ويرى شبّانكم رؤى. وعلى عبيدي أيضاً، نساء ورجالاً، أفيض روحي في تلك الأيام، وأصنع عجائب في السماء والأرض، دمًا ونارًا وأعمدة دخان، فتنقلب الشمس ظلاماً، والقمر دمًا قبل أن يأتي يوم الرب العظيم الهائل".
ونحن هنا أمام يوم الرب وما يحمل معه من دينونة وخلاص. غير أن طابع ظهور الروح هنا هو القلق والضيق. فالناس قد أصابهم جنون، والكون ينقلب كما في حرب طاحنة فيترك وراءه الناس (تحرق البيوت) والدم (دم القتلى) والظلام (بعد أن أقفرت البيوت من ساكنيها). ولا ينجو إلاّ من يدعو باسم الربّ، أو من يدعوه الربّ باسمه.
هذا السفر النبويّ الذي قد يكون دوّن في القرن السادس وأعيدت قراءته في القرن الرابع على ضوء الأحداث الجديدة، يدلّ على جماعة انغلقت على ذاتها، لهذا جاء الروح يخرجها من عزلتها. اجتاحها في الماضي الجراد كما اجتاحتها الجيوش الغربيّة، فخافت على نفسها. ذاك كان وضع التلاميذ في العليّة بعد صعود الربّ. قد نتصوّر موقفهم كما في إنجيل يوحنا: "الأبواب مغلقة خوفاً من اليهود".
ماذا يكون بعد هذا؟ سيأتي يوم الربّ أي تدخّله الخارق في التاريخ. وكيف يتدخّل؟ ينتصر شعب الله على أعدائه. هذا ما كان يفكّر فيه العدد الكبير في أورشليم. وبعد زمن المنفى وضياع شعب الله وسط الشعوب، صار يوم الرب يعني سحق الوثنيّين سحقاً نهائيًا. أما بالنسبة إلى الأنبياء، أقلّه منذ عاموس، فدينونة الله وعقابه يطالان الشعوب الوثنيّة كما شعب إسرائيل. هذا ما يشير إليه النبي يوئيل هنا حين يقول إن البقية سوف تنجو. إذن، ما يحدّد المخلّصين ليس انتماءهم إلى أمّة من الأمم، بل موقفهم الديني: "يدعون باسم الرب".
أمّا الخلاص الموعود به فيكون إعادة بناء الشعب، وعودة إلى السلام والازدهار. هنا يعود النبيّ إلى الصورة المعروفة عن "يوم يهوه" الذي ترافقه علامات هائلة. في هذا "الإطار" يظهر الربّ. وسواء كلّم شعبه أو "تدخّل ضدّ الأعداء"، ففي وسط الظواهر عينها التي يحرّكها روح الله الحيّ. أجل، في هذا الإطار يعلن يوئيل عطيّة الروح إلى الشعب كلّه. هذا الروح الذي حلّ على القضاة مثل شمشون كما حلّ على شاول وداود. هذا الروح الذي طلبه موسى من أجل جميع الشعب لا من أجل السبعين وحسب، سيحلّ على البنين والبنات، على الشيوخ والشبّان، على العبيد والأمراء، وهكذا لا يفلت شخص من حضوره. بل الأرض والسماوات نفسها لن تنجو من تأثيره. فهو سيفعل فيها كما يقول بولس الرسول في الرسالة إلى رومة. فهي تئن منتظرة معنا نحن "الذين لنا باكورة الروح".
هنا نتذكّر عمل الروح في العهد القديم. جعل شاول انسانًا آخر. وكذلك فعل لداود. وسيحلّ على الملك المنتظر في عطاياه السبعة من حكمة وفهم ومشورة وقوّة ومعرفة وتقوى، وكلّ هذا تكلّله مخافة الرب. ترتبط مخافة الرب (في العالم الحكميّ) بالمعرفة (في العالم النبويّ)، فتجعل من هذا الداود الجديد ملكًا بحسب قلب الله. وهذا الملك يتسلّم رسالة يحدّثنا عنها أشعيا أيضًا. "روح السيّد الرب عليّ، مسحني (جعلني المسيح الملك)، أرسلني لأبشّر المساكين، وأجبر المنكسري القلوب، لأنادي للمسبّبين بالحريّة وللمأسورين بتخلية سبيلهم وأنادي بحلول سنة رضاه". وهو سيقوم بتلك الرسالة على أكمل وجه حين يَعد المؤمنين بتبدّل تام في وضعهم. سيستعيد يسوع نفسه هذه الكلمات في مجمع الناصرة ويطبّقها على نفسه. فما أنشده النبيّ في أيّام الضيق والعودة من المنفى، سوف يتمّ في شخص يسوع، لا بشكل منظور وحسب، بل بشكل روحيّ وغير منظور. وكلّ هذا بفعل الروح الذي لم يكن فقط موضوع وعد، بل حلّ حقًا على يسوع في عماده.
في هذا الخطّ يُعطى الروح لجميع البشر وفي درجة أولى للشعب المقدّس كينبوع حياة، وذلك بمناسبة الكلام عن إعادة بناء الهيكل والمؤمنين، عن قيامة الشعب الذي تشتّت في المنفى فصار "كالعظام اليابسة". لهذا قال الرب: "أجعل روحي فيهم فيحيون"، ويعلن أشعيا الثاني: "أفيض المياه على العطشان، والسيول في الأرض القاحلة. وأسكب روحي على ذرّيتك، وبركتي على نسلك، فينبتون كالبان بين المياه وكالصفصاف على ضفاف الجداول". وسيعطي حزقيال معنى عميقاً جدًا لقيامة الشعب هذه التي تتمّ بفعل روح الله. يفيض هذا الروح في العهد الجديد فيجدّد قلوب شعب الله، ويجعلهم أمناء للشريعة، ويقودهم إلى معرفة الله معرفة شخصيّة وباطنيّة وليس فقط على مستوى الطقوس الخارجيّة التي سيطرت بشكل خاص خلال التدوين الأخير لسفر حزقيال، أي بعد العودة من المنفى وبناء الهيكل الثاني سنة 518 ق. م.
ولكننا ما زلنا أمام وعد أعلنه الأنبياء، أما التحقيق فسوف يتمّ في يسوع المسيح. ولهذا، فالعهد لن يكون جديداً حقًا إلاّ في تجسّد الابن، إلاّ في العهد الثاني بعد أن صار "العهد الأول قديمًا"، لهذا ننتقل إلى برنامج الروح كما رسمه القديس لوقا في سفر الأعمال الذي هو امتداد للانجيل الثالث.

2- يوم العنصرة
يوم العنصرة هو اليوم الحاسم في نظر لوقا. معه انطلقت الرسالة إلى جميع الشعوب المعروفة في ذلك الوقت الذي فيه دوّن سفر الأعمال. حين نقرأ النصّ الذي يروي حلول الروح على التلاميذ والمسيحيّين الأولين، نطرح السؤال على نفوسنا: كيف عرف لوقا أن الحاضرين في عيد العنصرة سنة 30 ب م، أي بعد غياب الرب في صعوده إلى السماء لعشرة أيّام خلت، كانوا من برتية وماداي وعيلام وما بين النهرين، بل من اليهوديّة...؟ لا شكّ في أن "صاحب المعلومة" لم يقُم بعمليّة إحصاء، بل إن كاتب أع انطلق من واقع الكنيسة حوالي سنة 85 ب. م. فرأى أنها انتشرت في هذه الأصقاع التي يذكرها في خبره. واليهود "الموجودون" في أورشليم في عيد العنصرة ذلك، كانوا باكورة الكنائس المشتّتة في الشرق والغرب.
صارت الكنيسة في الربع الأخير من القرن الأوّل شجرة كبيرة مدّت أغصانها في العالم المعروف آنذاك. ولكن البذرة الأولى، وحبّة الخردل الصغيرة، زُرعت يوم عيد العنصرة بواسطة "تلك الألسنة الناريّة" التي حلّت على كلّ واحد منهم. وحضور الروح هذا، لم يكن ظاهرة عابرة بل هو رافق الكنيسة خلال مسيرتها، ولاسيما حين انتقالها من محيط إلى محيط. انتقلت من اليهوديّة إلى السامرة، فكان الروح هناك. وضع بطرس ويوحنا أيديهما على السامريّين الذين اعتمدوا "فنالوا الروح القدس". وهذا الحضور لم يكن خفيًّا، بل إن سمعان الساحر "لاحظه"، فطلب من بطرس السلطة لكي يضع يده على الناس فينالوا الروح القدس. وهكذا أعطي الروح للسامريّين كما أعطي لكنيسة أورشليم وانطبعت رسالة فيلبس الذي بشّر السامرة بالطابع الرسولي.
ولما انتقل الانجيل إلى العالم الوثني، رافقه الروع في انتقاله. بدأ بطرس يبشّر كورنيليوس وأهل بيته، وأطال حديثه متردّدًا قبل أن يُقدم على الخطوة الحاسمة. غير أن الروح لا يستطيع أن ينتظر. لهذا يقول سفر الأعمال: "وبينما بطرس يتكلّم، نزل الروح القدس على جميع الذين يسمعون كلامه. فتعجّب أهل الختان الذين رافقوا بطرس حين رأوا أن الله أفاض هبة الروح القدس على غير اليهود أيضًا، لأنهم سمعوهم يتكلّمون بلغة غير لغتهم ويعظّمون الله". أجل، المبادرة هنا كما في "عيد العنصرة" هي في يد الروح القدس. وكما فعل "اليهود" يوم حلّ الروح عليهم "فأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغتهم" "وينشدون أعمال الله العظيمة"، هكذا فعل الوثنيّون الموجودون في بيت كورنيليوس الذي سيكون أوّل "كنيسة" يجتمع فيها المسيحيّون في قيصريّة. وسنعاين الظاهرة عينها مع تلاميذ يوحنا المعمدان. كانوا اثني عشر على عدد الرسل. "ووضع بولس يديه عليهم، فنزل عليهم الروح القدس وأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغاتهم ويتنبّأون".
وهكذا نكون في نهاية المسيرة التي بدأت يوم العنصرة، فارتبط الروح بموهبة النبوءة على ما في يوئيل النبي كما أورده بطرس في خطبته الأولى أمام الذين حسبوهم سكارى سكرة الخمرة، ساعة كانوا سكارى من الروح القدس. أجل، ما وعد به الرب بلسان نبيّه، ها هو يحقّقه بواسطة روحه. "أفيض روحي على جميع البشر...". والنبوءة هي حمل كلام الله. تلك هي وظيفة الرسل الاثني عشر. وتلك ستكون وظيفة تلاميذ المعمدان الذين لا يقفون كما وقف معلّمهم على عتبة العهد الجديد، فيكتفون بعماد التوبة، بل ينالون الروح ويتنبّأون. وحين تضعف الجماعة بعض الشيء ويهدّدها الخوف بالاضطهاد والسجن من قبل اليهود، سترفع صلاتها، فتجد الروح حاضراً معها. "وبينما هم يصلّون، اهتزّ المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأوا كلّهم من الروح القدس، فأخذوا يعلنون كلمة الله بجرأة". ثقة داخليّة تظهر نتائجها في الخارج، وهي تميّز الكرازة الرسوليّة ولاسيّما في الحالات الصعبة. تتأسّس على الله، على اسم الرب، على الربّ، فتبدو جزءاً من الايمان.
أجل، الروح هو الذي يسيّر الكنيسة وله برنامجه كما حدّده يسوع منذ بداية سفر الأعمال. "الروح القدس يحلّ عليكم ويهبكم القوّة. فتكونون لي شهودًا في أورشليم واليهوديّة كلّها والسامرة، حتى أقاصي الأرض". في محطّة أولى أورشليم واليهوديّة مع بطرس والاثني عشر. ولكن كادت الكنيسة تختنق في هذا العالم المنغلق على ذاته، والرافض كلّ اتصال بالعالم الوثني، لولا الأزمة بين يهود يتكلّمون الأراميّة وآخرين اليونانيّة. في الظاهر، هو خلاف على مستوى توزيع إعاشة للأرامل. ولكن المسألة كانت أعمق بكثير، فكاد الأمر يقسم الكنيسة بين "المتحرّرين" من قيود العالم اليهوديّ، أمثال اسطفانس وفيلبس، و"أهل الختان" الذين خاصموا بطرس نفسه كما قلنا. ولما تنظّم السبعة الذين يلتقون مع السبعين كما يتحدّث عنهم لوقا في إنجيله، انطلقت الرسالة بعد أن خرجت من "سجنها اليهودي". بدأ اسطفانس يتخلّى عن الهيكل بعد أن كان الاثنا عشر متعلّقين بالهيكل وسائر الفرائض اليهوديّة. بل ترأس مجموعة ستكون أول من يكلّم غير اليهود (أي الوثنيين) بالانجيل وكان ذلك في انطاكية. وذهب فيلبس إلى السامريّين، "تلك الأمّة المحتقرة"، وحمل إليهم البشارة فتقبّلوها كما لم يتقبّلها اليهود أنفسهم. فمن كان الدافع، ومن كان الموجّه؟ الروح القدس.
حدّثنا القديس لوقا أولاً عن أولئك الذين اختارهم الرسل "ممتلئين من الروح القدس". وثانيًا عن اسطفانس "الرجل الممتلئ من الروح القدس"، وهذا الروح سوف يرافقه في دفاعه كما قال يسوع لرسله. ما استطاع خصومه أن يقاوموا الحكمة والروح اللذين طبعا بطابعهما كلامه. وعند ساعة موته، "نظر إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فرأى مجد الله ويسوع واقفًا عن يمين الله". وما قلناه عن علاقة الروح باسطفانس، نقوله بالنسبة إلى فيلبس الذي صار "أداة" طيّعة بين يدي الروح القدس، فبشّر السامرة، وعمّد وزير ملكة الحبشة. ولما انتهى "المبشّر" من مهمّته "خطفه روح الرب" ونقله إلى أشدود. وهذا الروح كان "السبب" غير المباشر في إطلاق الرسالة خارج أورشليم واليهوديّة. فالاضطهاد الذي أصاب المؤمنين على أثر رجم اسطفانس، فعل كالريح فشتّت الأخوة في كلّ مكان، ودفعهم دفعًا إلى حمل الانجيل.
هذا الروح يوجّه بولس. يدفعه إلى أبعد من آسية الصغرى بعاصمتها أفسس. كما يمنعه أن يتوجَّه كما يشاء. يحدّثنا لوقا كيف أن الروح منع الفريق الرسوليّ من التوجّه إلى نواحي فريجية وغلاطية. ومنعه من دخول بيثينية. فهو يريد أن يذهب المرسلون إلى أوروبا. لهذا رأى الرسل رؤية فهموا على أثرها أنه يجب أن يذهبوا إلى مكدونية. لن نبحث عن السبب الماديّ الذي جعل الرسل يغيّرون اتجاههم. فالقديس لوقا اعتبره غير مهم بالنسبة إلى السبب الأول، الروح القدس، الذي يوجّه الرسالة مثل قائد حربي يخطّط لاحتلال مناطق جديدة. قد يكون بولس ورفاقه خافوا من المغامرة في أوروبا. ففضّلوا البقاء في آسية الصغرى، على مثال كنيسة أورشليم التي حاولت أن تنغلق على نفسها "كما في العلية". ولكن الروح يفعل كالريح فيحرّك كلّ شيء ويحرّك كل إنسان. وحين يروي سفر الأعمال ذهاب الرسولين إلى أوروبا، يشير إلى البحر الذي هو موطن الشرّ، ويمنع الانجيل من الانطلاق. كم نحن قريبون من عبور يسوع وتلاميذه البحر إلى منطقة الجراسيّين: هبّت عاصفة شديدة، أخذت الأمواج تضرب القارب حتى كاد يمتلئ. فكأني بعالم الشرّ يريد أن يهلك الكنيسة كما بطوفان، فيمنعها من الذهاب إلى العالم الوثني، لاسيّما وأن المسيح غائب في موته. فيبقى عليها أن تقاوم وتعرف أن المسيح حاضر معها بعد أن قام من بين الأموات، حاضر معها بروحه، بعد أن وعد التلاميذ بأن لا يتركهم يتامى.
أما ذروة هذه المسيرة مع الروح، هذا البرنامج الذي بدأ مع الأنبياء، فنجدهما في ما سمّي "مجمع أورشليم". الروح القدس يعمل ويخطّط ويوجّه. ولكن البشر يضعون له العوائق. فالخلاف دبّ منذ البدء على مستوى حياة الجماعة وما زال، فرأى لوقا واجبه بأن يذكّر المؤمنين أن عليهم أن يكونوا قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا. وكان خلاف حول توزيع المعونة للأرامل فصل "الكنيسة" الأولى بين متكلّم بالآرامية ومتكلّم باليونانيّة. وبعد اضطهاد اسطفانس، سوف نرى الهلينيين "وحدهم" في المجابهة ساعة كانت الفئة المتهوّدة في كنيسة أورشليم في أمان. أهكذا لا يبالي بعضنا ببعض؟ هل يتألّم عضو ولا تتألم معه سائر الأعضاء؟ هل يفرح عضو ولا تفرح معه سائر الأعضاء؟ وهكذا أجبر العنصر الهليني في كنيسة أورشليم واليهوديّة على الخروج من أروشليم والتشتّت في كلّ مكان. ذاك هو الوجه الخارجي. أما السبب الحقيقي فهو الروح يطلق الكنيسة، يخرجها من عزلتها، ويدفعها "إلى أقاصي الأرض".
بشّر فيلبس السامريّين، فخافت كنيسة أورشليم، وأرسلت من "يضبط" الأمور. ولكن الروح هو الذي يبدّل القلوب وسيتمّم الرسولان ما بدأ به فيلبس فيضعان أيديهما على المعمّدين. ولكن السامريّين هم مختونون، شأنهم شأن اليهود، وقد ظلّت "المشكلة" في حدودها. ولكن حين عمّد بطرس كورنيليوس وأهل بيته، وأكل مع الوثنيّين الطعام الوحيد في كنيسة بعد القيامة، أي الافخارستيا، خاصموه. فاختبأ في ظلّ الروح القدس. هؤلاء الناس نالوا الروح القدس مثلنا نحن، فمن يمكنه أن يمنع عنهم ماء المعمودية. وأمر بأن يعمّدوا. وسوف يروي مسيرته مع الروح مع أنه كان ممانعًا. هو "صوت من السماء" منعه أن يميّز بين طاهر ونجس، بين يهوديّ ووثني. وسيفهم فيما بعد أن هذا الصوت هو "الروح الذي أمره أن يذهب مع الأشخاص الذين أرسلهم كورنيليوس". وهذا الروح سوف يقاطعه ولم يترك له مجالاً. "فلما بدأت أتكلّم، نزل الروح القدس عليهم مثلما نزل علينا في البدء، فتذكرت ما قال الرب: عمّد يوحنا بالماء، وأما أنتم فتعمَّدون بالروح القدس. فإذا كان الله وهب هؤلاء ما وهبنا نحن عندما آمنا بالربّ يسوع المسيح، فمن أكون أنا لأقاوم الله"؟
وخافت كنيسة أورشليم بشكل خاص، حين انفتحت كلّ السدود وأخذ العوام، لا المسؤولون في الكنيسة، يكلّمون غير اليهود بالانجيل. لم يذهب بطرس ويوحنا، كما كان الأمر مع السامريّين، بل برنابا الذي كان من قبرص، لأن "المبشّرين الجدد" هم من قبرص وقيرين. رأى برنابا بعينيه ما يحدث في أنطاكية. ورأى على نور الروح القدس أن يد الرب كانت معهم وأن المؤمنين الذين اهتدوا إلى الرب كثروا جدّاً. رأى ما فعلته نعمة الله ففرح. لماذا؟ "كان رجلاً مستقيمًا، ممتلئًا من الروح القدس والايمان". ولن يكتفي بأن يرى، بل هو سيعمل بحيث "انضمّ إلى الرب جمع كبير". بل سيذهب ويبحث عن الرجل المناسب، شاول الذي سيكون بولس، فيصل بالكنيسة إلى أقاصي الأرض. ولكن العوائق ما زالت حاضرة. ولهذا كان "مجمع أورشليم" الذي "هيّأه" الروح مع الكنيسة، بحيث قالت الجماعة الأولى حين أرسلت مقرّراتها: "فالروح القدس ونحن".

خاتمة
هذا هو برنامج الروح في تاريخ الخلاص. في العهد الأول، مع الأنبياء، عمل لكي يُخرج شعبَه من عزلته ويحمّله كلام الله في المحيط الذي يعيش فيه. وفي العهد الثاني، مع الرسل، دفع الكنيسة للخروج من عليّة أورشليم وما تحمل من خوف وتردّد. حطّم الأبواب. أرسل رياحه العاصفة. فرض عليها أن تنفتح على اليهوديّة والسامرة، على العالم الوثني المتحضّر في دنيا الرومان واليونان، وعلى البرابرة، فقال بولس، "عليَّ دين لليونانيّين والبرابرة". فكما كان يسوع خلال حياته على الأرض، وهو الذي حلّ عليه الروح في بداية رسالته، في مسيرة دائمة لا توقّف فيها. فكما كان حرًا من كل قيد وشريعة لكي يكون للانسان، لكلّ إنسان، ولاسيّما المهمّشين، لكي يحمل إليهم الإنجيل، هكذا أراد الروح أن تكون الكنيسة الأولى. وهكذا يريد من كنيستنا التي انطلقت على طرقات العالم انطلاقة رائعة مع المجمع الفاتيكاني الثاني، ولكنها بدأت تتعثّر وتخاف وتنظر إلى الوراء وتتحسّر على الماضي أو هي تودّ العودة إليه في أصوليّة قاتلة. يريد من كنيستنا أن تتابع البرنامج الموضوع، فتترك كبرياءها وتعاليها لأنها تعتبر نفسها حاملة الحقيقة، كما تترك خوفها من أكثرية تفيض على جوانبها. فالروح هو هنا، وقد بدأ عمله منذ بداية الكون، ولن يزال يعمل حتى ذلك اليوم الذي فيه يجدّد وجه الأرض. يا ليتنا نسمع له ونسير في أنواره.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM