الفصل الثالث: الروح يمسح المختار ويعلن البشارة

 

الفصل الثالث
الروح يمسح المختار ويعلن البشارة
أش 61: 1- 11

1- تحديد النص وشرحه وتقسيمه
يشكّل النص وحدة أدبية قائمة بحدّ ذاتها نظرًا للتضمين القائم بين خاتمة القسم الأول (1- 3) وخاتمة القسم الأخير من النص (آ 10- 11). فعندما يقول في آ 3: "فيُدعَون أشجار البرّ غرس الربّ للتمجيد"، يشير إلى أشجار تنبت، لها جذور متأصِّلة بالبرارة هدفها التمجيد. ويعاود ذكر هذا الغرس بالذات في آ 11 حيث يقول: "هكذا السيد الربّ ينبت برًا وتسبيحًا أمام كل الأمم".
بعد التأكيد على وحدة النص الأدبية يمكننا الدخول في نطاق تقسيمه والتعمّق في لاهوته ومعناه.
يقسم النص ستة أقسام:
الأوّل: (آ 1- 3)، حيث يعلن الملك نفسه ممسوحًا كي يقوم برسالة تبشيرية تجاه المنكوبين ويكشف لهم عن عمل الله الخلاصي لهم.
الثاني: (آ 4)، يدخل المسبي أرضه من جديد ويعاود بناءها كلها.
الثالث: (آ 5- 6)، يأتي الغريب كي يخدمهم (آ 5) ويجعل الله منهم كهنة خدامًا للربّ يأكلون من ثمرة الأمم.
الرابع: (آ 7)، يجددون أرضهم ويرثون ضعف ما كانت عليه في السابق.
الخامس: (آ 8- 9)، الربّ تكلّم وقطع عهدًا معهم وجعل من نسلهم بركةً تُعرف لدى الأمم.
السادس: (آ 10- 11)، شكر على حالة الخلاص التي عاشوها وبُشِّر بها سابقًا في آ 1- 3.
أما الأقسام فهي موزّعة على الشكل التالي كما يظهر من خلال جدول التوازي:

جدول التوازي
(1- 3)
- التبشير بالخلاص
- فيدعون أشجار البرّ غرس الربّ للتمجيد (3) (10- 11)
- تحقيق الخلاص
- هكذا السيد الربّ ينبت برّاً وتسبيحاً أمام كل الأمم (11)
(4) تجديد المدن في أرضهم وإعادة ورشة البنيان (7) سيرثون ضعفي ما كانوا عليه في أرضهم عندما يعودون
(5- 6)- يأخذون الغرباء خداماً لهم
- يصبحون خداماً للربّ
- يرثون مجد الأمم (8- 9)- سيقطع الربّ معهم عهداً أبدياً
- ويُعرف نسلهم بين الأمم
- ونسلهم مبارك من الربّ

يظهر لنا الرسم على الشكل التالي:
أ- (آ 1- 3) التبشير بالخلاص وحلول الروح
ب- (آ 4) تجديد المدن في أرضهم
ج- (آ 5- 6) يرثون مجد الأمم كخدّام للربّ
ب ب- سيرثون ضعفي ما كانوا عليه في أرضهم
ج ج- (آ 8- 9) ويُعرف نسلهم المبارك بين الأمم
أ أ- (10- 11) تحقيق الخلاص.

2- لاهوت ومعنى أش 61: 1- 11
بعد الاطلاع على بنية النص وتوزيع عناصره يمكننا الآن المضي في التعمّق بلاهوته ومعناه.

أ- الروح بمسيحه يعزّي ويبشّر المسبيّين (1- 3، 10- 11)
حلّ روح السيد الربّ على المنادي كما هي الحال في 11: 1 و42: 1، ومسحه، أي جعل منه مسيحًا ملكًا وهي الصفة المحفوظة للملوك الداوديين فقط أو الملوك الذين يسيرون بحسب مشيئته وإرادته بهدف تسهيل الخلاص للشعب كما يقول أشعيا: "هكذا قال الربّ لمسيحه: "لكورش الذي أخذت بيمينه..." (45: 1). فالمسيح هو المدعو والربّ يسير أمامه (45: 3) والمدعو عادةً هو صاحب رسالة لا محالة، لأنّ الربّ نصّبه ودعاه باسمه ولقّبه (45: 4). والرسالة تكون لأجل شعب الله، عبده يعقوب واسرائيل مختاره (45: 4). والرسالة على ما يبدو يرافقها روح السيّد الربّ أي الملك لأنّه لا مَلك سوى الربّ والمسيح هو عبده.
إنّ الروح بمرافقته للمسيح يقوم بتبشير المساكين (61: 1ب). والبشارة تتضمّن الفرح والابتهاج وتحيي الرجاء وتعيد الأمل. وبشارة الفرح هذه تنادي بمجيء الربّ المخلّص الذي يأتي بقوّة، وذراعه تمدّه بالسلطان (40: 9- 10). والبشارة المذكورة هنا هي أعظم شيء قد ينقله إنسان إلى آخر ينتظر الخلاص من حالة البؤس والحزن (ق 41: 27 و52: 7 و60: 6...).
تحمل البشارة في طيّاتها روح الربّ لأنّها تجبر منكسري القلوب وتَعد المسبيين بالعتق أي بالحريّة وبالخروج من سجن الظلمة هذا (61: 1 ب ج). ويعلن أشعيا عن وقوف الربّ الدائم بجانب المسكين المنسحق الروح والقلب: "ولكن إلى هذا أنظر: إلى المسكين المنسحق الروح الذي يخاف كلمتي" (66: 2). واليوم الذي يتحقّق فيه الخلاص، يكون يوم انتقام لإلهنا وبداية سنة مقبولة خاصة بالربّ. فبعمله هذا يطبع السنة التي فيها حرّر المستعبدين من السبي ويعتبرها سنة سابعة (رج أش 49: 8؛ أش 36؛ حز 21: 2؛ تث 15: 12؛ إر 34: 8- 16) أو سنة الخمسين (لا 25: 10؛ حز 46: 17).
إذًا فالسنة هذه ستخلق شعبًا جديدًا مؤمنًا بالله، شعبًا ينتقل من حالة الحزن والاكتئاب إلى حالة الفرح والابتهاج، لأنّ روح الربّ تدخّل مباشرة في حياته وأصعده من حالته المظلمة.
فالروح إذًا هو المعزّي لكل النائحين (61: 2ب). ولكن تعزيته لا تطال سوى النائحين الذين يسيرون في سبل الربّ أي المرتدّين عن اثمهم كما يقول أشعيا: "احتجبت وغضبت فذهب عاصيًا في طريق قلبه. رأيت طرقه فسأشفيه وأهديه وأردّ العزاء له" (أش 57: 17- 18).
ويشمل هذا العزاء: "السلام السلام للبعيد وللقريب" (أش 57: 19). أما النائحون فهم نائحو صهيون الذين هُجّروا من أرضهم (61: 3). وهذا السلام سينزَع عنهم الرماد علامة التوبة والندم ويضع على رؤوسهم التاج أي عزّة النفس. وسيدهنهم بالفرح علامة الاندفاع والحياة بدل النوح والبكاء علامة الانحطاط والسبات. أما الرداء فهو رداء التسبيح والنظر نحو الربّ المخلّص وهو الذي سيحلّ محل الروح اليائسة التي لا أمل لها بأحد ينقذها (61: 3). والرداء علامة الدخول تحت أكناف الملك واسترداد المكانة في بيت الربّ، صهيون.
بعد هذه النقلة النوعية سنرى أشجار البرّ أي أبناء البرّ الذين يعيشون بالبرارة كما يشتهي الربّ أن يراهم، ولا يعود يدنو من الأبرار لا الظلم ولا الدمار لأنّهم ثابتون في ما هم عليه: "وجميع بنيك يكونون تلامذة الربّ وسلام بنيك يكون عظيمًا، بالبر تُثّبتني" (54: 13- 14). وبالإضافة إلى ذلك سيكونْ شعب صهيون كله أبرارًا للأبد يرثون الأرض وفرع غرس الربّ وعمل يديه وبه يتمجّد (60: 61). عندما يدخل الروح في عمل كهذا يصبح عملُ الربّ خلقًا. فالربّ يعيد خلق شعب جديد يغرسه بيده ويجبله بروحه كي يصير فعلاً على صورة خالقه وصانعه فيمجّده ويعترف دائمًا بخلاصه.
أما آ 10- 11 التي تتوازى مع آ 1- 3، فتكشف لنا عن عمل الروح عندما يتجاوب الإنسان المخلّص مع السيّد الربّ الذي خلّصه وحرّره.
يعبّر الشعب اليهودي عن فرحه بإلهه فيتذكّر صنائعه معه. خلق الله الفرح والبرّ في شعبه عندما سعى وخلّصه من أيدي أعدائه (آ 10). أما الأرض التي عاد وأسكنهم فيها فيسبّحونه فيها ضمن قالب برارتهم لأنّ منها سينبت أبرار جدد يسبّحونه إلى الأبد مبعدين شماتة الأمم عنهم. لذلك فالأمم بدورهم عندما يرون الفرح والتسبيح الصادر عن الشعب اليهودي سيمّجدون الله الذي يعيلهم ويهمّ بهم (آ 11).
يخلق عمل الروح في الإنسان عرفان الجميل تجاه الله المخلّص ويجعل من الشعب كنّارة تسبيح وشكر لا تتوقف.

ب- الروح يجدّد ويخلّص الإنسان من الذلّ والهوان (4، 7)
إنّ العودة إلى الأرض تحتّم البنيان وإزالة الخَراب والموحشات (آ 4أ)، فيُخلق التجدّد وتُبنى الدورُ كلها. أما أسس هذا التجديد والإعمار فترتكز على الربّ نفسه: "وبفضلك يبنون أخربة الأيام القديمة وأنت تقيم أسس الأجيال" (أش 58: 12).
ويرث شعب الله أرضه ويستعيد ضعف ما خسره أثناء السبي (61: 7ب). ويظهر الفرح من جديد في قلوبهم، لأنّ الربّ أزال عنهم خزيهم وعوّض عليهم بمكان يعيشون فيه أحرارًا مع إلههم. وهذا الفرح لن يكون وقتيًا بل هو أبدي طالما البرارة هي حصنهم.
إذًا عمل الروح ليس محدودًا بالإنسان وبداخليته فقط، بل هو يتعدّاه ليطال الأمور المادية كي يحمي الانسان كله، شرفه وكيانه وجسده، من كل أذىً خارجيّ كان أم داخليّ.

ج- الروح يجدّد وبخلق شعبًا كهنوتيًا مباركًا يطال الأمم (آ 5- 6، 8- 9)
أما علاقة الأمم بهذا الشعب فتصبح على صعيد الشهادة لأنّ الأمم ستنظر من بعيد وسترى ما سيصنع الله مع شعبه. فالأجنبي والغريب سيأتيان ليعملا لدى اليهودي (آ 5، 14: 2). أي إنّ هذا الأخير أصبح حرًا وانقلبت حالته رأسًا على عقب فانتقل من حالة العبودية إلى الحرية. وأصبح عمل المؤمن يقتصر على خدمة الربّ لأنّه صار كاهنًا خادمًا، همّه الأكبر خلق علاقة دائمة مع الرب والمحافظة على برّه (61: 6). أما الشعب الكهنوتي (حز 19: 6) فهو صاحب رسالة تجعل منه صلة وصل بين الله وبقية الأمم. فالربّ الحاضر دائمًا معهم بسبب عهده الأبدي الّذي سيقطعه معهم (11: 9)، سيباركهم ويبارك نسلهم جيلاً فجيلاً، فيصبحون علامة توجّه أنظار الأمم إليهم (آ 9ب). والبركة التي نالها الشعب ستشعّ كي تطال الشعوب المجاورة التي ستعترف بالربّ "محبّ العدل ومبغض الظلم" (61: 8). ويصبح الشعب بركة للشعوب التي تحيطه كما قال الربّ لابراهيم في تك 12: 3: "وتكون بركة وأبارك مباركيك [...] ويتبارك بك جميع عشائر الأرض".

د- الخلاصة
إنّ الروح بحلوله على المسيح المختار أصعد شعبًا بكامله من ظلمة السجن والأسر وأعاد إليه السلام بتعزيته له. والروح الذي يعمل في الإنسان يجعل منه بارًا، ثم شهادةً تخوّله لأن يكون كاهنًا خادمًا للربّ يربط بين الأمم وإلهه.

3- الخاتمة
بعد أن تعمّقنا بأحداث الخلاص التي ستتمّ على يد مسحاء معيَّنين (11: 1؛ 42: 1؛ 61: 1)، يمكننا طرح السؤال التالي: من أين لنا أن نتوقع رفقة روح الربّ لكامل الحدث الخلاصي؟ هل يا ترى سنكتفي بقناعة مجزّأة غير أكيدة بأنّ الروح يقود فقط مختاريه ولا يسعى لأن يعمل مع باقي أفراد الشعب والأمم؟
يعود الكاتب ويؤكّد صحّة ما نعتقده فيذكِّر الشعب بصنع الرب له وبكيفية مرافقته له طوال الأيام القديمة نظرًا لأمانتهم إذ قال: "إنّهم شعبي حقًا بنون لا    يخدعون       فصار     له    مخلّصًا" (63: 8)
ولكن تمرّدهم على روحه القدّوس أبعده، وببعده جرّدهم من قوّتهم فأصبحوا أعداءه (63: 10). ولكنه عاد وجعل الروح القدس مقيمًا في شعبه، فأخرجهم من مصر وأعطاهم الحريّة (63: 11). فهداهم روح الرب وأراحهم وأعطى لهم إسمًا بهيًا أي مجدًا (آ 14) وأسكنهم أرضه من حول بيت قدسه فورّثهم إياها.
يبدأ التدبير الخلاصي إذًا بتدخّل مباشر من الربّ الإله الذي يرسل روحه فيحلّ بدوره على أحد المختارين. يتحرّك المختار بإيحاء من الروح القدّوس فيقود الشعب إلى الخلاص. وعندما يتدخّل الروح لا يقتصر تدخله على فرد ما بل على كل الأفراد كي يشمل بعمله الخلاصي جميع من يؤمنون به وبصنائعه، يبني شعبًا كهنوتيًا ذا رسالة تطال كل الأمم على الأرض. فالربّ ليس محصورًا بشعب ما، وهو الذي خلق السماوات والأرض وكل من عليها. إذا فالعمل الروحي شمولي لا حدود له.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM