الفصل الرابع: روح الربّ عند حزقيال النبي

الفصل الرابع
روح الربّ عند حزقيال النبي

1- لمحة تاريخية
إنّ الأحداث الأليمة التي قاساها حزقيال وشعبه لم تكن دون تأثير على نبوءاته. فمواضيع كتابه تُظهر قسمين واضحين. الأوّل قبل سقوط أورشليم بين السنة 597 و587 ق. م. والثاني بعد هذا التاريخ.
خلال السنوات 597- 587، ظهر تحالف ضدّ بابل بين الفرعون والملك صدقيا. خلق هذا الأمر بعض الأمل عند المنفيين وفي أورشليم، وحَلم المنفيون بتحسّن سريع في الوضع. وكان حزقيال وهو بينهم، يحاول عبثًا تخليصهم من هذا الوهم. فبدأ ينذر بدمار أورشليم كدينونة من عند الله، بسبب خطايا اسرائيل كما في 4: 1- 8؛ 4: 9- 17؛ 15...
إنّ قسمًا هامًا من الكتاب مخصّص أيضًا للتنديد بخطايا أورشليم وهذه الخطايا هي سبب دمارها (ف 1- 33).
انقلبت الأمور رأسًا على عقب بعد سقوط أورشليم مما أحدث تبدُّلاً ظاهرًا في النبوءات (33: 22)، فبدأ النبي بإعلان الخلاص. وأطلق غالبية مواعظه ضدّ الأمم في هذه الفترة (ف 26- 28) وأعلن عن الاستقلالية التي سيعود إليها الشعب، وعن الحياة على أرضه بفضل روح يهوه (37: 1- 14). وتتجدّد الأرض (ف 36)، ويتوحّد الشعب من جديد، ويجتمع تحت سلطة داود جديد (37: 15- 28)، وبالنهاية سيُعاد بناء الهيكل وتعيش القبائل من حوله (ف 40- 48).
أما عمل الروح فهو أساس كل حدث خلاصي يعيشه الشعب اليهودي لأنّه سيدخل في قلوب أبنائه ويزرع الشريعة في داخلهم، كي يجلب رضى الربّ عليهم فيحييهم ويعيدهم إلى حالة الحريّة بعد أن يخلّصهم من السبي والعار.
بعد هذه اللمحة التاريخية السريعة نستطيع الآن الغوص في الآيات ككل مع التركيز على نصوص معيّنة (36: 16- 38؛ 37: 1- 14) من أجل إبراز صورة الروح التي تقلب الأحوال رأسًا على عقب لصالح خلاص الشعب.

2- الروح والرب
استُعملت كلمة روح، بمعنى ريح اثنتي عشرة مرّة في حز 1: 4؛ 5: 2؛ 11: 10؛ 12: 14؛ 13: 11، 13؛ 17: 10، 21؛ 19: 12؛ 27: 26؛ 37: 9.
ولكن كلمة ريح تحمل أيضًا معنى الروح الصادرة عن العالم الإلهي 1: 21، 20، 21؛ 10: 17؛ 11: 1، 5، 24؛ 36: 27؛ 37: 1، 9، 10؛ 39: 29.
إنّ الريح في 1: 4 هي دليل حضور إلهي، أما في آ 12 فهي توجّه المركبة كما تشاء. وتحرّك الكائنات الأربعة التي تشبه الحيوانات وهي الكروبيم، هذا ما لا شكّ فيه (9: 3؛ 10: 4). وهي تمثّل عرش يهوه في هيكل أورشليم (1 مل 6: 23- 27)، دون أن يحصل التباس في الخلط بينها وبين الله. وهكذا، فإنّ روح يهوه يُحيي ويحرِّك المركبة، وهو يدلّ على الحضور الإلهي وسط الغياب أي غير المنظور.

3- الروح والنبي
إنّ تجربة النبي الخاصة مع الروح تميّزه بشكل بارز عن نصوص الأنبياء القدماء. وهذا ما يظهر في الفقرات التسع التالية: 11: 24 "روح إلوهيم"؛ 11: 5؛ 37: 11: "روح يهوه" وفي 3: 12؛ 14؛ 24؛ 8: 3؛ 11: 1؛ 24أ؛ 43: 5. جاء استعمال كلمة روح مقتضبًا وبدون أل التعريف. فالروح في هذا الإطار هو قوّة خاصة فاعلة ومستقلّة. ولكن فاعليّة الروح متعلّقة بيهوه، بشكل واضح. وهدف الروح هو جعل الإنسان يقف أمام وجه الله (2: 2؛ 3: 24)، ونقل كلمة الله إليه (2: 1؛ 2؛ 11: 5) وذلك بواسطة رؤى إلهية (3: 12، 14 و8: 3؛ 11: 1؛ 43: 5). يكشف الله عن ذاته بواسطة هذا الروح، ويدخل في تاريخ شعبه. ومن يتلقّى الروح يوضع في حالة حوار وطاعة.

4- الروح والنبي وشعب الله
أ- الروح يخلق قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا (36: 16- 38)
يشكّل 36: 16- 36 جزءًا من مجموعة الأقوال النبوية والرؤى بعد سقوط أورشليم سنة 587 ق. م. وهو يقع في مجموعة تتمحور حول عطيّة الروح كباكورة العودة من المنفى مثل 36: 1- 15 التي تتحدّث عن تكاثر عدد السكان وترميم الأرض ومعرفة الربّ، و37: 1- 14 التي تتضمّن رؤية العظام اليابسة التي توحي بحالة اسرائيل قبل قيام الروح وبعده.
إنّ تكرار كلمة "آدم" في 16: 17 وفي آ 38 يبكِّل النص ويشكّل تضمينًا يجعل من 16: 36- 38 وحدة أدبية متكاملة.

ب- البنية
يقسم 36: 16- 38 إلى قسمين:
الأول: (آ 17- 29أ) يحتوي على الوعد بالخلاص والسبب الذي سيجعل يهوه يعمل؛ وهو مبني على الشكل التالي:
أ- (آ 17- 19) شعب نجس
ب- (آ 20- 24) الله سينقذ شعبه اسرائيل لأجل اسمه القدّوس
أ أ- (آ 25- 29أ) تطهير الشعب النجس
الثاني: (آ 29 ب- 38) وهو يصف الإنجاز المنظور لهذا الخلاص، وترميم بيت اسرائيل على أرضه. وهو مبني على الشكل التالي:
أ- (آ 29ب- 32) تكثير الحنطة، تلافي الجوع، دعوة إلى الارتداد
ب- (آ 33- 36) مدن مأهولة، وشهادة الأمم
أ أ- (آ 37- 38) نمو الشعب في أورشليم ومعرفة الربّ.
أما النظرة العامة للنص 36: 16- 38 فيمكن توضيحها بواسطة الرسم البياني التالي:

(17- 19) التشتت (37- 38) الجمع أي إعادة توحيد البلاد
(20- 24) ليس لأجلكم أنا صانع (29ب- 32) ليس لأجلكم أنا صانع
(25- 29) تسكنون الأرض التي أعطيتها لأبائكم (33- 36) (تسكين المدن)
(صارت كجنّة عدن/ وصارت محصّنة)

بعد الاطلاع على النص بمجمله، سنكتفي فقط بالقسم الذي يتكلّم عن الروح الجديدة التي سيهبها الله لشعبه كي يعينهم على السلوك في سبله وأحكامه (36: 25- 29أ).
أ- (آ 25)- وأرش عليكم ماءً طاهرًا، فتطهرون من كل نجاستكم، ومن كل أصنامكم أطهركم،
ب- (آ 26) وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلبًا من لحم،
ب ب- (آ 27) وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها.
أ أ- (آ 28) وتسكنون الأرض التي أعطيت أباءكم إياها وتكونون لي شعبًا، وأنا أكون لكم إلهًا (آ 29أ) وأخلّصكم من كل نجاستكم.

ج- اللاهوت
بعد أن وعد يهوه بالعودة إلى البلاد، كعلامة على تقديس اسمه القدّوس (آ 20- 24)، انتقل من المدى الخارجي للإنسان، أي المسكن والأرض، إلى المدى الداخلي، وهو قلب الإنسان.
إنّ الآية 25 و29 تتجاوبان من خلال الكلمة "نجاسات". بالإضافة إلى ذلك، فالتوسّع في التعابير "روح جديدة" "وقلب جديد" يجعل آ 26 و27 متوازيتين. من هنا الترتيب أ ب/ب ب- أ أ المحوري، مظهرًا تطهير الإنسان عبر التغيير في روحه وقلبه بواسطة حلول روح يهوه فيه.
إنّ التطهير بالماء الطاهر يعطي لهذا القسم نمطًا كهنوتيًا حاسمًا (رج لا 15: 5 ي؛ 16: 4، 24- 25؛ 17: 15؛ 22: 6؛ عد 5: 19). يتوقّع حزقيال التطهير كتحضير لبني اسرائيل العائدين إلى أرضهم، لكي يعاودوا عبادة إلههم (36: 25، 28). وهذا التطهير ضروري بعد إقامة مديدة على أرض نجسة، وهو زمن استسلام إسرائيل للممارسات الوثنية في عبادة "الأصنام".
إنّ تغيير "قلب الحجر" (علامة صمم الشعب)، إلى "قلب من لحم" (رمز الطاعة لإرادة يهوه)، يتمّ بواسطة عطيّته "للروح الجديدة" (36: 26؛ 11: 19). وسيتحوّل القلب القاسي المتحجّر إلى قلب حي. والكلمة المفتاح، "جديد"، المرفقة بكلمة "عهد" (عهد إرميا 31: 31) هي مرفقة هنا "بالقلب" "والروح" اللذين يتغيران بفضل التدخّل الجديد من قبل يهوه. يُنهض الله شعبه وينقذه من المنفى.
يدخل روح يهوه بحسب لاهوت حزقيال النبي، ضمن هذه العطيّة الجديدة في الشعب، فيُدخل هذا الأخير معه في طاعة جديدة. بينما يرجع إر 31: 31 ببساطة إلى الشريعة الموضوعة في قلب الإنسان. ويستند حزقيال في لاهوته إلى 1 صم 10: 6 ي حيث لا يكون الروح ملكية داخلية بل قدرة تعطي الانسان إمكانيّة حفظ سبل الله وشرائعه وعيش التحوّل والتبدّل. فيعود بعد ذلك بيت اسرائيل من جديد شعبًا ليهوه، الذي يعود إلهًا لهم (36: 28). إنّه ارتداد يتّخذ شكل عودة إلى الأرض التي وُعد بها الآباء الأولون. وهذه العودة تؤكّد أمانة يهوه التي تمتد من جيل إلى جيل مع العهد المضمون بحضور الربّ الفعّال في الشعب من خلال الروح. وينهي حزقيال النص بالآيات 29- 32 حيث سيساعد الله شعبه بالعمران والبنيان وإعادة حراثة الأرض وتثميرها. فيعبّر الله بتضامنه مع اسرائيل عن مسامحته له. والتصرّف الخلاصي المحبّ تجاه الشعب سيدفع هذا الأخير إلى أن يتذكّر طرقه الرديئة فيرتد ويتقوّى من خلال الروح الذي سيناله. سيردّ الربّ شعبه إذًا من خلال محبّته له وروحه القدّوس الذي سيهبهم إياه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM