الفصل الثاني: روح الرب خلاصاً للشعب وللأمم

 

الفصل الثاني
روح الرب خلاصاً للشعب وللأمم
أش 42: 1- 9

1- تحديد النص وشرحه وتقسيمه
يبدأ النص وينتهي باسم الإشارة نفسه "هوذا عبدي" (آ 1) "وهوذا الأوليّات" (آ 9)، مما يخلق تضمينًا يجعل من النص وحدة أدبية قائمة بحدّ ذاتها.
يتضمّن الشرح مبدئيًا تقسيم النص والمعنى واللاهوت.
يقسم النص أربعة أقسام:
الأول (آ 1- 4)، لأنّه يتكلّم عن روح الربّ الذي سيحلّ على عبده الذي بدوره سيُخرج الحق للأمم (آ 1) المشار إليها في الآية 4. عندما يستعمل الكاتب عبارة "وتنتظر الجزائر شريعته"، فالجزائر (آ 4) تعني "الأمم" (آ 1) والحقّ (آ 1) يشير إلى الشريعة (آ 4).
الثاني (آ 5)، يقدّم الكاتب في هذه الآية الله الربّ وينسب إليه صفة الخالق ومعطي الحياة لكل ساكن أو هي موجود بين الأرض والسماء.
الثالث (آ 6- 7)، إنّ الربّ في هاتين الآيتين يعلن عن نفسه أنّه هو الذي دعا عبده (آ 6) وأعطاه كل ما يلزمه من وسائل كي يفتح عيون العميان وينشر النور مكان الظلمة (آ 7).
الرابع (آ 8- 9)، يعيد الربّ تأكيد ما قاله عنه الكاتب في الآية 5 مكمِّلاً أنّ مجده له وتسبحته لا تُعطى للمنحوتات (آ 8) وهو العالم بالماضي والحاضر والمستقبل (آ 9).

أ- أما توزيع الأقسام فيكون على الشكل التالي وذلك بحسب جدول التوازي:
(1- 4) يختار الربّ عبده
- يضع روحه عليه
- يُعينُه كي يُخرج الحقّ للأمم (6- 7) يدعو الربّ عبده
- يمسك بيده
- يُعينه على إخراج الأمم من الظلمة
(5)- الربّ هو خالق السماوات والأرض
- معطي النسمة للشعب والروح للساكنين على الأرض
- وباسط الأرض ونتاجها (8- 9)- الربّ لا يعطي مجده لأحد ولا تسبحته للخالين من نسمة الحياة (المنحوتات).
- الربّ عالِم بكلّ ما نبت وما ينبت وما سينبت

2- نص أش 42: 1- 9
أ- (1) هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي
ب- وضعت روحي عليه
ج- فيُخرجُ الحقّ للأمم
د- (2) لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يُطفئ. إلى الأمان يخرج الحقّ (4) لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحقّ في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.
هـ- (5) هكذا يقول الله الربّ خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحًا.

أ أ- (6) أنا الربّ قد دعوتك بالبرّ
ب ب- فأمسك بيدك وأحفظك
ج ج- وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم
د د- (7) لتفتح عيون العمي لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.
هـ هـ- (8) أنا الربّ هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. هوذا الأوليّات قد أتت والحديثات أنا مُخْبرٌ بها قبل أن تنبت أعلمكم بها.

3- لاهوت ومعنى أش 42: 1- 9
يمكننا الآن بعد أن قسمنا النص ووزّعنا عناصره، أن ندخل في لاهوته ومعناه محاولين عدم تكرار ما سبق ورأيناه في أش 11: 1- 10.

أ- الروح يدعو وبرسل كي ينجّي ويخلّص (آ 1- 4، 6- 7)
تجدر الإشارة أولاً إلى اسم الإشارة المرتبط بكلمة "عبدي" في آ 1 وهو "هوذا". يشير الربّ إلى العبد الذي اختاره كشخص ينتمي إليه. لذلك فكل ما يفعله وما يقوله هو من الله لأنّه خاصته. ولا تعني كلمة "عبد" المستعبد بل "الخادم"، وهي ترتبط عادة، في إطار كهذا، بالملك داود وبكل سلالته الملكية كما يقوله أشعيا: "فأحمي هذه المدينة وأخلّصها بسببي وبسبب داود عبدي" (أش 37: 35).
وعبد الله هو المسيح الملك الذي سيحكم بحسب مشيئة الربّ من دون خوف لأنّه معه، ومن دون التلفّت إلى الأوثان من حوله لأنّ الربّ هو إلهه (أش 41: 10). يقوّي الربّ خادمه وينصره ويعضده ويشجعه ويواجه أعداءه مكانه (40: 14).
فعندما يختار الربّ عبده أي مسيحه لا يتركه لوحده بل يعضده ويحميه وتتلذّذ به نفسه لأنّه يعمل بحسب مشيئته ولا يقف في سبيل تدبيره الخلاصي لشعبه. وهذا ما يؤكّده أش 42: 6أ عندما يقول: "أنا الربّ قد دعوتك بالبرّ". ترتبط الدعوة إذًا بالربّ العادل والبارّ الذي يدعو مختاريه في سبيل تحقيق ما يرمي إليه، أي من أجل تخليص الشعب وتحقيق البرّ والعدل والسلام في أرضه.
بعد أن أخذ الربّ المبادرة في اختيار المدعو وتنصيبه عبدًا له أي ملكًا على شعبه (آ 1أ و6أ) سيقوم بإرساله. والإرسال بحسب النبي أشعيا لا يتمّ إلاّ مرفقًا بالروح وهذا ما قيل في 48: 16: "والآن أرسلني السيد الربّ هو وروحه" (قارن 61: 1).
استعمل أشعيا هنا فعل "وضعتُ" (آ 1ب) التابع للربّ الذي هو الفاعل. فالربّ إذًا هو الذي يضع روحه على عبده ويمسك بيده ويحفظه (آ 6ب). وعندما نقول: "أمسك بيده" نعني أعانه. وهذا ما يؤكّده أشعيا في قوله: "ودهشت ولم يكن من يعضد فأنجدتني ذراعي" (63: 5). أما "الحفظ" فهو مرتبط بالنجدة والمعونة. والفعل نفسه باللغة العبرية يعني "جَبَلَ" أو "خلق" وهذا ما يشير بوضوح إلى عمل الروح الذي وُضع على العبد المدعو. فالقول: "أمسك بيده وجبله" يرمز أيضًا إلى إعادة تأهيله وتربيته على تسليم نفسه للروح. إذًا فالروح الذي يختار، يربّي ويحضّر مختاريه قبل إرسالهم. بالإضافة إلى ذلك فالفعل نفسه "حفظ" قد يعني أيضًا "وضع جانبًا" أي قدّس وميّز. وعندما نقوله قدّس وميّز نشير إلى انتماء فعلي للربّ القدّوس المقدّس والحافظ والجابل. ونستنتج من ذلك، أن عمل الروح يتعدّى الدعوة والاختيار ليطال المختار في كيانه من أجل تقديسه وتحضيره في سبيل إرساله بين الشعب.
سيقود روح الربّ المختار في سبيل إخراج الحقّ للأمم، أي في سبيل عمل خلاصي شمولي يطال الأمم غير المؤمنين. لا محدودية إذًا لعمل الروح لأنّه تَعدّى الشعب اليهودي ليطال غير اليهودي (آ 1ج).
أما بداية إخراج الحقّ فتبدأ بتحقيق العهد للشعب بواسطة المختار الذي سيصبح عهدًا بحدّ ذاته. والكلمة العبريّة التي استُعملت لتشير إلى الشعب تترجم عادة "بالكثيرين" وهي تتضمّن معاني كثيرة منها القرب بين أعضاء هذا الشعب أو الشعب الإسرائيلي بحدّ ذاته ومنها شعوب الأرض كما هي الحال في 44: 7 و49: 8 و53: 11.
والعهد هنا يشير إلى الخلاص من محنة ما، أي من السبي. فعندما يصبح المدعو "عهدًا"، يتحوّل إلى صلة وصل بين مرسله والمرسَل إليه أي بين الله وشعبه. أزال الله بعبده المُرفَق بروحه كل الحواجز التي تفصل بينه وبين شعبه.
يحتوي "العهد" حكمًا على شرائع وأحكام الربّ (24: 5). لذلك فناقضُ العهد يرفض الله ويتبنّى شرائع الأمم. أما الذي يرتدّ ويعيش العهد، فينطبق عليه قول أشعيا: "من آمن به لن يتزعزع وأجعل من الحقّ حبلاً للقياس ومن البرّ مقياس التسوية" (28: 16- 17).
العهد إذًا هو إيمان وحقّ وبر، والعبد المختار يتحلّى بها لأنّه صار بحدّ ذاته عهدًا للشعب. فالذي يريد الدخول في عهد الله، عليه الانصياع لحامل الروح أي العبد المؤمن الذي سيُخرج الحق لأنّه اختير بالبرّ من قبل الربّ (42: 1 و6).
بالعهد هذا يصبح المختار نورًا ليس للشعب فقط بل للأمم أيضًا (آ 6ج). والنور هو الحقّ. والحقّ في المختار هو نور للأمم، والنور المشّع منه هو مجد الربّ المشرق على العالم أجمع (60: 1).
ويتابع أشعيا قوله: "فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء اشراقك" (آ 3). فالنور إذًا هو الذي سيخرج العالم من الظلمة (42: 7).
أما الشِّيم التي ترافق المختار فهي الصوت المنخفض الخافت الذي لا يُسمع صوته في الشوارع أي في الساحات. والصوت الخافت يوحي بالاطمئنان ويخلق السلام في النفوس.
أما القصبة المرضوضة والفتيلة الخامدة فتشيران إلى ضحايا السبي الذي سبّبه الشعب البالي. والشعب المسبي عادة يكون مجرّدًا من كل قوّة، والضعف متمسِّكًا به (1 مل 14: 15؛ 2 مل 18: 21؛ خر 29: 6) (وأش 43: 17). ويشار إلى هذا الضعف في 42: 7 من خلال عيون العميان والجالسين في الظلمة أي المأسورين والمسبيّين الجالسين في بيت السجن (آ 7). والرموز التي تتضمّن هذا المعنى هي التالية: عدم كسر القصبة المرضوضة (الشعب المسبي)، وعدم إطفاء الفتيلة الخامدة (آ 3). فعندما يتدخّل عبد الربّ في ذلك يكون مدعومًا من روح الربّ لأنّه لا يكلّ ولا يتوقّف ولا ينكسر إلاّ عندما يُخرج الحقّ إلى الأمان ويجسّده في الأرض (آ 3- 4).
يفرض العبد المختار شريعة الربّ في الأرض، وينشر السلام والعدل، ويعيد المسبيين إلى أرضهم حيث سيكون الأمان الحقيقي، أمان الربّ الإله. وعندما ترى الجزائر ما حقّق لشعب الله من مجد، ستعود إليه وتنصاع له منتظرة خلاصه في كل لحظة من لحظات الاستبداد التي تعيشها تحت سيطرة الشعوب الأخرى البابلية (آ 4).

ب- الروح يكشف بعمله عن هويّةَ الربّ الإله (آ 5، 8- 9)
يؤكّد أشعيا النبي على صحة ما قاله حول العبد المختار، فيستعين بالتعابير التي تكشف هويّة المرسل وتقدّمه (آ 5 و8- 9).
يبدأ بعبارة نبويّة في آ 5: "هكذا يقول الله الربّ" كي يعطي لكلمته مصدرًا إلهيًا وسلطانًا مستمدًا من فوق، فيدفع الناس لسماعها، وللتشوّق إلى الكشف عن محتواها. فيصبح العبد المختار سيدًا على كل من تلقّى أو لم يتلقَّ هذه الرسالة لأنّ النبي أكّد على ذلك بسلطة كلمته. فالله الذي تكلّم أعلن عن نفسه:
1. خالق السماوات والأرض (آ 5أ). أي إنّ "اسمه" (آ 8أ) هو "الخالق" الذي ينشر سلطته في كل مكان لأنّ كل شيء هو ملكٌ له.
2. ممّجدًا، ومجد الخالق ظاهر في صنائعه، في خلائقه، وهو لا يُعطى لأحد، أي إن الله واحد لا مثيل له (آ 8ب و5ب).
3. علّة كل موجود، هو الذي بسط الأرض أي صنعها كما هي الآن، وكان سبب كل ما تنتجه (آ 5ج).
4. إله الشعب وخالق الإنسان. أما تسبيح الربّ وتمجيده فلا يصدران عن المنحوتات أي الأوثان أو الأشياء بل عن الشعب الذي اكتسب من الربّ نسمة الحياة وسكن في أرضه لأنّ الربّ أعطاه روحًا. وعندما نجمع بين النسمة والروح نشير إلى أنّ الروح الصادر عن الربّ أي "النفخة" هي التي ستصنع الانسان المجبول بنسمة الحياة كما هي الحال مع آدم في قصة الخلق (تك 1: 30). والسكن بحدّ ذاته مرتبط بالعودة إلى أرض الميعاد. والعودة لا تتمّ إلاّ بواسطة هذا الروح الذي سيُنهض ويُقيم من بين الأموات، أي يعيد الرجاء إلى الساكنين في الظلمة كما هي الحال في حز 37: 1- 14 حين يتكلّم عن رؤية العظام اليابسة.
5. سيّد الأزمنة والأوقات، والربّ يكشف لنا أنّه العالم بكل شيء، عالم بالماضي عندما يقول: "هوذا الأوليّات قد أتت" (آ 9أ) وعالم بالحاضر: "والحديثات أنا مخبرها" (آ 9ب). وعالم بالمستقبل: "قبل أن تنبت أعلمكم بها" (آ 9ج).

4- الخلاصة
بعد الكشف عن توزيع العناصر في النص، إليك أقسامه المبنيّة على الشكل التالي:
أ- المختار (آ 1- 4)
ب- الربّ الخالق الواهب الحياة (آ 5)
أ أ- المدعو (آ 6- 7)
ب ب- الربّ المُمجَّد والعالم بكلّ شيء (آ 8- 9)
يمكننا استنتاج ما يلي: إنّ الربّ يأخذ بنفسه المبادرة الأولى، يختار من يريد، ويدعو من يريد، ولكنّه يتمّم عمله بواسطة الروح. والروح يحلّ على المدعو أو المختار فيعيد خلقه من جديد أي يربّيه تربية إلهية مجبولة بالبرّ والحقّ. والروح بعمله هذا يُشّع نورًا وخلاصًا على كل من يرى في مختاره عبدًا للربّ وخادمًا فينضم إلى قطيعه. والمختار بروح الربّ يصبح صلة وصل بين الله وشعبه فيدعى خادمًا أو كاهنًا أو عهدًا. ولا ينحصر عمل الروح في المختار بل يتعداه كي يطال الشعب في ظلمته وينعكس على كل الأمم التي تحيط به. وكل من يرى عمل الروح في المختار يندفع للاعتراف بالربّ الخالق والواهب الحياة فيمجّده ويعلنه سيّد الأزمنة والأوقات والكون بمجمله، فيسكّنه الربّ في أرضه ويضع فيه روحًا تميّزه عن غيره.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM