الفصل الأول:روح الربّ مخافة وحكمة وعدلا

الفصل الأول
روح الربّ مخافة وحكمة وعدلاالفصل الأول
روح الربّ مخافة وحكمة وعدلا
أش 11: 1- 10

1- لمحة تاريخية
بدأ أشعيا رسالته عندما دعاه الله سنة 740 ق. م.: "في السنة التي مات فيها الملك عزيّا" (6: 1). ظهر على ساحة التاريخ في عصر الازدهار الذي عرفته مملكة يهوذا على أيام الملك آحاز بن يوتام بن عوزيّا (7: 1). ونتيجة الازدهار ظهرت طبقة غنيّة احتكرت الأراضي وحطّمت الفقراء، فراح النبي يندّد بما كان يعتبره نقيض العدل، وينذر الشعب بغضب الله (6: 11- 12). كانت دمشق عاصمة آرام والسامرة عاصمة اسرائيل، تحاولان الوقوف في وجه قوة آشور، بينما آحاز ملك يهوذا يحتمي بآشور (7: 1- 9). وبالرغم من المحاولات التي قامت بها السامرة ودمشق لضمّ آحاز إليهما، بقي هذا الأخير على موقفه. تلك المحاولة كانت سنة 734.
سنة 716 حلّ حزقيا محل آحاز، فظهر النبي من جديد. حزقيا كان بالنسبة لأشعيا الغصن الذي خرج من جذع يسّى وحلّ عليه روح الربّ (11: 1- 2).
هذا ما يخصّ الفصول 1- 39، أما الفصول 40- 55، فأطلق على اسم مؤلّفها أشعيا الثاني وهي تتكلّم عن الجلاء بين سنة 550 و539 ق. م. والحدث فيها انحصر حول كورش ملك الفرس وحول مكان الجلاء. والفصول الباقية 56- 66 نُسبت إلى أشعيا الثالث وهي مشابهة للفصول 40- 55 بتوجّهاتها. أما الفترة التي تتكلّم عنها فهي العودة من الجلاء. والهدف منها السعي لإبقاء الشعب على رجائه رغم الإحباط الذي أصيب به عند عودته. وهذه الفترة قريبة جدًا من فترة حجّاي وزكريّا (1- 8). إنّ الهدف من النبوءات والرؤى كان واحدًا ألا وهو إحياء رجاء الشعب من جديد.
بعد أن أتينا على ذكر التاريخ والأحداث، سنأخذ نصوصًا ثلاثة بعين الاعتبار نظرًا لأهمية المواضيع والتحوّلات التي ذُكرت فيها (11: 1- 10؛ 42: 1- 9؛ 61: 1- 11). سننطلق من هذه النصوص بالذات إلى الآيات والأحداث في كتاب أشعيا وخارجه كي نكتشف النقاط الحساسة التي تبرز صورة الروح وعمله في الكتب الثلاثة التابعة لثلاثة مؤلّفين عاشوا في حقبات مختلفة ولكنّهم طوّروا لاهوتهم انطلاقًا من علاقتهم بعضهم ببعض.

2- تحديد النص وشرحه وتقسيمه
يشكّل النص وحدة أدبية قائمة بحدّ ذاتها نظرًا للتضمين القائم بين الآية 1 التي تتحدّث عن خروج قضيب من جذع يسّى، والآية 10 التي تعيد ذكر أصل يسّى للمرّة الثانية.
بعد التأكّد من وحدة النص يمكننا الانتقال إلى الشرح الذي سيتضمّن تقسيم النص وطريقة توزيع عناصره بالاضافة إلى المعنى واللاهوت الكامنين في داخله.
إنّ عناصر النص موزعة بصورة محورية وبحسب جدول التوازي على الشكل التالي:

أ- جدول التوازي
(1) تكرار كلمتي "يسّى" و"أصوله" (10) أنّ أصل "يسّى"
(2) يعاود الكاتب الإشارة الى "روح المعرفة" في الآية (9) (9) لأنّ الأرض تمتلئ من "معرفة الربّ"

(3) يتم القضاء لا بحسب النظر ولا بحسب السمع (8) عندما يلعب الرضيع على سرب الصلّ بإمكانه النظر الله ولكن بما أنّه رضيع فهو لا يستطيع القضاء. أما الفطيم الذي يمدّ يده الى حجر الأفعوان فهر لا يعتمد إلا على اللمس وعلى السمع وبما أنّه فطيم فهو لا يستطيع الحكم
العدل للمساكين والإنصاف للبائسين (7) عندما يأكل البقرة والدبة والأسد التبن فهم يعيشون المساواة والعدل
(4) إنّ ضرب الأرض بقضيب فمه يعني سوقها وسياستها عندما نقول صبي صغير يسوقها أي يقودها ويسوقها
(5) البرّ والأمانة تناقضان عمل الحيلة والغدر البارزين في الآية 6 حيث الذئب (الحيلة) والنمر (الغدر). (6) الذئب والنمر

3- نص أش 11: 1- 10
أ (1) ويخرج قضيب من جذع يسّى وينبت غصن من أصوله
ب- (2) ويحلّ عليه روح الربّ روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب
ج- (3) ولذّته تكون في مخافة الربّ فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه
د- (4) بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض
هـ- ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه
و- (5) ويكون البرّ منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه
و و- (6) فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي
هـ هـ- والعجل والشبل والمسمّن معًا وصبي صغير يسوقها
د د- (7) والبقرة والدبة ترعيان ويربض أولادهما معًا. والأسد كالبقرة يأكل التبن
ج ج- (8) ويلعب الرضيع على سرب الصلّ، ويضع الفطيم يده على حجر الأفعى
ب ب- (9) لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل مقدسي لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ كما تغطي المياه البحر
أ أ- (10) ويكون في ذلك اليوم أنّ أصل يسّى القائم راية الشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محلّه مجيدًا.

4- لاهوت أش 11: 1- 10
سنحاول بقدر المستطاع الدخول في قلب النصّ آخذين بعين الاعتبار عمل الروح البارز في قلب هذه النبوءة المستقبلية.

أ- ويخرج قضيب من جذع يسّى (آ 1، 10)
يشير خروج القضيب من جذع يسّى (آ 1) إلى المسيح المنتظر الذي ينتمي إلى السلالة الداودية الحاكمة بحسب مشيئة الله وقدرته ووعده. يرتكز هذا العمل الذي يتضمّن اختيار الله لملك ينتمي إلى السلالة الداودية على نبوءة ناتان في 2 صم 7 حيث رضي الله عن داود عبده ووعده بديمومة ملكه إلى الأبد. اعتمد الأنبياء فيما بعد على التعبير نفسه، "جذع يسّى"، للإشارة إلى المسيح الملك الذي سيحقّق إرادة الله الخلاصية في شعبه أو على تعابير أخرى كما هي الحال مع إرميا حين يقول: "ها إنّها ستأتي أيام، يقول الربّ، أقيم فيها لداود نبتًا بارزًا" (إر 23: 5). أو مع زكريا: "هاءنذا آت بعبدي النبت" (3: 8 و6: 12).
إذًا فالنبت أو الجذع هو الملك الذي تنبّأ عنه الأنبياء واختاره الله كي يحكم شعبه. ومستقبل هذا الجذع سيبرز في "ذلك اليوم" (آ 15أ) أي يوم مجيء المخلّص وعودة الشعب من السبي (11: 11 و13: 6). إنّه يوم الربّ الذي صنع فيه سلامًا لشعبه بجمعه المشتتين من أربعة أطراف الأرض (11: 12). وقضى على أعدائه وجعل من أصل يسّى راية انتصار ومجد جذبت إليه باقي المنفيين من اسرائيل ومن يهوذا، ووُحِّدت المملكة وقُضي على كل من كان سببًا في سبي شعب الله (11: 13- 16).
يكمن دور النبت إذًا في قيادة شعب الله نحو أرضه وإزالة كل أعدائه من حوله كي يَثبُت في مكانه ولا يعود يُطرد من بيته. ولكن للوصول إلى هذا الهدف، على هذا النبت أن يكون مسلّحًا بالربّ وبروحه.

ب- حلول روح الربّ على النبت (آ 2، 9)
استعمل الكاتب الفعل "حلّ" كي يشير إلى روح الربّ الذي أتى لمساندة النبت المختار (آ 2أ). ولا ينجح هذا النبت في مهمته التي تتضمّن نشر "معرفة الربّ" (آ 9) في كافة الأرض وإزالة كل عمل سوء في كل الجبل المقدّس أي مسكن الربّ، إلاّ إذا كان قد استمدّ من روح الرب سابقًا ستَّ مواهب: الحكمة، الفهم، المشورة، القوّة، المعرفة، ومخافة الربّ.
ولا يحدّد أشعيا مصدر هذه المواهب إلاّ ليفرّق بين ما هو من صنع البشر وما هو من صنع الله. فالحكمة التي تفتخر بها الأمم (19: 11- 12) تنبع من الحكماء الذين هم عقلاء في أعين أنفسهم (5: 21)، وهي ترتكز على العقل البشري وخبرته (29: 14).
وتوصف حكمة الأمم عادة بالحماقة نظرًا لعدم متانتها ولعدم صمودها أمام الحكمة الإلهية (قارن المراجع نفسها مع تث 32: 6 وإر 4: 22 و8: 9).
أما روح الحكمة فهو قريب من العقل الذي يجمع بين الفطنة والفهم (29: 14 و24) لأنّ الفطنة والفهم موهبتان تساعدان على حسن التصرّف. وبما أنّ "الفهم" الإلهيّ لا يُسبر نظرًا للسرمدية التي يتمتع بها الخالق (40: 28)، فالحصول عليه يحتّم انعامًا خاصًا من روح الربّ بنفسه.
أما المشورة التي ترتكز على حسن التمييز في أخذ القرار (16: 3)، فينبغي أن يمتلكها القاضي والمستشار بهدف نشر العدل والسلام في المملكة (أش 1: 26). والمشير عادة يحمل صفة تخوّله لأن يكون ضمن البلاط الملكي فيساعد الملك على التمييز في القرارات السياسية وفي أخذ الأحكام كما هي الحال لدى الحكماء المشيرين الخاصين بالفرعون المصري (أش 19: 11). وعند العجز عن أخذ القرار من قبل شخص واحد، تُستحسن دعوة الجماعة كي تتشاور من أجل التمييز في أخذ القرار كما يقول أشعيا في 45: 21: "أخبروا وقدّموا براهينكم وليتشاوروا معًا".
ولا تتضمّن القوّة هنا (أش 11: 2) الجبروت المادي كما هي الحال في أش 28: 6 و63: 15، بل المقدرة على أخذ القرار والجرأة على العمل به من دون خوف. والقوّة والشجاعة عنصران أساسيان ينبغي أن يتحلّى بهما صاحب روح المشورة والتمييز والحكمة والفهم كي يستطيع المضي قدمًا في قراراته متخلّصًا من التردّد ومن التراجع عن تجسيدها. وروح القوّة والحزم يخلق حقلاً رائعًا من الأقوال، فيضفي على الواعظ وصاحب الكلمة نورًا رائعًا، جذابًا، يحرّك بقوته حماس السامعين، ويغرس في نفوسهم روح الشجاعة والعزم والاندفاع، من أجل المضي قدمًا في سبيل خوض أية معركة يواجهون خلالها إما نفوسهم الداخلية، وإما الآخرين. وكل ذلك، من أجل الفصل بين السيِّئ والصالح، وإزالة كل عامل يخيفهم ويمنعهم من التقدّم إلى الأمام (2 مك 15: 17).
أما روح المعرفة فهو مرتبط بمخافة الربّ، نظرًا لكون المعرفة تعتمد على الخبرة والاحتكاك. والمعرفة هي بحدّ ذاتها لقاء يتمّ من خلاله التعارف والتعمّق بالآخر أو بالشيء على حدّ مفهوم الكتاب المقدّس ككلّ. وبما أنّ مخافة الربّ تُستمد من العلاقة مع الربّ وعبادته واحترامه وتمجيده، فالمعرفة الإلهية هي كشف لهوية الربّ وإطلالته على البشريّة. فلذلك لا معرفة للربّ دون عيش مخافته. فعندما تمتلئ الأرض من مخافته ومعرفته فإنّه يريهم نفسه (33: 6- 7).

5- روح المعرفة والمخافة يكشفان هوية الربّ
عندما يأخذ الروح مختاره على عاتقه يبدأ بالتنفيذ. ويعيش المختار استسلامًا كاملاً لروح الربّ. وهكذا يمارس من خلاله مُلكه المستمدّ من سلطان إلهي يدعمه في أخذ الأحكام (3) وسياسة الأرض (4) ونشر البرّ والأمانة بين الشعب (5).
أولاً: الاعتماد على الروح في القضاء والحكم (آ 3 أ، 8)
لا يعتمد المختار في قضائه على نظر عينيه أي على ما يراه من مظاهر لأنه يشابه الرضيع الذي يلعب على سرب الصلّ (الأفاعي). فالرضيع يلعب دون خوف على السرب ولا يحكم على ما يراه بأم عينيه، لأنّه لا يحلّل ولا يدرك مكنونات أو نوايا الكائن الذي تعرّض نفسه له أو يكشف له ذاته. لذلك، فالرضيع يعتمد على أمّه التي تشير إليه إما بخطورة ما يراه بصفاء النوايا فيأخذ قراره مرتكزًا عليها وحدها. فالمختار الحكيم يعتمد على روح الربّ في قضائه وليس على ما تراه عيناه، نظرًا لاستسلامه التام له وعيشه مخافة الربّ (آ 8). والفطيم الذي يمدّ يده إلى حجر الأفعى يشابه المختار الذي لا يحكم بحسب سماع أذنيه (آ 8ب). فالفطيم عندما يمدّ يده إلى الحجر لا يستطيع الحكم إلاّ من خلال اللمس كي يتأكد من صحّة ظنونه في وجود الأفعى داخلاً. وقد يتعرّض للّسع إذا ما مدّ يده، وبالرغم من ذلك فهو لا يخاف. مطلوبٌ من المختار عندما يأخذ حكمه، القوّة والشجاعة وعدم الخوف من أخذ الحكم وتجسيده. وتأكيدًا على ذلك، فالعدل هو عمل الملك (32: 1- 3). وهو عطيّة من الله (1: 26) لأنّه يتطلّب تمييزًا يتعدَّى المظاهر (32: 3- 5).
ثانيًا: العدل والإنصاف من ثمار الروح (آ 3ب، 7أ)
يأخذ المختار على عاتقه عندما يكون مستسلمًا لروح الربّ في قضائه وحكمه المسكين والبائس (آ 7ب). القضاء بالعدل للمساكين يشابه البقرة والدبة والأسد الذين يأكلون بالمساواة. أما الحكم بالإنصاف لبائسي الأرض فهو يشبه أولاد البقرة والدبة والأسد الذين يربضون معًا دون أن يتعدّى الواحد على الآخر وممتلكاته (آ 7أ). إذًا فالقوي والضعيف والحاكم وأفراد الشعب العاديون يتساوون في المأكل ولا يتعدّى الواحد منهم على ممتلكات الآخر كي يحلّ السلام في الأرض كافة. فالعدل يطبّق أولاً لصالح الفقراء (29: 19- 20) ويطال القوي والضعيف.
ثالثًا: روح الربّ ينعش كلام المختار وحسن إدارته (آ 4، 7ب)
يتدخّل الروح في عمل المختار فيخرج من فمه كلامًا مشابهًا لكلام الله "بقضيب فمه" (4ب). فعندما نقول "قضيب فمه" نشير إلى القوّة المتّحدة بالكلمة وهذه القوّة لها سلطان الضرب في الأرض: "ويضرب الأرض" (آ 4أ).
إنّ ضرب الأرض بقضيب الفم يعني سياستها وحسن التمييز في إدارتها (9: 6)، كما وأننا نتلمّس الحزم والشجاعة بالرغم من صغر المختار ومحدودية بشريته. فالمختار قادر بقوّة روح الربّ أن يسوس الأرض ويحسن إدارتها دون خوف أو تردّد.
فلا يعود للمنافق أي تأثير على حكم المختار لأنّ هذا الأخير يستمدّ حكمته ومشورته وحسن التمييز من روح الربّ الذي سيكشف له عن نوايا المنافقين الذين يحاولون تضليله. وتشير "نفخة الشفاه" هنا بوضوح، إلى روح الربّ الذي حلّ على المختار. إذًا فعندما نقول: "قضيب الفم ونفخة الشفاه" نعني الكلمة الحيّة المنتعشة بروح الربّ القادر على كشف النوايا وحسن التمييز وسياسة الأرض ومَن فيها. ويُرمز إلى ذلك عندما يقول أشعيا: "والعجل والشبل والمسمن معًا وصبي صغير يسوقها" أي إنّ الشبل لا يستطيع أن يغدر المسمّن ولا العجل لأن الصبي الصغير بحضوره يضبط الأمور ويشلّ المنافق.
رابعًا: روح الربّ برّ وأمانة (آ 5، 6)
أما المختار العادل والحكيم الذي يحكم بكلام الله الموحى إليه من روح الرب، فينبغي أن يتمتَّع بمسلك الإنسان البارّ (آ 5أ).
يتمتّع البارّ بالفرح لأنّه يفرح بثمار أعماله المجبولة بروح الربّ (أش 3: 10). والبارّ صفة تخصّ الربّ كما يقول أشعيا: "من أطراف الأرض سمعت تسابيح: الفخر للبارّ" (24: 16). فالبارّ إذًا يشبه بأعماله الإله الذي اختاره وحلّ عليه بروحه.
والبرارة فضيلة مرتبطة بالأمانة. فالذي يتحلّى بها هو صاحب عزم ثابت يتلقّى رعاية خاصة من الربّ. فالأمانة للبارّ هي علامة توكّله الدائم على الربّ (26: 2- 3). والبارّ هو المستقيم الذي يسير بحسب أحكام الربّ ويسعى لتحقيقها (26: 6). والبارّ إذا ما أختاره الربّ يصبح صخرة خلاص للشعب الذي يوكّله الربّ به.
يترك البارّ إذًا ثياب الذئب وعاداته ويرفض ضروب الاحتيال تجاه الضعفاء الذين لا قوّة لهم كما يشير أشعيا في 11: 6أ عندما يقول: "فيسكن الذئب مع الخروف". أما الغدر فمن عادة النمر أن يمارسه تجاه الجدي (11: 6ب)، ولا علاقة للبارّ به لأنه أمين للربّ دائم الاتكال عليه لا يتعدّى على شعبه.

6- الخلاصة: مخافة الربّ تثبِّت حلول الروح على المختار
إذا ما انطلقنا من مخافة الربّ نشعر بأنّها المولّد الأساسي لكل المواهب التي أنعم بها الروح على المختار. "فمخافة الربّ" كما يقول أشعيا هي "لذّته" أي سبب كل فرحه وكل ما هو عليه. يهب الروحُ المواهبَ للمختار، ولكنه يعتمد على هذا الأخير لكي يتحلّى بمخافة الربّ ليتمّمها ويكتمل بها فيصبح مستعدًا لممارستها والعمل بها بين الناس. ومخافة الربّ بحدّ ذاتها هي من عمل الربّ: "ويحلّ عليه روح الربّ [...] روح المعرفة ومخافة الربّ (11: 2). والمختار يكوّن برارته وأمانته من خلالها لأنّها تتضمّن ممارسة دائمة لعلاقة وفيّة ومخلصة بالربّ.
الذي يخاف الربّ هو المتوكّل دائمًا عليه وإلى الأبد (26: 4) لأنّ الربّ يهتم بالبائس وبالضعيف ولا يترك محبّيه (آ 6). تحتّم مخافة الربّ على النفس اشتياقًا مستعدًا ودائمًا لملاقاة الربّ ورؤية أعماله الخلاصية بين البشر (آ 10- 11)، وللحصول على سلامها منه (آ 12)، من أجل خطوات ثابتة لا تتزعزع إن كان من ناحية العمل أم من ناحية القرارات والأحكام واختيار الأصلح والأصح (آ 12). وأما علاقة الذي يخاف بالربّ، فلا يشاركه بها أحد لأنّه لا يذكر في قلبه سوى اسم الربّ (آ 13). إذًا عندما يتلذّذ المختار الملك بمخافة الربّ فهو عالم كل العلم بأنّ روح الربّ سيغذّي فيه كلّ الفضائل التي تجعل منه صاحب حكمة وفهم ومشورة وقوّة ومعرفة لا توصف بالربّ إلهه (11: 2).

أش 11: 1- 10

1- لمحة تاريخية
بدأ أشعيا رسالته عندما دعاه الله سنة 740 ق. م.: "في السنة التي مات فيها الملك عزيّا" (6: 1). ظهر على ساحة التاريخ في عصر الازدهار الذي عرفته مملكة يهوذا على أيام الملك آحاز بن يوتام بن عوزيّا (7: 1). ونتيجة الازدهار ظهرت طبقة غنيّة احتكرت الأراضي وحطّمت الفقراء، فراح النبي يندّد بما كان يعتبره نقيض العدل، وينذر الشعب بغضب الله (6: 11- 12). كانت دمشق عاصمة آرام والسامرة عاصمة اسرائيل، تحاولان الوقوف في وجه قوة آشور، بينما آحاز ملك يهوذا يحتمي بآشور (7: 1- 9). وبالرغم من المحاولات التي قامت بها السامرة ودمشق لضمّ آحاز إليهما، بقي هذا الأخير على موقفه. تلك المحاولة كانت سنة 734.
سنة 716 حلّ حزقيا محل آحاز، فظهر النبي من جديد. حزقيا كان بالنسبة لأشعيا الغصن الذي خرج من جذع يسّى وحلّ عليه روح الربّ (11: 1- 2).
هذا ما يخصّ الفصول 1- 39، أما الفصول 40- 55، فأطلق على اسم مؤلّفها أشعيا الثاني وهي تتكلّم عن الجلاء بين سنة 550 و539 ق. م. والحدث فيها انحصر حول كورش ملك الفرس وحول مكان الجلاء. والفصول الباقية 56- 66 نُسبت إلى أشعيا الثالث وهي مشابهة للفصول 40- 55 بتوجّهاتها. أما الفترة التي تتكلّم عنها فهي العودة من الجلاء. والهدف منها السعي لإبقاء الشعب على رجائه رغم الإحباط الذي أصيب به عند عودته. وهذه الفترة قريبة جدًا من فترة حجّاي وزكريّا (1- 8). إنّ الهدف من النبوءات والرؤى كان واحدًا ألا وهو إحياء رجاء الشعب من جديد.
بعد أن أتينا على ذكر التاريخ والأحداث، سنأخذ نصوصًا ثلاثة بعين الاعتبار نظرًا لأهمية المواضيع والتحوّلات التي ذُكرت فيها (11: 1- 10؛ 42: 1- 9؛ 61: 1- 11). سننطلق من هذه النصوص بالذات إلى الآيات والأحداث في كتاب أشعيا وخارجه كي نكتشف النقاط الحساسة التي تبرز صورة الروح وعمله في الكتب الثلاثة التابعة لثلاثة مؤلّفين عاشوا في حقبات مختلفة ولكنّهم طوّروا لاهوتهم انطلاقًا من علاقتهم بعضهم ببعض.

2- تحديد النص وشرحه وتقسيمه
يشكّل النص وحدة أدبية قائمة بحدّ ذاتها نظرًا للتضمين القائم بين الآية 1 التي تتحدّث عن خروج قضيب من جذع يسّى، والآية 10 التي تعيد ذكر أصل يسّى للمرّة الثانية.
بعد التأكّد من وحدة النص يمكننا الانتقال إلى الشرح الذي سيتضمّن تقسيم النص وطريقة توزيع عناصره بالاضافة إلى المعنى واللاهوت الكامنين في داخله.
إنّ عناصر النص موزعة بصورة محورية وبحسب جدول التوازي على الشكل التالي:

أ- جدول التوازي
(1) تكرار كلمتي "يسّى" و"أصوله" (10) أنّ أصل "يسّى"
(2) يعاود الكاتب الإشارة الى "روح المعرفة" في الآية (9) (9) لأنّ الأرض تمتلئ من "معرفة الربّ"

(3) يتم القضاء لا بحسب النظر ولا بحسب السمع (8) عندما يلعب الرضيع على سرب الصلّ بإمكانه النظر الله ولكن بما أنّه رضيع فهو لا يستطيع القضاء. أما الفطيم الذي يمدّ يده الى حجر الأفعوان فهر لا يعتمد إلا على اللمس وعلى السمع وبما أنّه فطيم فهو لا يستطيع الحكم
العدل للمساكين والإنصاف للبائسين (7) عندما يأكل البقرة والدبة والأسد التبن فهم يعيشون المساواة والعدل
(4) إنّ ضرب الأرض بقضيب فمه يعني سوقها وسياستها عندما نقول صبي صغير يسوقها أي يقودها ويسوقها
(5) البرّ والأمانة تناقضان عمل الحيلة والغدر البارزين في الآية 6 حيث الذئب (الحيلة) والنمر (الغدر). (6) الذئب والنمر

3- نص أش 11: 1- 10
أ (1) ويخرج قضيب من جذع يسّى وينبت غصن من أصوله
ب- (2) ويحلّ عليه روح الربّ روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب
ج- (3) ولذّته تكون في مخافة الربّ فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه
د- (4) بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض
هـ- ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه
و- (5) ويكون البرّ منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه
و و- (6) فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي
هـ هـ- والعجل والشبل والمسمّن معًا وصبي صغير يسوقها
د د- (7) والبقرة والدبة ترعيان ويربض أولادهما معًا. والأسد كالبقرة يأكل التبن
ج ج- (8) ويلعب الرضيع على سرب الصلّ، ويضع الفطيم يده على حجر الأفعى
ب ب- (9) لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل مقدسي لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ كما تغطي المياه البحر
أ أ- (10) ويكون في ذلك اليوم أنّ أصل يسّى القائم راية الشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محلّه مجيدًا.

4- لاهوت أش 11: 1- 10
سنحاول بقدر المستطاع الدخول في قلب النصّ آخذين بعين الاعتبار عمل الروح البارز في قلب هذه النبوءة المستقبلية.

أ- ويخرج قضيب من جذع يسّى (آ 1، 10)
يشير خروج القضيب من جذع يسّى (آ 1) إلى المسيح المنتظر الذي ينتمي إلى السلالة الداودية الحاكمة بحسب مشيئة الله وقدرته ووعده. يرتكز هذا العمل الذي يتضمّن اختيار الله لملك ينتمي إلى السلالة الداودية على نبوءة ناتان في 2 صم 7 حيث رضي الله عن داود عبده ووعده بديمومة ملكه إلى الأبد. اعتمد الأنبياء فيما بعد على التعبير نفسه، "جذع يسّى"، للإشارة إلى المسيح الملك الذي سيحقّق إرادة الله الخلاصية في شعبه أو على تعابير أخرى كما هي الحال مع إرميا حين يقول: "ها إنّها ستأتي أيام، يقول الربّ، أقيم فيها لداود نبتًا بارزًا" (إر 23: 5). أو مع زكريا: "هاءنذا آت بعبدي النبت" (3: 8 و6: 12).
إذًا فالنبت أو الجذع هو الملك الذي تنبّأ عنه الأنبياء واختاره الله كي يحكم شعبه. ومستقبل هذا الجذع سيبرز في "ذلك اليوم" (آ 15أ) أي يوم مجيء المخلّص وعودة الشعب من السبي (11: 11 و13: 6). إنّه يوم الربّ الذي صنع فيه سلامًا لشعبه بجمعه المشتتين من أربعة أطراف الأرض (11: 12). وقضى على أعدائه وجعل من أصل يسّى راية انتصار ومجد جذبت إليه باقي المنفيين من اسرائيل ومن يهوذا، ووُحِّدت المملكة وقُضي على كل من كان سببًا في سبي شعب الله (11: 13- 16).
يكمن دور النبت إذًا في قيادة شعب الله نحو أرضه وإزالة كل أعدائه من حوله كي يَثبُت في مكانه ولا يعود يُطرد من بيته. ولكن للوصول إلى هذا الهدف، على هذا النبت أن يكون مسلّحًا بالربّ وبروحه.

ب- حلول روح الربّ على النبت (آ 2، 9)
استعمل الكاتب الفعل "حلّ" كي يشير إلى روح الربّ الذي أتى لمساندة النبت المختار (آ 2أ). ولا ينجح هذا النبت في مهمته التي تتضمّن نشر "معرفة الربّ" (آ 9) في كافة الأرض وإزالة كل عمل سوء في كل الجبل المقدّس أي مسكن الربّ، إلاّ إذا كان قد استمدّ من روح الرب سابقًا ستَّ مواهب: الحكمة، الفهم، المشورة، القوّة، المعرفة، ومخافة الربّ.
ولا يحدّد أشعيا مصدر هذه المواهب إلاّ ليفرّق بين ما هو من صنع البشر وما هو من صنع الله. فالحكمة التي تفتخر بها الأمم (19: 11- 12) تنبع من الحكماء الذين هم عقلاء في أعين أنفسهم (5: 21)، وهي ترتكز على العقل البشري وخبرته (29: 14).
وتوصف حكمة الأمم عادة بالحماقة نظرًا لعدم متانتها ولعدم صمودها أمام الحكمة الإلهية (قارن المراجع نفسها مع تث 32: 6 وإر 4: 22 و8: 9).
أما روح الحكمة فهو قريب من العقل الذي يجمع بين الفطنة والفهم (29: 14 و24) لأنّ الفطنة والفهم موهبتان تساعدان على حسن التصرّف. وبما أنّ "الفهم" الإلهيّ لا يُسبر نظرًا للسرمدية التي يتمتع بها الخالق (40: 28)، فالحصول عليه يحتّم انعامًا خاصًا من روح الربّ بنفسه.
أما المشورة التي ترتكز على حسن التمييز في أخذ القرار (16: 3)، فينبغي أن يمتلكها القاضي والمستشار بهدف نشر العدل والسلام في المملكة (أش 1: 26). والمشير عادة يحمل صفة تخوّله لأن يكون ضمن البلاط الملكي فيساعد الملك على التمييز في القرارات السياسية وفي أخذ الأحكام كما هي الحال لدى الحكماء المشيرين الخاصين بالفرعون المصري (أش 19: 11). وعند العجز عن أخذ القرار من قبل شخص واحد، تُستحسن دعوة الجماعة كي تتشاور من أجل التمييز في أخذ القرار كما يقول أشعيا في 45: 21: "أخبروا وقدّموا براهينكم وليتشاوروا معًا".
ولا تتضمّن القوّة هنا (أش 11: 2) الجبروت المادي كما هي الحال في أش 28: 6 و63: 15، بل المقدرة على أخذ القرار والجرأة على العمل به من دون خوف. والقوّة والشجاعة عنصران أساسيان ينبغي أن يتحلّى بهما صاحب روح المشورة والتمييز والحكمة والفهم كي يستطيع المضي قدمًا في قراراته متخلّصًا من التردّد ومن التراجع عن تجسيدها. وروح القوّة والحزم يخلق حقلاً رائعًا من الأقوال، فيضفي على الواعظ وصاحب الكلمة نورًا رائعًا، جذابًا، يحرّك بقوته حماس السامعين، ويغرس في نفوسهم روح الشجاعة والعزم والاندفاع، من أجل المضي قدمًا في سبيل خوض أية معركة يواجهون خلالها إما نفوسهم الداخلية، وإما الآخرين. وكل ذلك، من أجل الفصل بين السيِّئ والصالح، وإزالة كل عامل يخيفهم ويمنعهم من التقدّم إلى الأمام (2 مك 15: 17).
أما روح المعرفة فهو مرتبط بمخافة الربّ، نظرًا لكون المعرفة تعتمد على الخبرة والاحتكاك. والمعرفة هي بحدّ ذاتها لقاء يتمّ من خلاله التعارف والتعمّق بالآخر أو بالشيء على حدّ مفهوم الكتاب المقدّس ككلّ. وبما أنّ مخافة الربّ تُستمد من العلاقة مع الربّ وعبادته واحترامه وتمجيده، فالمعرفة الإلهية هي كشف لهوية الربّ وإطلالته على البشريّة. فلذلك لا معرفة للربّ دون عيش مخافته. فعندما تمتلئ الأرض من مخافته ومعرفته فإنّه يريهم نفسه (33: 6- 7).

5- روح المعرفة والمخافة يكشفان هوية الربّ
عندما يأخذ الروح مختاره على عاتقه يبدأ بالتنفيذ. ويعيش المختار استسلامًا كاملاً لروح الربّ. وهكذا يمارس من خلاله مُلكه المستمدّ من سلطان إلهي يدعمه في أخذ الأحكام (3) وسياسة الأرض (4) ونشر البرّ والأمانة بين الشعب (5).
أولاً: الاعتماد على الروح في القضاء والحكم (آ 3 أ، 8)
لا يعتمد المختار في قضائه على نظر عينيه أي على ما يراه من مظاهر لأنه يشابه الرضيع الذي يلعب على سرب الصلّ (الأفاعي). فالرضيع يلعب دون خوف على السرب ولا يحكم على ما يراه بأم عينيه، لأنّه لا يحلّل ولا يدرك مكنونات أو نوايا الكائن الذي تعرّض نفسه له أو يكشف له ذاته. لذلك، فالرضيع يعتمد على أمّه التي تشير إليه إما بخطورة ما يراه بصفاء النوايا فيأخذ قراره مرتكزًا عليها وحدها. فالمختار الحكيم يعتمد على روح الربّ في قضائه وليس على ما تراه عيناه، نظرًا لاستسلامه التام له وعيشه مخافة الربّ (آ 8). والفطيم الذي يمدّ يده إلى حجر الأفعى يشابه المختار الذي لا يحكم بحسب سماع أذنيه (آ 8ب). فالفطيم عندما يمدّ يده إلى الحجر لا يستطيع الحكم إلاّ من خلال اللمس كي يتأكد من صحّة ظنونه في وجود الأفعى داخلاً. وقد يتعرّض للّسع إذا ما مدّ يده، وبالرغم من ذلك فهو لا يخاف. مطلوبٌ من المختار عندما يأخذ حكمه، القوّة والشجاعة وعدم الخوف من أخذ الحكم وتجسيده. وتأكيدًا على ذلك، فالعدل هو عمل الملك (32: 1- 3). وهو عطيّة من الله (1: 26) لأنّه يتطلّب تمييزًا يتعدَّى المظاهر (32: 3- 5).
ثانيًا: العدل والإنصاف من ثمار الروح (آ 3ب، 7أ)
يأخذ المختار على عاتقه عندما يكون مستسلمًا لروح الربّ في قضائه وحكمه المسكين والبائس (آ 7ب). القضاء بالعدل للمساكين يشابه البقرة والدبة والأسد الذين يأكلون بالمساواة. أما الحكم بالإنصاف لبائسي الأرض فهو يشبه أولاد البقرة والدبة والأسد الذين يربضون معًا دون أن يتعدّى الواحد على الآخر وممتلكاته (آ 7أ). إذًا فالقوي والضعيف والحاكم وأفراد الشعب العاديون يتساوون في المأكل ولا يتعدّى الواحد منهم على ممتلكات الآخر كي يحلّ السلام في الأرض كافة. فالعدل يطبّق أولاً لصالح الفقراء (29: 19- 20) ويطال القوي والضعيف.
ثالثًا: روح الربّ ينعش كلام المختار وحسن إدارته (آ 4، 7ب)
يتدخّل الروح في عمل المختار فيخرج من فمه كلامًا مشابهًا لكلام الله "بقضيب فمه" (4ب). فعندما نقول "قضيب فمه" نشير إلى القوّة المتّحدة بالكلمة وهذه القوّة لها سلطان الضرب في الأرض: "ويضرب الأرض" (آ 4أ).
إنّ ضرب الأرض بقضيب الفم يعني سياستها وحسن التمييز في إدارتها (9: 6)، كما وأننا نتلمّس الحزم والشجاعة بالرغم من صغر المختار ومحدودية بشريته. فالمختار قادر بقوّة روح الربّ أن يسوس الأرض ويحسن إدارتها دون خوف أو تردّد.
فلا يعود للمنافق أي تأثير على حكم المختار لأنّ هذا الأخير يستمدّ حكمته ومشورته وحسن التمييز من روح الربّ الذي سيكشف له عن نوايا المنافقين الذين يحاولون تضليله. وتشير "نفخة الشفاه" هنا بوضوح، إلى روح الربّ الذي حلّ على المختار. إذًا فعندما نقول: "قضيب الفم ونفخة الشفاه" نعني الكلمة الحيّة المنتعشة بروح الربّ القادر على كشف النوايا وحسن التمييز وسياسة الأرض ومَن فيها. ويُرمز إلى ذلك عندما يقول أشعيا: "والعجل والشبل والمسمن معًا وصبي صغير يسوقها" أي إنّ الشبل لا يستطيع أن يغدر المسمّن ولا العجل لأن الصبي الصغير بحضوره يضبط الأمور ويشلّ المنافق.
رابعًا: روح الربّ برّ وأمانة (آ 5، 6)
أما المختار العادل والحكيم الذي يحكم بكلام الله الموحى إليه من روح الرب، فينبغي أن يتمتَّع بمسلك الإنسان البارّ (آ 5أ).
يتمتّع البارّ بالفرح لأنّه يفرح بثمار أعماله المجبولة بروح الربّ (أش 3: 10). والبارّ صفة تخصّ الربّ كما يقول أشعيا: "من أطراف الأرض سمعت تسابيح: الفخر للبارّ" (24: 16). فالبارّ إذًا يشبه بأعماله الإله الذي اختاره وحلّ عليه بروحه.
والبرارة فضيلة مرتبطة بالأمانة. فالذي يتحلّى بها هو صاحب عزم ثابت يتلقّى رعاية خاصة من الربّ. فالأمانة للبارّ هي علامة توكّله الدائم على الربّ (26: 2- 3). والبارّ هو المستقيم الذي يسير بحسب أحكام الربّ ويسعى لتحقيقها (26: 6). والبارّ إذا ما أختاره الربّ يصبح صخرة خلاص للشعب الذي يوكّله الربّ به.
يترك البارّ إذًا ثياب الذئب وعاداته ويرفض ضروب الاحتيال تجاه الضعفاء الذين لا قوّة لهم كما يشير أشعيا في 11: 6أ عندما يقول: "فيسكن الذئب مع الخروف". أما الغدر فمن عادة النمر أن يمارسه تجاه الجدي (11: 6ب)، ولا علاقة للبارّ به لأنه أمين للربّ دائم الاتكال عليه لا يتعدّى على شعبه.

6- الخلاصة: مخافة الربّ تثبِّت حلول الروح على المختار
إذا ما انطلقنا من مخافة الربّ نشعر بأنّها المولّد الأساسي لكل المواهب التي أنعم بها الروح على المختار. "فمخافة الربّ" كما يقول أشعيا هي "لذّته" أي سبب كل فرحه وكل ما هو عليه. يهب الروحُ المواهبَ للمختار، ولكنه يعتمد على هذا الأخير لكي يتحلّى بمخافة الربّ ليتمّمها ويكتمل بها فيصبح مستعدًا لممارستها والعمل بها بين الناس. ومخافة الربّ بحدّ ذاتها هي من عمل الربّ: "ويحلّ عليه روح الربّ [...] روح المعرفة ومخافة الربّ (11: 2). والمختار يكوّن برارته وأمانته من خلالها لأنّها تتضمّن ممارسة دائمة لعلاقة وفيّة ومخلصة بالربّ.
الذي يخاف الربّ هو المتوكّل دائمًا عليه وإلى الأبد (26: 4) لأنّ الربّ يهتم بالبائس وبالضعيف ولا يترك محبّيه (آ 6). تحتّم مخافة الربّ على النفس اشتياقًا مستعدًا ودائمًا لملاقاة الربّ ورؤية أعماله الخلاصية بين البشر (آ 10- 11)، وللحصول على سلامها منه (آ 12)، من أجل خطوات ثابتة لا تتزعزع إن كان من ناحية العمل أم من ناحية القرارات والأحكام واختيار الأصلح والأصح (آ 12). وأما علاقة الذي يخاف بالربّ، فلا يشاركه بها أحد لأنّه لا يذكر في قلبه سوى اسم الربّ (آ 13). إذًا عندما يتلذّذ المختار الملك بمخافة الربّ فهو عالم كل العلم بأنّ روح الربّ سيغذّي فيه كلّ الفضائل التي تجعل منه صاحب حكمة وفهم ومشورة وقوّة ومعرفة لا توصف بالربّ إلهه (11: 2).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM