الفصْلُ الخامِس: آخِرُ أيَّام البَرّيَّة

الفصْلُ الخامِس
آخِرُ أيَّام البَرّيَّة
5 : 1 – 15

أ- المقدمة
1- يجمع ف 5 عناصر مختلفة: كلمة عن التأثير الذي تركه بنو إسرائيل في أرض كنعان (آ 1)، خبر حفلة التطهير التي تمّت في مخيم بني إسرائيل (آ 2-8)، مُلاحظة عن اسم الجِلْجال (آ 9)، خبر الاحتفال بالفصح الأول في أرض كنعان (آ10-12)، وأخيرًا خبر ظهور كريب على يشوع قُرْب أريحا (آ 13-16).
2- إذن لا نستطيع أن نعتبر هذا الفصل وحدة أدبيةً أو موضوعية، ولكن هناك فكرة تُبرّر موضعه وعناصره: إنتهت مرحلة وبدأت مرحلة جديدة، إنتهت مرحلة دشنّها الخروج من مصر، وخلّدتها أربعون سنة في البرّية، وبدأت مرحلة الحياة الحَضَريّة في أرض كنعان.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- ألختان في الجِلْجال (5: 1-9)

(آ 5: 1) سَمِعت الشعوب بمُعجزة عبور الأردن فارتاعت. أجل، لم يعُد بنو إسرائيل، هؤلاء التائهين في البريّة، بل صار لهم مكانٌ في أرض كنعان، بين الأمورييين المُقيمين على الجبال، والكنعانيين سكّان المدن.
قالت راحاب: حلَّ رُعْبكم علينا (2: 9)، وقال الكاتب: "ذابت قلوب سُكّان كنعان". نجد في مثل هذا الكلام تشجيعًا للمُتخاذلين في القرن السابع ق. م.، ألذين جَمدوا من الخوف، أمام الوثنية المُنتصرة. هل أخذت كنعان بَثأرها؟ لا، يقول الكاتب، ومملكة يهوذا، ألبقية الضعيفة، ستجعل اتكالها على قُدرة الله التي لا تُقْهَر.
(آ 2-3) لماذا سُمّيت التلّة "تلّة القلف"؟ لأنها ارتبطت بحفلة ختان، وباحتفال بالفصح. وجد الناس هناك كميّة من الصَوّان المنحوت، فسمّوا المكان تلّة القلف.
أجل، لا بد من الختان قبل الاحتفال بالفصح. ولكن هل خَتَنوا كلّ الشعب؟ هذا أمر غير معقول. ولكنّ المؤرخ الاشتراعي أراد أن يُشدّد على أن الختان يُؤمّن الانتماء إلى شعب الله.
ألآلة المُستعملة في الختان، هي الصَوّان. وهذا ما يعود بنا إلى زمن الحجر المنحوت. إنّ الكاتب يُفضّل المواد الخارجة من يد الخالق، على تلك التي يُهيّئها الإنسان (ألمذبح غير المشغول بالأيدي، رج خر 20: 24).
(آ 4-7) ويُعطي الكاتب الأسباب التي لأجلها لم يختتن الشعب. نُلاحظ أنه لا يُبرز الاشتراك بالفصح، وكأن النصّ يتجاهل خر 12: 1 ي، أو لا يرتبط بعيد الفصح. على كلّ حال، لا بدّ من الخِتان قبل دخول أرض الموعد.
ألأرض التي تدرّ لبنًا وعسلا، هي أرض كنعان المِثَاليّة، بالنسبة إلى هؤلاء البدو الذين عاشوا على حدود الأرض المزروعة.
(آ 8-9) نقرأ تعليل اسم الجِلْجال. ألربّ دحرج عار المصريين عن كاهل بني إسرائيل. كانوا يرتبطون بأصنام مصر، فلمّا اختتنوا، تركوا تلك الأصنام التي هي عار على المُؤمن، وتعلّقوا بالله الحيّ.
2- ألاحتفال بالفصح في الجِلْجال (5: 10-12)

في الإطار الليتورجيّ الحاليّ، نفهم أهميّة طقس التطهير على غير المتطهرين قبل الاحتفال بعيد الفصح (خر 12: 44). فالعُضو في العهد، لا يُعرف إلاّ بالختان الذي هو علامة خارجية جسديّة، والذي هو شرط للمشاركة في الفصح، كما أنّ العماد شرط لكي يُشارك المسيحيّ في الإفخارستيا.
(آ 10) في الرابع عشر من الشهر الأول، أي أبيب أي نيسان في روزنامة الربيع. والرابع عشر هو يوم البَدْر الذي فيه احتفل بنو إسرائيل بالفصح.
إحتفلوا بالفصح في برّية أريحا. هكذا كانو يفعلون، حين كانوا ينتقلون بقُطعانهم من السهول إلى الجبال. لموسى طلب من فرعون، أن يسمح للشعب أن يذهب إلى البرّية، فيحتفل بالعيد (خر 5: 1 ي). والسامريون اليوم يتركون نابلس، ويصعدون إلى جبل جرزيم للاحتفال بالفصح، بعيدًا عن بيوتهم.
(آ 11) ويرتبط عيد الرُعاة، باحتفال الفلاّحين بمحاصيل الحصاد الأولى: يأكلون الفطير وفريك الشعير اللذين هما محاصيل أرض الموعد. هما الباكورة وبداية عطيّة الرب لشعبه، وهكذا بدأ تحقيق المواعيد.
وصار العِبرانيّ فلاحًا، فانتقل من حالة إلى حالة، ولكنّ الله ظلّ هو هو معه، ذلك الإلة المُعطي.
(آ 12) وانقطع المنّ، بعد أن استطاع الإنسان أن يتموّن من الأرض. هذه العلامة الحِسيّة للعناية الإلهية (خر 16: 1 ي)، زالت بعد أن انتقلنا من مرحلة إلى مرحلة، في مراحل التاريخ المُقدّس. وبعد العون العجيب في البريّة، أطلّت معجزة أعظم، ما زال المُؤمن يختبرها (هو 2: 1 ي) ألا وهي غلّة الربيع.
وهكذا تعرّف الشعب في الجلْجال، إلى أمانة الله لوعوده القديمة، فما بقي له إلاّ الثبات في هذه الأمانة
3- ظهور قائد جيش الرب (13:5- 15)

(آ 13) وظهر قائد جيش الربّ بجوار أريحا، وهذا الظهور يذكّرنا بظهوره ليعقوب (تك 32: 25-33) أو لموسى (خر 3: 2- 5) أو لغيرهما. يتمّ الظهور في معبد، وهكذا يعي المُؤمن أنه في مكان مقدّس، وأنه أمام حضور إلهيّ خارق.
ألسيف المسلول علامة المَلاك المُهلك (رج 2 صم 24: 1 ي؛ 1 أخ 16:21). (آ 14) إنّ قائد جيش الربّ يُعْلِن أنه يناصر شعب المَوْعِد.
جيش الربّ يَدُلّ على قوى الطبيعة وغيرها، وهي كلّها بيد الله (1 مل 22: 19؛ مز 148: 2). ألقائد هو الربّ بالذات، وهنا نفهم تصرّف يشوع: سقط على الأرض ساجدًا.
(آ 15) جواب "القائد" هو جواب الربّ لموسى أمام العُلّيقى: إخْلع نَعْليك من رجليك (خر 3: 5). وهكذا يبدأ وَحْي ليشوع، لا يُورده الكتاب، كالوحي الذي أُعطِيَ لموسى.

ج- ملاحظات حول الفصل الخامس
1- حول الخِتان. نذكر هنا، أنه خلال الألف الأول ق. م.، مارس الختان جميع الشعوب الأسيويّة الغربيين (ار 9: 24 ي)، ولكنّ الوضع غامض في النصف الثاني من الألف الثاني. فعاجيات مجدّو، تدلّنا على أسيرين مختونين، ولكنّنا لم نجد شيئًا من ذلك في أوغاريت. في مصر مارس الختان طبقات الشعب الرفيعة، كطَقس يُعِدّ للزواج. ولكنّ الممارسة لم تكن إجبارية. يبدو أنّ الفلسطيين وأهل بلاد الرافدين، لم يُمَارسوا الخِتان (قض 14: 3؛ 15: 8؛ 1 صم 17: 26؛ 18: 25 ي؛ 31: 4). أمّا بنو إسرائيل فقد مارسوا الخِتان عند الأطفال (خر 4: 24-26)، فنزعوا عنه كلّ علاقة بطقوس المُراهقة.
إرتبط الخِتان بالعهد في شعب إسرائيل، فلم يَعُد طقس تدرّج للزواج بل فِعْلَ ارتباط بالربّ وانتماءً إلى شعبه. والمؤرّخ الاشتراعيّ الذي يَعِظُ المنفيين، يذكرّهم أنّ الختان هو مع المحافظة على السبت، والامتناع عن بعض الأطعمة، العناصر المهمة الكفيلة بالتعبير عن ايمانهم وسط عالم غريب.
2- ألربّ هو قائد يُحارب الكنعانيين. عندما نسمع مثل هذا الكلام ندهش، وكأنّ الرب رَجُلُ حرب يساعد شعبًا على شعب آخر. لمّا كتب المؤرّخ هذا الكلام في القرن السابع، كانت مملكة يهوذا مملكة صغيرة، لم تكن تستطيع أن تقوم بحرب ضدّ الكنعانيين أو غيرهم. ولكنّ الشعب الآن يُقيم في أرض هو أضعف من أن يَقْدِرَ على امتلاكها. إذًا الله أعطاه إيّاها. وهو يحكم على الأحداث الماضية، على ضوء النتائج الحاضرة. فحروب الربّ ساعدت بني إسرائيل أن يكون لهم مكان تحت الشمس، على غرار سائر الشعوب، وأعطتهم الحرّية الضرورية لحياتهم كشعب الله، وأنجحتهم في إقامة مُلكٍ يكون المَلِكُ فيه عابدًا للرب ووسيطًا بينه وبين شعبه. ولكنّ الحالة تبدّلت الآن، لهذا يُعلن المؤمن انتصارات الربّ الممكنة اليوم، شرط أن يخدم الشعبُ ربّه بأمانة.
ويُوجهّنا سفر التثنية وتعليم الانبياء إلى عدوّ آخر، هو الشِرْك والفساد وبَغَاء الفكر وعدم اختتان الإنسان بقلبه. لا بدّ لله من أن يحتلّ قلب الإنسان. إذًا هناك حرب ضدّ خَصْم ظاهر، وعلى الإنسان أن ينتصر على نفسه وعلى الشرّ الذي فيه. والعهد المُقدّس لا يكون حقيقة وواقعًا إلا إذا كان هناك توبة والتزام (24: 16-17؛ ار 31: 31- 34).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM