الفصْل الرّابع
المعبَدُ الأوّل
4 : 1 – 24
أ- المُقدّمة
1- هذا الفصل تتّمة للفصل السابق، وهو يتحدّث منذ الأية الأولى، عن مرحلة جديدة في طريق يشوع ورجاله إلى غربي الأردن. في اللغة الحربيّة، نتكلّم عن إقامة رأس جسر. ولكنّ الكاتب الملهم، يهتمّ أوّل ما يهتمّ، بالإطار الدينيّ.
2- ينغمس هذا الفصل في تاريخ إقامة أقدم معبد إسرائيلي في الهواء الطلق في أرض كنعان. لا شك في أنه كانت هناك معابد أخرى، تترّدد إليها سائر القبائل: حبرون لقبيلة يهوذا، شكيم ليعقوب. هذه المعابد تعود إلى زمن سحيق وسابق لمجيء بني إسرائيل إلى كنعان.
3- يبدو أنّ معبد الجِلْجال بُني قبل مجيء بني إسرائيل إلى كنعان، واسم الجلجال معروف مثل أريحا (آ 19). معنى الفعل جلل: دحرج، قتَل، بَرَم. والجلْجال هو دائرة من الحجارة، تُحدّد مكانًا للعبادة في الهواء الطلق. فالكنعانيون كانوا يصنعون معابدهم على هذا الشكل. وسيظل المعبد كنعانيًا حتى القرن الثامن ق. م.، فيُهاجم الأنبياء العبادة التي تُقام فيه. قال هوشع (4: 15) للشعب: "لا تأتوا إلى الجِلْجال، ولا تصعدوا إلى بيت أون " (رج هو 9: 15؛ 12:12) وقال عاموس (4: 4): "في الجِلْجال أكثروا من المعاصي" (رج عا 5:5).
ب- شرح الآيات الكتابية
1- إثنا عشر حجرًا (4: 1-9)
نجد هنا نسختين لموضوع مشترك: ألاثنا عشر حجرًا التي تُمثّل الأبطال الأقدمين. في النسخة الأولى نجد اثني عشر عمودًا مركوزًا على ضِفّة النهر الغربية بعد عُبور النهر (آ 1-7، 6-8، 20؛ رج 3: 16-17). في النسخة الثانية يأخذون حجارة من ضِفّة الأردن الشرقية ويجعلونها في النهر حيث كانت أرجل الكهنة الحاملين التابوت (آ 4-5، 8-9، 15-19، 21-24). إنّ آ10-12 تُحاول أن تجمع بين النسختين، وإن كانت تميل إلى النسخة الثانية. ألحجارة علامة وهي تُلفت الانتباه وتطرح سؤالاً. ألأبناء الذين لا يعرفون (تث: 31: 13؛ 32: 7) يسألون آباءهم أو شيوخهم (خر 12: 26- 27؛ 13: 14؛ تث 6: 20- 25).
(آ 6) العلامة تُصبح أمثولة وتعليمًا ووحيًا وتَذكارًا (آ 7)، والتذكار طَقسٌ يؤوّن حدثًا من التاريخ المقدّس، فيجعله حاضرًا للمؤمن اليوم. هو لا يُنتج الحَدَث من جديد، والحدث حصل مرةً واحدةً ولن يتكرر. التذكار يربطنا بالحَدث، بالله الذي تدخّل في هذا الحدث، بالشعب الذي يستفيد منه. من يحتفل بالتذكار، يُشارك فيه ويحياه، وكأنه كان حاضرًا فيه حين حصل.
2- عبور الأردن (4: 10-18)
(آ10- 11) عَبَرَ الشعب جميعهم والكهنة واقفون في النهر. تمّت الآن الكلمات التي قالها يشوع.
(آ 12-13) شدّد الكاتب على مُشاركة كلّ بني إسرائيل في القتال وفي الاحتفالات، ولم ينسَ قبائل شرقيّ الأردن: رأوبين وجاد ومنسّى. أمّا ذِكْر الأربعين ألفًا، فهو رقم تقريبي، والألف تعني مجموعة. فيكون أن أربعين مجموعة من هذه القبائل الثلاث، شاركت في الاحتفال وفي الحرب.
(آ 14-18) ويعود الكاتب فيُحدّثنا عن عُبور النهر مع بعض التكرار، فيُشدّد على الدهشة التي تملأ قلب المؤمن لدى رؤيته أعمال الله. ألله فَعَل في الماضي، وكان حاضرًا مع شعبه حين كان يردّد في شعائر عبادته، أعمال الله القديمة والعجيبة. وهكذا كان المُؤرّخ يبني شعبه بناءً روحيًا، وحالته تُشبه، إلى حدٍّ بعيد، حالة أجداده البدو الذين يستعدّون لمُغامرة، وسينجحون فيها كلّ النجاح بفضل الله.
3- الوصول إلى الجِلْجال (4: 19-24)
(آ 19) نقرأ هنا توقيتًا آخر (ألتوقيت الأول رج 1: 11، 3: 2) أدق من الأوّل وهو: 10 نيسان. هذه محطة ليتُورجيّة هامة في عيد الربيع، حيث يحتفلون بحَدَث الخروج الحاضر. وهكذا يدخل الشعب في الأسبوع الذي يُهيئهم لعيد الفصح.
(آ 20-23) (رج آ 6-7) سؤال يطرحه أبناء الذين عبروا، فاختبروا الاختبار الأول. سؤال يطرحه المُشاركون في عبادة الجلجال، على المحتفلين الذين هم الكهنة والحارسون للتقاليد القديمة. وهكذا كانت الحجارة للشعب المُحتفِل مناسبة لحوار، يعيد إلى اذهان الجماعة، ذكرى البحر الأحمر.
(آ 24) تحرّر الحدث من حدوده المحلّية، وامتدّ إلى الكون، فعرض ما فعله الله. وما كان صحيحًا في ذلك الوقت، وقت العبور، هو صحيح الآن يوم يَكتُب الكاتب. يئنّ الشعب من الحالة الحاضرة، ويظنّ أن مواعيد الله ومُعجزاته، تظلّ في الماضي ولا ترتبط بواقع الحاضر المُؤلم. لا، فالله هو هو، ومجدُه سيظهر في جميع الشعوب. هذا البُعد الكونيّ نجده في أناشيد عبد يهوه (اش 42: 16 ؛ 49: 6). ويرتدّ الوثنيون بسبب أعمال الله، فيؤثّر ارتدادهم في شعب الله المدهوش بعجائب الله. هذا ما يقوله القدّيس بولس أيضًا (روم 11: 11-15): ردّة الفعل الطيّبة عند الوثنيين على كرازة الإنجيل، ستُثير غيرة بني إسرائيل، فيرتدّون إلى الرب.
ج- ملاحظات حول الفصل الرابع
1- نحن هنا أمام خَبَرين يرتبطان بعبُور النهر: تأسيس معبد الجِلْجال بإقامة اثنتي عشرة مِسلَّة، وضع اثني عشر حجرًا وسط النهر في المجازة المعروفة. إذا كان المقطع الذي نقرأه، هو نتيجة إدخال ليتورجيا قديمة في التاريخ، حلّ محلّ التقليد الاخباري، فيبدو من النافل أن نطرح سؤالاً حول تاريخيةِ الأحداث: لا شكّ في أنّ الاحتفال بالشعائر في الجِلجال، قُرْب أريحا أمر تاريخي، وأنّ مضمون هذا الاحتفال تاريخيّ كالاحتفال بالفصح والخروج والاحتلال (ف 6). ولكن متى احتُفِل بهذا العيد؟ في زمن شاول، يوم كان معبد الجِلْجال في أوجه، وهو البعيد عن يد الفلسطيين الذين دمّروا معبد شيلو، في الربع الأخير من القرن الحادي عشر . هل كان هذا المعبد موجودًا قبل بني إسرائيل؟ ألجواب: نعم، لأنه يُشبه إلى حدٍّ بعيد المعابد الكنعانية القديمة (رج قض 3: 19) .
2- نحن أمام عمل مقدّس: ألناس الذين يُشاركون فيه، يعرفون أنّ كلّ شيء تقرر من أجلهم: فالحركات الليتورجيّة المُتنوّعة تحتفل بتدخّل الله العجيب. وكما يحدُث في العالم السامي الغربي، يحدُث هنا. فإذا أراد الإنسان أن يشدّد على أهمية عمل، فهو يردّد الكلمة مرارًا، لتكون مدخلاً إلى المغزى. فكلمة "عبر" (عبر في العبرية أيضًا) تتردد 22 مرّة، وكلمة وقف (عمد في العبرية) تتردد 5 مرّات. بهاتين الكلمتين ندخل في صُلْب الخبر: فالأردن يشكّل حدودًا طبيعية للأرض من جهة الشرق، ومن عَبرَهُ يكون وكأنه وضَع يده على الأرض. فعبور القدر، هو بداية الاحتلال وبداية تتّمة المواعيد القديمة. وهكذا عاد المؤرخ الاشتراعي إلى ليتورجيا قديمة، فجعلها في أساس خَبَرِه: في ذلك الوقت كان من المُحال أن ينجح العبرانيون، بعد أن اجتمعت الطبيعة والناس على بني إسرائيل. ولكنّ الله حقّق مواعيده. هنا نفهم 3: 10 التي تقول: "ألله الحيّ هو في ما بينكم " والتي كُتِبَت يوم كان الشعب بعيدًا عن الحضور الإلهيّ (ترك الله شعبه. رج مز 11: 22 ي)، وعن قدرة الله (الذي ما استطاع أن يحمي شعبه رج ار 29:31؛ حز 18: 2)، وعن مواعيده المعلَّقة منذ زمان بعيد. وعن هذه الحالة، أجاب المؤرّخ الاشتراعي وقال: ألله هو اليوم كما كان في البداية، ومواعيده حاضرة دائمة، وهو يحقّق اليوم ما قاله لشعبه كما حقّقه في الأجيال السابقة.
3- عبور نهر الأردن كعبور البحر الأحمر، يشكّل عُنصرًا رئيسيًا للعمل الطقسيّ، يرتبط بمعجزة المياه. فالمُشاركون اليوم يُحسّون أنهم وآباؤهم واحد، أنهم متحدون مع آبائهم. وكيف كانوا يحتفلون بالليتورجيا؟ كان حاملو التابوت يتوقّفون، فيمرّ أمامه المؤمنون. وجود التابوت في وسط النهر هو سبب المعجزة. وعندما يمرّ الشعب يبدو وكأنه في استعراض أمام علامة حضور الله. إختار الله ان يرافق سنويًا جماعته في احتفالها، فيكون حضوره رباطًا لا ينقطع بين الأجيال المُتعاقبة. وهكذا عاد المؤرخ الاشتراعيّ إلى 7:3 و 4: 14، ليشدّد على التواصل التاريخي بين الزمن الأول والزمن الحاضر في التاريخ المُقدّس