سِفْرُ يَشُوع بْن نوُن

سِفْرُ يَشُوع بْن نوُن

المقَدّمة

1- عُنوان الكتاب وموضوعه
إنّ سِفْر يشوع يفتح سلسلة الأنبياء الأولين (نبييم ريشيم أي الذين في الرأس). أما موضوع الكتاب الرئيسيّ، فهو احتلال أرض كنعان الواقعة غربيّ الأردن. هنا نشير إلى أنّ أرض شرقي الأردن، قد استولى عليها العبرانيّون في زمن موسى، على ما نقرأ في عد 32 وتث 3: 12-20. وعنوان الكتاب يأتيه من اسم بطله: يشوع (يهوشع) بن نون الذي بقيادته، إستطاع العِبرانيّون أن يطأوا بأقدامهم مناطق واسعة من التلال الكنعانية. اسم يشوع يُعبّر عن أنقى ما في الإيمان اليهوديّ، وهو يعني: الله يُخلّص. هناك الصيغة الطويلة (يهوشع) الموجودة في النصوص القديمة. أما الصيغة القصيرة (يشوع) فنجدها في أسفار ما بعد الجلاء، كالأخبار وعزرا ونحميا (2 أخ 31: 15؛ عز 2: 2، 6، 36، 40؛ 3: 2، 8، 9 ؛ 4: 3 ؛ 5: 2؛ 8: 33؛ 10: 18، نح 3: 19؛ 7: 7، 11، 39 ،43 ؛7:8 ،17؛ 4:19، 5؛ 10 : 9، 11، 26؛ 12: 1 ،7 ،8، 10، 24، 26). أما اسم هوشع الذي حمله أحد الأنبياء وآخر ملوك مملكة إسرائيل، فنجده في عد 8:13-16؛ وتث 44:32.
عرَّفتنا تقاليد البنتاتوكس إلى يشوع بن نون خادم موسى ومُساعده (خر 13:24؛ 33: 11 ؛ عد 28:11). فقد قاد جيوش العبرانيين في حربهم على بني عماليق (خر 8:17-16) ورافق معلّمه إلى جبل سيناء، يوم أعطى الربّ موسى لوحي الوصايا (خر 13:24؛ 17:32)، وحرس خيمة الاجتماع (33: 11) بعد عبادة العجل الذهبي.
كان اسمه هوشع (أي الخلاص). وكان من قبيلة إفرائيم وممثّلها بين الجواسيس الاثني عشر الذين أرسلهم موسى ليجسّوا أرض كنعان. ولمّا عاد الجواسيس لم يكن إلا هو وكالب، ليُعارضا تخاذل الأخرين ويقترحا أن تبدأ عملية احتلال الأرض (عد 13 : 30؛ 14 : 6، 30، 38). عيّنه موسى خلفًا له، وسلّم إليه سلطانه (عد 27: 15-23)، فصار قائد الشعب بعد موت مُخلّص العبرانيّين من عُبوديّة مصر (تث 9:34).
أمّا الخبر في سِفْر يشوع، فيبدأ بأمر الربّ إلى يشوع أن يَعْبُر الأردن، ويُدخل الشعب العِبرانيّ إلى أرض كنعان. قاد الرئيس الجديد رجاله إلى الحرب، فاستطاع أن يضع يده على الوسط والجنوب والشَمال بواسطة حملات سريعة انتصر فيها. وبعد هذا ترأس يشوع اقتسام الأرض بين القبائل، ثمّ أطلق قبائل شرقيّ الأردن إلى أرضها. وقبل أن يموت وجّه إلى الشعب خُطبتين سابقتين لتجديد العهد في شكيم. وينتهي خبر الاستيلاء على أرض الميعاد، بموت يشوع والكاهن الأعظم ألعازار.
هذه الأحداث تُشكّل سلسلة أحداث التاريخ المقدّس، كما رسم البنتاتوكس خطوطه العريضة. قاد موسى قبائل العبرانيين إلى عتبة أرض الموعد، وأعطاهم شريعة يحفظونها كشرط ليحيوا، ويُقيموا أيامًا طويلة في الأرض التي حلف الله لأبائهم إبراهيم وإسحق ويعقوب، أن يعطيهم (تث 30: 15-20). أما موسى فما وصل إلى أرض الموعد بل نظر من بعيد، قبل أن يموت، إلى الأرض التي اشتهاها وما دخلها (تث 34: 1- 5). وسِفْر يشوع يشدّد دومًا على أنّ المواعيد الإلهية تمّت، ولكنّه ما زال يُذكّر العبرانيين بما ألزموا نفوسهم به أمام الرب. سيضع هذا الشعب يده على ميراث انتظره، فوهبه الله إيّاه، ولكنّه لن يُحافظ عليه إلا إذا ظلّ أمينًا لشريعة موسى (1: 6-9؛ 8: 32-35، 11: 15؛ 3:23-16). ووضع يشوع القبائل أمام مصير من السعادة أو من الشقاء، يرتبط باختيارهم: هل سيختارون الربّ رغم كلّ الصعوبات، أم أنّهم سيتبعون عوائد الأمم الكنعانية، فيعبدون آلهة الطبيعة والخِصْب... ظلّ العبرانيّون أمينين للرب ما دام يشوع حيًا. ولكنّهم هل يظلّون على هذه الأمانة بعد موته؟ ألجواب لا. ولو ظلّوا لما قادتهم ظروفُ الحياة على طُرُق المنفى إلى أشور وبابل.

2- تصميم الكتاب
ينقسم سِفْر يشوع ثلاثة أقسام: إحتلال الأرض، إقتسام الأرض، ألعهد في الأرض. في القسم الأول الذي هو احتلال الأرض (ف 1-12)، تستوقفنا المُقدِّمة (ف 1). ثمّ يجسّ العبرانيون مِنطقة أريحا ويلتقون راحاب (ف 2)، قبل أن يعبُروا الأردن نحو الغرب (3: 1-5: 1)، ويأخذوا منه حجارة يبنون بها معبدًا في الجِلْجَال. وبعد احتفالات دينيّة في الجِلْجَال (5: 2 ي)، إحتلّ العبرانيّون أريحا (ف 6)، وهاجموا ألعيّ وغيرها (7: 1-29:8)، وأنهوا هذه المرحلة باحتفال في شكيم (8: 30-35). ويروي لنا الكاتب حيلة الجبعونيين، ليدخلوا في معاهدة مع العبرانيّين (ف 9)، قبل أن يُرينا الحملة على جبعون، والانطلاق إلى الجَنُوب (ف 10)، ثمّ إلى الشمَال (11: 1-15). وينتهي القسم الأول بلائحة الملوك الذين قهرهم يشوع (11 : 16-24:12). في القسم الثاني نشاهد اقتسام الأرض بين القبائل (ف 13- 21)، فنتذّكر الحملات التي قام بها الشعب في شرقيّ الأردن (ف 13)، وننتقل إلى الجِلْجال حيث يُعطي يشوع مناطق لكالب (13:14-15)، ويهوذا (ف 15)، وإفرائيم ومنّسى (ف 16-17). ثمّ نقف في معبد شيلو، فيُعطي يشوع مناطق للقبائل السبع الباقية: بنيامين (ف 18)، شمعون (19: 1-9)، زبولون (19: 10-16)، يساكر (19: 17-23)، أشير (19: 24- 31)، نفتالي (19: 32- 39)، دان (19: 40-48)، ويتّخذ يشوع لنفسه مدينة في أرض إفرائيم (19: 49- 50)، ثمّ يُعيّن مُدُنًا يلجأ إليها القاتل عن غير عَمد (ف 20)، ومُدُنًا مخصصة لإقامة اللاويين (ف 21). وهكذا يكون لنا 12 قبيلة أقامت في غربيّ الأردن، وقبيلتان ونصف قبيلة في شرقيّ الأردن. ولكن لا ننسى أن كالب وشمعون، كانا جُزءًا من يهوذا، ولهذا ظلّ العدد 12 كما في التقليد القديم. في القسم الثالث (ف 22-24) نقرأ عن العهد في أرض الله. بعد أن عادت قبائل شرقيّ الأردن إلى أرضها (ف 22)، خطب يشوع مرة أولى في الشعب، فذكّرهم ببنود العهد (ف 23)، ثمّ جمعهم في شكيم، وخطب فيهم مرة ثانية، مُذّكرًا إيّاهم بأنّ حالتهم تصير إلى الخراب إن لم يحفظوا العهد (24: 1-28). وهذا ما يحصل للسامرة سنة 722، ولأورشليم سنة 587 يوم يذهب أهلهما إلى السبي في ما وراء نهر الفُرات. وينتهي القسم الثالث فيقدّم لنا تقاليد عن مدافن يشوع ويوسف وألعازار (24: 29- 33).

3- تأليف الكتاب
إنّ قراءة سريعة للكتاب، تؤكّد ما سنتعرّف إليه حين نُحلّله: كتاب جُمعت موادّه من هنا وهناك، وقُدّمت إلى القارىء. نُحِسّ أننا أمام احتلال سريع وكامل لأرض كنعان، يتبعه حالاً اقتسام الأرض. ولكنّ القسم الجُغرافيّ (ف 13- 21) يتميّز عن القسم الإخباريّ (ف 1-12، ف 22-24)، والأخبار ترتبط بفنون أدبيّة متعددة. هذا ما نتعرّف إليه، مستفيدين من المراجع التي عاد إليها المؤرخ الاشتراعيّ، ليُدوّن كتابه في صورته النهائية.
في القسم الأول (ف 1-12) نلاحظ أننا أمام موادّ متنوعة، تكاد ترتبط كلّها بأرض بنيامين وبمعبدها في الجِلْجال. ونعرف أنّ هذا المعبد، صار المعبد الوطنيّ في عهد شاول البنياميّني، بعد أن دُمِّر معبد شيلو. ولما مات شاول لم يعرف الجِلْجال الانحطاط بل ظلّ مُحافظًا على بعض النفوذ خلال وجود مملكة إسرائيل (1 صم 11: 1 ي؛ 2 مل 2: 1؛ عا4: 4؛ 5: 5؛ هو 4: 15؛ 15:9؛ 12: 15). ومن الجِلْجال انطلقت الجيوش لاحتلال أرض بنيامين، والامتداد إلى الجَنوب (10: 8-9)، وفي الجِلْجال قُسّمت الأرض مرة أولى بين يهوذا وإفرإئيم.
وهكذا نستطيع القول إنّ تقاليد القسم الأول من الكتاب، تكاد ترجع كلّها إلى قبيلة بنيامين، وترتبط بمعبد الجِلْجال. ولكن هناك بعض التقاليد، تكشف مَيْلَ الكاتب إلى ربط بعض الأحداث بهذا المعبد، مع العلم أنها بعيدة عنه، أقلّه جغرافيًا. والنتيجة: معبد الجِلْجال هو الموضع الذي تتأصّل فيه تقاليد القسم الأول من الكتاب، وهناك جُمِعَت، ومن هناك انتقلت.
ألقسم الثاني (ف 13- 21) يتضّمن وثيقتين موجودتين وسط مقاطع جُغرافية: نظام الحدود بين قبائل العبرانيّين، يحتوي مناطق احتلّوها أو مناطق يشتاقون إلى احتلالها. والوثيقة الثانية مكونّة من لائحة أمكنة موزّعة على 12 إقليمًا في يهوذا (15: 21-62 ؛25:18-28). هل تمّ هذا التنظيم في زمن يوشيا، يوم امتدت مملكة الجَنوب إلى الشمَال، أم في عهد رحبعام الذي اقتدى بأبيه سليمان في تنظيم مملكة إسرائيل (1 مل 4)؟
ونجد في القسم الثاني أيضًا مقاطع قديمة جديدة، تُوازي ما نقرأه في سفر القُضاة، فتُعارض النِظْرة التي تعتبر أنّ العبرانيين كانوا جيشًا واحدًا حين احتلوا أرض كنعان. هذه المقاطع تحوي رسم مناطق، ما استطاعت القبائل أن تحتلها قبل العهد الملكيّ (15 :13-19، 63؛ 16 : 10؛ 17: 11-13؛ 47:19؛ قابِلْها مع قض 1: 11-15، 21، 27-29؛ 35:34).
وهناك لائحتان في القسم الثاني، مُدُن الملجإ والمُدُن اللاويّة. هذه نُظِّمت في عهد سليمان، وأعيد تنظيمها في أيام يوشيا وإصلاحه الدينيّ.
القسم الأول تاريخيّ، والقسم الثاني جُغرافي؛ والواحد مُستقلّ عن الآخر، وقد دُوِّنا خلال القرن السادس ق. م. بعد هذا دُوِّن الفصل الأول وكلّ القسم الثالث (ف 22-24)، فكونت الإطار للقِسمين الأولين: ألخُطَب تحتلّ فيها مكانة الصدارة، والأسلوب والأفكار، هي أسلوب وأفكار سِفر تثنية الاشتراع حيث يستعيد الكاتب فرائضه عن شروط الدخول إلى أرض الميعاد، وتعاليمه عن الشريعة والعبادة لله الواحد.

4- ألفن الأدبيّ
لن نعجب إن وجدنا في سفر يشوع مقاطع أدبيّة متنوعة. ويكفي لذلك، أن نُقابل بين خبر احتلال أريحا وعناصر من سِجِلّ المساحة في بعض القبائل وتحريض يشوع في ف 1 أو 23. فهذا التنّوع علامة غِنى الكتاب، ولهذا لا نستطيع أن نحصُره في فن أدبيّ واحد. ولكن هناك سمات نكتشفها، ولا بُدّ من أن نأخذها بعين الاعتبار، حين نقيِّم الكتاب من الوُجْهَة التاريخية أو من الوُجْهَة الدينية. لهذا يتميّز سِفْر يشوع بأنّه تاريخ ملحميّ، وتاريخ إيماني.
وإذا أردنا أن نكتشف أنّه تاريخ ملحميّ، يكفي أن نقرأ خبر احتلال أريحا والعيّ ومعركة جَبْعُون، لنُحِسّ بالنفس الملحميّ في الكتاب. هذه الانتصارات سيطرت على الذكريات الشعبية. كلّ شيء في الخبر يريد أن يعبّر عن أهميته، وأن ينسب مجد النصر إلى الله: مُغالاة، تكبير الأرقام، إخفاء العوامل البشرية لإنجاح العمل الإلهيّ، تشديد على الأمور الغريبة والعجيبة. ويساعدنا الكتاب على التعرّف إلى الأسلوب البُطوليّ في بعض صفحاته. من جهة هناك أرقام معقولة وغير مُضخّمة (8: 3-12)، والحِيلة البشريّة تلعب دورًا عظيمًا: الجاسوسان في أريحا (ف 2) والحرب أمام المدينة (2: 11) الكمين في العيّ (ف 8) والمسيرة الليليّة لاحتلال جَبْعون عند الصباح (10: 9). ومن جهة ثانية نقرأ نشيدًا قديمًا للشمس والقمر، سيتحوّل فيصبح عُنصرًا في الخبر. وهكذا يزيد الراوي على انتصار جبعون إشارة فيملأ السامعين إعجابًا، فيقولون: كان يوم النصر، أطولَ يوم رآه إنسان في حياته (10 : 12-14).
وهناك خطّ قريب من خطّ الملحمة، يستعمله الكاتب ليدُلّ على مضمون الحَدَث: يرسم باختصار صورة احتلال سريع للأرض كلّها: إرتاحت البلاد من سُكّانها الأصليين، وبقي العبرانيون وحدهم، بعد أن اجتمعوا وحاربوا الأعداء بقيادة رجل واحد هو يشوع. في هذا الإطار حافظ الكتاب على تقاليد ووثائق تُشير إلى الطابع المثالي لهذه الصورة. فبداية سَفْر القضاة تذكّرنا أن القبائل أقامت ببطء في أرض كنعان، وكانت إقامتها صعبة. وسارت إلى الحرب كلّ قبيلة وحدها، ففشلت أمام المُدُن المهمّة (12: 21-23؛ 17: 11-13، قابلْها مع قض 1:27-28؛ يش 12 : 14 قابلْها مع قض 1 :17، يش 19 : 28-30 قابلها مع قض 1: 31). ونجد في يشوع آثارًا لتقليداتٍ مُماثلة إذ إن عملية الاحتلال لم تتمّ بحسب 13: 1-6؛ 12:17، 16 ؛ 16: 10، كما أنّ بعض المجموعات قامت بالحرب لحسابها الخاصّ (6:14- 15؛ 13-19). لهذا يجب أن نتنبّه إلى لهجة الانتصار التي تسود المُجملات في 10: 28-39، 40-43. قال الكتاب: "وأخذ يشوع جميع أولئك الملوك وأرضهم في هَجْمَةٍ واحدة" (10: 43). إنّ يشوع الفاتح يجتذب إليه انتصارات ربحها آخرون، كما أنّ موسى دوَّن كلّ تشريع في أرض إسرائيل. ولكنّ هذه الملامح الملحميّة، هي في خدمة خُطّة دينية: فالالتجاء إلى المُغالاة، هدفه أن يرفع قدرة الله سيّد المشروع الذي استولى على كنعان وأعطاها لشعبه. مع هذا الكلام يبقى تفصيل المعارك والوسائل البشرية المُستعملة، أمرًا قليل الأهميّة بالنسبة إلى الراوي. هو يرسم الخطوط العريضة، إنطلاقًا من نَظْرَة نبويّة إلى التاريخ الذي يعتبره واحدًا. فالبدايات المتواضعة تبدو من منظار الله، مليئة بما سيتمّ فيها في المستقبل. وفي خاتمة الاحتفال، يتأمّل الكاتب المُلهم في راحة الشعب في الأرض التي وهبه الله إيّاها. واقتسام الأرض بين القبائل، يمنحه مناسبة لأن يُفصِّل الحدود والمناطق التي سيضع عليها الشعب يده. فالاحتلال وحّد بين القبائل، وهي تحمل وَعْدَ وحدتها. وإذا كان يشوع يسيطر على هذا التاريخ، فليُعِدْ إلى الله كلَّ مجد، لأنه قائد الشعب باسم الله.
ويهتم الكاتب الاشتراعي، في إبراز مواضيع التأمّل التي يُوحي بها هذا التاريخ، ويمثّل لنا تعليم العهد. ألربّ يُحقّق مواعيده حين يُعطي شعبه أرضًا يملكها (3:1، 6، 11؛ 23: 5، 14؛ 13:24؛ تث 4: 1؛ 6: 10؛ 11: 9، 21). والخبر كلّه يُبيّن أمانة الله لكلمته: "أكون معك" (1: 5-9، 19؛ 3:23، 00؛ تث 6: 17-24؛ 11: 22-25؛ 31: 6-8). والتزام الله نحو شعبه، يجد. جوابًا في التزام الشعب نحو ربّه. "كن قويًا وتشجعّ " (6:1، 9، 18؛ 8: 10؛ 8:10، رج تث 6:31-8، 23). والالتزام يقوم على الأمانة لشريعة الله (1: 6-9؛ 8: 32-35؛ 11: 15، 23؛ رج تث 5: 32 ي ؛ 9:31-13) التي تَفْرِض قبل كلّ شيء، أن نعبد الربّ لأنّه إلهنا (18:24؛ رج تث 13:6). وبصورة عمليّة، لا نرتبط بالأمم الوثنية وآلهتها (6:23-13؛ رج تث 7: 1-6). والتشديد على شريعة الحرام بإفناء الأشياء والأشخاص، هدفه إيقاظ التعلّق بإله إسرائيل الواحد، لأنّ الأمانة للعهد أو خيانته، توجّه تاريخ الشقاءات والسعادات التي عرفها الشعب المُختار (23: 12-16؛ رج تث 11: 22-32؛ 16:31-22). عن هذه الحقيقة، يُعطي سفر يشوع صورة مُعبَرة، (11: 15- 20) فيرسُم المِثال الذي كان يتأمّل فيه الكاتب الاشتراعيّ: كان الشعب واحدًا مُوحدُّا، برئاسة قائد نَذَر نفسه لله ولشريعته.
وهكذا ينظر سفر يشوع إلى التاريخ، من زاوية تفترق عن زاوية المُؤرّخين المُعاصرين، وهذه النَظرة تُبرّر الفن الأدبيّ الذي اختاره. أجل، بالنسبة إلى الكاتب المُلهم، إمتلاك الأرض ليس حدثًا عاديًا بل نظرة لاهوتيّة.

5- القيمة التاريخية لسفر يشوع
لا يجرّنا الفنّ الأدبيّ الذي أبرزناه، إلى استنتاج سلي، يجعلنا نُنْكِر قِيمَة الكتاب التاريخية. فالأبحاث الأخيرة في عالم الجُغرافيا والآثار، حددّت بقي الأماكن المذكورة، وكشفت عن المدينة الكنعانيّة، فأجبرتنا أن نتعامل بجدٍّ مع مُعطيات سفر يشوع. والمناهج الحديثة، تميل اليوم إلى اعتبار التقاليد والوثائق، أقْدَمَ ممّا كنّا نتصّور. وأخيرًا إنّ معرفتنا بآداب التقاليد، تدفعنا إلى أن نكتشف الذِكريات التاريخية التي تستغلّها هذه التقاليد. ولهذا نرى الشُرّاح يَمْحَضُون سفر يشوع ثِقَتهم أكثر ممّا كانوا يفعلون في الماضي.
إذا رجعنا إلى علم الآثار، نرى أنّ حَفْريّات تلّ السلطان، ساعدتنا على إكتشاف أريحا الكنعانيّة التي تُعتبر من أقدم المُدُن المُحصّنة، كما أن حَفْريّات التل، قُرب بيت إيل، بَيّنت لنا مدينة العيّ. أما خِرْبة ردانا، فيُمكن أن تكون بئيروت. ولكنّ العُلماء يبحثون عن العلاقة، بين مجيء العِبرانيّين إلى كنعان في القرن الثالث عشر، وعن الخراب الواقع في زمن البرونز الحديث (1600- 1200) أو زمن الحديد الأول (1200- 970)، ويستلهمون الفَخّاريات التي يجدونها. فمنهم من يؤكّد هذه العلاقة ومنهم من ينفيها ومنهم من يَبْقى على ارتياب. ولهذا نعود إلى النصّ الكتابي نقرأه بتمعّن، ونأخذ لذلك يش ف 8، ونُقابله بقض ف 20 الذي يروي إفناء البنيامينيين، فنتساءل: لماذا كتب الكاتب خبر احتلال العيّ (8: اي)؟ فنُجيب: كان نزاع حول الأرض بين البنيامينيين الضُعفاء والإفرائيميين جيرانهم، فجاء الخبر الحربيّ كأسطورة، يُبرّر إقامة البنيامبنيّين في مدينة العيّ.
هذه الملاحظة تدفعنا الى التساؤل أيضًا: من دمّر مُدْن كنعان في القرن الثالث عشر لا شكّ أنّها القبائل العبرانيّة، والأمر واضح أيضًا بالنسبة إلى حاصور. ولكن يبدو من غير المقبول، أن تكون هذه القبائل عينها، دمّرت العيّ التي زالت من الوجود حوالي سنة 2000 ق. م.، وظلّت قَفرا حتى سنة 1200. وأريحا؟ لا يبدو أنّ يشوع هو الذي دمّرها، لأنّ أهلها تركوها حوالي السنة 1300. ولمّا جاء العِبرانيون، وجدوا قرية صغيرة في تلّ السلطان. كلّ هذه الشُكوك تدفعنا إلى العودة إلى النُّصوص الكتابية حيث نكتشف فيها التاريخ القديم.
هناك أخبار نُلاحظ فيها هذه العبارة "إلى هذا اليوم"، إلى يوم دوّن الكاتبُ كتابَه أو روى الراوي روايتَه: نجد اثني عشر حجرًا في معبد الجلْجال، أريحا ما زالت مُدمّرة، ألعي يعني الخراب، كَوْمة من الحجارة في وادي عكور، مغارة في مقيدة، تُغلقها حجارة كبيرة... إذًا أخبار ف 2-9، تبحث عن أسباب وجود هذا الواقع أو ذاك، وترتبط بالتاريخ الذي تنقله بطريقة شفهية، عن حقبة من الزمان، عرفت الحرب بين الكنعانيين والعِبرانيين.
وهناك صفحات ملحميّة، لن تكون أمينة للتاريخ أمانة كليّة. فمعجزات يشوع حيّرت الشُرّاح، فرفضها بعضهم، وحاول البعض الآخر أن يُفسّرها بطريقة معقولة. مثلاً: تمّ عُبُور الأردن بفضل انهيار الجبل، وساعدت قرة أرضية على احتلال أريحا. والانتصار في جبعون، وجد عونًا في عاصفة، ألقت الظُلمة من السماء... ولكن يجب أن نتوقّف عند الفن الأدبيّ لهذه النُصوص ونبحث عن الإيمان الذي يحاول الكاتب أن يُعبّر عنه. نحن أمام مجموعات فتيّة تبحث عن أرض تُقيمْ فيها، فاندفعت بقوّة إيمانها بالربّ، إلى الحصول على نتائج مُذهلة، تتجاوز الوسائل البشريّة المُستعملة. فرأى الكاتب في ذلك نتيجة لتدخّل الله، وخلّد ذِكْر هذه الأعمال البطولية، وجعلوا كل ذلك في خدمة فكرة واحدة: ألتأكيد على عَمَل الله. هو لا يهمّه كيف عبر العبرانيون الأردن ولا كيف احتلوا أريحا، والتفاصيل أمر ثانويّ بالنسبة إليه. ونحن حين نقرأ النصّ، نكتشف طقوسًا دينية يقومون بها، ليتذكّروا الحدث.
وتبقى شخصية يشوع: إنتصر في أرض إفرائيم، فصل نِزاعًا داخل بيت يوسف، بين إفرائيم ومنسّى، تدخّل في عهد شكيم... ولكن هل لعب كلّ هذا الدور، أم أنّ التقليد حوّله من بطل محليّ إلى بطل وطنيّ، سار على خُطى موسى، فقاد الشعب كلّه إلى النصر وأقامه في أرضه؟ نقول إنّ مُجتمعات العبرانيين المتحالفة، تجذّرت في أرض كنعان بصُوَرٍ مختلفة. فهناك عناصر من شمعون ولاوي ويهوذا، تسلّلوا من الجَنوب مع عشائر الكالبيين والقينيين. ولما التقى العبرانيون بالكنعانيين، كانت معارك في حرمة وحبرون ودبير. أمّا قبائل الشمَال، فما نزلت إلى مصر بل كانت مُقيمة في أرضها، يوم معركة مياه ميروم واحتلال حاصور. والعلاقات بين بنيامين وإفرائيم ومنسّى، أبناء راحيل، تبقى غامضة. فتقاليد ف 2-9 ترتبط ببنيامين، وخبر ف10 (معركة جبعون) يرتبط بإفرائيم. ولكنّ هذه القبائل لم تحصل على اسمها، إلاّ بعد إقامتها في كنعان، والتجمّعات التي كونّتها جاءت من شرقي الأردن، حاملة معها تقاليد مُشتركة. إرتبط يشوع بهذه التقاليد، وكان قائد هذه التجمّعات التي واصلت تقدّم جماعة موسى، من قادش إلى بريّة موآب، فعبرت الأردن. وخبر مُهاجمة أريحا واحتلالها، يبقى ذِكرا تاريخيًا، ويكشف كيف أنّ الخُطة والحِيلة تُعوّضان قلَّة العدد. خبر العيّ يدلّ على المعارك التي قامت بين العبرانيين والكنعانيين، والوِفاق مع الجبعونيين، يدلّ على الطريقة السلميّة التي بها دخل الغُزاة الجُدد إلى أرض كنعان.
هكذا عند موت يشوع (حوالي سنة 1200)، كان بنو إسرائيل موزّعين في ثلاث مناطق تفصل بينها مُدُن كنعانية هامّة: كانت جازر وأورشليم تفصلان بين قبائل جبل يهوذا وقبيلة افرائيم، ومجدو وتعناك وبيت شان تفصل بين قبائل الجليل وقبائل الوسط.

6- ألمعنى الدينيّ لسفر يشوع
إنّ التقاليد القديمة التي جمعها سفر يشوع، تشهد على نظرة دينية إلى الأرض التي احتلها الشعب والتي هي ملك الله (22: 25)، والى التاريخ الذي تدخّل الله فيه بطريقة مُذهلة. فمن الأخبار المحليّة عن مجموعة يهوذا في بداية العصر الملكي، إلى تدوين الكتاب بصورة نهائية، يقابل النمو الأدبي للكتاب وَعيُ الشعب لوحدته على ضوء إيمانه ورجائه: فصورة "كلّ بني إسرائيل" يحتلّون "دفعة واحدة" كلّ أرض كنعان بقيادة يشوع، تدلّ على وحدة تدفعنا إلى أن نحتفل "بالرب إله إسرائيل الذي يُقاتل عن شعبه" (42:10-43). وهكذا تكشف قِصّة يشوع مخطط الله في شعبه. فإذا أدخلْنا هذه القصّة في المخطط الذي سيتمّ، نفهم معناها العميق.
- قال الكتاب: "لم يسقط وَعْد من كلّ الوعود الخيّرة التي بها وَعَدَ الله شعبه" (21: 45). وعد إبراهيم بأرض ونسل، فوفى بوعده، وها سفر يشوع يُنشد أمانة الله لوعوده. فمن خلال الملوك المقهورين ولوائح خطوط الحدود، يُعبّر الكاتب عن حبّه لأرضه، ويلتذّ في تفصيل موضوعه بطريقة مثالية: الأرض والنَسْل هما ثمرة الموعد.
وحين دوّن الكاتب سفر يشوع، عبَّر عن أمل ورجاء. فالأبناء انقسموا مملكتين، واحدة زالت وواحدة في طريقها إلى الزوال. الأرض يجتاحها الغُرباء وسيحتلّونها قريبًا. أمام إخفاق التاريخ، يتكلّ الايمان على الوَعْد، فينتظر أن يتحقّق من جديد. ويتوق إلى الراحة التي يُعطي عنها سفر يشوع صُورة مشرقة (13:1، 15؛ 21: 44؛ 22: 4، 23؛ رج تث 3: 10؛ 12: 10؛ 25: 19؛ اش 14: 3؛ 28: 12). ومساحة أرض كنعان محفوظة كعربون مُستقبل جديد. فحزقيال في منفاه، يرسم اقتسام الأرض المجددة بين القبائل (حز 47- 48). ويعبّر الكاتب عن رجاء الخلاص المسيحاني والنهيوي، وعن انتظار المعذّبين لخلاص الله بامتلاك الأرض وأخذها ميراثًا (حز 12:36؛ 37: 25 ؛ اش 57: 13؛ 60: 21؛ 65: 9). ونجد جوابًا لهذا الانتظار في العهد الجديد: "طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض" (مت 5: 5). وتدعونا الرسالة إلى العبرانيين إلى الاستعداد لراحة الربّ التي كانت راحةُ كنعان صورة لها (عب 4: 8؛ رج رؤ 13:14).
منذ موسى حدد العهد، كيف تكون العلاقة بين الله وشعبه. وقصّة يشوع تُبرز ذلك عمليًا: ألله هو مع شعبه، عندما يخضع شعبه لإرادته. بالنسبة إلى المؤرّخ الاشتراعي، هذا الكلام سيحكم على التاريخ المعاصر. فسقوط السامرة وعذاب أورشليم، كان سببهما خيانة الشعب للعهد، وأعظم خيانة، كانت التعبّد لسائر الآلهة والامتزاج بالأمم الأخرى.
هنا نفهم لماذا يشدّد الكاتب على شريعة الحرام التي هي في الأساس طقس حرب مقدّسة، به يَنذُر المُحارب للإله كلّ غنائم الحرب: ألناس والبهائم يُقتلون، والمدن والمُمتلكات تُدمّر، ألذهب والفِضّة يُعطى للمَعبد. هذا ما فعله ملك موآب في القرن التاسع. أما الأنبياء فلم يعارضوا هذه العادة الموروثة عن عقلية قديمة، بل رأوا فيها سبيلاً للحِفاظ على نقاوة الإيمان بيهوه، بوجه التوفيق الدينيّ المُسيطر (1 صم 15: 1 ي؛ 1 مل 20: 35-43). وهذا لم يكن هدف الحرام الأساسي. ولكن حين يدوَّن سفر التثنية، فسيجعل من هذه العادة فريضة يوم زالت الحرب المقدسة، وشوّهت العبادات الغريبة إيمان بني إسرائيل. وهكذا يرجع التشديد على الحرام في سفر يشوع إلى التأليف الاشتراعي. فبغض الكنعاني في يش وتث بُغْضٌ نظريّ، والكاتب يعرف أنّ العبرانيين لم يُفنوا أهل البلاد الأصليين بل تأثّروا بهم في عبادتهم لبعل. هل يتحسّر على هذا الوضع أم أنّه يريد أن يعطي عِبرة؟ ألكنعانيون وآلهتهم يمثلّون ما يُبعد الشعب المختار عن يهوه، ولا مستقبل له إلا إذا عاد إلى عبادة الربّ الواحد وسيفعل.
هذه الحقيقة تبقى حاضرة بالنسبة إلينا، والله يدعو كلّ يوم شعبه إلى الطاعة التي بدونها لا راحة له (مز 95: 7- 11). وتطبّق الرسالة إلى العبرانيين، كلمات هذا المزمور علينا، نحن أبناء العهد الجديد، فتجد أنّ صُوَر التاريخ في يشوع، تحققت مع يشوع آخر هو يسوع المسيح (عب 4: 1- 11؛ رج يش 15:11، 20؛ تث 4: 1- 5، 25-26؛ 5: 32-33؛ 6: 17-19).
وصورة القبائل المتحدة تحت إمرة يشوع، تبرز تسبيقًا نبويًا. فحين دوِّن الكتاب كذّبت الوقائع هذه الصورة التي اتفقت ورجاء إرميا (23: 1-8؛ 27:31-28) وحزقيال (37: 15-28). ألله يعمل دومًا لوحدة شعبه، ولكنّ هذا العمل يتطلب مشاركة من الجميع، حتى من القبائل المُقيمة شرقي الاردن. وهكذا يتأمن الرباط بين الجميع، بواسطة الأمانة للشريعة كما حدث في يوم شكيم.
هذه الأمثولات تكشف معناها في تجمع إسرائيل الجديد، والنهاية تلتي ضوءًا على البداية. ويمكن أن يكون حدثُ راحاب نموذجًا لانفتاح الشعوب على الخلاص المسيحاني (مت 1: 5)، وإشارةً إلى الإيمان الذي يخلّص ذلك المنتمي إلى شعب الله (يع 25:2؛ عب 11 :31).
والدور الذي عهد به الكاتب إلى يشوع، يبيّن لنا ثوابت عمل الله. ففي كلّ مرحلة من التاريخ المقدّس، يرتاح مخطط الله على كتفي رجل، يُجْمِلُ في حياته حياة شعبه. أمّا يشوع فيُجسّد وحدة الشعب الذي يُدخله الله في ميراثه، ويُحقق مثال الطاعة الذي يطلبه الله من شعبه. فانتصاراته تكشف عمل الله من أجل جماعته، واحمه يدلّ على دعوته ومشاركته في عمل الخلاص. مع يشوع أعطى الله شعبه أرضًا واسعة، ونجّاه من اعدائه. وسيبقى الرجاء مشدودًا إلى أن يأتي المخلّص الحقيقي يسوع المسيح، فيخلّص لا شعبًا واحدًا بل جميع الشعوب من الشر والخطيئة والموت، ويدخلهم لا في أرض خاصة بل في ملكوت الله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM