القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الثالث والخمسون: شفاء ولد يصرعه الشيطان

الفصل الثالث والخمسون
شفاء ولد يصرعه الشيطان
9: 37- 43= مت 17: 14- 21= مر 9: 14- 29

أ- الإِطار الإِزائي
نلاحظ أولاً أن السياق اللاحق هو هو في الازائيين الثلاثة. فالإِنباء الثاني بالآلام يتبع اخراج الشيطان من "المصروع " ويفتتح قسم الصعود إلى أورشليم. يكتفي متى (22:17) ومرقس بإشارة إلى تبديل في المكان: عادت المجموعة الصغيرة من منطقة قيصريّة فيليبس حيث أعلن بطرس ايمانه بالمسيح، إلى الجليل. أما لوقا فأورد انتقالة خاصة به (43:9 ب). وهكذا يختتم الحدث الذي ندرس أول تجمُّع يبدأ مع إعلان بطرس لمسيحانيّة يسوع.
والرباط مع الخبر السابق، خبر التجلّي، هو مباشر لدى لوقا الذي لا يورد الحوار عن عودة إيليا بين التجلّي وشفاء المصروع، بعد أن قدّم لنا حوارًا مماثلاً خلال التجلّي (9: 31). فالتجلّي والشفاء يتواليان يربطهما رباط كرونولوجيّ: "وفي الغد".
أما متى ومرقس فقد اقحما بين الحدثين حوار يسوع مع التلاميذ الثلاثة المميّزين. عند متّى: خلال النزول من الجبل، سأل "التلاميذ" يسوع عن عودة إيليا (17: 9- 10). ووصلت المجموعة الصغيرة حيث كان الجمع. حينئذ أقبل رجل وطلب شفاء ابنه. لم يستطع التلاميذ أن يشفوه فحزن يسوع وأخرج الشيطان. حينئذ سأل التلاميذ يسوعَ عن سبب فشلهم.
عند مرقس، تحاشى ان يسمّي الثلاثة النازلين من الجبل مع يسوع "تلاميذ" واحتفظ بالاسم للتسعة الباقين (9: 14) الذين حاولوا أن يطردوا الروح النجس فلم يقدروا (9: 18).
إن الطابع المصطنع لهذا الترتيب يدلّ على أن الحوار بين يسوع والمميّزين الثلاثة قد رُبط فيما بعد بخبر التجلّي. أما الرباط المباشر الذي يشهد له لوقا فيعود إلى مرحلة قديمة في التقليد السابق للإِزائيّين. ومهما يكن من أمر، إذا كان التعارض مع مشهد التجلّي المضيء قد أبرز بعض التفاصيل في الخبر الذي ندرس، فيبقى أن السياق يبقى غامضًا. فقد تلقى الإِنجيليّون الثلاثة من التقليد القبل إزائي متتالية تجمع ولا شكّ اعتراف بطرس، إعلان مصير إبن الإِِِِنسان وردة فعل بطرس، التجلي الذي سبقه تعليم عن وضع التلميذ. وكان حدث "المصروع " ينهي هذه المجموعة.

ب- الخبر حسب القديس متى (14:17- 21)
1- النقد الأدبي
أوّلاً: الرباط بين الخبر والحوار
يتألف النصّ الحالي من قسمين. الأول: خبر المعجزة (17: 14- 18). الثاني: حوار بين يسوع والتلاميذ (آ 19- 21) . نشير هنا إلى أن الحوار هو الذي يعطي الخبر كلَّ معناه. ومع هذا نحن نجد ثابتة بين الخبر والحوار. في الخبر، لم يستطع التلاميذ أن يشفوا (آ 16). في الحوار، لم يقدروا أن يخرجوا الشيطان آ 19). فمِن الخبر إلى الحوار تحوّل شفاء المصروع إلى التقسيم على ممسوس. وسنجد انزلاقًا معاكسًا في آخر الخبر: خرج الشيطان منه... وشُفي الصبي في الحال (آ 18).
ونلاحظ المسيرة عينها في شفاء الأخرس الذي فيه شيطان (22:12)، في شفاء ابنة الكنعانية (28:15) وفي الإِجمالة التي تكدّس الممسوسين والمرضى (24:4). هل خلط متى بين الاثنين مُرجعًا ما يحدث للممسوسين إلى أمراض عصبية أو نفسيّة؟ لا نظنّ ذلك. ففي إجمالة اخرى (8: 16) وفي خطبة الارسال (10: 1، 8) يميّز متى بوضوح بين الاثنين. إذن، ما هي نيّة متى؟
يبدو أن الوالد والتلاميذ رأوا في المصروع مريضًا عاديًّا. ولما شفاه يسوع بيَّن أنه كان ممسوسًا (امتلكه الشيطان). فسؤال التلاميذ يتعلّق لا بشفاء لم يقدروا عليه، بل بطرد شيطان استحال عليهم. فبخلاف طارد الشيطان الذي لم يتبع يسوع مع أنه كان ينجح "باسم يسوع " (مر 38:9- 40)، كان إيمان التلاميذ ناقصًا فما استطاعوا أن يمارسوا السلطان الذي أعطي لهم على الأمراض والشيطان.
إنه وإن تقابل الخبر والحوار في متى، إلا أن هذه الوحدة لا توجد في البدء. لهذا نقترح أن يُقرأ الحدث من دون الحوار النهائيّ، ثم يُقرأ مع الحوار النهائيّ.

ثانيًا: مضمون الحوار
يبدو أن الحوار لم يُوجَد كما هو اليوم. فهناك من يعتبر آ 21 في غير محلّها: "ثمّ إن هذا الجنس (من الشياطين) لا يُطرد (لا يذهب) إلا بالصوم والصلاة". ويستندون في رفض هذه الآية لا إلى سلطة المخطوطات التي لا يرد فيها، بل إلى انها جعلت هنا نقلاً عن مر 29:9. ولكن هذا الخيار يترك عددًا من الاسئلة من دون جواب.
إن نصّ متّى يختلف عن نص مرقس: "هذا النوع (من الشياطين) لا يستطيع أبدًا أن يخرج (مت) لا يذهب (مر) إلا بالصوم والصلاة ". إذا كان هناك من زيادة فلماذا سقطت كلمة "يستطيع" التي تقابل "يستحيل " في آ 20؟ وقال آخرون: هناك زيادة "الصوم ". وهكذا تتقوّى ممارسة قديمة في الكنيسة. ورأت فئة ثالثة أن آ 21 غير مفيدة بعد آ 20. فكل شيء قد قيل مع الكلمة على الإِيمان الذي لا يستحيل عليه شيء. وذكرُ الصوم والصلاة لا يكون في محلّه في سياق خبر المعجزة. ولكن يبدو أن آ 20 الشبيهة بما في مرقس قد وضعت فيما بعد. وقال لهم: "إن هذا النوع من الشياطين ".
ولكن لماذا يتطلب هذا النوع معاملة خاصة؟ نجد التفسير عند مرقس. أما متّى فلا يهيئنا أفضل تهيئة لكلمة يسوع عن ضرورة الصوم والصلاة في هذا التقسيم. وهذه الصعوبة دفعت متى إلى تحديد سبب عجز التلاميذ عن طرد الشياطين: فالصوم والصلاة يفترضان في العمق موقف إيمان كاملاً. وإذ أراد متى أن يُدخل إلى نصّه هذا التفسير اللاهوتيّ استعمل وسيلتين:
الوسيلة الأولى: ادخل أحد مواضيعه المحببة "قلة الايمان " كما في تهدئة العاصفة.
الوسيلة الثانية: أقحم قولاً من التقليد الإِزائيّ عن الإِيمان الذي يستطيع كل شيء.
وهكذا نقول: إن خبر متّى تكوّن على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى: الخبر بدون حوار (آ 14- 18). المرحلة الثانية: خبر مع حوار من نمط مرقسيّ (آ 14 - 18، 19، 20 أ، 21). المرحلة الثالثة: الخبر الحالي مع حوار متّاويّ (آ 14- 21).

2- الربّ يسوع أمام عدم إيمان البشر (17: 14- 18).
ما هو معنى الخبر في الراوية الحالية؟ خبر معجزة في إطار ليتورجي يُلقى فيه الضوء على شخص المسيح. في الواقع، لا يهتمّ النصّ بالأشخاص الثانويين. يذكر الجمع (آ 18) ليشير إلى أن المعجزة تمّت في العلن، وليؤمّن خلفية اللوحة. الرجل مع ابنه (لا يسمّى "والد" كما في مر 9: 21= لو 42:9) هو مؤمن يقترب باحترام (8: 2؛ 9: 18؛ 14: 33؛ 20: 20؛ 28: 9، 17) من الربّ ويدعوه بلقب ليتورجيّ: كيريي، يا ربّ (2:8، 6، 21؛ 9 :28؛ 27:15؛ 17 :15؛ 20: 30، 31، 33). إن عرضه القصير عن المرض وعن عجز التلاميذ يركّز الاهتمام على كلمة يسوع وفعلته. أمّا المصروع فلا نشاهده إلا عبر صورة الوالد وفي نهاية عمل يسوع. ولا نعرف بوجود الشيطان إلا ساعة يترك المكان. وهكذا يجب على القارئ أن يجهد ليستبق حضوره في الضمير الذي يدلّ على الذي يأمره يسوع بالخروج (آ 18). وليس للتلاميذ من دور قبل الحوار. إن حركة الخبر سريعة. وهي تفرغ المسرح الذي سيحتلّه يسوع وحده. ولا مكان للمخيّلة. كلّ شيء مهيَّأ من أجل تدخل يسوع تدخلاً احتفاليًّا.
ويقف يسوع. فقامة المعلّم تبرز في التعارض بين لا ايمان عام، وسلطانه السامي على الشيطان. هو يتكلّم لا ليسأل التلاميذ الذين يتجادلون مع الكتبة، ولا والد المصروع (مر 16:9، 21). لا حوار حقيقيًّا حين يقدّم الرجل طلبه، بل توبيخ عنيف: "أيها الجيل الكافر (لا مؤمن) الفاسد! إلى متى أبقى معكم؟ إلى متى أحتملكم "؟
إلى من يتوجّه هذا الكلام؟ لا يتوجّه إلى الشعب الذي هو شاهد منفعل ( بخلاف 12: 38- 39؛ 16: 1- 4). ولا يتوجّه إلى هذا الرجل الذي دلّ في صلاته "الليتورجيّة" على إيمان صادق شبيه بإيمان الضابط الروماني (8: 10) أو الكنعانيّة (28:15). لقد دلّ على إيمان عجيب في نظر يسوع.
إذا قرأنا هذا "التوبيخ " من دون الحوار، فلا يمكنه أن يتوجّه إلا إلى التلاميذ الذين لا يلعبون أي دور بحصر المعنى. إنه يتجاوز الاطار التعليمي الذي حُصر فيه، ويشبه ما نقرأه مثلاً في يو 27:11. وهذا ما يجعل يسوع بعيدًا جدًا ولا محدودًا.
يشبه هذا الجيل جيل العبرانيين السائرين في البريّة بعد أن صاروا موضوع كره من الله (رج تث 32: 5). والذي معهم، عمانوئيل، قد تعب من الاقامة فيما بينهم. ومقابل مشهد التجلّي الذي فيه تحدّث يسوع مع كائنات سماويّة، يُغرق التوبيخ التلاميذ والوالد والشعب واسرائيل كله في ظلمة الكفر وعدم الإِيمان. وعلى هذه الخلفية المظلمة ينتصب يسوع وحده في نور كيانه الذي يعبر هذا العالم الفاسد ويتوق للعودة إلى العلاء.
لا يتحاور يسوع مع الإِِِِنسان، ولا يتحاور أيضًا مع الشيطان. فهو يأمر الجميع بحزم وقوة. يأمر مجموعة التلاميذ أوّلاً: "قدّموا الصبي هنا". ثم يأمر الشيطان حسب اللفظة المعروفة في طرد الشياطين. يهدّد الشيطان فيخرج الشيطان حالاً من الصبيّ. نحن أمام فعلة سامية تفرض نفسها. نحن أمام تدخّل صاعق يمزج ضياء من النور في ظلام الضعف البشري.
شدّد متى على الايمان (13:8؛ 22:9، 29؛ 28:15) وأبرز نداءات مثل: يا ربّ، إرحم (كيرياليسن). كان هناك خبر معجزة ارتبط بقول حول الجيل الكافر الفاسد فصار خبرًا كرستولوجيًّا هدفه أن يبرز شخص يسوع الربّ والسيّد.

3- يسوع وايمان التلاميذ (17: 14- 21).
يقدّم حوارُ يسوع مع التلاميذ معنى الخبر كلّه: زيد على خبر ذي هدف كرستولوجيّ فأعطاه اتجاهًا تعليميُّا يقابل مخطَّط يسوع المسيطر في القسم الثاني من حياته العلنيّة: تثقيف التلاميذ وتربية إيمانهم.

أولاً: أناس قليلو الإِيمان
حين نقرأ الخبر كلّه نرى جماعة التلاميذ خارجة من عمق الكفر (عدم الإِيمان) المظلم وظاهرة في الصف الأمامي: فمن أجلهم يتكلّم يسوع ويعمل. لا شكّ في أن دورهم ليس مشرفًا. موقفهم بعد التقسيم هو موقف الرجل قبل التقسيم: "اقتربوا" من يسوع (آ 19، رج آ 14). ومثله طلبوا من يسوع أن يخلّصهم من مأزقهم. يقابلون بين فشلهم (نحن في آ 9، تلاميذك في آ16) وبين المسيح (أنت) في تعارض ضمني. وحين نحدّد هكذا موقع الخبر نفهم أن التوبيخ (أيها الجيل) توجِّه إليهم أولاً: كيف أظهروا عجزهم هم الذين اختارهم بين الجميع لكي يطردوا الشياطين؟ لا إيمان لهم: لقد. حادوا عن طريق وجب عليهم أن يمشوا عليه على خطى يسوع.
هذا التوبيخ الذي كان ضمنيًّا سيتوضّح في الحوار الذي يظهر فيه لاهوت متى، لاهوت قلة الإِيمان. "لماذا لم نقدر أن نطرده "؟ فقال لهم: "بسبب قلّة إيمانكم ".
من يستطيع أن يطرد الشيطان؟ يسوع وحده. وها قد قدّم البرهان الآن حين نجح في التقسيم؛ لقد سأل الأعميَين: "أتؤمنان أنني قادر على ذلك " ؟ وحين أجابا بالإِيجاب قال: "فليكن لكما على قدر إيمانكما". فانفتحت أعينهما (28:9- 29). أي نوع من الإِيمان نقص التلاميذ؟
لم ينقصهم إيمان الأَعميين الذي يطلب معجزة. وجاءت المعجزة كجواب "على قدر هذا الإِيمان " (8: 10، 13؛ 22:9؛ 28:15). أما طلب الشفاء هنا فلا يأتي من التلاميذ بل من الرجل. إذن، لسنا أمام إيمان التلاميذ الذي به يرتبطون لا بشخص يسوع وحسب (18: 16) بل بالرسالة التي يسلّمهم إياها.
أعطاهم سلطانًا على الشياطين (10: 1، 8)، فلم يعرفوا أن يمارسوه في وضع هذا الممسوس. لم يقدروا أن يشاركوا يسوع في قدرته التي هي ينبوع القدرة التي أعطيت لهم. لم تكن "قلة إيمانهم " فقط شبيهة بما عند هذا "الجيل " الذي لم يثق بالله ولا بيسوع، بل عدم ثقة التلميذ بالمهمة التي سلّمها اليه يسوع. فعلى خلفية كُفْر عام، غمرت الظلمات التلاميذ أيضًا. ليس لهم إيمان حيّ يكشف، عبر اعمال تفترضها رسالتهم، حضور الربّ الفاعل في كل زمان.

ثانيًا: إيمان بمقدار حبة خردل
قلنا في النقد الأدبيّ إن لوقا لم يغفل الآية المرقسيّة عن الصوم والصلاة، بل أقحم قولاً متنقلاً اخذه من التقليد الإِزائي حول الإِيمان الذي يقدر على كلّ شيء. هذا القول في آ 20 نجده في أربَعة مقاطع مع بعض اختلافات.
مت 20:17 مت 21: 21 لو 6:17 مر 11: 22-23
الحق الحق ليكن لكم ايمان بالله
أقول لكم أقول لكم أقول لكم
لو كان لكم لو كان لكم لو كان لكم
إيمان إيمان إيمان
مثل حبّة مثل حبّة
خردل خردل
ولا تترددون
لا تفعلون فقط
ما فعلته بهذه
التينة، بل
تقولون تقولون تقولون فالذي يقول
لهذا الجبل لهذا الجبل لهذه التوتة لهذا الجبل
انتقل من هنا انتزع انقلعي انتزع
وانطرح وانزرعي وانطرح
إلى هناك في البحر في البحر في البحر
ولا يتردّد
في قلبه
بل يؤمن
فينتقل إن ما يقول
ولن يكون لكم فذلك يحصل سوف يحصل
شيء مستحيل تطيعكم يكون له
نلاحظ في هذه النسخ الأربع شكلين اساسيّين في التقليد. الأوّل: لو كان لكم إيمان بمقدار حبّة خردل لقلتم لهذا الجبل إنتزع وانطرح في البحر لكان ذلك. والثاني: لو كان لكم... لقلتم للتوتة: إنقلعي وانغرسي في البحر لكان ذلك.
في مت 20:17 هناك مقابلة بين صغر الحبة وضخامة الجبل، بين طرح الحبة (امر سهل) وطرح الجبل. في لو 6:17 نجد مقابلة بين نبتتين في مرحلتي نموّهما: البذار وشجر التوت. وتوسّع لوقا في هذين الشكلين الاوَّلين بالنظر إلى التعليم المعروض والسياق الذي ثبتتهما فيه الكرازة.
هناك تشديد على نوعيّة الإِيمان: مت 21: 21 ومر 11: 22- 23 لا يحتفظان بالمقابلة مع حبّة الخردل بل يزيدان: على المؤمن أن لا يتردّد. فيوضح مت 20:17: حينئذ لن يستحيل شيء. وقد أثّرت صورة قلع التوتة (لو 6:17) على ما قاله مت 17: 20: "انتقل من هنا إلى هناك ". ويحدّد النصّان الوضع باسم الإِشارة: هذا الجبل، هذه التوتة.
في مت 17: 20 يدل "هذا الجبل " على جبل التجلّي. نحن هنا أمام خلفية اسكاتولوجيّة: الله وحده يمهّد الجبال (أش 40: 4 يرد في مت 3:3) أو يزيحها من محلّها (أي 9: 5). فقوّة الإِيمان هي قوّة الله نفسه. والتلاميذ يشاركون في قدرة الله خلال هذه الأزمنة الاسكاتولوجيّة التي يعيشونها مع يسوع.
ويُقابَل هذا الإِيمان مع حبة الخردل. فما هو البُعد الحقيقي لهذه المقابلة؟ هل نحن أمام تعارض بين صغر الحبّة وضخامة الجبل؟ هذا رأي من يزيد كلمة "كبيرة" (لو كان عندكم ايمان كبير كحبّة الخردل) ولكن هذا التعليم قد أعطاه يسوع في مكان آخر. في مت 32:13: حبة الخردل هي أصغر الحبوب. وقال للكنعانيّة: "ايمانك عظيم " (28:15). وقال للضابط الرومانيّ: "لا مثيل لإِيمانك في إسرائيل " (8: 11). ولكن هل هذا هو التعليم هنا؟ أما يريد يسوع أن يشدّد بالأحرى على أصل قدرة الإِيمان: الإِيمان في قلب الإِِِِنسان مثل حبة الخردل. وحين نتكلّم عن الزرع نؤكّد طابع الإِيمان غير الطبيعي (هو لا يُعطى مع الطبيعة حين نُولد): يعطى الإِيمان كالزرع لا كنتيجة لمجهود الإِِِِنسان. فإذا فهمنا هذا القول على هذا الشكل أتاحت لنا المقابلة مع حبّة الخردل أن نفهم فهمًا أفضل بُعد حوار يسوع مع التلاميذ في لو 17: 6: قال الرسل للربّ: "زدنا إيمانًا". أجاب الربّ: "لو كان لكم إيمان بمقدار حبّة خردل لقلتم لهذه التوتة: إنقلعي وإنزرعي في البحر وهي تطيعكم ". ما هو مستحيل على الإِِِِنسان، يقدر الله أن يفعله فيه: الله مع الإِِِِنسان، لا الإِِِِنسان بدون الله، ولا الله بدون الإِِِِنسان. وبكلام آخر: ليس لكم بذار الإِيمان وتطلبون أن أزيده لكم. نحن لسنا هنا أمام كميّة بل أمام زرع.
في هذا الإِطار يتّخذ توبيخ يسوع للجيل الكافر مدلولاً آخر: بما أن الإِيمان ليس عمل الإِِِِنسان، بل عطيّة الله، فسيأتي يومًا إلى الإِِِِنسان بشكل حبّة صغيرة، وذلك حين يعود يسوع إلى الآب. وهكذا يدلّ التوبيخ، لا على تعب يسوع وملله من هذا الجيل، بل على يقين يخصّ الرسل: حين لن يعود يسوع هنا سينزرع الإِيمان في قلوبهم. أما قال الربّ: "من الأفضل لكم أن أمضي " (يو 7:16)؟
ما الذي يحتفظ به التلاميذ بعد أن اختبروا عجزهم؟ لقد جُعل فشلهُم في إطار لاهوتي ما زال يوجّه رؤساء الجماعات: فعليهم أن يؤمنوا إيمانًا ثابتًا أن الشيطان لا يمكنه أن يقاوم المؤمنين الذين تسلّموا مهمة مشاركة الربّ في قدرته. وهذا الإِيمان الذي يعطيه الله كالزرع في الأرض، عليهم أن ينمّوه بالصلاة والصوم. حينئذ يعملون باسم يسوع لأن يسوع هو بينهم (مت 20:18). وهكذا تكوّنت الوحدة بين الخبر والحوار في هذا المحيط التعليميّ من الكنيسة الناشئة فجعلها متى في إنجيله.

ج- الخبر حسب القدّيس مرقس
1- النقد الأدبيّ
إن خبر الإِنجيل الثاني يتّصل بالإِنجيل الأوّل وإن يكن موسعًا أكثر ممّا في متّى. مسيرته متشعّبة ونحن نكتشف فيها مرحلتين سابقتين للمرحلة الحالية.
ينقسم الحدث في الظاهر، كما عند متّى، إلى مشهدين متعاقبين. الأوّل يتمّ في العلن (9: 14- 27) والثاني في الخفاء (آ 28- 29). لا يرتبط هذان المشهدان ترابطًا قويًّا على مستوى البناء كما عند متى ولكنهما يرتبطان على مستوى المعنى.

أوّلاً: المحيط الكرازي.
إن جواب يسوع "هذا النوع (من الشياطين) لا يخرج أبدًا إلا بالصلاة والصوم " يلفت الانتباه إلى نوعية الشيطان الذي طُرد في هذه الساعة. وما يُدهش هو أن التلاميذ عجزوا هذه المرّة، رغم المهمّة التي تسلّموها (مر 7:6) ورغم النجاح الذي أحرزوه فيما مضى (13:6؛ رج لو 17:10). هذا من جهة. ومن جهة أخرى نعرف أن المقسِّم يطرد الشياطين خلال حوار معهم. يناديهم بأسمائهم (25:1؛ 8:5). ولكن هذا النوع هو "أصمّ وأخرس "، فلا يستطيع المقسِّم أن يناديه باسمه الخاص. فإذا أراد أن يطرده وجب عليه أن يتَّحد اتحادًا أوثق بقوة الله نفسه.
نحن هنا أمام إشارة مختلفة بعض الاختلاف عن إشارة متى التي فسّرناها على ضوء الإِيمان بمهمّة طرد الشياطين التي سلمت إليهم. إذن، نحن هنا أمام حالة خاصّة تفرض الصلاة والصوم، أي لجوءًا إلى الله وحده في صلاة خاشعة. فمن امتنع عن الطعام النهار كلّه، مع إنه يعرف أن الطعام عطيّة من الله، يدلّ على أنه ينتظر كلّ شيء منه لا من الموارد البشريّة: هكذا استعدّ بولس وبرنابا لرسالتهما بالصوم (أع 13: 2- 3).
إذا وضعنا هذا الفارق البسيط جانبًا، نجد نفوسنا أمام المحيط الكرازي عينه الذي نقل هذا الدرس إلى التلاميذ. أما التفاصيل حول الجدال مع الفرّيسيّين، ففسّرناها فيها بعد عالمين أنها لا تبدّل الاتجاه العام لما تذكَّره التلاميذ.

ثانيًا: صعوبات أدبيّة
أما آ 20- 27 فهي لا تخضع للمجموعة. إنها تقدّم خبرًا على مستويين: حاور يسوع أب الولد مرّتين (آ 16- 19 وآ 21- 24). جاء الجمهور إلى يسوع مرّتين (آ 15 وآ 25). قدّم الوالد ابنه الممسوس مرّتين (آ 17- 18، وآ 21- 22). وهكذا طرح الشرّاح مسألة وحدة الخبر على بساط البحث. اكتشف تايلور خبر معجزة معروضًا في آ20- 27. ثمُّ أُدخل في خبر أوسع يصل بنا إلى الدرس الذي اعطي للتلاميذ (آ 14- 19 وآ 28- 29)، فخسر مقدّمته وخاتمته التي قد تشبه لو 43:9.
إذن هناك تقليد متجوّل أورد ذكر شفاء مصروع، حصل يسوع خلاله على فعل إيمان رائع من قبل أب الولد. فالإِيمان المطلوب من هذا الرجل لا يوافق ذلك المطلوب من التلاميذ عند متى: في متى، من مجترح المعجزة، وفي مرقس من طالب المعجزة. وقلة الإِيمان التي يتشكّى منها الأب (آ 24) تشبه ما عند معاصري يسوع (6:6) لا ما عند التلاميذ أمام العاصفة (4: 40). إيمانه هو إيمان يحصل على المعجزات (2: 5؛ 5: 34؛ 10: 52).
هذا الخبر المعزول يشبه شفاء (مع تقسيم على) الابنة السورية الفينيقيّة (24:7- 30). وهو يضمّ ثلاث سمات تربطنا بالتقسيم كما بالشفاء. ونبدأ بخبر طرد الشيطان فنجد التفاصيل التالية:
جاء "المتشيطن " (9: 20؛ رج 1 :23؛ 2:5-3)
سأل يسوع (9: 21؛ رج 9:5)
صورة عن المرض (9: 20- 22؛ رج 3:5- 5)
أمر يسوع (25:9؛ رج 1 :25؛ 8:5- 13؛ 29:7)
أزمة جديدة وأخيرة (9: 26؛ رج 1: 26؛ 5: 13)
وعاد الهدوء إلى الممسوس (9: 26؛ رج 4: 39؛ 5: 15؛ 7: 30)
ويشدّد النصّ أيضًا على موضوع الشفاء
نداء الى الرحمة (22:9؛ رج 1: 40؛ 23:5، 27؛ 26:7- 28؛ 10: 47- 48)
كل شيء ممكن لمن يؤمن (23:9؛ رج 2: 5؛ 34:5، 36؛ 6:6؛ 10: 52) أخذ يسوع الصبي بيده بعد أن تحرّر من مرضه (27:9؛ رج 7: 30؛ 5: 15؛ 4: 39.
هذه المعجزة العظيمة التي هي انتصار على الشيطان قبل أن تكون فعلة رحمة، قد رُويت في محيط لا يهتمّ كثيرًا بتعليم التلاميذ. النتيجة المتوخّاة هي الإِعجاب بيسوع والإِيمان بقدرته. وهكذا يكون في يد الوعاظ مثل يقدِّمونه لسامعيهم.

ثالثًا: وحدة على مستوى المعنى
شدّدنا على الصعوبات الأدبيّة، ولكن الخبر يبقى موحَّدًا في فكر مرقس. فإذا أردنا أن نكتشف نيّة الإِنجيليّ الأخيرة، نضع كل قسم في مكانه. فإقحام الخبر المعزول (آ 20- 27) ينتزع من الحوار دوره الأساسيّ في الحدث. وإليك بعض الإِشارات: لا نسبة بين القسمين. انقطاع الحوار بكلمة "وقال لهم " (آ 29). ولكن إن قبلنا أن لا نتوقّف عند هذه التفاصيل، وإن تذكّرنا التأليف اليوحنّاوي، نرى البنية الإِجماليّة ترتسم أمامنا. وهكذا نكتشف ثلاثة أقسام، ويتألّف كل قسم من مشهد ثم حوار يقوده يسوع.
* آ 14- 19 ج: مشهد أوّل. يسوع والشعب المتحيّر (آ 14- 15). حوار أول بين يسوع والرجل (آ 16- 19 ج).
* آ 19 د- 24: مشهد ثانٍ . يسوع والممسوس (آ 19 د- 20). حوار ثان بين يسوع والوالد (آ 21- 24). نلاحظ تدرجًا من القسم الأوّل إلى القسم الثاني: بعد تصوير موجز عن المرض واتهام التلاميذ بالعجز، يأتي تصوير مفصَّل يتبعه طلب وانطلاقة جديدة لحوار يدفع الأب إلى فعل إيمان حقيقيّ.
*آ 25- 29: مشهد ثالث. يسوع يقسم على الممسوس بحضور الجمع الذي يظنّ الولد قد مات. ولكن يسوع أنهضه بيده فقام الصبي (آ 25-27). حوار ثالث (آ 28- 29) يقابل في صيغته الأدبيّة الحوارين الأوّلين فيخسر هكذا دوره كخاتمة تعطي الحدث معناه.
لسنا هنا أمام خبر معجزة قصير أو تقسيم، بل أمام تأليف في أسلوب يوحنّاوي تداخل فيه خبر المعجزة والامثولة للتلاميذ فدلّ على يسوع الذي تغلّب على الشيطان. سنعود إلى التفاصيل متوقِّفين على دور كل شخص من الأشخاص.

2- الاشخاص الحاضرون
أولاً: الجمع. يلعب هنا دورًا أهم ممّا عند متى. يحيط بالتلاميذ ويندهش حين يرى يسوع، وهذا يدعونا إلى التفكير بأن الجدال دار حول فاعلية السلطان المعطى لتلاميذ عجزوا عن ممارسته. وأسرع الجمع يحيّي يسوع. فينفصل عنهم واحد من الناس. الى الجمع يتوجّه التوبيخ. وجيء بالولد. ومن جديد، إزدحم الجمع حول يسوع. في النهاية قال كثير من الناس: إن الولد مات.
هذا الجمع يذكره مرقس مرارًا. إنه قريب من يسوع وهو يزدحم حوله ليراه ويسمعه. هذا الجمع يبدو الشاهد الحقيقي للمعجزة. إنه يذكّرنا بذلك الجمع الذي شهد قيامة لعازر (يو 11: 33، 42؛ رج مر 25:9).
إذن، اختلفت هذه المعجزة عن إقامة ابنة يائيرس (5: 40) وشفاء أعمى بيت صيدا (23:8) فتمّت في العلن لا في السرّ. وهذا الطابع العلني ينال من الإِطار الكبير الذي يحيط بالحدث مدلولاً دقيقًا. فالإِنباء بالآلام أمام التلاميذ وحدهم (8: 31) تبعه حدث التجلّي الذي كان هو أيضًا سريًّا (2:9- 9). ولكن ضرورة حمل الصليب أُعلنت للجمع كلّه لا للتلاميذ وحدهم (34:8). ونقول الشيء عينه عن انتصار يسوع على الشيطان: إنه يدلّ على قدرته على عيون الجميع. وهناك تقابل بين الحدثين: يجب أن نخسر حياتنا لنربحها. والولد الممسوس خسر حياته ظاهرًا ولكن ليستعيدها في يسوع.
ثانيًا: التلاميذ. امحوا بعض الشيء أمام الجمع ولا سيما أمام والد الصبي. فالتوبيخ الذي أعلنه يسوع لا يتوجّه إليهم وحدهم، بل إلى جميع الحاضرين.
ثالثًا: الوالد. هو بطل المشهد. قام بعمل إيماني فقاد ابنه لا إلى التلاميذ (رج مت، لو) بل إلى يسوع ("جئت اليك")، فدلّ على أن نيّته الأولى أن يلجأ إلى المعلّم ولو كان عبر تلاميذه. لم يتحلَّ طلبه بملء الثقة، لأنه يشكّ، على ما يبدو، بقدرة يسوع. قال: "إذا كنت قادرًا" (آ 22). فقال له يسوع: "إذا كنتَ انت قادرًا أن تؤمن ". إذن عليه أن يقول فعل إيمان متواضع وفاعل، عليه أن يلجأ إلى يسوع نفسه لينال إيمانًا اعمق (آ 24؛ رج 5: 36). وعبر هذه الدراما الشخصية نستشفّ صورة عن مسيرة الايمان كما نراها في حوار يسوع مع السامرية (يو 4). إن بلوغ هذا الإِيمان يدعو القارئ إلى الاتحاد بطلب الأب المعذَّب وبثقته المضعضعة.
رابعًا: الكتبة. يدهشنا حضورهم في هذه الأماكن المقفرة (آ 14، 16). قد نكون أمام كتبة محليّين يلعبون دور خصوم يسوع العاديين. سيختفون بعد سؤال يسوع: "في أي شيء تجادلونهم "؟ إذا كان مرقس قد احتفظ بهذه الإِشارة، فلأنه رأى في هذا الجدال الذي توقّف عند وصول المعلّم استباقًا لانتصار يسوع على الشيطان. واراد مرقس أيضًا أن يقول: ليس على التلاميذ أن يجادلوا مع الكتبة حين يستطيع وحده ان يعمل بواسطتهم وينتصر.
خامسًا: الشيطان. يحتلّ مقدّمة المسرح. فالصبيّ الممسوس هو مناسبة لتظهر قدرة الشيطان. فيه "روح أخرس ". وستماثل آ 25 بين هذا الروح الأخرس والشيطان نفسه. كنا ننتظر أن نقرأ في آ 20: "ولما رأى (الصبيّ) يسوع، صُرع بالروح، وسقط على الأرض وهو يتلّوى ويزبد". وفي الواقع نقرأ: "ولما رأى الروح يسوع صرع الولد فسقط على الأرض يتلوّى ويزبد". وسنرى الشيطان أيضًا في آ 22 يحلّ محلّ الفاعل في الجملة. الشيطان هو هذا "القويّ " (27:3) لأنه قاوم التلاميذ الذين لم يقدروا عليه (18:9).
سادسًا: يسوع. ولكن يسوع هو الأقوى. أظهره متى في جلاله ومهابته فصوّر حركاته بايجاز وأظهر احترام الناس له. وعند مرقس، يتوجّه الاشخاص، وإن كثروا، نحو يسوع. يثير يسوع الدهشة، ولكن الناس يتراكضون إليه ليحيّوه. وإليه يأتي الوالد بابنه.
ويتميّز الخبر المرقسيّ بأن المبادرة هي دومًا في يد يسوع. وصل فأسرعوا إليه. طالب بحساب عن الجدال، ففسّر له الرجل ما حصل. أمرهم أن يأتوه بالصبيّ، فأتوا به. سأل الوالد فأجاب الوالد وكشف عن إيمانه مع ما فيه من ضعف. وحين أشار يسوع إلى هذا الضعف هتف الرجل بفعل ايمانه الكامل. أخيرًا أمر يسوع الشيطان الذي بدا وكأنه انتصر حين رمى ضحيّته على الأرض. ولكن يسوع أمسك بالصبيّ وأوقفه فكلّل هكذا عمله.
إن مبادرة يسوع الدائمة تلفت انتباهنا. ونلاحظ أن موقفه يختلف حين يشفي أو يطرد شيطانًا. فالمخلّص يستقبل بحنان كلّ طالب شفاء (1: 30، 40 - 41؛ 2: 5؛ 5: 22؛ 7: 32- 33؛ 8: 22؛ 10: 49)، ولكنه يستبق الأمور أمام الممسوسين كما في منطقة الجراسيّين (6:5- 8؛ رج 1 :25- 34؛ 3: 11 - 12 ؛ 7: 27).
إن مناداة يسوع تسبق أمره بأن يُؤتى بالولد. لا يجيب يسوع على طلب الأب، فهو يشرف من عَلُ على جميع الحاضرين. إنه ينتصب وحده تجاه كل هؤلاء اللامؤمنين، تجاه الشيطان.
وانتصر يسوع في صراعه مع الشيطان. انتصار رمزيّ على ما يبدو. لقد أشرنا إلى إمكانية ربط بين هذا الحدث والإنباءات بالآلام والقيامة. ويثبت هذا الرباط بالمقابلة بين الكلمات التي تعبّر عن نتيجة طرد الشيطان (آ 26- 27) وتلك التي تنبئ بالآلام. اعتُبر الولد وكأنه ميت. قيل أنه مات (رج 35:5؛ 1 كور 3:15؛ رؤ 1: 17). بعد هذا يقيمه يسوع فيقوم.
يقع هذا الحدث في ذروة الانجيل، ساعة كشف يسوع عن سرّ ابن الإِِِِنسان. وتسير هذه الدراما مسيرتها في العلن، في ثلاثة مشاهد، فيبدو بُعدها الرمزيّ. هناك حرب بين يسوع والشيطان. إنتصر يسوع على بعل زبول ووضع حدًّا "لبيته " (22:3، 26). أما القارئ فعليه أن يتّخذ موقفًا. هو ضعيف في صراعه مع القوى الشيطانية، ولكنه قادر على كل شيء مع يسوع. إنه من هذا الجيل الكافر، الجيل الذي لا يؤمن بما فيه الكفاية. فليسمع صوت يسوع يدعوه إلى الإِيمان الكامل، يدعوه إلى الصلاة والصوم. إن إراد أن يتخلّص من قوة الشيطان فليتعلّق بيسوع وحده. وأخيرًا إن انتصار يسوع على الشيطان يرمز إلى الانتصار الأخير في الموت والقيامة. قد "يموت " المؤمن، ولكن المسيح يمسكه بيده ويقيمه.

د- الخبر حسب لوقا
في الإِنجيل الثالث يبدو الخبر قصيرًا كلما عند متى، ولكنه قريب ممّا عند مرقس. إنه "خبر معجزة" كما في شفاء حماة بطرس. ونرى التعبير عن الدهشة التي تحلّ محل الحوار الذي زاده الانجيليّان الآخران: "فتعجّب الحاضرون كلّهم أمام عظمة الله " (قدرة الله العظيمة) (لو 43:9). ما يبرزه هذا الخبر هو "أعمال الله العظيمة": الله يمجَّد بواسطة ابنه يسوع. هذا ما نقرأ أيضًا بعد شفاء الكسيح: "اليوم رأينا عجائب " (26:5) وبعد إحياء ابن ارملة نائين "سيطر الخوف على الجميع وقالوا وهم يمجِّدون الله: ظهر فينا نبيّ عظيم، وتفقّد الله شعبه " (16:7).
عظائم الله هي التي يحتفل بها الرسل يوم العنصرة (أع 2: 11) وهي تدلّ في 2 بط 1: 16 على حدث التجلّي ("بعيوننا رأينا عظمة"). وهكذا يرتبط هذا الحدث بمشهد التجلّي عند لوقا كما عند متى ومرقس.
يحيط بالخبر ما فعله والد الممسوس: قدّم وحيده إلى يسوع. تسلَّم ابنه المعافى من يسوع. تعرّى الحدث من الحوار بين يسوع والتلاميذ فبدا بسيطًا بالنسبة إلى نصّ مرقس. وعبر بساطته اكتشفنا حنان يسوع "الذي سار وهو يعمل الخير ويشفي الذين استولى عليهم ابليس " (أع: 38:10).
ماذا نرى في هذا النصّ؟ يسوع والأب المعذّب.
بطلب الوالد شفاء ابنه، لا لأنه ممسوس بالدرجة الأولى، بل لأنه ابنه الأوحد (9: 38؛ رج 17: 12؛ 8: 42). يشير إلى بعض أعراض الأمراض، ولكن لا لفظة له مختلفة ليميّز طلبه إلى يسوع من طلبه إلى التلاميذ. حين توجّه إلى يسوع زاد فقط أنه يكفي يسوع "أن ينظر" إلى الولد لكي يشفيه.
إلى من يتوجّه التوبيخ؟ لا يتوجّه إلى الوالد. ثم نشهد كما عند مرقس حالة من الصرع تملأ القلوب شفقة. وبعد التقسيم الذي به شفى يسوع الولد، نجد سمة تميّز إنجيل لوقا: ردَّ يسوع الولد إلى أبيه. فعلة حنان مارسها أيضًا مع ارملة نائين حين ردَّ إليها وحيدها (7: 15).
هذا الحدث يدهشنا في إنجيل الرحمة الخلاصية. ويدعونا لننشد مع الجمع عظائم الله. هو يقدِّم، على خلفية مظلمة هي عجز التلاميذ، مشهدَ التجلّي المجيد ويبينّ لنا في يسوع ذلك المحسن القدير الذي به يصنع الله المعجزات فيدّل على صلاحه الفدائي.

خاتمة
وهكذا قرأنا عند متى درسًا في التعليم المسيحيّ. وعند مرقس خبرًا دراماتيكيًّا رسم لنا الأشخاص المتحلّقين حول يسوع. وعند لوقا معجزة تدلّ على حنان يسوع تجاه هذا الولد الوحيد الذي استولى عليه الشيطان. وحين سلّمه يسوع إلى أبيه تعجّب الحاضرون كلّهم من قدرة الله العظيمة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM