القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الحادي والخمسون: اتباع يسوع

الفصل الحادي والخمسون
اتباع يسوع
9: 23- 27

1- نحن هنا في نهاية رسالة يسوع في الجليل، وقبل أن يبدأ الصعود الطويل إلى أورشليم. وإليك كيف تبدو المتتالية التي نقرأ فيها هذا النصّ: إرسال الاثني عشر (9: 1- 6)، قلق هيرودس وتحيّره (آ 7-9)، تكثير الأرغفة (آ 10- 17). هذه المقطوعات الثلاث تسبق النصّ الذي ندرس، ويليه مشهد التجلّي (آ 28- 37)، شفاء الولد الذي صرعه الشيطان (آ 37- 43)، الإِنباء الثاني بالآلام (آ 44- 45)، حوار مع التلاميذ (آ 46- 50).
نلاحظ أولاً أن إرسال يسوع لأخصائه في الفقر والاتكال على الله (3:9- 4) يقابل على المستوى الأدبيّ والموضوعيّ قولين يقلبان كلّ النظريّات البشريّة حول ما هو عظيم ومحدود (46:9- 48).
ثانيًا: إن حيرة هيرودس حول يسوع والإِشارة إلى قطع رأس يوحنا (9: 7- 9) تواجهان عدم الفهم عند التلاميذ والإِنباء الثاني بالآلام (9: 44- 45). ثالثًا: نجد خبرَيْ معجزات. الأوّل يُبرز وفرة عطية الله (9: 13- 17)، والثاني يدلّ على دهشة الناس أمام عظمة الله (42:9- 43). رابعًا: إن اعتراف بطرس "أنت مسيح الله " (9: 20) يجد جوابًا فصحيًّا وتأكيدًا سماويًّا في شهادة الآب حين أعلن: "أنت ابني المختار، فاسمعوا له " (9: 35). خامسًا: إن أمر يسوع لهم بالصمت (9: 21) يجد الدافع له في كلمة بطرس التي نقصها الادراك حول خيام ثلاث تُنصَب على الجبل (33:9). سادسًا: إن ظهور موسى وإيليّا (9: 30) يقابل الإِعلان الأوّل للآلام (22:9). وهكذا يتّضح أن ف 9 مبنيّ بحسب تناسق دائريّ يشكّل مركزه إعلان الشروط لاتباع يسوع: من أراد أن يتبعني (23:9 ي). أما موضوع طرفي هذه البنية ووسطها فهو شخص التلميذ السائر على خطى يسوع. ولا عجب في ذلك، فإن ف 8 و 9 يحدّثاننا عن إشراك الإِثني عشر في رسالة يسوع.
نترك جانبًا شهادة بطرس لحقيقة يسوع (18:9- 21) بعد أن شرحناها في فصل سابق كما نترك أول إنباء بالآلام (22:9)، لنتوقف عند الشروط الضروريّة لاتّباع يسوع.
2- قلنا إن ف 9 يشكّل تناسقًا دائريًّا مركزه هذه الآيات الخمس التي ندرس (آ 23- 27). ونزيد إن هذا المركز مبنيّ هو أيضًا حسب تناسق دائري. نلاحظ أولاً أننا لا نجد إلاَّ استفهامًا واحدًا: "ماذا ينفع الانسان " (آ 25)؟ وإن هذا الاستفهام يميّز قولاً حول عدم التناسب بين الانسان والعالم كلّه. ثانيًا: إن الآيتين اللتين تحيطان بعبارة الحكمة هذه (ماذا ينفع الإِِِِنسان؟) تبدآن باللحظة الواحدة وتتضمّنان تعارضًا من نمط واحد: خلص- خسرِ. استحى بي- يستحي به ابن الانسان. ثالثًا: إن الآية الأولى (آ 23) تقدّم عرضًا (من أراد أن يتبعني) يرتبط بشرط (ينكر نفسه). أمّا الآية الأخيرة (آ 27) فتعلن وعدًا بالملكوت.
ونستطيع أن نقدّم هذه الآيات حسب الرسمة التالية:
أ- آ 23: العرض وشرطه أأ- آ 27: الوعد بمشاهدة الملكوت
ب- آ 24: الشرح ب ب- آ 26: الشرح
انقلاب بين خلّص وخسر انقلاب بين اليوم وغدًا.
ج- آ 25: قول وحكمة
لا نسبة بين الانسان والكون
حين ننطلق من هذه البنية نستطيع أن نتأمّل في تفسير الآية الأخيرة التي تبدو سريّة للغاية. قال بولتمان: "لقد احتفظت المسيحيّة دومًا برجاء ملكوت الله في وقت قريب، مع أن انتظارها كان عبثًا. فمع أن عددًا من معاصري يسوع قد ماتوا، إلا أنه يجب المحافظة على الأمل بأن ملكوت الله سيأتي أيضًا في هذا الجيل ".
قد يكون هذا التفسير محقًا لو أن الآية كانت معزولة. ولكن يسبقها بصورة مباشرة خبر التجلّي حيث اختير ثلاثة من الاثني عشر ليكونوا شهودًا لمجد يسوع ولصوت ابيه. كما أنها تَدخُل في بنية تتناسق مع العرض الذي يقدّمه يسوع عمن يريد أن يتبعه. ثمّ نلاحظ أن هذه الآية (آ 27) تجد ما يوازيها في خبر الطفولة حيث قيل عن سمعان: جاءه تنبيه إلهيّ من عند الروح القدس "بأنّه لن يرى الموت حتى يعاين مسيح الربّ " (2: 26). ونزيد أن آ 23 التي توازيه، تتوسّع في كلام يسوع بشكل لفظ يزاد على أصل المعنى من غير أن تحمل الزيادة فائدة: "إن إراد أحد أن يتبعني... فليتبعني ". أما يجب أن نفسّر التناسق ككشف عن الطابع اللا مشروط لاتّباع يسوع على طريق الصليب؟ هنا نعود إلى القديس اغوسطينس في تفسيره لخطبة خبز الحياة وخاصة آ 26 (يو 26:6): "أنتم تطلبوني، لا لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أكلتم الخبز. قال أسقف هيبونة: "أنتم تطلبوني من أجل اللحم والدمّ لا من أجل الروح. فعديدون هم الذين لا يطلبون يسوع إلا من أجل خيرات زمنيّة! فهذا تاجر وهو يطلب صلاة الكهنة، وذاك يضطهده من هو أقوى منه فيلجأ إلى الكنيسة... ولا يكاد احد يطلب يسوع من أجل يسوع "
إن عبارة "طلب يسوع من أجل يسوع " توافق ولا شكّ الأمر الذي أُعطي من السماء خلال التجلّي: "إسمعوا له " (35:9). وقد رأى فيه الصوفيون دومًا الفرح الكامل. نحن أمام اللامشروط الذي لا نكتشفه إلا إنطلاقًا من يسوع، أي من الملكوت الهاجم على عالمنا. إذن، لا حاجة إلى أن نتخيّل انتظارًا ساذجًا عند الكنيسة. إن هذا القول يعبِّر عن التمييز بين زمن يسوع وزمن الكنيسة الآتي بعد زمن يسوع: عليه في زمن مسيرته نحو الساعة المجهولة حيث يأتي الآب إليه، عليه، بالنظر إلى رسالته، أن يمضي إلى نهاية المسيرة التي تقود البشريّة المخلوقة والخاطئة إلى يوم الله الآتي.
إذن، يتميّز زمن يسوع بالالحاحيّة واقتراب النهاية، لأن إرادة الله في الخلاص والدينونة تتضمّنها كلها حياة يسوع المحدودة والمعدّة للموت. زمن يسوع ليس زمن الكنيسة الذي هو امتداد له ويجد تحديده وقياسه في زمن يسوع الاسكاتولوجيّ. ولقد فهم التقليد هذا الواقع حين قال إن يسوع وصل إلى نهاية الطريق، ساعة ما زال تلاميذه بعد في الطريق.
ورغم هذه المسافة التي تفصل المعلّم عن التلميذ، نجد توازيًا حقيقيًّا بين "مصير" ابن الإِِِِنسان الذي تعلنه آ 22، ومصير التلميذ الذي يُطلب منه أن ينكر ذاته ويخسر نفسه بسبب يسوع. فكيف لا نستنتج أن المجموعة المكوّنة من الإِنباء بالآلام وإعلان الشروط المطلوبة من التلميذ هي صدى للآية 18 أ (وكان يسوع مرّة يصلّي) التي ترينا يسوع في عزلة مع تلاميذه. فمن الواضح أن الحياة مع يسوع في البداية تجد امتدادها الحقيقيّ في المطابقة لموته وقيامته أي في سير على خطاه يفرض نفسه علينا بشكل غير مشروط. وهذا الموقف ليس بممكن إلا باعتراف إيمان هو في الوقت عينه رفض بأن نحصر يسوع في حدود خبر معروف ومرتبط بالماضي. فإِنكار الذات هو أكثر من وصيّة اخلاقيّة. إنه المدى الذي يحيا فيه الإِِِِنسان مع يسوع. فكلّ هذه العبارة: نكون مع يسوع، نتبع يسوع... هي وجهات مختلفة للذي هو هو: فالطريق الملكيّة قد فتحها ذلك الذي تسلّم نفسه كإبن الإِِِِنسان، قد دعي كل النّاس إلى السير فيها على خطاه بكامل حرّيتهم. هذه الطريق هي "خروج " (اكسودوس) سيتكلّم عنه موسى وايليا في التجلّي: "كانا يتكلّمان عن "خروجه " الذي سيتمّ في أورشليم " (9: 30). وهذا "الخروج " هو انتقال من الموت إلى الحياة، هو حمل الصليب، هو خسارة حياتنا من أجل شخص آخر. وبمختصر الكلام نحن أمام إحدى ثوابت الإِنجيل التي نجدها أيضًا في نشيد الفيلبيّين (6:2 ي) كما في كلمات يسوع الداخل إلى أورشليم كما أوردها يوحنّا (26:12): "من أراد أن يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا يكون هو هنـاك خادمي. من خدمني أكرمه أبي ".
3- مع آ 23- 27 نتعرّف إلى مجموعة أولى من أموال يسوع جُمعت بطريقة مصطنعة وتفلّتت من أي سياق محدَّد. يتضمّن ف 9 ثلاث مجموعات من الأقوال (رج مر 8: 34؛ 9: 1؛ مت 16: 24- 28) تحدّد ما يعني "اتباع يسوع ". بعد هذا فإن آ 46-50 (رج مت 33:9- 37؛ مت 18: 1- 5؛ 38:10- 41) تتحدّث عن القبول في داخل الجماعة كما في خارجها. وأخيرًا إن آ 57- 62 (رج مت 8: 19- 22) تتوجّه بالأحرى إلى التجنّد الرسوليّ.
نكتشف مع أوّل مجموعة لأقوال يسوع صدى للتجارب الثلاث بعد مجيء الروح القدس بالمسيح إلى الاردنّ (4: 1-13): لا نطلب أن نخلّص نفسنا (آ 24)، أن نربح العالم (آ 25)، أن نصل إلى المجد متناسين مصير ابن الانسان (آ 26).
فالمقدمة (آ 23) تشدّد على أن هذا النداء يعني كل إنسان: "إن كان أحد يريد أن يتبعني ". ليس إتباع يسوع امتيازًا محفوظًا لنخبة معيّنة، بل هو دعوة إلى جميع الناس ليدخلوا معه في طريقه إلى الآب. فالتلميح إلى التجارب واضح بما فيه الكفاية. فلوقا لا يورد هنا ردة فعل بطرس التي تهدف إلى إبعاد يسوع عن الموت، ولا جواب يسوع اللاذع (رج مر 8: 32- 33؛ مت 16: 22- 23: إذهب خلفي يا شيطان). غير أنه يعرف أن الإِِِِنسان يشبّ كالحصان أمام واقع الموت. ولكنّه يكتفي الآن بأن يشير إلى المصير الذي يُدعى كل إنسان إلى المشاركة فيه. فالمشاركة في مصير يسوع في طريقه إلى الآب، تفترض أن نتخلّى عن ذاتنا ونحمل صليبنا كلّ يوم.
ليس إنكار الذات استقالة ورفضًا بأن نكون حسب شخصيّتنا. إنه تقبّل حياتنا كنعمة تُعطى لنا وحَملِ ثقل المحن والتناقضات "كل يوم " (يشدّد لوقا وحده على هذه الوجهة). فنحن لا نخلّص نفوسنا كمن ينجو بجلده، محاولين أن نتدبّر أمورنا فنفلت من الألم والموت مهما كان الثمن. بل يُطلب منّا أن نتخلّى عن كل اكتفاء لنجد في يسوع علّة حياتنا الواحدة والوحيدة.
ماذا ينفعنا أن نحصل على النجاح أو السلطة إذا كان هذا ثمر طموح شخصيّ يكون في النهاية من أجل دمارنا؟ فما يُطلب من التلميذ هو أن يتبع معلمه في المحنة والتجربة ويجد فيه الغلبة متخليًّا عن كل محاولات التسلّط.
وفي النهاية، فالسؤال المطروح على التلميذ هو حول انتمائه الحقيقيّ إلى يسوع، حول الشهادة التي يقدّمها له، منذ الآن وبكل حياته. فمنذ الآن يتقرّر مصير الانسان على ضوء ما سيظهر فيما بعد. فمصير الإِِِِنسان كمصير يسوع ينكشف أمام "الآب وملائكته القدّيسين " أي في الدينونة النهائية. فكل واحد يجد نفسه مع يسوع في الحقّ بالالتزامات المتعاقبة التي قام بها على الأرض.
فالذين يلازمون المسيح يتأكّدون أنهم لن يذوقوا الموت إلى أن يروا ملكوت الله آتيًا. فهذا الملكوت يعمل منذ الآن في حياة يسوع (9:10- 11؛ 20:11؛ 20:17- 21)، وقد صار ملموسًا بعد القيامة في حياة الذين يشهدون له، وهذا ما نراه في موت اسطفانس الذي رأى قبل موته "ابن الإِِِِنسان واقفًا عن يمين الله " (أع 56:7) والذي مات وهو يسلّم روحه للآب كما فعل يسوع على الصليب.
إذن، لسنا أمام وعد بأن ننجو من الموت الطبيعيّ، بل تأكيد بأننا نكتشف في الآلام الحاضرة التي قاساها يسوع، قدرة حياة ذلك القائم من الموت. والرسل الذين حَكم عليهم المجلس اليهوديّ الأعلى سيختبرون بدورهم هذه القدرة. يقول فيهم القديس لوقا: "فخرج الرسل من المجلس فرحين لآن الله وجدهم أهلاً لقبول الإِهانة من أجل اسم يسوع" (أع 5: 41).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM