الفصل التاسع والأربعون
الخبز الذي يشبع الكثيرين
10:9-17
هذا الخبر مشهور ومعروف جدًا، وهو يَرِد في الأناجيل الأربعة. ونحن نستطيع أن نتخيّل المشهد بفضل التفاصيل العديدة التي تقدّمها لنا ستّة أخبار إنجيليّة (مت 13:14- 21؛ مر 6: 30- 44؛ لو 9: 11- 17؛ يو 6: 1- 15؛ مت 15: 32- 39؛ مر 8: 1- 10). سنتوقّف اولاً عند مر 30:6- 44 ونقابله مع سائر النصوص الموازية لنستخلص التعليم الانجيليّ ونلقي ضوءًا على هذا الخبر في حياة يسوع. فنحن لا ندرك الحدَث بسهولة. والأبحاث حول تاريخ التقليد ستساعدنا على معالجَته و تحديد موقعه في وقت جوهريّ من حياة يسوع العلنيّة. وهكذا نكتشف الخطوط الكبرى التي فيها توسّعت الكرازة الأولى بالنسبة إلى معجزة تكثير الخبز.
أ- الحدَث
إن تركنا العِنان لمخيّلتنا، أخطأنا في تقديم الكرازة حول هذه "الكلمة". فمخيّلتنا ستتوسّع في أفكار مسبّقة وآراء منحازة. هل تبينِّ لنا هذه المخيّلة الخبز والسمك يتكاثران بين يدي يسوع فتأخذنا الدهشة، أم هل نحاول إعادة بناء الحدَث لنجعله مقبولاً لدى قارئ حديث يتضايق من الوجهة الخارقة "للمعجزة"؟ سنسمع هنا هونتر المؤوّل الأنغليكانيّ الذي حدّد الموقف الواجب اتخاذه:
"أمّا تكثير الخبز فهناك، على ما يبدو، امكانيّتان: الاولى: أن نظنّ أن يسوع الذي هو ابن الله الأزليّ، قد كثر فعلاً الخبزات والسمك. هنا تُطرَح المسألة اللاهوتيّة لتحديد قدرة يسوع التي يتضمّنها التجسّد. فهل يتوافق التعليم الحقيقي حول هذا الموضوع مع امتلاك مثل هذه السلطة على الطبيعة؟ الامكانيّة الثانية: أن نقول إنّ الخبر كله تاريخيٌّ، ما عدا القولَ إنّ الشعب شبع وفضَل كثير من الطعام، وأن نعطي لكلّ هذا معنى سرّ (عشاء سرّيّ جليليّ) تمَّ في الهواء الطلق، وقدَّم فيه يسوع لكل واحد قطعة من الخبز: إن الذين قاسموا يسوع ما قدّمه في حياته المتواضعة على الأرض سيشاركونه في المجد".
فمن خلال التقاليد الانجيليّة وتعليم كل من الأنجيليّين، سنحاول أن نعود إلى أصول التقليد.
1- عمل قام به يسوع
إذا تفحّصنا الأخبار الانجيليّة الستِّة نضعها في نموذجين. النموذج الأول: مت 13:14- 21؛ مر 6: 30- 44؛ لو 9: 10- 17. النموذج الثاني: مت 15: 32- 39؛ مر 8: 1- 10. أمّا يو 6: 1- 15 فهو يرتبط بالنموذجَين معًا. تُحيلُنا هذه الأخبار إلى حدثين يَرويان تكثير الخبز بل إلى كرازتَين تتوسّعان في معنى حدَثٍ واحد. يجعلنا النموذَج الأوّل في إطار فلسطينيّ، والنموذجُ الثاني في إطار هلّنستيّ.
وهكذا نكون أمام حدَث واحد من حياة يسوع. وقد قدَّم الشُرّاح عنه تفاسير رمزيّة أو ميتولوجيّة (سطُرية). قال لوازي مثلاً: نحن هنا أمام تمثّل رمزيّ (ولكنه ليس حقيقيًّا) لتعليم يسوع للجموع. مِثلُ هذه التفاسير تترك جانبًا بعضَ المعَطيات الثابتة من الشهادة الانجيليّة، وتتجاهل إحدى الاهتمامات الرئيسيّة في الكنيسة الأولى وهي: ربط إيمانها وممارستها بأفعال يسوع خلال حياته العلنيّة. نلاحظ هنا أن عرض الازائيّين يشبه طريقة يوحنا العاديّة في عرض المعجزة: إن الحدَث الماضي من حياة يسوع يرد هنا بالنظر إلى الممارسة الأسراريّة في الكنيسة الأولى، بالنسبة إلى ايمان تعيشه الكنيسة وشعائرِ عبادة تحتفل بها.
إن لهذا الخبر طابعًا فريدًا في الأناجيل الازائية، لا بسبب مضمونه وحسب، ولكن بسبب شكله أيضًا. مثلاً عند مرقس: إن العبارة التقليديّة (تعجّبوا كلّهم، دهشوا) التي تختتم عادة أخبار المعجزات عنده، هي غائبة. غير أننا نجد في 52:6: أن التلاميذ "لم يفهموا شيئًا من أمر الأرغفة، بل كانت قلوبهم عمياء... ". يقول دود: إن مرقس لا يقدّم لنا هذا "كخبر معجزة" بل كحكاية "سرّ". هدفه لا أن "يدهش او يحيّر" بل أن يدعونا لكي "نفهم "، لكي ندرك المعنى العميق والواقع الخفيّ المختبئ وراء الواقع المنظور، لكي ننفتح على السرّ الذي ينكشف لنا.
2- أخذ خبزًا (آ 16).
هذه الآية هي قلب الخبر (مر 6: 41 وز). لا شكّ في أنه يجب علينا أن نتخلّى عن تصوير الحدَث كشاهد حياديّ او كصحافيّ يقدّم تقريرًا أو واقعة. إن دراسة هذه الآية تتيح لنا أن نميّز على الأقلّ مرحلتين في التقليد السابق للازائيّين. "أخذ يسوع الخمسة الأرغفة والسمكتين "، ولكنه كسر الخبزات وحدَها ووزّعها على التلاميذ بعد أن باركها. أمّا السمكتان فوزّعهما على الجميع. صارت جملة لوقا مثقّلة حين ذكر عملَي يسوع واِلفئتين اللتين أعطاهما الخبز (التلاميذ) والسمك (الجميع). وإننا نجد العمل عينَه في مر 43:6: يبدو وكأنه زاد ما يتعلّق بالسمكتين. فاهتمامه كلُّه ينصبّ على "الكِسَر" (كلسماتا) التي هي نتيجة "كسر" (كاتاكلاوو) الخبز. لهذا قرأ فان يرسال آ 41 في حالة التقليد الأولى على الشكل التالي: "وأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ووزّعهما (على الجميع؟) ". أُقحمت العناصر الأخرى بين ذكر السمكتين في وقت مبكّر في التقليد، أُقحمت قبل ان يدوّن مرقس إنجيله، لتقدّم عن الحدث تفسيرًا إفخارستيًّا.
ولكن قبل أيّ توضيح، الحدَثُ هو هنا في فرادته وفي سرّه: في ذات مساء، كان يسوع في مكان قفر فأخذ هذا الطعام ووزّعه على الجميع. قال لوهماير: إن الخبز يُحيلنا إلى ظهور "هذا الرجل الذي أيَّده الله بالعجائب والآيات والمعجزات " (أع 2: 22؛ رج 10: 38). أمّا التوسيعات والتفسيرات الافخارستيّة والاسكاتولوجيّة فجاءت فيما بعد لتعبّر عن المعنى العميق لما عمله المعلّم.
3- هل نحن أمام معجزة؟
إذا أخذنا الكلمة في المعنى الذي يشير إليه يوحنا حين يتحدّث عن "الآية"، يكون الجواب نعم. نحن أمام حدَث معبّر بما فيه الكفاية، بحيث إن الشهود اكتشفوا مع كلّ ما يحملون في داخلهم من رجاء وانتظار وانفتاح على عمل الله، صورة وعربونًا عن "الأزمنة الجديدة" وبدايةَ تحقيق المواعيد. هو عمل لا يُدرَك معناه العميق إلا على ضوء "الساعة" التي حقّقها يسوع. هو حدَث يظهر فيه "الله معنا" الذي يعترف به الايمان الفصحيّ ويتّحد به التلاميذ في سرّ الخبز الذي نتقاسمه.
لا تُفهَم المعجزة خارج إطار انتظارٍ و "قراءة" ممكنة. سيُذكَر هذا الانتظار وهذه المواعيد في تقديم مت 13:14- 21. في مثل هذا الاطار ندرك الحدَث كأنه "آية". وحن نتكلّم عن الحدَث فنحن نفكّر في الوضع العامّ (المكان، الزمان، التوترّات)، ونفكر بالعمل الذي قام به يسوع وبالكلمات التي تلفّظ بها. في هذه المرحلة الأولى، قد يكون للتفصيل مدلول محدود، ثم يصبح هذا التفصيل من دون مدلول يذكر. هذا ما حدث لتفصيل السمكتين ساعة سيطر التفسيرُ الافخارستيّ. وشدّد لوهماير على هذه المعجزة التي لا تلفت النظر، بل تتوجّه أساسًا إلى التلاميذ.
يقول لنا الانجيل هنا إنّ الحدث (الوضع، عمل يسوع وكلامه) كان معبّرًا، فأثار عند المشاهدين (الرسل أوّلاً ثم الجموع) حماسةً مسيحانيّةَ. فإذا أردنا أن ندرك هذا، نحدّد موقع الحدَث في إطار حياة يسوع العلنيّة.
ب- مفترق في حياة يسوع العلنيّة
نصل من خلال متى ومرقس إلى تقليد سيصير في هذين الانجيلين "حلقة الخبز". قلبُ هذه الحلَقة تكثيرُ الخبز، وهي تتضمّن الخبرين اللذَين نجدهما عند متى ومرقس. يرتبط خبر "التكثير" الأوّل بخبر السير على المياه (إن نهاية الخبر الثاني قد احتفظت بما يذكّرنا به، رج مر 8: 10؛ مت 39:15). ونجد هذا الرباط عينَه عند يوحنا الذي يستند (كما يقول دود) إلى تقليد مستقلّ. وما يشرف على التأليف في هذه المرحلة ليس اهتمامًا بسيرة يسوع وتفاصيل حياته. الهدف هو تعليم عن سر شخص يسوع كما كُشف للتلاميذ. ومكان وأهميّة معجزة الأرغفة في هذه الحلقة (سيشدّد عليهما التدوين المرقسيّ، رج 8: 14- 21) يدلان بوضوح على أنه يجب أن نقرأ خبر المعجزة في هذا الاتّجاه.
ولكن إقحام "حلقة الخبز" في لُحمة الأناجيل، وبالتالي في رسمة سيرويّة (بيوغرافيّة) لم يتمّ بالصُدفة. فالأخبار نفسُها احتفظت بآثار لذكرَيات محدّدة. فالذين تبعوا يسوع منذ البداية لم ينسَوا المُناخ ولا الطابَع الدراماتيكيّ لهذا القِسم من حياة المعلّم العلنيّة. وإن مقابلة نقديّة بين معطَيات يوحنا ومعطيات الازائيّين (مر 6- 8 وز) تتيح لنا أن نحدّد موقع هذا الحدَث في مسيرة حياة يسوع. ويعطينا يوحنا كعادته إشاراتٍ تاريخيّةً ثمينة.
نحن في نهاية المرحلة الجليليّة. بدت السلطات معاديةً ليسوع. أمّا الجموع فتحمَّست في البداية ثم خاب أملُها بسبب الرجاء المسيحانيّ المادّيّ الذي يحرّكها. وهناك التلاميذ الذين أراد يسوع أن يفهمهم طبيعة مسيحانيّته الحقيقيّة. نحن في إنجيل مرقس في مسيرة نحو ذَروة أولى: اعتراف إيمان يعلنه بطرس الذي رأى في يسوع المسيح، وحصل على أوّل تعليم عن طريق الالم التي سيتّبعها يسوع (مر 8: 27- 33).
تضمّن مرقس خبرين لتكثير الخبز، وأمورًا أخرى أقحمها الكاتب. أمّا التقليد الذي كان بتصرّف يوحنا فكان أكثر وضوحًا وأكثر بساطة، فرُبط بطريقة وثيقة بين تكثير الأرغفة واعتراف بطرس: إن الحوار الدراماتيكيّ في يو 6: 66- 71 هو نقل يوحنّاويّ لنصّ مر 27:8- 33. وإذا أردنا أن نلقي بعض الضوء على الوضع، نستطيع أن نقابل بين النصوص التالية: في يو 14:6- 15: أرادوا "ان يجعلوه ملكًا". في مر 6: 45: "اجبر" يسوع تلاميذه على ركوب السفينة والانطلاق، "ريثما يصرف الجمع ". في مر 17:8 ب- 21: التلاميذ لا يفهمون. وفي يو 26:6، 60- 71: فهم التلاميذ كلام يسوع فهمًا خاطئًا، فتركه عدد كبير منهم، وأعلن بطرس وسائر الرسل إيمانهم. كلّ هذا يعلن النهاية المأساويّة.
وها نحن نقدّم لوحة فرضيّة، ولكنّها تعطينا فكرة لا بأس بها عن الواقع:
على أثر تكثير الأرغفة، كانت ثورة حقيقيّة كامنة في البريّة... هنا نفهم لماذا تصرّف يسوع كما قال مرقس. فَهِم أنهم يحاولون أن يبعدوه عن رسالته بالعمل السياسي، فقاوم هذا التيّار بإرادته، وفصل عن الشعب تلاميذَه الأقربين وذهب الى العُزلة. فخيَّب عملُه عددًا من "المتشيّعين " له وتركه عدد كبير من الناس. وفي النهاية كوّن الاثنا عشر نواةً أمينة استعدّت من أجل انطلاقة جديدة.
"أتريدون أيضًا أن تذهبوا"؟ هذه الكلمات المؤثّرة هي الجواب على سؤال يسوع كما أورده مرقس: من أنا، من تظنّون أني أنا؟ وكان اعتراف بطرس: أنت المسيح. هذا الاعتراف كان النتيجة المباشرة لموقف التلاميذ الذين تخلُّوا عن يسوع، وقد تفرّدَ يوحنا فذكره. إنه تسلسل أحداث منطقيّ، وهو يعطي تفسيرًا مقنعًا لما كان منعطفًا في حياة يسوع العلنيّة (مونتيفيوري).
لا نستطيع أن نقرأ خبر تكثير الأرغفة دون أن نفكّر بهذا الوقت المؤزَّم الذي فيه وجد يسوع نفسه مرذولاً من قبل الذين أ يقدروا أن يتجاوزوا آمالهم البشريّة، والذي فيه دُعي بطرس وإخوته لفعل إيمانٍ ربطهم بيسوع وسيَّرهم على خطاه.
إن العمل الذي قام به يسوع هنا ظلّ غامضًا، والاقوال التي تلفّظ بها لِتدُلَّ على رسالته في إقامة الملكوت، لم تُفهم في ذلك الوقت. ولكن بعد الآلام و"الأحداث المجيدة"، وضّحت الجماعة "عشاءَ الوداع " الذي يعلن مسبَّقًا عشاء خميس الأسرار.
ج- خبر لوقا: يسوع يستقبل الجموع ويشبع جوعهم
لم يكن عَرضُ لوقا كلُّه مبتكَرًا: فالترتيب العامّ للخبر كما وصل إليه في المراجع، كان ثابتًا بحيث فرَض نفسَه عليه. ولكن إن قابلنا النصوص نجد بعض الاختلافات في مقدّمة الخبر (آ 10- 11) وفي جسم الخبر (حِوارات مبسّطة، تشديد على عمل التلاميذ في آ 15)، وفي الخاتمة التي تُبرز وفرة هذا الطعام السرّيّ، لا عددَ المدعوّين الكثيرين.
ولكن لوقا يدلّ على الابتكار فيما يخصّ إطار هذا الحدث. ففي نهاية الخبر، يغفل أخبارًا كثيرة (ق مر 45:6- 26:8)، ويبتعد عن مرقس في حلقات سابقة (خُطبة رسوليّة موجزة، تلميح إلى هيرودس لا إلى يوحنّا المعمدان). ومع تكثير الأرغفة، واعتراف بطرس، والتجلّي، والأحداث الأربعة التابعة، نحن هنا أمام دورة كاملة أعطاها لوقا وظيفة أساسية في بنية إنجيله الاجماليّة. فالذي يتكلّم هنا ليس "المؤرخ " الذي يصحّح الاشارات الجغرافيّة في مرقس، بل اللاهوتيّ: لم تأتِ بعد ساعة الكرازة إلى البعيد، وعلى عبد الله ان يمُرّ أوّلاً بالصليب، عليه أن يبدأ صعوده الطويل إلى أورشليم (9: 51؛ 24: 46 - 47). ونتيجة كلّ هذا هو إبراز الاطار الدراماتيكيّ لتكثير الأرغفة: نهايةَ الرسالَة في الجليل، مُناخ أزمةٍ يفرض خيارًا، نظرة إلى الآلام والمجد الآتي (9: 20 ي).
لن نقوم بتفسير النص كلّه، ولكننا نتوقّف عند بعض الوُجُهات التي شدَّد عليها لوقا في الخبر نفسه وفي إطار الخبر. فهذا ما يدعونا من جهة إلى فعل إيمان بشخص المسيح؛ ومن جهة ثانية، يفتح أمامنا كرازة إفخارستيّة.
1- الذي يلبّي حاجاتِ الناس الحقيقيّة هو هنا
كان الاعلان الاحتفاليّ: "اليوم تمّت هذه الكلمة التي تليت على مسامعكم " (4: 21). منذ هذا الاعلان وُضع السامعون (وقارئوا لوقا أيضًا) أمام الحدَث المنتظر: النبيّ هو هنا وهو يدشّن الملكوت. ثم كان انتظار البشر، وهم "سيشبعون " إن أرادوا ان ينفتحوا على هذا الاعلان الواصل اليهم بقوّة. فبعد زمن المواعيد والانتظار، جاء وقت التحقيق والنهاية، جاء وقت "إعلان الانجيل " (رج 16:16 وهو خاص بلوقا).
والكلمات التي استعملها لوقا هنا تكفي لتصوّر هذا الاطار الاسكاتولوجيّ، ولتضع أمامنا السؤال الأساسيّ: هل يسوع وملكوته هما اللذان يلبّيان انتظار البشر في نظرنا؟
"كان يحدّثهم عن ملكوت الله ". يسوع "يتكلّم ". الفعل المستعمل هو "لالاين " وهو يدلّ عند كتَّاب العهد الجديد ولاسيما عند لوقا، على وحي الله بالأنبياء وبابنه. "حامل الوحي " هو هنا، و"الكلمة" أُعطيت. وأُعلنت الرسالة التي تحرّر البشر. وفي هذا الاعلان نفسه اجتاح الواقعُ الالهيّ الجديد عالمَنا وأظهر فيه ديناميّتَه ففتح لنا بالايمان باب الخلاص. إعتاد لوقا ان يُبرز قدرة (ديناميس) الله وسلطته (اكسوسيا) كما ظهرتا في المسيح (4: 14، 36؛ 5: 17) وفي مرسَليه (9: 1- 2، 10: 19، 24: 49، أع 1 :8، 7:4، 33). ونحن سنرى علامة عن هذه القدرة في المعجزة الواردة هنا.
"وشفى من كان منهم في حاجة إلى شفاء". فمن خلال الآيات المعطاة هنا في أشفية الجسد، عرف لوقا أنهم كلّهم يحتاجون الى هذا الشفاء (تيرابايا، رج رؤ 22: 2) الذي يقدِّمه المسيح إلى كل الذين يحملون في قلبهم الرغبة بالخلاص، الذين لا ينغلقون على بِرّهم الخاصّ، الذين لا يحسبون نفوسهم "أصحّاء" ولا يحتاجون إلى طبيب (5: 31- 32، 7:15). فالمسيح نفسُه يجعل البشر يَعُون حاجاتِهم الحقيقيّة بكلمته وبحضوره، ساعةَ يظهر لهم ذلك الذي يُشبع جوعهم (10: 40- 42).
ويشدد لوقا بصورة خاصّة على المدلول الروحيّ للحدَث. هو لا يسعى أن يصوّر الوضع بطريقة دراماتيكيّة على مستوى حاجات الجسد. فما يعطيه يسوع هو أبعدُ من "الحاجات " المباشرة الضروريّات الجسديّة. قال لوقا: "أخذ النهار يميل " (آ12؛ رج 29:24؛ ق مت 15:14: "ولما اقبل المساء")، والناس يستطيعون بسهولة أن يجدوا "مأوى وطعامًا" في الجوار. وفي آ 13، لا يذكر لوقا كميّة المال الكبيرة (200 دينار، مر 37:6). قالَ المرجع خمسة آلاف رجل. فقال لوقا: نحو خمسة آلاف، واشار بصورة عابرة الى "المكان القَفْر (آ 12، رج آ10 ب). ارتبط ذكر "البريّة" بالحدَث في الكرازة الأولى بسبب الأبعاد اللاهوتيّة لكلمة البريّة في التوراة، ولاسيما في أسفار الشريعة الخمسة.
إن "الطعام " المقدَّم هنا لا يهدّئ فقط الجوع الماديّ، بل إنه علامة وآية. في هذا المنظار نستطيع أن نسهب ملاحظة الرسل الذين لم يفهموا بعد، ماذا سوف يصنع يسوع ولا ماذا يحمل إلى البشر: "إلا اذا استطعنا نحن بوسائلنا أو بالمال الذي لدينا أن نعطي لهذا الشعب كلّه ما يحتاج اليه ". انها عطيّة الخلاص يصوّرها هذا الطعام السرّيّ والمُشِبع والوفير.
2- استقبل شعبًا وجمعه وجعل منه جماعة
تبعت " الجموع يسوع، " فرحّب بهم ". شدّد لوقا على حنان المسيح الذي يتجاوب وانتظارَ الناس وطلبَهم، فجعله مثالاً للمرسلين الجُدُد، للذّين سيوكل إليهم بعده بأن يعطوا الشعوب الكلمة والخبز (مر 6: 40- 44). ويجب أن يقدَّم هذا الطعام دومًا للبشر، منذ اليوم في حياة الكنيسة. لا شك في أنّ لوقا فكّر في الكنيسة (الشعب، لاوس) حين أنهى خبره بذكر الطعام الباقي: "بقيت اثنتا عشْرةَ قُفّةً" للذين سيأتون فيما بعد (آ 17 ب).
لم تتشتّت الجموع، بل وجدت نفسها مجموعة في شركة المائدة التي تشير الى الشعب الجديد والوليمة الأخيرة التي فيها "يأكل الفقراء ويشبعون " كما تقول المواعيد (أجلسوهم خمسين خمسين، هذا هو التنظيم المِثاليّ لشعب الله، تث 1: 15).
3- الخبز الحقيقيّ الذي يُشبع
من الواضح أنّ الآيتين الأولَيَين قمّة الخبر. لا نستطيع أن نقول كيف يستطيع شاهدُ عِيانٍ بسيط أن يَروي الحدث. ولكن حين صوّرت الجماعةُ الاولى كلّ حركات يسوع مع كلمات طقسها الافخارستيّ، فقد دلّتنا على تفسيرها للمعجزة. ولقد شدّد لوقا أيضًا على هذا التعليم: فموضوع السمك يختفي بوضوح أكثر ممّا عند مرقس (لن يذكر في نهاية آ 16 ولا آ 17).
تُوازي كلُّ التفاسير بين تأسيس الافخارستيّا وخبر تكثير الأرغفة، ولكننا نجد عند لوقا موازاةً اخرى معبّرة هي خبر تلميذَي عمّاوس (13:24- 14). وها نحن نقدّم رَسْمة سريعة:
24: 30 9: 15 ب – 16 22: 19
تكلّم يسوع في الطريق الملكوت هو هنا (آ 11 ب) يشير النصّ إلى الملكوت
فكشَف مخطّط
الله في الكتب المقدسة في مرحلته الأخيرة
(آ 15- 16)
وكان لمّا اتّكأ معهما أجلسوهم كلّهم. فأخذ الخمسة
أخذ الخبز الأرغفة والسمكتين ونظر إلى السماء
وقال المباركة (بارك) وقال المباركة عليها وشكر
وكسر وناولهما كسرها وجعل يعطيها وكسر وأعطاهم
للتلاميذ لتوزع على الجميع
لسنا في حاجة إلى أن نشدّد على التشابهات. ما يهمّنا خصوصًا في ف 24 هو حركة الخبر الذي يساعدنا على استخلاص مدلوله العميق: إن الكتب المقدّسة تشهد للمسيح، ولكن اللقاء بالربّ الحيّ والقائم من الموت والحاضر مع الجماعة يتمّ بصورة خاصّة في الافخارستيّا.
ونقول الشيء عينه عن تكثير الأرغفة: فتركيب النصّ (نلاحظ ما أخذه لوقا عن طقوس الافخارستيّا) يعلّمنا كيف نفسّره. كل ما يلبّي انتظار البشر العميق، كلّ ما عبّر عنه العهد الجديد في رجائه المسيحانيّ والاسكاتولوجيّ، "الملكوت " الذي تكلمَت عنه الأناجيل الازائيّة، كل هذا أُعطي لنا بيسوع، فحصلنا عليه بصورة مميَّزة في الافخارستيا. وهذا لا نفهمه إلا بالعودة الى شخص يسوع "إلهنا معنا" (رج التساؤلات التي تحيط بهذا الخبر، 7:9- 9 و 9: 18- 21)، إلى آلامه الفدائيّة وقيامته (رج الانباءات بالآلام في 9: 22 ي واللقاء مع هيرودس في 8:23- 12 الذي اشار اليه 9: 9).
إذن، لا نحصر فِعلة يسوع "بإعلان للتأسيس الافخارسيّ ". إنه مرّ بيننا وهو يقدّم كلمته طعامًا: أشبعنا من معرفة الله، وأعطانا آياته عربونًا لِما يحمله إلينا. وعى رسالتَه فقام بأعمال تشير اليها، فدلّ على بداية تحقيق هذه الرسالة. وستجد هذه الأعمال تكميلها أو التعبير الكامل عنها في الآية العظمى وفي العطيّة العظمى التي هي الافخارستيّا. فالتجسّد يكمُل في عطيّة الافخارستيّا. ومشاركتنا في الافخارستّيا يَفترض تعلّقًا إيمانيُّا بسر المسيح الذي هو "الخبز الحيّ النازل من السماء"، وأفضل تفسير للخبر الذي نقرأ هو "الخطبة عن خبز الحياة" في يو 6.
4- متطلّبات المشاركة في هذه "الوليمة"
لا يكتفي لوقا بان يستعيد بصورة حرفيّة بعض مقتطفات من مرقس، فهناك هدف محدّد يوجّه تأليف نصّه. فهو حين يتحدّث عن قلب الحياة المسيحيّة (تأسيس الافخارستيّا وأوّل عربون للوليمة المسيحانيّة) يقدّم من جهة الصليب ومجد الفصح، ومن جهة ثانية مواعيد حياة التلميذ ومتطلّباتها.
وهكذا تتحدّد الأحداث التي تتمّ في أورشليم، ويبدو في الأفق صليب الآلام والعبور من الموت إلى المجد. شارك التلاميذ يسوعَ في عمله، فوجب عليهم أن يَدخلوا في مرحلة جديدة ورهيبة من دعوتهم. سيدخلهم التجلّي بصورة أعمق في هذا السرّ. والجموع التي "تبعت " يسوع (9: 11) وشاركت في المأدبة التي قدّمها، هل فهمت ما تتضمنه كلمة "يتبعني" (آ 23)؟ أمّا التلاميذ فسوف يتعلّمون.
في عبارات قريبة من عبارات خميس الأسرار (22: 21- 38)، ذكرنا متطلّبات الالتزام على خُطى يسوع بالنسبة إلى "الجميع " أو بالنسبة إلى جماعة "التلاميذ" (آ 43، 46- 49): تعلق إيمانيّ كامل، خدمة أخويّة في التواضع، أمانة يوميّة ولو كلفتنا التضحية بكل شيء لنا. لا بدّ من أن نخسر حياتنا من اجل المسيح، أن نحمل صليبنا كلّ يوم ونتبع يسوع على الطريق الذي يقود إلى الصليب والى مجد الملكوت.