القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الثامن والأربعون: إرسال الاثني عشر

الفصل الثامن والأربعون
إرسال الاثني عشر
9: 1-9، مر 11:6-13

1- المدخل.
يرتدي خبر إرسال الإِثنيّ عشر أهميّة كبيرة للكنيسة في كلّ العصور. فالجماعات المسيحيّة لم تعتبر هذا العمل حدثًا من الأحداث البسيطة، بل عادت إليه دائمًا لكي تكتشف فيه إرادة يسوع عليها.
يَردِ هذا النصّ في مرقس (7:6 -13). بعد دعوة الرسل الأربعة الأوّلين تمّ إختيار الإِثنيّ عشر. ويرد عند لوقا في القسم الجليليّ تاركًا إرسال السبعين إلى فترة "الصعود إلى أورشليم".
ما الذي إكتشفه المؤمن في هذه المسيرة؟ يسوع هو المنتصر على العناصر وعلى قوى الشر حتّى وراء حدود إسرائيل، وهو لأخصّائه ينبوع القيامة والحياة. تجاه خبرة الذي أعطى إيمانه ليسوع، جاء سؤال هيرودس كصدى له، سؤال هيرودس الذي يرى الأمور من الخارج: "فمن هذا الذي أسمع عنه " (آ 9)؟ هذا السؤال لا ينبع من إلتزام المؤمن الشخصيّ. إنه ردّة فعل المراقب الذي يعيش خارج حياة مجموعة التلاميذ. وتعود هنا ثلاث مرّات كلمة "إثنيّ عشر" فتلمّح إلى إسرائيل الجديد السائر إلى تجمّع سيقوده إلى أورشليم ويطلقه من هناك في رسالة تصل به إلى أقاصي الأرض.
العمل التدوينيّ الذي قام به لوقا واضح هنا. أغفل لوقا عودة يسوع إلى الناصرة، وهذه العودة تختتم القسم الثاني في مرقس (6:6 أ) وخطبة الأمثال في متّى (53:13- 58). فالناصرة كانت بالنسبة إليه نقطة إنطلاق، ومنها أعلن برنامجه: "روح الربِّ عليّ... " (18:4 ي). أمّا فيما تبقّى فهو يتبع ترتيب مر 6: 6 ب- 44 تاركًا جانبًا خبر مقتل يوحنّا النبيّ (مر 17:6- 26) الذي تحدّث عنه في 3: 19- 20. بهذه الطريقة، يجعل نصّه يشدّد على أمور أخرى. عند مرقس، يشرف على القسم كلّه السؤالُ عن يسوع، ولكنّه إن كان سؤالاً مطروحًا على البشر، فهو يتوجّه بصورة خاصة إلى التلاميذ وهو يدعوهم إلى الجواب: جعلهم يسوع في برنامج عمله فوعوا أنّهم لا يفهمون، وأحسّوا بقساوة قلوبهم (مر 52:6؛ 18:7؛ 17:8- 21). أمّا لوقا فشدّد بالأحرى على السؤال الذي يطرحه على الإِثنيّ عشر والتلاميذ، على الذين في الخارج.
أمّا ترتيب متتالية 9: 1-17 فيبدو بسيطًا. هناك ثلاثة مشاهد: إرسال الإِثنيّ عشر "إلى كلّ مكان " (آ 6). حيرة هيرودس وتساؤله (9: 7- 9)، وأخيرًا عودة الإِثنيّ عشر وإطعام خمسة آلاف شخص في البريّة (9: 10-17). إن يسوع هو الذي يُرسل، وهو الذي يجمع. يرسل الإِثنيّ عشر ومعهم يجمع الناس بعد أن سمعوا الكلمة من أجل وليمة خبز هي صورة عن وليمة أخرى، هي وليمة الملكوت تصوّرها تلك الوليمة الأخيرة التي سيأخذها يسوع للمرّة الأخيرة مع تلاميذه (22: 16- 18).
تذكّرنا هذه الرسمة المتتالية السابقة (22:8- 56): مسيرة يسوع المنتصرة على البحيرة. هناك إعلان عن إنطلاق في آ 2: "أرسلهم يعلنون بلا إنقطاع، يَشفون بلا إنقطاع ". وتحقّق ما أرسلهم إليه: "مرّوا في القرى يعلنون البشارة ويشفون (يعتنون ب) المرضى في كلّ مكان (آ 6). لهذا تأثر هيرودس "بما يجري " (آ 7) فطرح السؤال. ولمّا عاد التلاميذ أخذهم يسوع إلى بيت صيدا حيث تبعه الجموع (آ 11) فأعطاهم طعامًا بواسطة التلاميذ (آ 16: أعطى تلاميذه ليوزعوها). وفي النهاية، يُطرح السؤال عن الرسل (آ 1) الذين يعملون ما يعمله يسوع (آ 11) ويشاركون الناس في ما وزّعوا عليهم (آ 16).

2- الإِرسال (9: 1- 6).
منذ بداية ف 8، الرسل هم حاضرون بجانب يسوع وإن لم يُذكَروا مرارًا. نقرأ في 8: 1: وسار يسوع بعد ذلك في المدن والقرى... وكان يرافقه الإِثنا عشر". ولكن لوقا لا يتحدّث مطوّلاً عن إرسالهم: فهو سيستعيد معنى الإِرسال العميق ويوضحه حين يرسل السبعين (أو: 72) تلميذًا (10: 1- 16). يورد متّى هنا خطبة رساليّة طويلة. أمّا نسخة لوقا فتقترب من نسخة مر 6:6 ب-13 مع بعض تفاصيل لها معناها.
أوّلاً، تحدّث لوقا عن "دعوة" (إلى إجتماع)، دعوة إلى الإِثنيّ عشر وأعطاهم سلطانًا وقدرة (قال مرقس فقط: سلطان) على كلّ الشياطين (تحدّث مرقس عن الأرواح النجسة) مع القدرة على شفاء الأمراض (هنا يلتقي لوقا مع مت 10: 1). نحن هنا أمام مشاركة في قدرة يسوع نفسه (46:8؛ رج أع 19: 11-16). وكما أُرسل يسوع بروح الربّ (18:4- 43)، ها هو يرسلهم "يعلنون " (18:4، 19، 44؛ 8: 1) مثله ملكوت الله و"يشفون " (6: 19).
وتبدأ " خطبة الإرسال " أو بالأحرى نصائح المعلّم من أجل الرسالة، وهي تتعلّق بالنقاط التي أوصى بها يوحنّا المعمدان الآتين ليعتمدوا على يده: مقاسمة الثياب والطعام، عدالة في مسائل المال، لا عنف ولا تطرّف (3: 10- 14). ولكن يسوع يجعل الموقف جذريًا لا مساومة فيه: يكون الرسول بدون سلاح، بدون زاد.
"أي بيت دخلتم، أقيموا فيه ". يشهد سفر الأعمال على الإِقامة في البيوت التي استقبلتهم. نعرف أن (بطرس أقام عدّة أيام في يافا عند دبّاغ إسمه سمعان" (أع 43:9) وطلبت ليدية من بولس ورفاقه راجية: "أدخلوا بيتي وأقيموا فيه إذا كنتم تحسبوني مؤمنة بالربّ ". ويعلّق لوقا: "فأجبرتنا على قبول دعوتها" (أع 15:16). وأقام بولس في كورنتوس عند اكيلا وبرسكلة (أع 3:18- 4). ونجد أيضا في سفر الأعمال فِعلة الذين رفضوا أن يستقبلوا المرسلين. "حرض اليهود وجهاء المدينة (انطاكية بسيدية)... فاضطهدوا بولس وبرنابا وطردوهما من ديارهم، فنفضا عليهم غبار أقدامهما وانتقلا إلى إيقونة" (أع 13: 50- 51).
وأخيرًا يتحدّث لوقا عن شمول الرسالة واتساع حقل عمل المرسلين:
"إجتازوا بين القرى يعلنون البشارة ويشفون في كلّ مكان". نحن هنا أمام صورة مسبقة عمّا سيحدّثنا عنه أعمال الرسل.
هذه الصورة عن الرسل تطرح سؤالاً على الناس: ماذا تعني هذه الدعوة وهذا الإِرسال؟ اثنا عشر ينادون بالملكوت، يشفون المرضى ويطردون الشياطين! لماذا يعيشون بدون سند بشريّ؟ لا عصا يدافعون بها عن نفوسهم، لا خبز يؤمنّون به مورد حياتهم، لا مال، ومن يستغني عن المال. ويكتفي الرسول بثوب واحد. هؤلاء كانوا الشهود الأوّلين للإِنجيل. فجعلوا الناس يتساءلون وما زالوا!
إذن، يتضمّن الإِزائيون خطبة إرسال توجّهت إلى الإِثنيّ عشر في متّى ومرقس ولوقا، وخطبة إرسال إلى السبعين في لوقا. نقرأ الخطبة الموجّهة إلى الرسل خاصة في مت 10: 5-16 مع بعض النصوص الموازية في مرقس ولوقا. أمّا النصّ الذي نقرأه الآن فمشترك بين مرقس ولوقا مع بعض النصوص الموازية من متّى. وسنعود فيما بعد إلى الخطبة الموجّهة إلى التلاميذ السبعين مع بعض النصوص الموازية في متى.
أمّا فيما يتعلّق بمراجع هذه الخطب فهناك افتراضان.
الأوّل: إحتفظ التقليد الأوّلاني بذكرى رسالتين، رسالة الإِثنيّ عشر ورسالة السبعين. أهمل مرقس ما يتعلّق بالسبعين، لا سيّما وإنه لا يورد إلاَّ خطبًا قليلة من يسوع. أمّا لوقا فكان أمينًا لمراجعه، فقدّم الخطبتين وفصلهما الواحدة عن الأخرى. واعتاد متّى على تقديم نظرة شاملة في ما يدوّن، فجمع الخطبتين في نصّ واحد.
الإِفتراض الثاني: رأى بعض الشراح تشابهًا أدبيًا بين خطبتَيْ الإِرسال عند لوقا، الخطبة إلى الإِثنيّ عشر والخطبة إلى السبعين، فظنّوا أنه لم يكن إلاَّ إرسال واحد دُوِّن في إطار يهوديّ (الرقم 12) وفي إطار وثنيّ (الرقم70). وهكذا نكون في تقليد مماثل لذلك الذي إنطلق من معجزة واحدة لتكثير الأرغفة، فقدّمها في إطار يهوديّ (12 سلّة) وإطار وثنيّ (7 قفّات). قد يكون النصّان وُجدا من قبل في التقليد الإِزائيّ، سواء فيما يخصّ تكثير الأرغفة أو إرسال التلاميذ فأخذ بهما الإِنجيليّون. ولا ننسَ أن أعمال الرسل يحدّثنا عن الإِثنيّ عشر في ف 1-15 ثمِّ يعود إلى السبعة الذين إرتبطوا بالرسل قبل أن ينطلقوا بدورهم ويؤسسوا الكنائس في كلّ حوض البحر الأبيض المتوسّط.
يسمّي لوقا هؤلاء المرسلين "الإِثنيّ عشر" (آ 1). ثم يقول في 10:9: ورجع "الرسل ". إن لقب الرسل ينتمي إلى اللغة المسيحيّة في ما بعد الفصح، وكان محفوظًا للإِثنيّ عشر كمرسلي المسيح الذين سيقومون بالمهام عينها التي قام بها المسيح.
إنّ إختيار الإِثنيّ عشر ينتمي إلى الماضي في نظر مرقس ولوقا اللذين يكتبان، ربّما بعد موت كلّ الرسل. ولكن الاهتمام بهم يتعدّى المستوى التاريخي. فهم يمثّلون وجهة ملموسة وحالية من عمل يسوع وتعليمه. وما يشهد على ذلك هو أن الإِنجيليّين أوردوا التعليمات التي أعطاها لهم يسوع، وكأنّها تتوجّه إلى كنائسهم، بل إلى كنائس اليوم.
نرى في هذه التعليمات إنعكاسًا للممارسة الرسالية في الكنائس بعد الفصح. هل ذهب الرسل إلى البعيد بدون زاد ولا مال؟ سمح لهم مرقس بأن يأخذوا "عصا". أمّا لوقا، وهو المشدّد على جذرية الفقر الإِنجيليّ، فلم يسمح لهم إلاّ بثوب واحد: لا عصا، لا كيس، لا خبز، لا مال. لا حاجة إلى ثوبين. هل يسيرون حفاة؟ نحن هنا في إطار جولات رسوليّة محدودة، في بلاد معروفة مثل الجليل. فالمرسلون يحسبون حساب الضيافة وهم متأكّدون أن "العامل يستحق طعامه " (مت 10: 10).
والتوصية بالبقاء في البيت الأول الذي استقبل المرسلين قد وُضعت تجاه الذين يبحثون دومًا عن الأفضل، أو يبحثون عمن يؤمّن لهم حياة رفهة. مهما يكن من أمر، نستطيع أن نكتشف من خلال كلمات يسوع نموذج الذين أرسلوا أو إنطلقوا لينشروا الإِنجيل: قُبلوا هنا في منزل فصار هذا المنزل مركز إجتماع الكنيسة الفتية، مثل بيت يهوذا الدمشقي حيث كان شاول يصلّي بعد ارتداده (أع 9: 11)، وبيت سمعان الدبّاغ في يافا (أع 43:9؛ 10: 23)، وبيت كورنيليوس (أع 10: 24، 44، 48: "يقيم عندهم بضعة أيام "). وبيت مريم أم يوحنّا الملقّب بمرقس، وكان هناك جماعة كبيرة تصلّي (أع 12:12). ولا ننسَ سجّان فيلبي الذي دعا الرسوليّين إلى بيته (أع 33:16)، وياسون إبن تسالونيكي (أع 17: 5- 8) وداماريس ابنة اثينة (أع 17: 34).
وقد يكون هؤلاء المرسلون قد رُفضوا فأُجبروا على الذهاب إلى مكان آخر. هذا ما حدث لبولس وبرنابا (أع 13: 50- 51: إنطاكية بسيدية). وهذا ما حدث ليوحنّا الرسول ومن يوفدهم من الإِخوة: إن ديوتريفس "يرفض أن يقبل الإخوة ويمنع الذين يريدون أن يقبلوهم ويطردهم من الكنيسة" (3 يو 10). ولقد عرفت كتابات المسيحيّة الأولى (مثلاً الديداكيه 13 / 3، 7) مثل هؤلاء الوعاظ المتنقلين الذين سمّوا رسلاً حسب ما نقرأ في روم 7:16: "سلّموا على اندرونيكس ويونياس، نسيبيّ ورفيقيّ في السجن، وهما من المشهورين بين الرسل (مسيحيون من الجيل الأول في الكنيسة، شاركا في الرسالة، سُجنا)، بل اهتديا (انتميا) قبلي إلى المسيح" .
هناك سمتان تبرزان في وجه الرسول.
الأولى: يتحدّث متّى على التوالي عن إمكانية قبول المرسلين أو عدم قبولهم (مت 10: 11- 15). أمّا مر 6: 11 ومثله لو 9: 5 (يتحدّث لو 8:10-10 مثل متّى عن إمكانية القبول والرفض) فيتوقفان مطوّلاً عند إمكانيّة الرفض. فيسوع لم يؤمن به أهل الناصرة، وسيرذله رؤساء شعبه (مر 8: 31). وهو يبين ضرورة المخاطرة بالحياة لمن يريد أن يشهد له. طريقه هي طريق الذين يرسلهم وسيختبرون ما اختبره: "ما كان خادم أعظم من سيده. فإذا اضطهدوني فإنهم يضطهدونكم، وإذا سمعوا كلامي فإنهم يسمعون كلامكم " (يو 15: 20).
السمة الثانية: أوصى يسوع المسافر بأن يكون حِملُه "خفيفًا"، أي أن لا يتعب نفسه بمتاع هذه الدنيا. وهذا ما يتوافق مع التجرد المطلوب من كلّ مؤمن، وذلك في سبيل يسوع والإنجيل. فالمرسَل لا ينقل تعليمه وعمله بقدرته الخاصة. إنه تلميذ يتبع يسوع في تحرر كامل من المال، من رباطات العائلة، بل من حياته نفسها. نحن نعيش مهمة حمل الإِنجيل في ظروف صعبة، ولهذا نترك جانبًا كلّ ما هو نافل لأن الزمان قصير.
أشار مرقس إلى العصا يحملها الرسول، وإلى الحذاء ينتعله، فكيف يحمل كلمات يسوع مع ظروف الرسالة خارج فلسطين؟ قد يكون في هذا الكلام تلميح إلى العبرانيّين المستعدين للخروج من مصر إلى أرض الميعاد (خر 12: 11): "نعالكم في أرجلكم وعصيكم في أيديكم ". وقد تكون السرعة المذكورة في لو 10: 4 إشارة إلى فصح الربّ الذي يأكله المؤمنون "بعجلة" (خر 12: 11).
ومهما يكن من أمر، فهذا التجرد يدلّ على سرعة التحرك وعلى الإِستعداد المطلوبين من العاملين في البشارة. أجل، هذا هو وجه الرسول الذي يتخلّى عن كلّ شيء ليتكيّف وظروف الرسالة الصعبة.

3- حيرة هيرودس (9: 7- 9).
قال مر 6: 14: و"سمع هيرودس " فأوضح مت 14: 1: "سمع هيرودس ما يُسمع " أي ما يقال عن يسوع. شدّد مرقس على شهرة يسوع. أما لوقا فقال دون أن يوضح: "وسمع هيرودس بكلّ ما يجري ".
سمّى مرقس هيرودس "الملك ". هو لقب شرف، لقب شعبي. وصحح متّى ولوقا اللقب الرسمي وهو تترارخس. أي رئيس الربع، ربع مملكة هيرودس الكبير الذي مات سنة 4 ق. م. يتحدّث النص عن هيرودس انتيباس، شقيق أرخيلاوس وإبن هيرودس الكبير وملتقة. تسلّم بعد موت أبيه الجليل وبيرية (4 ق. م- 39 ب. م.).
تحدّث هيرودس مع ندمائه، رجال الحاشية (حرفيًا: ابناؤه بمعنى خدمه)، عن يسوع وربطَه بيوحنّا المعمدان. إن خبر موت يوحنّا (مت 14؛3- 12) ورَبْط موته بقيامة الأموات (مت 2:14؛ مر 6: 14؛ لو 7:9) يدلاّن مسبقًا على موت يسوع وقيامته. مصير يوحنّا هو صورة مسبقة عن موت يسوع.
يقول مر 6: 20 عن هيرودس: "حين يسمع يوحنّا كان يحار في أمره". فالكلمة اليونانيّة التي تدلّ على الحيرة لا ترِد إلا في هذا المكان من مرقس. وقد استعادها لوقا، على ندرتها، في 7:9 (سمع، تحيَّر) فدلّ على أنه عرف خبر مقتل يوحنّا، ولكنّه تحاشى إيراد هذه الصفحة الملطخة بالدم والزنا حيث رقصة أميرة خلاعية ستكون ثمن حياة "أعظم مواليد النساء" (28:7). نشير إلى أن لوقا تحدّث عن سجن يوحنّا لأنه وبّخ هيرودس (3: 19- 20).
قال (الناس): يوحنّا قام (مر 6: 14؛ لو 9: 7). وجعل مرقس (آ 16) هيرودس يردّد كلام الناس وكأن ضميره يوبّخه: "أجل، إن يوحنّا الذي قطعتُ أنا رأسه قد قام ". أمّا لوقا (آ 9) فتجنّب أن يضع على شفتي هيرودس أقوالاً عن قيامة الموتى. فهذا الأمير الهلينستي لا يعتقد بقيامة الموتى. قال هيرودس: "فمن هذا الذي أسمع عنه مثل هذه الأخبار"؟ وكان يطلب أن يراه. وسيكون له أن يراه خلال مسيرة الآلام (23: 8- 12).
من يمكن أن يكون يسوع؟ قال مرقس: هو إيليّا. ولكن زاد لوقا: "إيليّا ظهر". هذا ما كان الناس يعتقدون به إنطلاقًا من ملا 23:3: "ها أنا أرسل إليكم إيليّا النبيّ قبل أن يأتي يوم الربّ العظيم الرهيب". وقد عبّر التلاميذ عن هذا الإِعتقاد بعد مشهد التجليّ (مت 17: 10؛ مر 9: 11).
قد يكون يسوع "نبيُّا يشبه أحد الأنبياء" كما قال مرقس. أو أنه "نبيّ من القدماء قام "، كما قال لوقا. ظنّ الناس أن الأنبياء زالوا من زمن قديم، ولهذا قد يكون يسوع كسر الطوق وجاء نبيًا كسائر الأنبياء، أم أنه كان النبيّ المنتظر في نهاية الأزمنة حسب تث 18: 15؛ رج يو 6: 14؛ أع 3: 22- 23.
إن تعداد الآراء حول يسوع (مر 14:6- 16؛ لو 7:9- 9) يهيئ سؤال يسوع لتلاميذه (مت 16: 13- 20؛ مر 8: 27- 30؛ لو 9: 18- 21) ويبرز الطابع الفريد لشخص يسوع ورسالته. فهذا الذي يُطعم الآلاف ويمشي على الماء ويُحدث الأشفية المتعدّدة لا يشبه أحدًا من الذين سبقوه. إنه المسيح الذي أخبر عنه الأنبياء بمن فيهم يوحنّا المعمدان، وهيأوا الدرب لمجيئه. إنه "مسيح الله" (لو 9: 20؛ مر 29:8)، إنه "المسيح إبن الله الحيّ" (مت 16: 16). طابع شخصه فريد وحاسم: إنه الذي يرتبط بالله برباطات حميمة لا مثيل لها. إنه ذلك الذي أوكلت إليه مهمّة لا تساويها مهمّة وهي خلاص العالم.
إن سؤال هيرودس يستبق ذلك الذي ستطرحه السلطات الدينيّة والمدنيّة والعسكرية في كلّ مكان، تجاه الرسل أو الشهود الأوّلين. وهو سؤال كلّ المسؤولين في إسرائيل. رأى هيرودس أن يسوع نبيّ من طبقة يوحنّا. ولكن انحصر يوحنّا في منطقة الأردن، أمّا يسوع فيحرّك الناس في مقاطعة الجليل، بل هو يرسل موفدين من قبله.
سمع هيرودس بكلّ ما يجري. أرسل عيونه، أرسل الهيرودسيّين فأخبروه. هو يتطلّع من الوجهة الخارجيّة، من الوجهة السياسيّة. هو خائف من الجليل المعروف بثوراته المتكرّرة، وقد يحرّك هذا "الجليليّ " النار تحت الرماد! عند مرقس، يُطمئن هذا "الملك " نفسه ببرهان دينيّ: يوحنّا قام أو إن قوتّه العجائبيّة ما زالت تعمل! فلا خطر على المملكة. أمّا لوقا فقد جعل سؤال هيرودس يصل إلى شخص يسوع عبر شهوده. كم يودّ أن يراه!
ولكن يبقى السؤال: من هو يسوع؟ سمع عنه هيرودس وسوف يراه. ولكن هذا لا يقوده إلى معرفة يسوع. هو يحاول أن يكوّن رأيًا عن يسوع دون أن يجعل نفسه في استعداد داخليّ تجاه متطلّبات يسوع. ليس الطريق إلى معرفة يسوع طريق البحث العلميّ والخبرة الملموسة، إنه طريق الإِيمان. فأسرار ملكوت الله هي عطيّة من الله وهو يعطيها "للبسطاء، لا للحكماء والفهماء" (10: 21).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM