القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل السابع والأربعون: شفاء النازفة وإقامة ابنة يائيرس

الفصل السابع والأربعون
شفاء النازفة وإقامة ابنة يائيرس
8: 40- 56- مر 5: 21- 43= مت 18:9- 26

يظهر هذا الخبر المضاعف في التقليد الإِزائيّ خاصًّا جدًّا: فشفاء النازفة يوضع بين طلب يائيرس من أجل ابنته، وبين إقامة هده الإبنة من الموت. وفي سائر الأناجيل سنجد أنّ كل معجزة تشكّل وحدة مستقلّة. يرى معظم الشرّاح أنّ هذا التداخل يوافق تذكّرًا تاريخيّا. أما لوهماير فيرى أنّ الاختلافات على المستوى اللغوي واللاهوتي تدلّ على أنّ الخبرين كانا مستقلّين في النهاية.
جاء الجدال حول المسيح وبعل زبول بين وصول أقارب يسوع (آ 21- 22) وبين محاولتهم الوصول إليه (آ 31- 35)، وكان الجدال بين الإِثنين (آ 23 - 30). رج لو 11: 15- 23؛ مت 12: 42- 32. وفي مر 7:6- 33 يأتي خبر هيرودس ومقتل يوحنا المعمدان (آ 14- 29) بين مُغادرة الرسل (آ 6- 13) وعودتهم من الرسالة (آ 30- 33). رج أيضًا مر 11: 11- 21 (التينة وطرد الباعة من الهيكل)؛ 14: 1- 11 (المؤامرة والدهن بالزيت في بيت عنيا). وحين يستعمل مرقس هذه الطريقة، فمن أجل هدف لاهوتيّ، والأمر واضح بصورة خاصّة في 3: 21- 35: يرذله أهله كما ترذله سلطات أورشليم الدينيّة. وفي 11: 11- 21: ترمز التينة إلى الهيكل حيث لم يجد يسوع ثمرًا.
نجد موازاةً بين خبرَيْ المعجزة. هناك أوّلاً الرقم 12. فالنازفة مريضة منذ 12 سنة. وعمر الصبيّة يوم ماتت هو 12 سنة. ثم إنّ الشفاءين تمَّا بواسطة اتّصال بيسوع. النازفة لمست رداء يسوع، وشموع أمسك الصبيّة بيدها. وأخيرًا إنّ الموضوعين الرئيسيين في الخبرين هما هما: "خلص " و"آمن ".
يُورد لنا الإِزائيون الثلاثة هذا الحدث المضاعف، هذا الخبر في خبرين: مت 18:9- 26؛ مر 5: 21- 43؛ لو 8: 40- 56.

أ- شفاء النازفة.
يرينا متى في هذه المرأة نموذج المؤمن الذي يأتي إلى يسوع طالبًا الخلاص.
أمّا مرقس فيقدّم عددًا من التفاصيل، ولكنّه لا يروي من أجل الراوية. بل يحدّثنا عن خلاص يُعلنه يسوع ويحمله إلى الذين يأتون إليه بالإِيمان، لا خلاص من المرض وحسب، بل خلاص من الموت سيدلّنا على قيامه يسوع بعد موته.

1- وجاء يائيرس (8: 40- 42).
إنتظر شعب إسرائيل يسوع وها هو "يرحّب " به، بعد أن رفضه الوثنيّون حين طلبوا إليه "أن يبتعد عنهم " (37:8). فبتاريخ الخلاص هيّأ الله شعبه للمخلّص الآتي. أمّا الوثنيّون فما كانوا ينتظرون شيئًا. ما كانوا ينتظرون هذه القوّة الرهيبة حتى على قوى الشرّ.
وإنّ رئيس المجمع (المسؤول عن المجمع أو الموكَّل على أموره) لا ملجأ له ولا قوّة أمام قدرة الموت. وألمه العميق ينعكس في كلماته: له ابنة وحيدة. إبنة محبوبة. عمرها 12 سنة: كبُرت وصارت على باب الخطوبة. وها هي الآن عند ساعة الموت.
كل سلطة بشريّة بدت عاجزة في هذه الظروف. والأمل الوحيد الذي بقي للأب هو يسوع. فذهب يطلب، وأرفق طلبه بسجود متواضع أمام يسوع: "إرتمى على قدميه". وتوسّل إليه أن يأتي إلى بيته، أن يدخل إلى بيته. إنّه يختلف كلّ الإِختلاف عن الضابط الرومانيّ، ويسوع هو في بيته أينما كان في أرض إسرائيل. أمّا الضابط فرأى أنّ يسوع اليهودي لن يدخل بيته هو الوثنيّ، لهذا قال له: "لا تزعج نفسك، أنا لا أستحقّ أن تدخل تحت سقف بيتي" (6:7).
إرتمى رئيس المجمع أمام يسوع فدلّ على إيمانه. هذا هو موقف الشياطين الذين اكتشفوا فيه ابن الله (مر 3: 11؛ 6:5) وموقف الذين جاؤوا يتوسّلون إليه (مر 1: 40؛ 7: 25) أو رأوا فيه مرسَل الله (مر 17:10؛ 15: 19).
الفعل اليوناني "انتظر" يدلّ على موقف الجموع (8: 40) تجاه يسوع العائد من جديد. وكان قد دلّ على الشعب الذي "انتظر زكريا بعد أن رأى رؤية في الهيكل " (1: 21)، أو تساءل عن هوية يوحنا النبيّ (15:3). سأل يوحنا يسوع بواسطة تلميذيه: "أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر" ؟ أي نحن ننتظر أن تفعل وأنت المسيح، أن تدين شعب إسرائيل وتنقّيه (3: 11- 17). وأخيرًا نقرأ في مثل الوكيل الخائن (الذي لا يعرف الأمانة):" يأتي سيده في يوم لا ينتظره " (12: 46). في كل استعمال لهذا الفعل (بروسدوكان) نحن أمام انتظار مسيحانيّ سيكون مجيءُ يسوع الجوابَ عليه.
وعبّر عن هذا الانتظار رئيسُ المجمع. جاء إلى يسوع، توسّل إليه ولكنّه لم يحدّد طلبه في لوقا كما في متى ومرقس. قال مت 18:9: وماتت ابنتي. تعال وضع يدك عليها فتحيا". وقال مر 23:5: " تعال وضع يدك عليها فتخلص وتحيا". يجب أن يخلّصها يسوع لكي تستعيد الحياة. فليأتِ يسوع ويضع يده عليها، وهو الذي وضع يده على المرضى (مر 6: 5؛ 32:7؛ 23:8، 25). هذا ما انتظره أيضًا نعمان السوري من النبيّ أليشاع: "يضع يده على المرض " (2 مل 5: 11).
هذا في مرقس ومتى. أما في لوقا فنجد هذا الرجل يواجه موت ابنته فيلجأ إلى يسوع وكأني به لا يجسر أن يطلب شيئًا. ولكن يسوع لا يحتاج إلى أكثر من ذلك. ما إن رأى ابن أرملة نائين حتى أشفق على الأم التي فقدت وحيدها (7: 12- 13). وها هو يشفق على الأب الذي فقد وحيدته.

2- وقفَ نزف دمها في الحال (43:8- 44).
ويبدأ الخبر من جديد فيصوّر لنا تعلّق الشعب بيسوع: الجموع تهجم عليه، تزحمه. الكلمة المستعملة هنا هي مستعملة أيضًا بمناسبة الحديث عن الشوك الذي يخنق الزرع (8: 14). لقد انتظر الشعبُ يسوع واعتبر أنّه الملجأ العظيم. إنّه يمتلكه، بل يمسكه الآن فلا يريد أن يتخلى عنه. لقد استقبله بحرارة وها هو الآن يكاد يخنقه.
وها نحن أمام إنسان آخر ينحني ظهره من وطأة الألم. ها هي امرأة تنفصل عن الشعب. خبر مرضها محزن. هي تتألّم منذ 12 سنة. هي مريضة في جسدها وقد تعب منها الناس. ونجسة من جهة الشريعة (لا 25:15) فلهذا تحاشاها الناس "الأتقياء". أنفقت كل ما تملكه على الأطّباء، ولكن أحدًا لم يقدر أن يشفيها. كلمة قاسية: لا أمل لها بالشفاء.
يحمل إلينا مرقس اعتباراتها عن الأطبّاء، إيمانها بقدرة هذا الرجل الذي يصنع المعجزات، قرارها بأن تستفيد خفية من هذه القوّة السريّة، وإحساسها المباشر والفجائي بالشفاء. أجل، لم يشعر أحد بما فعلت.
ونعود إلى لوقا. لم يبقَ لها إلاَّ أمل واحد، شأنها شأن يائيرس. فهذا الرجل (يائيرس) وهذه المرأة يُشبهان طوبيط وسارة في محنتهما. لم يبقَ لهما أمل بشري. في سفر طوبيا أرسل الله ملاكه، وفي الإِنجيل جاء الرب بنفسه يحمل أمراضنا ويأخذ على عاتقه عاهاتنا. ولكن المرأة لا تستطيع أن تفعل مثل يائيرس، لا تستطيع أن تقترب منه وترتمي على قدميه وتخبره عن شقائها. كيف لها أن تظهر أمام الجمع كلّه وهي نجسة؟! ولكن لا بدّ من الاقتراب من يسوع. فجاءت من ورائه بحيث لا يراها أحد ولمست طرف ثوبه.
أمرت الشريعة بني إسرائيل أن يضعوا في طرف ثيابهم، أهدابًا ليتذكّروا وصايا الله (عد 38:15- 40). توسّل يائيرس إلى يسوع ليأتي إلى بيته. ظنّ ولا شكّ أنّ الشفاء لا يتمّ إلاّ بوضع الأيدي. أمّا المرأة فحاولت أن تتّصل بيسوع، حاولت أن تلمس ولو طرف ثوبه.
فوقف نزف دمها في الحال. هكذا يتكلّم الأطبّاء. شُفيت بدون دواء، بدون كلمة. لمسته فقط فحصلت في لحظة على ما لم تستطع أن تعطيه إيّاها الفنون الطبيّة خلال سنوات. لوقا هو طبيب وقد خفّف حكم مرقس القاسي على الأطبّاء. قال مر 26:5: "ما استفادت شيئًا، بل صارت من سيء إلى أسوأ". ألغى لوقا ما كتبه مرقس الذي يستقي منه، ولكنّه أقرّ أنّ الفنون الطبّية وعلومها كانت عاجزة في هذه الحالة. ولاحظ كطبيب يعرف مهنته: وقف نزف دمها في الحال.
أجل، تجرأت هذه المرأة رغم الجموع التي تزحم يسوع فلمست طرف ثوب يسوع. يروي لوقا الخبر بموضوعيّة دون أن يشركنا في نيّة المرأة حين فعلت ما فعلت. ولكنّنا نقرأ في مت 9: 21 ومر 5 :28 ما فكرت به تلك المرأة: "يكفي أن ألمس ثوبه (في متى)، ثيابه (في مرقس) لأخلص " (لأَشفى).
تتضمّن هذه النيّة فكرة قوّة تعمل حين نتّصل بشخص قدير. أما كان الناس يتراكضون إلى يسوع ليلمسوه (مر 3: 10؛ 56:6؛ لو 6: 19: "كانت تخرج منه قوّة وتشفي الجميع ")؟ والشيء نفسه يحدث بالنسبة إلى بطرس: "كانوا يحملون مرضاهم إلى الشوارع ويضعونها على الأسرّة والفُرش حتى إذا مرّ بطرس يلمس بظلّه واحدًا منهم " (أع 15:5). كما يحدث لبولس (أع 19: 11- 12).
ولكن ولي الخبر سيشدّد على قيمة اللمس بالنسبة إلى هذه المرأة التي لا يعرفها أحد. الجموع تزحم يسوع، ولا تكفي أن تلمسه (آ 30- 32). أمّا لمسة هذه المرأة فلمسة إيمان (آ34): لقد رأت في يسوع قدرة الله التي تخلّص البشر.
أجل، هناك قوّة خفيّة ولكنّها حقيقيّة، لا تنكشف إلاَّ أمام المؤمن (مر 6: 5- 6). أمّا اللامؤمن فلا يشعر بها. وهذا كان وضع الجموع. الإِيمان وحده يتيح لنا أن نتجاوز الظواهر الخارجيّة لنصل إلى المسيح. ومن اقترب من المسيح أُعطي له الخلاص.
إيمان مدهش لدى هذه المرأة، ولا سيّما وأنّ يسوع هو "مسيح " خفيّ ومجهول. تحيط به جموع تطلب "العجائب"، "وتلاميذ" يضحكون حين يقول عن الصبيّة أنّها نائمة. يبدو يسوع رجلا بين معاصريه الذين يرون فيه" ابن النجّار" (مر 3:6). لم ينل بعد قدرة القيامة، ولكن هذه القوّة الخارجة منه تعلن الخلاص لمن يؤمن به.
تحدَّتِ المرأة "الحرم" الذي تحمله الشريعة ضدّها. فشُفيت ورافق شفاءها عودةٌٌ إلى جماعة المؤمنين، إلى كل الذين جعلوا "في الخارج" كالوثنيين بسبب شرائع طهارة خارجيّة (مر 7: 1- 33). إذن، لسنا فقط أمام شفاء خارجي تم باتّصال خارجي مع شخص يسوع، بل أمام خلاص تعلنه كلمته وتمنحه لكل الذين يأتون إليه بالإِيمان.

3- إيمانك خلّصك.
ما صُنع في السرّ، قد جاء به يسوع إلى العلن. عرف ما حدث. واحد لمسني (حرفيًّا: أمسكني). قّوة خرجت مني. ليس العمل الماديّ، عمل الإِتّصال واللمس هو الذي اجترح المعجزة بل قوّة المسيح. هو وحده عرف. الشعب لم يعرف ولا بطرس. فيسوع هو السيد والمسلَّط في معنى أعمق بكثير مما يفترضه بطرس. لقد أمر الأمواج، وها هو يأمر نزف الدم. المعجزات تكشف عن قوّة يسوع: إنّه يتحكّم بالطبيعة. إنّه السيد بكل معنى الكلمة.
حين شُفيت المرأة لم تعد مجهولة. فهمت أنّ الله هو القريب في يسوع. عرفت أنّها لا تستطيع أن تبقى في الخفاء. إرتجفت في خوفها من اللاهوت الذي ظهر في يسوع، فارتمت على قدميه. وأعلنت أمام الجميع أنّ ما حصل لها هو عمل الله. هذه المرأة التي تعوّدت الخوف والتي عاشت بعيدًا عن الناس، تحوّلت بفعل عمل الله الذي أتمّه يسوع فيها، تحوّلت إلى منادية بعظائم الله أمام الشعب.
لا، ليس لمس الثوب هو الذي منح الشفاء للمرأة، بل إيمانها. قال لها يسوع: "إيمانك خلّصك". ما شفاها هو اتّصالها الخلاصيّ بيسوع المخلّص والفادي. بالإِيمان صارت ابنة البيت. قُبلت في بيت يسوع وجماعته. فوجدت السلام واستعادت الصحّة. فالسلام هو النظام. ولكنَّ إيمانها أعطاها سلامًا بدا الشفاء من مرضها صورة خارجيّة عنه.
طرح يسوع السؤال: "من لمسني "؟ أجاب بطرس: "كلّهم يزحمونك ". حينئذٍ أعطى يسوع تفسير هذا اللمس: "عرفتُ أنّ قوّة خرجت منّي . وتفرّد لوقا بالإِشارة إلى أن ما قالته المرأة قالته "أمام الشعب كلّه). الشعب هو شعب الله. وها هي تنادي أمام الشعب بأعمال الله.
نلاحظ هنا الشبه اللافت بين نهاية حدث الممسوس وهذا الخبر.
آ 36: والذين رأوا أخبروهم كيف خلص الذي كان في قبضة الشيطان".
آ 47: "فلمّا رأت المرأة... أخبرت أمام الشعب كله كيف شُفيت في الحال".
ينظر الإِنجيلي إلى هذا الشفاء وكأنّه خلاص. وللمرّة الأولى نقرأ في إنجيل لوقا كما في مر 34:5، كلمة يسوع: "إيمانك جعلك مخلَّصة. إذهبي في طريقك دومًا نحو السلام " (آ 48؛ رج 7: 50). فالمرأة التي أحسّت في جسدها أنّها شُفيت وطهرت، إنضمّت إلى الشهود الذين رأوا خلاص الممسوس لتردّ على سؤال يطرحه التلاميذ في القارب (آ 25: من هذا؟): هذا هو الذي يحمل الخلاص المسيحاني ولكن إلى أين يصل هذا الخلاص؟ هل يتوقّف عند المرض أم يصل إلى الموت؟

4- لا تخف، بل آمن.
أجل، إنّ الموت لا يشكّل حدًّا أمام قوّة يسوع. فالرب مستعدٌّ لأن يقيم الصبيّة الميتة إن كان الوالد مستعدًّا لأن يؤمن. آمِنْ فتخلص (ابنتك). الإِيمان هو شرط الخلاص. هذا ما قال بولس وسيلا لسجّان فيلبي: "آمن بالربّ يسوع تخلص أنت وأهل بيتك " (أع 16: 31).
إختفى يائيرس وسط الجمع الذي يرافق يسوع. فوصل إليه أناس يخبرونه بموت ابنته ويدعونه إلى أن لا يُزعج المعلّم: "ماتت ابنتك، فلماذا تُزعج المعلّم بعد هذا"؟ لقد تأخّر يسوع بعد أن عمل الموت عملَه. وهكذا نجد تعبير اللاإيمان الذي يضع حدًّا لقدرة يسوع. صمت الأب فلم يوافقهم الرأي، وهكذا دلّ على أنّه ما يزال مؤمنًا. لهذا شجّعه يسوع: "لا تخف! يكفي أن تؤمن " إحتاج يائيرس إلى هذا التشجيع ليتغلّب على خوفه، لأنّه سيشهد تجلّي قدرة الله في يسوع.
يشدّد مرقس مرارًا على الخوف والدهشة والرعدة التي تمسك بأناس يشاهدون المعجزة (مر 1: 27؛ 2: 12؛ 4: 41؛ 5: 15). ولكن كل هذا لا يقود إلى الإِيمان. لهذا حرّض يسوع يائيرس لئلاّ يضعف إيمانه: كل شيء ممكن للذي يؤمن " (مر 23:9).
لم يؤمن هؤلاء الناس فأرادوا أن يحوّلوا يائيرس عن مشروعه فشابهوا البكائين الذين ضحكوا من كلام يسوع عن نوم الصبيّة. وفضوا أن يروا في يسوع قدرة الله فضحكوا وبعضهم سوف يعادون يسوع.
وأبعد يسوع هؤلاء اللامؤمنين. أوّلاً أولئك الذين أرادوا أن يصرفوا يائيرس عن مشروعه (لا تزعج المعلّم). ثم أخرج البكائين. لم يبقَ معه إلاّ بطرس ويعقوب ويوحنا ثم والدا الصبيّة. هو لا يريد أن يجترح المعجزة، معجزة القيامة، إلاّ أمام شهود قلائل. أمام رسله الثلاثة. بطرس بصفته الرسول الأوّل. ثم يعقوب ويوحنا. هؤلاء الثلاثة سيشهدون تجلّيه على الجبل (28:9) ونزاعه في بستان الزيتون. وهم يكتشفون الآن قدرته على الموت، وهي استباق لتلك التي ينالها في القيامة.
كما أنّ الرب القائم من الموت لم يظهر للشعب كلّه، بل "لشهود اختارهم الله من قبل " (أع 10: 41). هكذا لم يرد يسوع أن يظهر سلطته على الموت أمام الجميع، بل أمام بعض الشهود فقط. لم يُنشَّأ الرسل على سر سلطان الله هذا الذي يرتبط بآلام يسوع وموته وقيامته. ولهذا لا بدَّ من الانتظار. نشير هنا إلى أنّه لمّا أقام إيليا وأليشاع الموتى لم يتركا أحدًا يشهد الحدث (1مل 17: 19؛ 2 مل 4: 33).
مهما كانت الجنازة فقيرة، لا بدّ على الأقلّ من عازفين بالمزمار وبكَّاءة. فالندب ينشد في جوقتين ويرافقه التصفيق بالأيدي والضرب على الدف. يبدأ الندب بعد الموت في البيت ويمتدّ حتى الجنازة والدفن. كلّهم يبكون ويقرعون الصدور ليدلّوا على الألم. ولكنّ يسوع أوقف هذا الندب. "ما ماتت الصبيّة، لكنّها نائمة". لقد رأى الموت بنظر الله وتكلّم بفم الله. ولكنهم ضحكوا منه، لأنهم عرفوا أنّها ماتت. لم يفكّر الجمع لحظة أنّ ليسوع سلطانًا على الموت. عرفوا أنّ الصبيّة ماتت والموت لا يعيد ما أخذه. ضحكوا انطلاقًا من علمهم البشريّ. أمّا الوالد فوجب عليه أن يؤمن رغم كل ما اختبره البشر.
نلاحظ هنا قول يسوع: "تعافي من دائك " (مر 34:5). ولكن العافية عادت إليها منذ لمست ثوب يسوع. لهذا صحّح متى مرقس فاعتبر أنّ الشفاء تمّ بكلمة يسوع. قال يسوع: "ثقي يا ابنتي، إيمانك شفاك " (مت 22:9) فشفيت المرأة من تلك الساعة.
ونلاحظ أيضًا، حسب متى: كانت الصبيّة قد ماتت حين جاء الأب إلى يسوع. إذن، جاء يتوسّل إلى يسوع ليعيد الحياة إلى ابنته (مت 18:9: ماتت... فتحيا). وهكذا أبرز الإِنجيليّ بشكل أقوى إيمان يائيرس. ثم لا ننسَ أنّ الكلمات التي استعملها مرقس (تحيا، تخلص، على فراش الموت) تشدّد على الموت القريب. ليس من أمل بشريّ بالشفاء. فالابنة ماتت ولم تبقَ إلاَّ مراسمُ الدفن.
إنّ الجدال حول نوم الصبيّة أو موتها (آ 52- 53) وواقع يقظتها (آ 54) يعطيان المعنى الأخير لرقاد يسوع في القارب (آ 23) واستيقاظه (آ 24): إنّ الخلاص الذي يتمّمه هو مشاركة في مصيره الخاص.
إنّ عودة الحياة بفعلة يسوع وكلمته تبرز في ثلاث عبارات. أوّلاً عادت إليها روحها (نفسها). في الموت تنفصل الروح عن الجسد. ويسوع صلّى قبل موته فقال: "في يديك أستودع روحي " (23: 46). ثانيًا: قامت الصبيّة. عادت قوّة الحياة وملأت أعضاء جسمها. ثالثًا: يجب أن تأكل. فإن أكلت اقتنع الحاضرون أنّها عادت إلى الحياة. وهذا ما سيحدث ليسوع في قيامته: عادت إليه روحه، قام، أكل وشرب بحضور تلاميذه.
أمر يسوع والدَيّ الصبيّة بأن لا يخبرا أحدًا بما حدث. ولكن هذا الأمر لا يتوجّه إلى الرسل الثلاثة الذين شهدوا هذه المعجزة. فعليهم أن يعلنوا أسرار ملكوت الله، وقيامة الموتى جزء من هذه الأسرار، وقيامة هذه الفتاة هي صورة مسبقة عن قيامة المسيح.
لقد أظهر يسوِع قوّته تجاه القوى التي بدا الإِِِِنسان أمامها ضعيفًا. هدّأ الطبيعة الهائجة، حَّطم قدرة الشيطان، تغلّب على قدرة الموت والمرض الذي لا شفاء منه. وكل هذا حدث لأنّ قدرة الله تعمل فيه. إنّه تجلّي قدرة الله على الأرض. ناداه بطرس المعلّم مرّتين وسمّاه الشياطين إبن الله. إنّه المخلّص والفادي. جاءت هذه المعجزات الثلاث (تهدئة العاصفة، إخراج الشيطان، وشفاء النازفة وقيامة ابنة يائيرس)، فجعلت يسوع في ذروة عمله في الجليل. لا شيء يخيف البشر بعد الآن إن هم قبلوا أن يؤمنوا. لقد انتزع يسوع من البشر كل خوف من القوى المعادية. وجاء الخلاص بيسوع. فالذي يؤمن به يفرح بقدرته الخلاصيّة. لقد بدأت بركات نهاية الأزمنة تتحقّق ونحن ننتظرها منذ الآن بالرجاء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM