القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الرابع والأربعون: عائلة يسوع الحقيقيّة

الفصل الرابع والأربعون
عائلة يسوع الحقيقيّة
19:8- 21؛ مت 46:12- 50؛ مر 3: 31- 35

منذ البداية، وجّه يسوع نداء خاصًا إلى بعض التلاميذ الذين لم يؤمنوا به فحسب، بل ساروا وراءه: بطرس، إندراوس، يعقوب، يوحنّا... وترك قرية الناصرة وأقام في كفرناحوم ومن هناك إنطلقت رسالته إلى الجليل.
في كفرناحوم أقام على ما يبدو في بيت بطرس، وقد أشار مر 1: 29 ي إلى هذا الذي سمّاه "البيت ". لقد صار بيت بطرس بيت يسوع والتلاميذ، إنه رمز إلى الكنيسة.
وتقاطرت الجموع فلم يعد يكفي عدد المدعوين الأوّلين لإستقبال السامعين من مرضى وأصحّاء. وسّع يسوع الحلقة، فصار الذين حوله إثني عشر. وسلّمهم بعض سلطانه مثل طرد الشياطين (مر 13:3- 19). ومع ذلك، ما إن يعود إلى "البيت " حتى لا يكفي النهار كلّه لإِستقبال الناس: "تعذّر على يسوع والتلاميذ أن يجدوا وقتًا يأكلون فيه " (مر 3: 20).
وهذا "السحر" الذي مارسه يسوع مع الحركة الشعبية التي أثارها لفتت الأنظار فانتشر الخبر في كل البلاد. وصلت شهرة يسوع إلى اورشليم، وبالحري إلى الناصرة. فخاف أقرباء يسوع على "ابن العشيرة". قالوا: "فقد صوابه " (مر 21:3).

1- أقارب يسوع (آ 19- 20).
تحرّك أقارب يسوع، وردّة فعلهم لا تقرّبهم من يسوع. فيسوع في نظرهم هو ذلك الذي "يسكر" بمواهب الشفاء فيفقد صوابه. وقرروا أن يمسكوه ويعيدوه إلى الحياة العاديّة. مرة أولى، وكان ابن 12 سنة، سمح يسوع لنفسه أن "يفلت"، من أهله خلال حج الفصح في أورشليم. أعطته أمه ملاحظة فأجابها جوابًا سريًا ولكنّه عاد إلى الناصرة يعيش عيشة الصبي الخاضع لوالديه (2: 41- 51). وظنّ أقاربه، هذا ما تدلّ عليه كلمة "أخوة" في النصّ وذلك حسب العالم العبري (تك 8:13؛16:14؛ 15:29؛ لا 10: 4؛ 1 أخ 22:23)، ظنّوا انه سيفعل الآن كما فعل في الماضي.
يستعمل مرقس (3: 21) "فقد صوابه " بلسان الإخوة، كما أورد حكم الكتبة: "هو ممسوس، أي فيه شيطان " (22:3). إنهم من الخارج ولا يستطيعون أن يفهموا.
وصل الأخوة إلى كفرناحوم. لم يقدروا أن يصلوا إليه بسبب الجموع التي تحيط به، "تملأ المكان حتى الباب " (مر 2:2). فنقل الناس إلى يسوع خبر وصولهم. إنهم يريدون أن يروه، أن يكلّموه.
لا يقول لنا الإِنجيليّ إن كان يسوع قَبل أن يكلّمهم أو رفض. لا شيء يمنع من القول إن يسوع ذهب إلى أمه وإخوته بعد أن قال ما قال، وإنه ذهب إلى الناصرة بناء على طلبهم وقام برسالته هناك. في هذا الإِطار نفهم تلميح لو 23:4 إلى معجزات تمّت في كفرناحوم (رج مت 13: 54- 58؛ مر 6: 1- 6).

الذين من داخل الجماعة (آ 21).
إن توجَّه الجواب إلى أقارب يسوع، كان له مدلول سلبي: لستم أنتم أمي وإخوتي. وإن توجّه إلى "الجالسين حوله " (مر 3: 34) فهو تعليم إيجابي. فالجلوس على الأرض حول "رابي " (معلّم) هو عند اليهود عمل التلاميذ حول معلّمهم. هكذا تعلّم بولس شريعة الآباء عند قدميّ جملائيل (أع 3:22). ذاك كان موقف مريم: "جلست عند قدميّ الربّ تستمع إلى كلامه " (لو 39:10؛ رج 4: 20؛ مت 23: 20؛ 55:26).
إستفاد يسوع من الظرف ليعطي تعليمًا. جاء التعليم في لوقا بسيطًا، أمّا في مت 12: 48 ومر 33:3 فجاء بشكل سؤال: "من هي أمي؟ من هم إخوتي " (رج مر 10: 18 والسؤال: "لماذا تدعوني صالحًا" ؟).
وأجال يسوع نظره، كما يقول مرقس في آ 34. إنه نظر محبة، والذين يتطلّع فيهم هم حقًا أمه وإخوته وأخواته. ولماذا؟ يعطي يسوع الشرح. هنا يختلف لوقا عن متّى ومرقس. قال مرقس: "من يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمي ". أمّا متّى فقال: "مشيئة الآب الذي في السماوات ". عبارة خاصة بمتىّ. أمّا لوقا فقال: "أمي وإخوتي (لم يذكر الأخيات) هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها". نحن هنا في خطّ نهاية مثل الزارع. "فالذين يسمعون بكلمة الله ويحفظونها" هم أرض طيبة (15:8). كما أنّنا أمام تلميح إلى مريم التي أعلنت خضوعها للربّ في مشهد البشارة: "أنا خادمة للربّ فليكن لي حسب قولك، حسب كلامك " (38:1). أجل، المؤمن الحقيقيّ يسمع كلمة الله بالإِيمان ويعمل بها.
وسنقرأ العبارة نفسها في لو 28:11. إمتدحته امرأة فقالت: "طوبى للمرأة التي حملتك (في أحشائها، على ذراعيها) وأرضعتك ". فقال يسوع: "بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه، ويعملون به ". نحن هنا أمام نظرة إلى أمومة مريم حسب الجسد، وهذا سر عظمة التي هي والدة الله (تيوتوكس كما أعلنها مجمع أفسس). وها هو يسوع يعلن عظمة أخرى لهذه الأم، هي عظمة الإِيمان. مريم هي المؤمنة (45:1) التي تتأمّل في قلبها (أي بكل حياتها) حدث يسوع الذي وُلد منها في مذود بيت لحم (19:2). مريم تمثل هنا كل المؤمنين الذين يعارضون تلاميذ الفريسيّين (مت 9: 32- 34) أو اليهود بشكل عام، كما يقول لوقا.
إن يسوع يكشف عن عمق الرباط الذي يوحّده بالذين يعملون إرادة الآب، يسمعون كلمة الآب ويعملون بها. وكلامه عن ضرورة الولادة الجديدة يكمِّل هذا التعليم ويعطيه كل قوته وكل واقعيته (يو 3:3- 5؛ رج 1: 13؛ تي 3: 5). وهكذا دلّنا يسوع على وسيلة تبقينا متّحدين به بطريقة تتجاوز رباط الولادة حسب اللحم والدم.

3- عائلة يسوع الحقيقيّة.
بعد هذا نفهم لماذا أقحم لوقا في هذا المكان كلمة يسوع عن القرابة الحقيقيّة التي جعلها مرقس (3: 31- 35) ومتّى (46:12- 50) قبل أمثال النمو. الهدف اللاهوتي هو هو عند الإِزائيّين الثلاثة: القرب من يسوع وعلاقات اللحم والدم التي تربط يسوع بأسرته وشعبه، يجب أن يتجاوزها التلميذ ليُدخل فيه الروح القدس الذي يقيم في يسوع. ولكن، حين يورد لوقا حدث زيارة أقارب يسوع، فهو يجعل من هذا الحدث، كما قلنا، تطبيقًا لمثل الزارع.
فمنذ موت يسوع وقيامته، تنير كلمة الله قلوب الذين يقبلونها وسط الضيقات التي تحملها إليهم. وتفعل في قلوب الذين رضوا أن يسيروا مع يسوع، سواء كانوا الإِثني عشر (8: 1)، أو النسوة (8: 2) أو التلاميذ (8: 22). وهكذا يصبح اعتداد أقارب يسوع وأهل بلدته باطلاً لا فائدة منه. لم يقبلوا حقًا الكلمة (16:4- 30، الناصرة)، فصاروا غرباء مع انهم أقارب. سمّاهم مرقس (3: 31، 32) الذين هم في الخارج، الذين يسمعون كلّ شيء بالأمثال (مر 4: 11)، ولكنّهم لا يبصرون ولا يفهمون (مر 12:4). إن الإِقتراب من يسوع حسب الجسد (يريدون أن يروه، آ 20)، ان مرافقة يسوع بعد أن أكلوا وشربوا معه (رج 13: 26) يصبحان بُعدًا وافتراقًا. إن تقبّل كلمة الله (6: 47- 48) والعمل بها يجعلنا من أقارب يسوع وأخصّائه.

خاتمة.
بعد هذه المسيرة الطويلة، نودّ أن نقابل بين خاتمة مجموعة الأمثال وشرحها: "الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (8: 21)، وبين نهاية الخطبة التي تنهي المسيرة الأولى: "كلّ من يسمع ويعمل... كلّ من يسمع ولا يعمل " (47:6). سنكتشف حينئذٍ أن خطبة الكلمة إلى إسرائيل والمثل عن الكلمة المُرسلة إلى العالم ينتهيان، بالطريقة عينها. نقص سامعي الكلمة في إسرائيل ممارسة الرحمة (كونوا رحماء، 6: 36). أمّا سامعو الكلمة التي سلَمت إلى العالم، إلى جميع البشر، فقد ظلّوا غرباء عن السر. هم يقلقون ويهتمّون وينشغلون كثيرًا (10: 41)، ولكن ينقصهم تقبّل السر والتأمل فيه. فالإصغاء والسماع هما اللذان يعطيان لأعمالهم كلّ خصبها في الروح القدس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM