القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الخامس والأربعون: يسوع يهدئ العاصفة
 

الفصل الخامس والأربعون
يسوع يهدئ العاصفة
8: 22- 25= مت 18:8- 27= مر 4: 35- 41

أ- المقدمة.
ركب يسوع مع تلاميذه القارب وأبحروا على بحيرة طبرية. أخذ التعب منه فنام على وسادة. وفجأة هبّت ريح عاصفة. خاف التلاميذ وأيقظوا يسوع. فهدّأ يسوع العاصفة بكلمة ووبّخ التلاميذ على خوفهم وقلّة إيمانهم.
منذ القرن الثاني، إتّخذ هذا الحدث معنى عميقًا. ما اكتفت الكنيسة بأن تتأمل في قدرة يسوع الذي يسيطر على عناصر الكون، بل رأت مقابلة بين وضعها الحالي والوضع السابق. الكنيسة هي قارب تهاجمه العاصفة على أمواج هذا العالم. عليها أن تثق بربّها: إنها لن تغرق. إنّها تحمل يسوع إلى البشر فلا تتغلّب عليها قوّات الجحيم.
هكذا فسَّر آباء الكنيسة الحدث وما شكّوا يومًا في واقعه. بحثوا عن أبعاده لكي يجدوا القوّة في حياتهم كمسيحيّين. ولكن العالم المعاصر (منذ القرن الماضي) يتساءل: هل نحن أمام رمز أم أمام حقيقة تاريخيّة؟ قد يقبل بشفاء إنسان، ولكنّه يتوّقف عند نواميس الطبيعة التي لا تتبدّل: كيف يمشي إنسان على الماء؟ كيف يكثر الأرغفة؟ كيف يهدئ العاصفة بكلمة؟ قال العقلانيّون: هدأت العاصفة صدفة، حين أمرها يسوع. لسنا أمام معجزة بل توارد ظروف. وجاء أصحاب النظريّات الإِخباريّة يربطون كلام الإِنجيل بالفولكلور اليونانيّ أو الأساطير الوثنيّة أو الأخبار التقوية. وها نحن نقدَّم بعضها.
* تهدئة العاصفة في الفولكلور اليونانيّ حقّ من حقوق الآلهة. وقد ينتقل هذا السلطان إلى أشخاص مميَّزين بصورة عابرة، جوابًا على صلاة أو عمل سحري. وتأتي الأسطورة فتعظّم الأمبراطور في تدخّله على الأمواج الثائرة: تمجّده ككائن إلهي. نقرأ في 2 مك 8:9 عن أنطيوخوس ابيفانيوس: "ظنّ في زهوه الذي لم يبلغ إليه إنسان (هو فوق البشر) أنه يأمر على أمواج البحر".
* ونجد تقاليد مماثلة في العالم اليهودي، وإن يكنّ مضمونها الديني مختلفًا. هاجمت العاصفة رابي جملائيل (90- 130 ب. م.) وهدّدت حياته فهتف: "يبدو أنّ ما يحصل لي سببه الرابي اليعازر بن هركانس " (الذي أرسله إلى النفى). فانتصب وقال: "يا سيد العالم، أنت تعرف أنّي ما فعلت هذا إكرامًا لي أو لبيتي بل إكرامًا لك لئلاّ تتزايد الإِِنقسامات في إسرائيل ". حينئذٍ هدأت العاصفة.
*وروى رابي تنحوما (حوالي سنة 380): سافر صبيّ على سفينة وثنيّة. هدّدت العاصفة السفينة فدعا الوثنيّون آلهتم ولكنّهم لم ينجحوا. فطلبوا من اليهوديّ الصغير أن يدعو إلهه. صلّى الصبيّ فهدأت العاصفة فامتلأ الوثنيّون إعجابًا.
* وكان لبولس بعض السلطان على العناصر. فاجأته العاصفة مع 275 شخصًا على السفينة، خلال سفر يقوده كسجين إلى رومة. ظلّ واثقًا بذلك الذي خطّط له ليذهب إلى عاصمة الأمبراطوريّة: تحطّم المركب عند جزيرة مالطة ولكن نجا الركّاب كلّهم (أع 8:27- 44).
* وفي سفر يونان. هبّت العاصفة بينما النبيّ نائم مطمئن. رموه في البحر فهدأت العاصفة.
مقابلة الإِنجيل مع هذه النصوص تبينّ اخْتلافًا عميقًا في النية التي أشرفت على هذه الأخبار. أو تبيّن أن الإِنجيل يقاوم كلّ تقارب. ينقص عنصر رئيسي للمقابلة.
في الأخبار الهلينيّة يُبرز الخبر تأليه الأمبراطور. أمّا هنا فيطرح سؤالاً حول هوية يسوع ويطلب جوابًا من إيمان الرسل. في خبر جملائيل ويونان لعبت العاصفة وظيفة أخلاقيّة. العاصفة علامة ساطعة على الظلم المفترض الذي مارسه الأوّل وعلى عصيان الثاني لله. ما إن لعبت العاصفة دورها حتى هدأت. في خبري الصبيّ اليهوديّ وبولس، لعبت الصلاة وبرودة الأعصاب دورهما في تجنّب الكارثة. إذا وضعنا حالة بولس جانبًا، فلن نجد شبهًا بين هذه الأخبار والحدث الإِنجيليّ. فالقوّة التي سيطرت على العناصر ليست القوّة الإِلهيّة التي تجاوبت مع صلاة يسوع، بل قوّة يسوع نفسها التي حرّكها خوف التلاميذ. كلّ هذا يبيّن أنّنا بعيدون عن هذه الأخبار بما فيها من طابع أسطوريّ.

ب- التحليل الأدبيّ.
نبدأ بمرقس الذي يبدو أكثر بساطة في استعمال مراجعه. هذا لا يعني أنّه ليس لاهوتيا شأنه شأن متّى ولوقا، ولكنّه يساعدنا مساعدة كبيرة على إستعمال المواد التي استعملها.

1- الخبر حسب القدّيس مرقس.
يورد مرقس الحدث على اثر يوم الأمثال (4: 1- 34). وفي الليلة ذاتها ركب يسوع القارب مع تلاميذه ليذهب إلى الجهة المقابلة من بحيرة طبرية. هبّت فجأة عاصفة فهدأها بكلمة. ولمّا وصلوا إلى ناحية الجراسيّين أخرج الشيطان من ممسوس (5: 1-20). ثمّ عاد في القارب إلى كفرناحوم. هناك شفى إمرأة تتألّم من نزف دمها وأقام إبنة يائيرس، رئيس المجمع (5: 21- 43). إنّ هذا السياق الإِجماليّ يؤثر على التفسير الذي يقدّمه مرقس للحدث الذي ندرس. ولكن إلى من ننسب هذا التفسير؟ إلى مرقس أم إلى التقليد الذي استقى منه؟.
أوّلاً: السياق السابق.
نجد للوهلة الأولى رباطًا كرونولوجيًّا وثيقًا بين الحدث الذي ندرس وفصل الأْمثال. كان يسوع يعلّم "بجانب البحر. فتجمّع حوله جمهور كبير حتّى إنه صعد إلى قارب في البحر وجلس فيه، والجمع كلّهم في البر على شاطئ البحر" (4: 1). وحين حلّتَ نهاية يوم الوعظ هذا، "في مساء ذلك اليوم عينه، قال لهم: تعالوا نعبر إلى الشاطئ المقابل. فتركوا الجموع وساروا بيسوع في القارب الذي كان فيه، وكانت معه قوارب أخرى" (35:4). إن هذه التفاصيل الكرونولوجيّة تعطي الخبر وجهًا معقولاً وطبيعيًا.
"نام المسيح ". إن نام يسوع رغم العناصر الهائجة، فلأن التعب غلبه بعد نهار مرهق من الوعظ لجمهور كبير. وإن رافقته قوارب أخرى فلأن القارب الذي يحمله هو أصغر من أن ينقل التلاميذ كلّهم.
يبدو أنّ هذا الرباط الكرونولوجيّ عائد إلى مرقس. فقد ربط هذا الحدث بالخبر السابق عبر رباط كرونولوجيّ (في ذلك اليوم عينه، ولمّا جاء المساء)، كما أنّه أحاط الأمثال بإجمالة في البداية (4: 1- 2) وبخاتمة في النهاية (4: 34). في هذه الحالة تكوّن آ 1- 2، 34- 35 النسيج السيروي الواحد.
ثم إنّ مرقس يتفرّد بجعل حدث تهدئة العاصفة في مساء ذاك النهار. أمّا لوقا فيربطه برباط رخو بمجموعة الأمثال التي لا تبدو موحدة على مستوى الزمان والمكان. فيسوع يعطي هذا التعليم "في يوم من الأيام "، وإذ كان "في الطريق ". وحدث الأقرباء الذين طلبوا يسوع يفترض أنّ الواعظ عاد إلى البيت (لو 8: 20). أمّا متى فيجهل هذه المتتالية. إنّ حدث العاصفة يلي مجموعة المعجزات الثلاث التي ينتمي إليها شفاء حماة بطرس.
إذن نستطيع أن نستنتج: إنّ الرباط بين "يوم الأمثال " ومعجزة العاصفة هو من وضع مرقس. وعلى مستوى التقليد السابق، لا يُلقي التعليم الأمثالي على الحادث الذي ندرس ضوءًا خاصًا.

ثانيًا: السياق اللاحق.
وهل يبدو هذا السياق متينًا؟ هل تَّم اللقاء مع ممسوس الجراسيين في الليل؟ وإلاّ، جدّف الرسل طوال الليل ليقطعوا الكيلومترات العشرة التي تفصل الضفّة عن الأخرى ومارسوا بعض الصيد قبل أن يصلوا في النهاية إلى الشاطئ المقابل عند الصباح. مثل هذا التسلسل للأحداث غير مستحيل. ولكن متتالية الخبرين تبرز بعض الصعوبات على المستوى الأدبي. فالتقسيم على ممسوس الجراسيين يقدّم نوعًا أدبًّيا يتحاشاه التقليد الإِنجيليّ. كما يدهشنا السياق المباشر: لماذا يختفي الرسل هنا بينما هم يحتلّون المكان الأوّل في الأخبار السابقة؟
كل هذا يوجّهنا إلى القول إلى أنَّ الأخبار جُمعت بهذه الطريقة من أجل هدف لاهوتي. وهذا الجمع نجده عند متى المستقلّ عن مرقس ولوقا، وهذا يعني أنَّ الربط بين الخبرين سابق للتقليد الإِزائي، وهو يوجّهنا لكي نفهم هذا المقطع فهمًا لاهوتيًّا.

ثالثًا: النص.
يدلّ النص على صفات مرقس الأدبيّة كراوٍ له فنّه الذي يَعجّ بالحياة فيجعل القارئ يرى ما يسمعه. تتضمّن هذه الدراما الصغيرة ثلاثة مشاهد. وَيبنى كلّ مشهد على تعارض حتى النهاية السعيدة التي تحلّ الإِنشداد المتصاعد.
في المشهد الأوّل: الخوف على قارب تغمره الأمواج ويكاد يغرق. ومقابل هذا نوم يسوع العميق في مؤخرة القارب (آ 37- 38 أ).
في المشهد الثاني: ضياع هؤلاء الصيّادين المحترفين الذين يوقظون يسوع ليعيدوه إلى وضعهم المأساوي. وتجاه هذا، عظمة وجلال المعلّم الواقف بوجه الريح والأمواج. يأمرها بسلطانه فيتمّ الهدوء فجأة على البحيرة الثائرة (آ 38 ب- 39).
في المشهد الثالث: يتركّز الانتباه على الأشخاص وردّة الفعل عندهم: عبّر التلاميذ عن خوفهم أمام ظهور هذه القدرة على عناصر الكون (آ 41).
لن نشدّد على طابع الخبر، ونحن نعلم العواصف المفاجئة على هذه البحيرة المحصورة بين ثلاثة جوانب. كما نعلم أنّ من يحرّك السفينة من المؤخرة ينام على وسادة. أيقظ التلاميذ يسوع لا احترامًا وتقديرًا لمعجزة قد يصنعها، بل بسبب ضياعهم والضيق الذي يُحيط بهم. أمّا ذروة هذه الدراما الصغيرة فكلمة ملوكيّة تفرض الصمت على الرياح والأمواج.
أمّا الخوف المقدّس، فيدلّ على تدرّج الرسل في معرفة يسوع. اكتشفوا فيه قوّة تسيطر على الكون، ولكنَّهم ظلّوا على مستوى التساؤل: من هذا إذن؟

رابعًا: الاتجاه اللاهوتي.
تركنا آ 40 قصدًا، وفيها يوبّخ يسوع تلاميذه الذين سيطر عليهم الخوف. ففي هذه الآية سنكتشف الإِتّجاه اللاهوتي في الخبر. ويكفي من أجل هذا أن نقابل هذا الحدث مع خبر مبنيّ حسب الرسمة عينها وإن يكن مضمونه مختلفًا. فاللوحة التالية تبرز الفن الأدبيّ "لخبر المعجزة" المشترك بين معجزة تهدئة العاصفة وطرد الشيطان من ممسوس كفرناحوم.
- ونبدأ مع مر 1 :23-27.
* يقدّم لنا النصّ المريضَ: "وكان في الجمع رجل يمتلكه (يسيطر عليه) روح نجس فأخذ يصيح " (آ 23).
* الممسوس يوجّه كلامه إلى يسوع: "ما لنا ولك (ماذا تريد منّا) يا يسوع الناصري؟ أجئت تهلكنا؟ أنا أعرف من أنت: أنت قدّوس الله " (آ 24).
* وأمر يسوع الشيطان: "فانتهره يسوع قال: إخرس واخرج منه " (آ 25).
* النتيجة: شفاء الممسوس: "فهزّ الروح النجس الرجل هزًّا عنيفًا وخرج منه وهو يصرخ صراخًا قويًّا" (آ 26).
* وإستولى الخوف على كل الحاضرين: "فتعجّب الناس كلّهم وتساءلوا قائلين: ما هذا؟ حتى الأرواح النجسة يأمرها فتطيعه " (آ 27).
- والنص الثاني (مر 4: 37- 41).
* يصوّر لنا العاصفة: "هبّت عاصفة شديدة" (آ 37).
* أيقظ التلاميذ يسوع: "أيقظوه وقالوا له " (آ 38).
* يسوع يأمر العاصفة: "أصمت، اخرس " (آ 39 أ).
* هدوء العاصفة: "سكتت الريح " (آ 39 ب).
* التلاميذ: "من هو هذا؟ حتى الريح والبحر يطيعانه " (آ 41).
- لا نجد مكانًا للآية 40 في هذه اللوحة. أما زيدت على رسمة سابقة من أجل درس يتجاوز ما نكتشفه عادة في "خبر المعجزة"؟ هو تعجُّب الحاضرين أمام قدرة الله التي ظهرت. فالقدّيس مرقس لا يكتفي بأن يكون راوًيا، بل يحدّد موقع روايته في نظرة تعليميّة.
فالشاهدون لهذا "التقسيم " الذي يسيطر على الكون ليسوا الجموع المتحلّقة حول نبي جديد يصنع المعجزات. فالقوارب التي تهدّدها العاصفة تنقل فقط التلاميذ. وتجاه الخطر وتجاه نوم المعلّم سيطر الخوف عليهم. فجاءت صرخة يسوع في آ 40 تُبرز هذا الضياع وعدم الثقة.
إذن، نستطيع أن نقرأ خبر مرقس بطريقتين: إمّا خبر معجزة وإمّا كتعليم كرازيّ أو بالأحرى خبر معجزة مع هدف تعليميّ. فهل نستنتج أنّه وُجد في مرحلة أولى بدون آ40 ؟ هذه الفرضية ليست ضروريّة. ولكن إذا أردنا أن نستنتج هدف الحدث اللاهوتي نبدأ بخبر المعجزة ثم نعود إلى الخبر التعليميّ.

خامسا: خبر المعجزة (4: 37- 39، 41).
يصل بنا الخبر كما في شفاء ممسوس كفرناحوم إلى سؤال يطرحه الشهود حول هوّية يسوع الذي يملك كل هذه السلطة على الشياطين أو العناصر الثائرة: "ما هذا"؟ "من هو هذا"؟
في خبر المعجزة يكمن فن الراوي بأن يبرز عظمة فعلة يسوع بتعارضات متوازية:
هيجان الريح والموج هدوء يسوع النائم
تضعضع التلاميذ يسوع هو السيد المطمئن
هناك عدّة أخبار معجزات، مثل شفاء المخلّع، تنتهي بتمجيد الله: "فتعجّبوا كلّهم ومجّدوا الله قائلين: ما رأينا مثل هذا في حياتنا (12:2). فالبهاء الإِلهي لا يظهر فقط بفعلة إنسان نال من الله سلطانًا عجيبًا. بل يظهر بشكل جديد وخارق عبر فِعلة يسوع التي هي فِعلة إلهيّة: الله وحده يقدر أن يأمر البحر، تلك القوّة الجهنّمية التي يقسِّم عليها يسوع كما يقسِّم على الشيطان.
إذا كان يسوع يتصرف تصرّف الله نفسه، فكيف لا يُعلن التلاميذ ألوهيته! مثل هذا التساؤل يتجاهل العالم الإِسرائيليّ الذي يرفض عبادة إنسان. وما نلاحظه هو أنّ هذا الخبر لا يجد ذروته في مديح الله، بل يترك النظر معلّقًا بيسوع. هناك واقع يظهر آمالهم وهناك إيمانهم بالله الواحد. أي الإثنين يختارون؟ بل تركوا قلبهم يهتف من الأعماق: "إذن، من هو هذا الرجل "؟

سادسًا: الخبر التعليميّ (4: 37- 41).
إِنّ مناداة يسوع إلى التلاميذ في آ 40 تدلّ على هدفه في أن يعلمهم فانطلاقًا من هذه الدهشة المقدّسة التي أثارتها سيادته على العناصر، أراد أن يربيّ التلاميذ الذين لم يصلوا بعد إلى الإِيمان به رغم المعجزات التي رأوها. وحين شدّد مرقس على عدم فهم التلاميذ أمام يسوع الناصريّ، فقد أعطى للمعجزة بُعدًا آخر. هو لا يكتفي بطرح سؤال عن هويّة صاحب المعجزات، بل يعطي يسوع مناسبة يوبّخ فيها التلاميذ.
لامهم يسوع لثقتهم الضعيفة: "لماذا أنتم خائفون (دايلوي)؟ أما عندكم إيمان بعد"؟ الكلمة "دايلوي " تدلّ على ضياع عنيف. نجدها في 2 تم 1: 7: يقابل بولس بين الإِنسان الذي يتصرّف تجاه الخطر وكأنَّ الله غير موجود، وبين روح القوّة والمحبة والفطنة. وحسب يو 27:14، خلال العشاء الأخير يستحلف يسوع أخصّاءه المضطربين لذهاب معلّمهم القريب: لا تقلقوا. عنهم عطية السلام. وعندما يتخلّص الإِنسان من ضيقه فهو يدخل عبر القلق إلى هدوء عظيم يطلبه يسوع (مت 20:6-23). ويدلّ بولس على مثل هذه الثقة وقت العاصفة التي هزّ السفينة التي تقلّه إلى رومة (أع 23:27- 25).
في العاصفة، لم يكن للرسل هذا الاتكال على الله الذي كان نوم المعلّم الهادئ رمزه المنظور. أمّا يسوع فظلّ في طمأنينة واثقة يعطيها الإِيمان بإِله يسهر على أبنائه الذين يعانون الشدّة. حين وبَّخ يسوع تلاميذه على قلقهم أوضح الأمثولة التي يستخرجها من المعجزة.
ويلومهم يسوع خاصّة لأنّهم لم يثقوا به. "آمنوا بالله. آمنوا بي أيضًا" (يو 14: 1). إذا كان يطلب من أخصّائه هذه الثقة المطلقة في كل الظروف، حتى ولو كان نائمًا، فقد أعطاهم البراهين العديدة عن سلطته الجديدة كل الجدّة. إنّه بالنسبة إليهم أكثر من شاهد ثابت للاستسلام الذي نقرأ عنه في الكتاب المقدّس. إنّه يستطيع، مثل الله، أن يضبط الريح وأمواج البحر.
حين قدَّم مرقس تجاه هؤلاء الناس المؤمنين فعلة يسوع السامية، فقد أعطى لخبر المعجزة معنى رمزيًا. فنوم المعلّم ليس فقط نتيجة تعب بعد نهارٍ مضنِ. إنّه يدلّ بطريقة نموذجيّة على الثقة التي يمحضها الانسان لله. إنّه يكشف صفة فريدة لهذه الثقة التي عاشها إبن الله وحده تجاه أبيه. حين نام، دعا تلاميذه الخائفين أن يكتشفوا في صمته أو غيابه الظاهر حضور الذي يقدر على كل شيء.
أجل منذ البدء رُوِي هذا الحدث كحضور كرستولوجي، يقرّبنا من سرّ يسوع المسيح، يطرح علينا سؤالاً حول هوية يسوع. وقُرئ أيضًا كتعليم حيّ وناشط عن الإِيمان الذي هو ثقة كاملة بالذي تخضع له عناصر الطبيعة كلّها.

2- الخبر حسب القدّيس لوقا.
الخلافات طفيفة بين نص مرقس ونص لوقا.

أوّلاً: السياق.
سياق لوقا هو سياق مرقس: والرباط هو هو بين خبر تهدئة العاصفة وشفاء ممسوس الجراسيين. ولكن وإن وُضع هذا الحدث بعد الامثال، فلأنَّ لوقا يكلّل الأمثال بما فعله أقارب يسوع وبالدرس الذي أعطاه المعلّم بعد هذه الحادثة (لو 19:8- 21). ينتج عن هذا تراخٍ في الوحدة الكرونولوجيّة "ليوم الأمثال ". واختفى أيضًا الإِطار المكاني. لم تُقَل الامثال بجانب البحيرة (لو 8: 4). وتدخّل قرابة يسوع يدلّ على أنّ الربّ هو في البيت. إذن، لم يحصل حدث العاصفة في "مساء" يوم الوعظ بل في "يوم من الأيام ". هذا التحفّظ تجاه كل توقيت يحوّل معنى بعض تفاصيل الدراما. لم يعد نوم يسوع تعويضًا عن تعب نهارٍ سابق.

ثانيًا: النص.
صحَّح لوقا بعض العبارات القاسية في مرقس . لا شكّ في أنّ التلاميذ أيقظوا معلمهم ، ولكن بأي احترام "دنوا" من يسوع! نادوه مرتين وظلّ نداؤهم في حدود الاكرام :" يا معلّم، يا معلّم، نحن نهلك" (8: 24)! وخفّف لوقا أيضًا من قوة التوبيخ الذي وجّهه يسوع إلى تلاميذه الضائعين. ألغى ما يتعلّق بالقلق وقدّم حالاً الدرس اللاهوتي عن الإِيمان. أخيرًا، شدّد على الطابع المقدّس للخوف عند الحاضرين فحوّله إلى إعجاب (8: 25).
ويتركّز تصوير المشهد لا على الحدث، بل على التلاميذ. "عبروا"، "ساروا" "أصبحوا في خطر". ويرينا إيّاهم متّحدين بيسوع في هذا العبور الذي اتّسم بالخطر فجأة فأعطاهم مناسبة ليختبروا إيمانهم به ويكتشفوا أن لا داعي للخوف إذا كانوا معه. غير أنّه يحتفظ باتجاه الخبر الأوّل، كما عند مرقس: دهشة التلاميذ أمام عظائم الله.

3- الخبر بحسب القدّيس متى.
شدّد متى على الاتجاه الكرازيّ الذي وجده عند مرقس بحيث زالت البنية الأدبيّة لخبر العجزة.

أوّلاً: السياق.
لم يبقَ منه إلاّ رباط الخبر مع الدخول إلى أرض وثنيّة. ثم إنّ هذا الحدث الثاني يُبرز اختلافات بارزة تدلّ على استقلال متى عن مرقس.
السياق السابق مختلف كل الاختلاف. ما يسبق الحدث حسب الترتيب المتّاوي ليس خطبة الأمثال (13: 1- 54) بل خطبة الجبل. فخبر العاصفة المهدّأة يدخل في مجموعة المعجزات التي بينّ فيها يسوع أنّه قويّ بالأعمال (8: 1 - 9: 34) كما هو قويّ بالأقوال.
إذا عُدنا إلى شفاء حماة بطرس نرى أنّ الإيراد الكتابيّ الذي يكلّل مجموعة المعجزات الأولى أعطى هذا الشفاء معناه الكامل. ولكن تختلف المجموعة الثانية (18:8- 17:9) عن المجموعة الأولى، فلا تذكر فقط معجزات بل نداءات لأَتباع يسوع. يحيط بهذه المعجزات أخبار دعوات لإِتباع يسوع، ويرافقها هدف تعليميّ، فلم تَعُد فقط آيات ساطعة عن الفداء الذي يتمّه يسوع حين يشفي المرضى. إنّها أعمال رجل تتسلّط كلمته على القلوب التي تستسلم له، كما تتسلّط على قوى الجحيم التي تخضع له. وتفرض هذه الكلمة متطلّبات جذرية على حريّات تتقدّم إليه (18:8- 22). وهي تسيطر على العناصر الهائجة (23:8- 27) وتطرد الشياطين من الممسوسين (28:9- 34) وتغفر خطايا المخلّع وتحرّر جسده من القيود (9: 1- 8) وتنتزع العشّار عن مكتب جباية الضرائب (9:9).
من هذا الاتجاه التعليميّ الذي يعطيه السياق للخبر، نجد إشارة أكيدة تدلّ على أنّ متى أقحم بين الآيتين الأولوين خبري دعوة (18:8- 22).
ساعة أراد يسوع أن يركب السفينة تقدّم كاتب يستعدّ لأن يتبع يسوع إلى أين يذهب. وطلب "واحد من تلاميذه " مهلة قصيرة قبل أن ينطلق. نقابل هنا متى مع لوقا. فعند لوقا (57:9- 60) دعا يسوع واحدًا من المرشحين الثلاثة إلى الحياة الرسوليّة. أمّا عند متى فالإِثنان قدّما نفسيهما ليتبعاه فكأنهما يلبّيان "وصية يسوع " الموجّهة إلى التلاميذ بأن "يعبروا إلى الشاطئ المقابل " (18:8). يشدّد النص على الصعوبة باتّباع المعلّم أينما يذهب وحالاً كما يتمنّى المرشّح الأوّل، يشدّد عليها برفض يسوع طلب الثاني: أن يذهب ويدفن أباه.
هل مُحاورا يسوع هما تلميذان أم لا؟ الأوّل سمّى يسوع "معلّم " كما سمّاه الشاب الغنىّ (19: 16) والكتبة والفرّيسيون (12: 38) وموفدوهم (22: 10). كما سمّاه أيضا كذلك ذاك الفرّيسي الذي سأل يسوع عن أوّل وصية في الناموس (36:22). ولكن هذا الاسم لا يرد أبدًا في فم التلاميذ.
أمّا الثاني فيقدّمه متى على أنّه "واحد من التلاميذ". وهو يتوجّه إلى يسوع فيسمّيه "الربّ . إذن، إن كان متى رأى في الثاني أحد التلاميذ، بينما المرشّحون الثلاثة عند لوقا ليسوا من أتباع يسوع، فلكي يبينّ أنّ موقفهم ليس مثل موقف لاوي الذي ناداه المعلّم فترك كل شيء (9: 9) بل يتجاوب مع متطلّبة الكمال المرتبطة بوضع التلميذ. نحن أمام استعادة وتعميق للنداء الأوّل حسب تربية تُمارسُ حسب ظروف حياتنا مثل عبور البحر للذهاب إلى أرض وثنيّة.
ونستشفّ الهدف التعليميّ أيضًا عبر المفردات التي تعطي الحدثين المجموعين وحدةً أدبيةً لها معناها. هناك كلمات تربط النصّين بالموضوع العام لهذه المجموعة (تتألّف من حدث المرشّحين وتهدئة العاصفة): ذهب (18:8، 19)، تلاميذ (8: 21، 23)، تبع (8: 22- 23).
ويبدو واضحًا أيضًا أنّ متى تطلّع في الحدث الأوّل (آ 18- 22) إلى تلاميذ ينتمون منذ الآن إلى جماعة يسوع. ثم بينّ في هجوم البحر الثائر ضد القارب مناسبة لهم لكي يعمّقوا التزامهم الأوّل. لقد اكتشفوا تجاه العناصر الهائجة أنّهم إن أرادوا أن يكونوا تلاميذ حقيقيّين، وجب عليهم أن يتبعوا يسوع أينما يذهب من دون قيد ولا شرط، وفي أيّ ظرف كان. وهكذا تقرأ الجماعة المسيحيّة مصيرها: إنّها مدعوّة لأن تتبع يسوع عن قرب ومن دون خوف.

ثانيًا: النص.
اهتمّ متى بتعليم جماعته فأعاد كتابة هذا النص الذي أخذه من التقليد. ركّز هدفه، لا على الوضع بجملته، كما فعل مرقس، ولا على التلاميذ الذين يمرّون في الصعوبات، كما فعل لوقا، بل على القارب الذي نظر إليه من الخارج. القارب الذي غمرته الأمواج (8: 24). هذا القارب الذي يصعد إليه يسوع للمرّة الأولى فيتبعه التلاميذ (23:8). وفي النهاية، لم يكن "التلاميذ" هم الذين تعجّبوا بل "الناس " فقالوا: "من هذا حتى تطيعه الرياح والبحر"!
نحن هنا أمام فئة لاهوتيّة عند متى. فهذه المفردة (الناس) تدلّ عادة في الإِنجيل الأوّل على اللامؤمنين، على البعيدين عن الله (13:5؛ 10: 17، 32، 33). على الذين يحتاجون إلى البشارة (4: 19؛ 5: 16؛ 6: 21- 22). على الذين يتكلّمون عن يسوع كما لو كانوا من الخارج (13:16) على الذين لا يفهمون شيئًا من أمور الله (16: 23: "أفكارك أفكار البشر لا أفكار الله").
إذن، ليس التلاميذ هم الذين يتعجّبون، بل أناس من الخارج "من هذا العالم " الذين يتكلّم عنهم القدّيس بولس فيهتف أمام الظواهر المواهبية: "حقًّا، الله هو في وسطهم " (1 كور 25:14). كان على التلاميذ أن يعرفوا الربّ الذي يعيشون معه. وها هو يسوع يوبّخهم لأنّ "إيمانهم الصغير" يسبِّب لهم البلبلة وعدم الإِيمان، لا النقص في الإِيمان.
ويعمل متى كعادته: يعرّي الشرح من كل التفاصيل التصويريّة: المخدّة في المؤخّرة، العاصفة الشديدة، هجوم الأمواج فوق القارب حتى كاد يمتلئ. يعرّيه ليعطيه إطارًا "ليتورجيًّا" من أجل هدف تعليميّ. فنداء التلاميذ يشبه نداء بطرس حين أخذ يغرق في الماء (30:14). صار نداءً ليتورجيُّا:" خلّصنا، نجّنا. وهو يتوجّه إلى يسوع، لا كالمعلّم (رابي) بل كالربّ (كيريي) الذي يعترف به الإِيمان المسيحيّ. يتوجّه إلى يسوع الممجَّد على أنّه الربّ والإله (2:8، 6، 21؛ 28:9؛ 15: 27؛ 17: 15؛ 20: 30، 31، 33).
وأخيرًا يتفجّر هذا النداء (هذه الصرخة) من وضع أعطته مفردة "زلزال" (سايسموس) لونًا إسكاتولوجيُّا. فاستعمال هذه المفردة في إطار جلياني يدعونا إلى أن لا نرى في هذه العاصفة "اضطرابًا في البحر" (رج مج 2: 6). إنّها في الخطبة الإسكاتولوجيّة إحدى العلامات التي تسبق نهاية الأزمنة (مت 7:24). حين استعاد متى هذه اللفظة بينَّ أنّه ورث الأخبار البيبليّة عن الظهورات (تيوفانيا): فالزلزال يرافق ظهور الله على سيناء. (خر 18:19؛ 1 مل 19: 11) أو ظهوره لأيوب (أي 38: 1؛ 26:40). وفي موت المخلّص وقيامته سيرتجف الكون (مت 27: 51، 54؛ 2:28- 4). وهكذا اتّسع مسرح العاصفة المهدّأة بهذه المفردة الإسكاتولوجيّة فاتّخذ شكلاً كبيرًا جدًّا.

ثالثًا: اللاهوت المتّاوي: يا قليلي الإِيمان.
تتوزّع الشواهد توزيعًا يشبه للوهلة الأولى توزيع مرقس في أشكال متعارضة. أوّلاً، الظل والضوء، العاصفة ونوم يسوع، هجوم الأمواج على القارب مع عبارة موجزة: "وكان نائمًا". ثانيًا، في قلب الصمت وهدوء الأمواج يتفجّر إعجاب الناس (آ 26 ب- 27). وبين هاتين اللوحتين نجد حوارًا قصيرًا يقابل بين النداء إلى النجدة (آ 25: نجّنا) وانتهار البحر (آ 26 ب). ثالثًا وأخيرًا: نجد في قلب التأليف توبيخًا يوجّهه يسوع إلى التلاميذ: يا قليلي الإِيمان. كان هذا التوبيخ خارج المعجزة في خبر مرقس ولوقا، فصار عند متى في قلب المقطوعة، صار الرسمة التي تنظّم الصورة كلّها.
إذن، ما يشرف على فهم الحدث كلّه هو لاهوت متى حول "قلّة الإِيمان ". كلمة خاصّة بمتى (اوليغوبستيا) قد أخذها من التقليد. فرض يسوع على تلاميذه الاستسلام الكامل إلى الآب الذي يعرف ما نحتاج إليه: "فإذا كان الله هكذا يلبس عشب الحقل، وهو يُوجد اليوم ويُرمى غدًا في التنّور، فكم أنتم أولى منه
بأن يلبسكم يا قليلي الإِيمان (لو 28:12= مت 6: 30)؟ هذا هو الموقف الذي يطلبه يسوع من أخصّائه كما قلنا في حديثنا عن مر 4: 40: ثقة مطلقة بالربّ. ما نظّمه متى هو تطبيق توبيخ يسوع على التلاميذ. كل مرّة يتعلّق الأمر بهم يدلّون على "قلّة إيمانهم". أمّا حين يُعلن يسوع "عظيم إيمانك" ، فهذا المديح لا يتوجّه إلى التلاميذ، بل إلى أحد الذين يمرّون فترة في طريق المعلم ثم يختفون حالاً: الأبرص، الضابط، حاملو المخلّع، النازفة، الكنعانيّة.
ماذا يعني توبيخ يسوع بالضبط حسب متى؟ نحن نفهمه فهمًا أفضل إن قابلناه بلاهوت مرقس. عند مرقس، يبدو التلاميذ قصيري النظر عديمي الفهم مُنغلقين وقساة القلوب (مر 6؛ 51- 52؛ 8: 17، 18). أمّا عند متّى، فهم في النهاية يفهمون ويرون في يسوع ابن الله. تختلف النظرة بين إنجيلي وآخر. إنَّ مرقس يصوّر وضع التلاميذ قبل أن يشرق على عقلهم نور القيامة. ما كان بإمكانهم أن يفهموا. لاحظ يسوع بعد مثل الزرع: "أما تفهمون هذا المثل" (13:4)! أمّا متى فيكتشف في موقف التلاميذ السابق للفصح ما يعلن إيمان المسيحيّين بعد الفصح. حين تبعوا يسوع آمنوا منذ ذلك الوقت، ولكن بقي لهم أن يعيشوا هذا الإِيمان. ولكن إذا نظرنا إلى تصرّفاتهم، فأعمالهم لا توافق بَعدُ ما تعلنه شفاههم. فإن جاءت صعوبة ضعفت ثقتهم. يهتمّون بمسائل الطعام (مت 16: 8)، يقلقون من الخطر يهدّد حياتهم (مت 8: 26؛ 14: 31)، يعجزون عن طرد شيطان صعب! حينئذ يتغلّب عليهم الاضطراب والخوف وكأنّ لا إيمان لهم. إنّ تصرّفهم الحقيقي لا يتوافق مع تعلّقهم المبدأي بيسوع.
فالمسافة بين الذي يؤمن والذي لا يؤمن تقاسٍ بإدراك سرّ يسوع إدراكًا حقيقيٍّا أوّل. هذه هي نظرة مرقس: الإِيمان يكون كاملاً أو لا يكون. أمّا بالنسبة إلى متى فالخط الفاصل يمرّ في قلب المؤمن وهو يتنقل من الإِيمان الكامل إلى الكفر وعدم الإِيمان. هو لا يُقاس بمدى انفتاح العقل على سرّ يسوع، وإن كان متى احتفظ هو أيضًا ببعض النصوص التي تتحدّث عن عدم فهم التلاميذ. هو يقاس على مستوى التصرّف: فالتلميذ القليل الإِيمان لا يعيش من النور الذي يمنحه إيّاه إيمانه. وفي النهاية، تلتقي نظرتا الإِنجيليين: فالمؤمن الذي لا يتحرَّك حسب إيمانه، يصبح لا مؤمنًا ويتراجع فيصل إلى مستوى الكافر، مع فارق بسيط وهو أنّه يستطيع أن يمسك بنفسه من جديد ويتعلَّق بيد يسوع الذي يخلّصه كما فعل مع بطرس حين أخذ يغرق. عند مرقس، نقل يسوع التلاميذ من اللاإيمان إلى الإِيمان الفصحي. أمّا متى فبيَّن كيف ربّى يسوع إيمانًا ناشئًا فجعله إيمانًا حيًّا كل الحياة. وفي السياق الذي أقحم فيه متى هذا الحدث، دلَّت "قلّة الإِيمان" على وضع التلاميذ، لا سيّما وأنّ الخبر كلّه موجَّه من أجل تربيتهم.

رابعًا: عودة إلى لوقا.
جمع لوقا حدثَيْ العاصفة والممسوس (22:8- 39) في وحدة وأدبيّة واحدة يحيط بها صعودان إلى القارب (آ 22 و37)، وقد جُمعت عناصرُ رمزية عديدة. من جهة، ينام يسوع من التعب في القارب. وهذا، يدلّ على موته ووضعه في القبر. ومن جهة ثانية نشاهد عناصر من الفوضى: الخنازير وهي حيوانات نجسة تقيم في أرض مرتفعة؛ يسوع الجليلي هو في جراسة في الجهة المقابلة للبحيرة، في أرض وثنيّة؛ إبن المدينة يعيش خارج المدينة، بل في القبور والبراري. يمسكه الشيطان، يجعله شخصًا آخر ويعطيه قوّة غاشمة عمياء.
أمّا الجواب على كل هذه الأمور غير الطبيعية، فيأتي من يسوع الذي يظهر كالوسيط. فهو الذي يتجاوز التعارضات. حين انتقل من "النوم" إلى "اليقظة"، أي من الموت إلى الحياة. خلَّص (آ 36). وبفضله عاد النظام بعد الفوضى، حين أمر الشياطين أن تدخل في الخنازير التي ارتمت حالاً في البحيرة (المكان الأسفل). وبعد أن أعاد يسوع الأمور إلى نصابها، نجا الممسوس وهدأ واستطاع أن يترك القبور وشمكن المدينة فيصبح حاملاً لكلمة الله.
حسب هذه الرمزية الملموسة، انتقل يسوع من الموت إلى الحياة، فنقل الرجل الضائع من موت القبور إلى الحياة في البيت. وتنتهي دورة العودة إلى النظام بعودة يسوع إلى الجليل. ونلاحظ أيضًا فيما يخصّ رمز الماء: هو مكان موت الخنازير، ولكنّه بالنسبة إلى يسوع موضوع عبور يسود عليه. ولهذا فموته أو رقاده على البحيرة، في المكان الأسفل، في مكان قوى الشرّ، رقاده هو موقت، وسينهض حالاً ليتغلّب عليه.
إنّ نص لوقا عن تهدئة العاصفة قريب جدًّا من نصّ مرقس (35:4- 41)، كما قلنا. ولكن انطلاق يسوع على البحيرة لا ينهىِ "يوم الأمثال" فتبدو الإِشارة إلى الوقت غامضة. عند لوقا، يسوع هو الذي يتخذ مبادرة الإِبحار مع تلاميذه. وهدفه أن يدرك الضفّة الأخرى. ثم يلاحظ النص أنّ يسوع نام قبل أن يصوّر هيجان العاصفة وخوف التلاميذ. نحن هنا في إطار كونيّ: العاصفة، الرياح، المياه. ورقاد يسوع ونهوضه (آ 24) يدلاّن على القيامة (24: 36- 43). ثم يشدّد لوقا من جهة على ضياع الذي وضع ثقته فجابهته أحداث تتجاوزه، ومن جهة أخرى على هذا الإِيمان المليء بالإِعجاب الذي يلي هذا الضياع.

خاتمة:
نحن الذين نقرأ تاريخ الزمن الماضي مدعوّون إلى أن نحدّد موقفنا في مسيرة تجنّدنا على خطى يسوع نحو الله. فعلينا أن نقاوم قلّة الإِيمان التي تهدّد هذه المسيرة. وبعد أن نكتشف من هو يسوع نسير معه في سرّ الثقة الكاملة بالله. هذا عند متى. أمّا عند لوقا، فلا قوارب ترافق يسوع وكل تلاميذه. فالبحيرة هي الحدود التي يتجاوزها يسوع ليذهب إلى العمق أي إلى الوثنيّين. وصلوا إلى بلاد الجراسيين، تجاه الجليل، ثم عاد يسوع إلى الجليل حيث ينتظره الناس (8: 37، 40). أشار مرقس إلى الرسالة. ولكن لوقا شدَّد عليها. فعبور البحيرة ليس بحثًا عن الراحة بعد نهار متعب، بل ذهاب إلى محيط وثنيّ. إنّ هذه البادرِة تدلّ على إرادة يسوع أن يحمل الخلاص إلى الكون، وإن انحصر نشاطه موقتًا في الجليل.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM