القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الثاني والأربعون: مثل الزارع
 

الفصل الثاني والأربعون
مثل الزارع
8: 1 – 15

لوقا كاتب شخصي فلا يكتفي بأن ينسخ سابقيه دون أن يطبع بطابعه ما أخذه من الوثائق أو التقاليد السابقة. فقد وصلت إلينا معظم ينابيع معلوماته التي استعملها ليكتب القسم الأكبر من إنجيله. وهذا ما يتيح لنا أن نحدّد بدقة طريقته في العمل، ويساعدنا على الإِِحاطة بأصل المعلومات التي يقدّمها لنا في مقاطع أخرى.

أ- الزرع هو كلمة الله.
أولاً: نلاحظ بادئ ذي بدء أن مثل الزارع صار عند لوقا مثل الزرع. هو لم يكتب في البداية كما فعل مر 4:4 ومت 3:13: "ها هو الزارع خرج ليزرع ". بل حدّد فقال: "خرج الزارع ليزرع زرعه " (8: 5). وفي تفسير المثل لن يذكر الزارع كما فعل مرقس (4: 14) ومتّى (18:13). فالانتباه كلّه يتركّز على مصير الزرع الذي يشير إليه الإِنجيل الثالث بشكل واضح: "الزرع هو كلمة الله " (8: 11). وسلوك الزارع لا يلفت انتباهه.
ثانيًا: يُسبق مرقس تفسير المثل بقول حول الاسلوب الأمثالي (مر 4: 10- 12). وهذا التفسير تفصله عمّا سبق استعادةٌ تدوينية: "ثم قال لهم " (13:4). وتتبعه أقوالٌ لها مقدّمات خاصة بها: 4: 21: "وقال لهم"؛ 4: 24: "وقال لهم ". أمّا لوقا فيجعل من كل هذه القطع خطبة تتواصل بدون انقطاع (8: 10- 18). من الواضح أنّه يرى في الأقوال التي تستخرج التفسير بحصر المعنى، وسيلة لإِبراز معنى المثل. وهذا واضح بصورة خاصة في تصحيح آ 18. لم يقل لوقا كما قال مر 4: 24؛ "انتبهوا لما تسمعون بل: "انتبهوا الى الطريقة التي بها تسمعون". فعلى المثل أن يفهمنا الطريقة التي بها نسمع كلام الله.
ثالثًا. لا نستطيع أن نفصل عن 8: 4- 18 المقطوعة الصغيرة حول قرابة يسوع الحقيقية (19:8- 21). ففي مرقس، نقرأ هذه المقطوعة حالاً قبل مثل الزارع ولكن في إطار مختلف: مع أن المثل قيل على شاطئ البحر (مر 4: 1، 35) إلاّ أن يسوع موجود في داخل البيت (مر 3: 20، 32). أمّا عند لوقا فكل شيء يحدث في مكان ما على الطريق، والجموع تحيط بيسوع (4:8) بل تزحمه (19:8). ولكننا حينئذ لن نفهم كيف يكون أقارب يسوع "في الخارج " (8: 20 = مر 3: 32).
وإذ أراد لوقا أن يتجنّب تبديلاً في المشهد، إهتمّ بأن لا يقول في آ 9 أن التلاميذ سألوا يسوع "على حدة" (كما قال مر 4: 10). فلا مسافة عند لوقا بين الجموع والتلاميذ. ولهذا أغفل مر 33:4- 34: "وكان يسوع يكثر من هذه الامثال ليعلم الناس كلام الله على قدر ما يفهمون، وما كلَّمهم إلا بالامثال، ولكنه متى انفرد بتلاميذه فسَّر لهم كلَّ شيء". أجل، إنَّ لوقا يفترض الجمع حاضرًا وهو يسمع كلمات يسوع كما يسمعها التلاميذ.
أخذ لوقا حدث قرابة يسوع الحقيقيّة وجعله في نهاية الجزء المكرّس للأمثال وربطه به. كما قام في الخاتمة بتصليحات لها معناها. فأم يسوع وإخوته لم يعودوا "أولئك الذين يعملون بمشيئة الله " (مر 35:3؛ رج مت 12- 50)، بل "أولئك الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (8: 21). نحن الآن أمام "كلام الله "، وإعلان يسوع بمناسبة مجيء أقاربه صار خاتمة كل التوسيع الذي بدأ في آ 3، فحدّد الدرس الذي نستخلصه من المثل.
رابعًا: لا تظهر عبارة "كلمة الله " إلاّ في مقطع واحد في مرقس (13:7: تبطلون كلام الله) وفي متّى (6:15: ابطلتم كلام الله)، وهي ترتبط بإحدى الوصايا العشر (أكرم اباك وأمّك). أمّا عند لوقا فقد قرأناها في 8: 11 و8: 21. كما استعملها في ملاحظة تدوينية في 5: 1: "وإزدحم الجمع حول يسوع "ليسمع كلام الله ". أمّا النص الموازي في مرقس (4: 1- 2) فيتحدّث عن تعليم يسوع.
ونجد هذه العبارة أيضًا في 28:11 وفي وضع شبيه بما في 8: 21. أعلن يسوع: "طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها". وتعود العبارة 20 مرّة بشكل "كلمة الربّ " فتدلّ حصرًا على التعليم المسيحي كما يبشّر به الرسل. ويستعملها بولس في المعنى عينه. يتحدّث عن "كلمة الله " في 1 تس 13:2؛ 1 كور 14: 36؛ 2 كور 17:2؛ 4: 2؛ فل 1: 14؛ كو 1: 25. ويتحدّث عن "كلمة الربّ " في 2 تس 3: 1. وترتبط عبارة كلمة الله في روم 6:9 بالعهد القديم.
في الواقع، لا يبدو المضاف إليه (الله) ضروريًّا. فقد يكون متضمنًا فيقال فقط: الكلمة. هو ما يفعله مرقس في تفسير المثل فيقول: "الزارع يزرع الكلمة. والذين هم على جانب الطريق حيث زُرعت الكلمة. يأتي الشيطان حالاً وينتزع الكلمة التي زُرعت فيهم " (مر 4: 14- 15؛ رج آ 16- 20). إذا وضعنا جانبًا المقطع الذي يقابل مرقس (رج لو 12:18، 13، 15) نجد مفردة "الكلمة" في أماكن عديدة من سفر الأعمال (4: 4؛ 6: 4؛ 8: 4...).
ان تشديد لوقا له معناه. فهو يرى ويريد أن يرينا في مثل "الزرع " تعليمًا يتعلّق بالبشارة الإِنجيليّة وبالطريقة التي نسمع هذه البشارة.
خامسًا: أراد لوقا أن يوضح النصّ فاستعمل مرتين كلمة "الزرع" (8: 5، 11) حيث لم يستعملها النصّ الموازي في مرقس عن مثل الزارع. ولكننا نجد "الزرع " من جديد في مر 26:4- 27، في مثل الزرع الذي ينمو فلا يعرف به أحد (رج 2 كور 9: 10: "الذي يوفّر للزارع زرعًا") يمكننا أن نتساءل هنا: أمّا نجد إشارة إلى أن لوقا عرف هذا المثل في المكان الذي أورده مرقس ولكنّه أغفله قصدًا؟ ولماذا أغفله؟ لان مثل الزرع الذي ينبت دون أن يدري به أحد لا يتوافق مع فكرة يشدّد عليها لوقا في 4:8- 21: يجب أن ننتبه إلى الطريقة التي بها نسمع كلام الله (18:8). يجب أن نسمع كلمة الله ونعمل بها (21:8). إن كلمة الله تدعو الانسان لكي يتجاوب معها تجاوبًا فاعلاً.
لا بد من الأخذ بعين الاعتبار هذا السياق لنفهم لوقا الذي لا يتحدّث عن "سر" الملكوت أي مخطط الله المتعلّق بمجيء ملكه، بل عن "الاسرار، أي عن المتطلّبات التي نقوم بها لنصل إلى الملكوت، عن الطرق التي نتبعها لنشارك في الملكوت.

ب- الذين لا إيمان لهم
يتطرّق المثل إلى ما يعطيه الزرع بعد أن يُبذر، فيميز أربع امكانيات توافق أربعة أنواع من الأرض سقط عليها الزرع. والتفسير اللاحق يطبّق هذه الحالات على سامعي كلمة الله.
يبدو أنّ لوقا أحسّ ببعض الدهشة حين رأى الخبر الأمثالي يوضع بجانب تفسيره. فبدا له هذا المثل وكأنّه أمر شاذ. ولكنّه قبله واستفاد منه. فإذا أردنا أن نكتشف فكرته في كل من هذه الامكانيات المذكورة، نقرب بين لوحتي العرض. ونبدأ فنتفحّص ما يتعلّق بالفئة الأولى من السامعين: آ 5 ب، آ 12.
اولاً: تتميّز آ 5 ب بضمّ إشارتين خاصّتين بتدوين لوقا: "وبينما هو يزرع وقع بعض (الحب) على جانب الطريق فداسته الأقدام وأكلته طيور المساء". حين كتب لوقا "طيور السماء" كما إعتاد أن يفعل قام بتصليحة بسيطة فأعطى لخبره رنّة بيبلية. نقرأ في 12؛ 24: الطيور (أنتم أفضل الطيور). ونجد "طيور السماء" في 58:9 (= مت 8: 20)؛ 13: 19 (= مر 4: 31- 32)؛ اع 10: 12؛ 11: 16. أمّا العبارة فترد خمسين مرّة تقريبًا في التوراة اليونانية. لن نبحث عن العلاقة بين هذا التحديد (طيور السماء) وما قيل عن الشيطان في آ 12.
الزيادة الأولى تلفت انتباهنا بعدم واقعيتها: اذا كان الناس مرّوا في الطريق وداسوا الحب بأرجلهم، فما الذي يبقى من طعام لطير السماء؟ إذن نتساءل: أما لهذه الإِشارة بُعد رمزي؟ إنّها تشير إلى مسؤولية الذين لا يهتمون إلاَّ قليلاً بكلمة الله: يرفضونها (7: 30)، يرذلونها (أع 13: 46)، يظلون غير مؤمنين (أع 14: 2؛ 19: 9؛ 28: 24) فيبرهنون عن إهمال سيُدانون عليه. وموقف العابرين يدلّ على موقف اليهود كما يصوّره سفر الأعمال. ولكن لا نشدّد على سمة لا يستعيدها لوقا في تفسير المثل.
ثانيًا: أمّا التصليحات في تفسير المثل فهي أكثر أهميّة. كتب مرقس (15:4): "إنّهم هؤلاء الذين على جانب الطريق حيث زُرعت الكلمة. وحين يسمعون يأتي الشيطان حالاً وينتزع الكلام المزروع فيهم ". أمّا لوقا فقال (12:8): "فالذين هم على جانب الطريق هم الذين سمعوا: ثم يأتي الشيطان وينتزع الكلمة من قلبهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا".
حسَّن لوقا بناء جملته. بدَّل اللفظة العبريّة "سطن " (الشيطان) ووضع ما يساويها في اليونانية: "ديابولوس ". لم يقل "فيهم " مثل مرقس، بل أوضح: "من قلوبهم "كما فعل مت 19:13. نجد مفردة "القلب" 16 مرّة عند متّى، 11 مرّة عند مرقس، 22 مرّة عند لوقا، 20 مرّة في سفر الأعمال. وُيزاد على هذا العدد عند لوقا "معرفة القلب " كارديونوستيس مرتين. فالزيادة واضحة في 6: 45 أ؛ 8: 15؛ 47:9؛ 21: 14 (ضعوا في قلوبكم).
أمّا العنصر الجديد والرئيسي حقًّا فنجده في النهاية: حين ينتزع الشيطان الكلمة من قلب المؤمنين، فلأنه يريد أن يمنعهم من بلوغ الإِيمان الذي يؤمّن لهم الخلاص. لقد شدّدنا في القسم الأول من هذه الدراسة على إهتمام لوقا بموضوع كلمة الله. ونحن نلاحظ الآن إهتمامًا آخر: إنّه يُبرز دور الإِيمان. لا يتحدّث متّى ومرقس عن الإِيمان في هذا السياق، أمّا لوقا فيشير إليه على دفعتين: حين يتحدّث عن أوّل مجموعة من السامعين (12:8) وحين يتحدّث عن المجموعة الثانية (13:8). إذا كانت كلمةُ الله كلمةَ خلاص فهي لا تقدر أن تخلّص إلاَّ الذين يؤمنون بها. فلا خلاصّ إلاَّ للذين يؤمنون.
ثالثًا: ويهتمّ لوقا بصورة خاصة بالفكرة الجديدة التي أدخلها إلى نهاية آ 12. نجد مرّة واحدة عند متى 22:9= مر 34:5= 34= لو 48:8 عبارة: "إيمانك خلّصك " (تتوجّه إلى نازفة الدم). ستعود العبارة مرّة ثانية عند مرقس في شفاء المولود أعمى (مر 52:10= لو 42:18). ولكننا نجدها ست مرّات في إنجيل لوقا. ففضلاً عن النصّين اللذين ذكرنا، نجد في النص الذي ندرسه الآن، عبارة "إيمانك خلّصك". في 7: 50 (المرأة الخاطئة)؛ 8: 50 (إبنة يائيرس)؛ 17: 19 (الأبرص)، ونجدها أيضًا في سفر الأعمال، في 9:14: "فرأى بولس أنه يؤمن لكي يخلص ". في 16: 31: "آمِنْ بالربّ يسوع تخلص أنت وأهل بيتك ". ونجد أيضًا عبارات مماثلة بمناسبة الأشفية (رج أع 3: 16) أو في الحديث عن الخلاص الأبديّ (رج أع 43:10؛ 13: 12، 48؛ 7:15- 11؛ 18:26).
نلاحظ أيضًا أنّ لوقا أغفل الكلمات التي قالها المارّون مستهزئين بيسوع: "المسيح، ملك إسرائيل! لينزل الآن عن الصليب فنرى ونؤمن " (مر 32:15). إنّ موقف هؤلاء الناس غريب عن الإِيمان كما يتصوّره لوقا. لهذا فهو لم يُورد أقوالهم.
ونعرف أيضًا كم أبرز لوقا مفهوم "الخلاص ": كلمة "سوتاريا" (69:1، 71، 77؛ 19: 9)، وكلمة "سوتاريون " (2: 30؛ 3: 6) اللتان تعنيان الخلاص. وكلمة "سوتار" (1: 47؛ 2: 11= المخلّص). هذه الكلمات غير موجودة عند مرقس ولا عند متى. أمّا فيما يخصّ فعل "سوزو" فنستطيع أن نقابل لو 36:8؛ 50 مع ما يقابله في مرقس. قال لوقا: "كيف خلص " أمّا مر 16:5 فقال: "ما حصل للرجل ". وقال يسوع ليائيرس: "آمن فقط فتخلص " (الفتاة) (لو 8: 50). أمّا في مر 36:5 فنقرأ كلام يسوع: "لا تخف. يكفي أن تؤمن ". ونلاحظ أخيرًا في لو 19: 10: "جاء إبن الإِنسان ليبحث عن الهالكين ويخلّصهم ".
كل هذا يفهمنا أنّ الزيادة في 12:8 ترتبط بموضوع يعلِّق عليه لوقا أهميّة خاصّة: إنّه موضوع الخلاص المرتبط بالإِيمان.
رابعًا: إن كان الأمر هكذا، فقد نرى نهاية آ 12 كزيادة مجّانيّة محضة وضعها الانجيلي. ولكن إذا أمعنّا النظر وجدنا أنّ هذه الزيادة تعوَّض ما أغفله لوقا في آ 10. إذن، ليست مجرّد تصحيح. ففي آ 10 شدّد لوقا على امتياز التلاميذ الذين "أُعطي لهم أن يعرفوا أسرار الملكوت " ولكنّه تحفّظ في ما يتعلَّق بما يقابل هذا الامتياز: الآخرون يرون دون أن يروا ويسمعون دون أن يفهموا. واختفت كليًّا خاتمة مر 12:4: "لئلاّ يرتدّوا فيُغفر لهم . من السهل أن نفهم نظرة إنجيليّ الرحمة والغفران أمام نصّ يجعل يسوع وكأنّه يمنع بعضًا من سامعيه أن يتوبوا فينالوا غفران الله. ولكنّه فعل أحسن من إزالة كلمة تصدم قارئه، فنقلها إلى آ 12 وبدّل ألفاظها تبديلاً طفيفًا فصارت: "لئلاّ يؤمنوا فيخلصوا".
لقد دلّت هذه الجملة الأخيرة في مكانها الجديد على الهدف الذي يلاحقه الشيطان لا يسوع. فالشيطان، هو المسؤول عن عدم إيمان الذين لا يتقبّلون كلمة الله. وهو الذي يسبِّب هلاكهم. كما أنّه هو الذي سبب هلاك حنانيا حين دفعه إلى أن يكذب على الروح القدس (أع 3:5). وسيكون "ابن الشيطان " أيضًا ذلك الذي يحاول أن يُبعد الوالي سرجيوس بولس عن الإِيمان (أع 8:13،10). ولا ننسَ أنّ الشيطان دفع يهوذا إلى الخيانة (3:22؛ رج 13:4؛ يو 2:13) كما هدّد إيمان بطرس بالخطر (22: 31).

ج- الذين يتراجعون
أوّلاً: في القسم الأمثاليّ، يكرّس مرقس (4: 5- 6) توسيعًا معلّلاً وطويلاً عن مصير الحَبّ الذي سقط على الأرض الصخرية. وما يلفت النظر أوّلاً عند لوقا (6:8) هو قصر هذا التوسع (14 كلمة بدل 33 عند مرقس). وهو لا يتكلّم عن الأرض الصخرية، بل عن "الصخر" دون أن يهتمّ بواقع وهو أنّ الحبّ لا ينبت على الصخر. أهمل التوسّع بما فيه من ملاحظة وأهمل فعل الشمس الحارقة التي تيبس النبتة، فقال بإيجاز إن الحبّ نبت ثم يبس. ونسب هذا اليباس لا إلى غياب الجذور بل إلى غياب الرطوبة. كل هذا يدلّ على أنّنا أمام إبن مدينة، لا ابن ريف يعرف بأصول الزراعة. ثم إن الكلمة اليونانيّة المستعملة هي أكثر جمالاً. أخيرًا، وإن لم يتحدّث عن الجذر في المثل، فهو سيعود إليه في تفسير المثل (13:8).
ثانيًا: يعلّمنا التفسير أنّنا أمام أناس "سمعوا الكلمة فأخذوها حالا بفرح " (مر 16:4). وقال لوقا (13:8): "حين سمعوا قبلوا الكلمة بفرح ". فكّر لوقا بتقبّل كلمة الله، فبدّل الفعل اليونانيّ، كما بدّل بناء الجملة، مركِّزًا الانتباه على هذا القبول للكلمة بالشكر. "لا جذور لهم ". كذا قال لوقا وأغفل "فيهم ". قال مرقس: هم "رجال وقت وساعة"، فحدّد لوقا: "يؤمنون إلى حين ". يعود فعل "آن " الذي التقينا به في الآية السابقة، وهو يدلّ بصورة خاصّة على استقبال كلمة الله. فالذين نتحدّث عنهم الآن يختلفون عن الفئة الأولى من السامعين: هم يؤمنون بالكلمة التي سمعوها، ولكنّ إيمانهم عابر وهو لا يدوم. إنّه لا يكفي لكي يؤمّن الخلاص.
ثالثًا: والإشارة التي تنهي الآية تُدخل معطية جديدة. وما يلفت انتباهنا هو العلاقة الوثيقة بينها وبين الإِشارة التي بها انتهى تفسير المثل. إليك كيف يفسّر مرقس ما حدث للذين هم "رجال وقت قصير"؛ "حينئذٍ يحدث ضيق أو اضطهاد بسبب الكلمة، وحالاً (للوقت) يشكون " (يتشكّكون ويتراجعون). أمّا لوقا فاكتفى بالقول: "وفي وقت التجربة (المحنة) يتراجعون (يرتدون، يتراخون) ". إنّ لفظة "ضيق " عند مرقس تشير إلى إخبار إسكاتولوجيّ: فالآلام التي يتحدّث عنها هي جزء من المصائب التي تصيب العالم قبل نهاية الأزمنة. ووُضعت كلمة "اضطهاد" لتفسّر كلمة "ضيق " وتكيّفها على وضع المسيحيين. فالاضطهادات التي تصيب الجماعة تدخل في الضيق العظيم، في نهاية الأزمنة.
ولكنّ لوقا أحلَّ محل هاتين اللفظتين مفردة "المحنة" (أو التجربة) التي تحمل أبعادًا أوسع. فهي تدلّ على كل ظروف الحياة التي يُطلب فيها من المسيحيين أن يُظهروا نوعيّة إيمانهم، وبالأخصّ هذا الثبات الذي ستتحدّث عنه آ 15. حين اختار لوقا هذه المفردة، دلَّ أنّه لا يفكّر في وضع خاص، بل في الحياة المسيحيّة بمجملها مع مختلف الصعوبات التي تتحدّى أمانة المؤمن. فعلى المسيحيّ أن يحمل صليبه ويتبع يسوع لا عندما تقرب النهاية ولا خلال الاضطهاد وحسب، بل "كل يوم ". قال مر 34:8: "من أراد أن يتبعني يحمل صليبه ويتبعني ". إمّا لوقا فقال (23:9): "يحمل صليبه كل يوم ".
إذا نقص "الثبات " الضروريّ في "المحنة" فالمسيحيون لا "يعثرون " (يشكّون) فقط. ولن يجدوا فقط مناسبة سقوط روحيّ، إنّهم يتراخون ويتراجعون. نحن هنا في إطار إيمان موقّت، ولهذا يعني الفعل المستعمل تراجعًا عن الإِيمان وجحودًا (1 تم 4: 1؛ عب 3: 12). لا يستطيعون أن يتجاوزوا تطلّبات الإِيمان وسط صعوبات الحياة، فما يعتّمون أن يرتدوا عن الإِيمان، أن يتخلّوا عن إيمانهم.

د- لا يصلون إلى النضوج.
أوّلاً: في القسم الامثالي يقوم لوقا (7:8) بسلسلة من التصليحات الأدبيّة المحضة التي لا يهتمّ بها التفسير. سقط الحبّ لا "في " الشوك بل "وسط " الشوك. لم "يطلع " الشوك فقط بل "نما معه ". لم "يخنق " الشوك الحب فقط، بل وصل به إلى الموت كما فعل البحر بقطيع الخنازير الذي غرق (33:8). بعد هذا لم يَعُد من الضروريّ أن يقول إنّ الحبّ لم يعطِ ثمرًا.
ثانيًا: ما يلفت نظرنا في التفسير أوّلاً (8: 14) هو إيجاز لوقا بالنسبة إلى مرقس (24 كلمة مقابل 37 عند مرقس). الحبّ الساقط وسط الشوك يمثّل الذين بعد أن سمعوا اختنقوا في الطريق وما وصلوا إلى النضوج.
بدأ مرقس فحدّثنا عن السامعين ثم انتهى بالكلمة. أمّا لوقا فلم يعد يفكّر إلاّ بالسامعين الذين لا يجعلون الثمر ينضج. وفي انقلاب مماثل، ليست الرغبات (الشهوّات) هي التي تدخل إلى الإِنسان (مرقس)، بل الناس هم الذين يذهبون إلى الشهوات. ويدلّ لوقا أنّ الاختناق يتمّ تدريجيًّا (آ 7: طلع معه).
قال لوقا: لم ينضجوا، فدلّ على الذين يتقبّلون الكلمة. وقال مرقس على الكلمة إنّها تبقى "بلا ثمر". وتعود مفردة "الكلمة" مرّتين في النص الموازي للوقا فيقال: "الذين يسمعون الكلمة". ثم يقال عنها أنّها لم تثمر. أمّا لوقا فلا يذكر الكلمة وهذا ما يدهشنا في إطار يشدّد على هذا الموضوع. أيكون أنّ لوقا تجنّب التكرار، فأراد أن يقدّم عرضًا متماسكًا؟ ولكن أما يكون هناك أيضًا شيء آخر؟ إن انتباه لوقا يتركّز على استعدادات السامعين، ولهذا لم يذكر الكلمة التي هي الموضوع الرئيسي في هذا التوسيع.
ثالثًا: ويقوم لوقا بأهمّ التصليحات في أسباب الفشل الجديد. كانت ثلاثة في إنجيل مرقس: "هموم الدنيا (أو الدهر أو العصر)، سحر (خداع) الغنى، سائر الشهوات ". وظلّ ثلاثة عند لوقا: "الهموم، الغنى، ملذّات الحياة". الكلمتان الأوليان قاطعتان في إيجازهما. ولن ندهش حين نجد عند لوقا حكمًا دون استئناف على الغنى. فهناك عدد من النصوص تشدّد على اللعنة (ويل) التي تنزل بالأغنياء، وعلى متطلبة تجرّد كامل.
والهموم. نجد أوّلاً تحذيرًا من الهمّ المتعلّق بالطعام واللباس (12: 22- 24 = مت 25:6- 33). وهناك مقطعان خاصّان بلوقا. الأوّل: يلوم الربّ مرتا لأنّها قلقة ومهتمّة بأمور كثيرة (10: 41). وينبّهنا في 34:21: "انتبهوا لئلاّ تنشغل (تصبح ثقيلة) قلوبكم بالخمرة والسكر وهموم الدنيا".
لم يأخذ لوقا عبارة "الشهوات ". فالكلمة "ابيتيميا" تعني فقط رغبة قوّية، وقد تكون الرغبة صالحة أو شرّيرة (16:15؛ 16: 21؛ 22:17؛ 15:22: قال يسوع: إشتهيت أن أتناول عشاء). ولا يستعمل فعل "اشتهى" بالمعنى البيبلي (مت 28:5؛ روم 1: 24؛ 12:6؛ 7:7، 8؛ 9:13، 14؛ 1 كور 10: 6) إلاَّ مرَّة واحدة، وذلك في خطبة بولس إلى شيوخ أفسس (أع 33:20).
إذن، أحلّ "الملذّات " محلّ "الشهوات ". فالملذّات ترتبط بالحياة الحاضرة. وما يعنيه بهذه اللفظة (رج تي 3:3؛ يع 4: 1، 3؛ 2 بط 13:2؛ 2 تم 4:3) نتخيّله حين نقرأ كلمات وضعها في فم الملاك الذي زاد غناه: "يا نفسي، لك خيرات وافرة مخزونة (مخزّنة) لسنين كثيرة: فاستريحي وكلي واشربي وتنّعمي (عيدي) " (19:12). أو حين نقرأ صورة عن الرجل الغني ويتحدّث لوقا عن الذين يؤمّون قصور الملوك فهو لا يفكر فقط "بثيابهم الناعمة" (مت 8:11)، بل يراهم "يلبسون الثياب الفاخرة ويعيشون في الترف " (في التنعّم) (7: 25).
الهموم والغنى والملذّات تحدّ أفق هؤلاء الناس في هذه الحياة الحاضرة. واهتمامهم بالبشارة الإِنجيليّة لن يكون بالقوّة التي تسلخهم عن هذه الحياة الحاضرة (بيوس) لتتيح لهم بأن ينفتحوا على "زوئي"، على الحياة الحقيقيّة التي هي الخلاص أيضًا.

هـ- قلب طيّب مطيع.
أوّلاً: في آ 8 تتميّز الصورة الامثالية مرّة ثانية بإيجازها. لا يتوقّف لوقا عند نموّ النبتة المتدرّج: "تنبت، تنمو" (مر 8:4)، بل يكتفي بأن يكرّر فعل "طلع " (رج آ 6). كما لا يهتمّ بتنوّع الغلّة: 30، 60، 100. فيحتفظ بالرقم الأخير ثم يتخلّى عنه في التفسير. والأرض التي سقط فيها الحبّ هي طيّبة بمعنى خصبة. أمّا التفسير فيستعيد لفظة "جميلة". وأخيرًا لا "تعطي " النبتة ثمرًا، بل "تصنع " ثمرًا. يقول في 20: 10 عن الكرّامين أنّهم "يعطون " من الثمر الذي أنتجوه. وقد نستطيع المقابلة مع 8: 21 حيث "صنع " يعني أتمّ كلمة الله.
ثانيًا: يتفرّد لوقا في آ 15 فيورد بوضوح الاستعدادات الطيّبة لدى السامعين: "الذين سمعوا الكلمة بقلب جميل (مطيع) وطيّب (صالح) ". لاحظنا في معرض حديثنا عن آ 12 أنّ لوقا يستعمل كلمة "قلب " في المعنى البيبلي: مركز الاستعدادات الدينيّة.
أمّا الطريقة التي يصف بها القلب: جميل وطيّب. أي كامل وخارق من كل الوجهات. هذا يعكس المثال الإِنسانيّ لدى اليونانيّين: كمال يظهر في الخارج ويصل إلى قلب الإِنسان في صميمَ أعماقه. وهكذا لعب المثال اليونانيّ دورًا في الاستعدادت لتقبّل الإِنجيل بالاتصال مع "القلب ". نحن أمام تحقيق روحيّ لهذا المثال الذي يهيئ الإِنسان لتقبّل كلمة الله بالاستعدادت المطلوبة.
ثالثًا: وهناك سمتان تميّزان تقبّل الكلمة كما يتصوّره لوقا. هو لم يكتب كما فعل مرقس أنّ أصحاب الفئة الأخيرة" تقبّلوا (الكلمة) وحملوا ثمرًا"، ثلاثين، ستين، مئة مقابل حبّة واحدة (مر 4: 20). بل أوضح: "يحتفظون بها ويحملون ثمرًا بفضل ثباتهم " (رغم الأخطار التي تهدد الكلمة).
كان قد أشار أنّه لا يكفي بأن نتقبّل الكلمة بفرح "إذا كنّا" سنتراجع في "وقت المحنة". وها هو يستعمل فعل "كاتاخو": تمسك بقوّة. وهكذا لا نفلت ما تمسكه يدنا. استعمل بولس هذا الفعل حين تحدّث عن التقاليد التي ينبغي أن لا نتخلّى عنها (1 كور 2:11؛ 2:15؛ رج 1 تس 15:2 ولكن مع فعل "كراتيو") وتحدّث بولس أيضًا عن "كلمة الحياة" التي نتمسّك بها (فل 16:2= اباخو) فلا نفلتها. وهكذا يدلّ "كاتاخو" على الجماد بثبات وهذا ما يتوافق مع "الثبات " (هيبوموني).
ويهتمّ لوقا بثبات المسيحيّين. فيكون كلامه صدىً لتحريضات تدعوهم ليثبتوا في الإِيمان (أع 22:14)، ليبقوا أمناء للرب، أمناء للنعمة (أع 23:11؛ 43:13). وتعني "هيبوموني " الثبات الذي يجعلنا نبقى في مكاننا تحت الشدّة أو أمام الصعوبات وترتبط بكلمة "بايرسموس " أي المحنة والتجربة (آ 13). فتجاه المؤمنين المؤقّتين الذين يتقبّلون كلمة الله بفرح ثم يتراخون ويتراجعون في وفت التجربة، نجد الذين يحفظون الكلمة ويدلّون على ثباتهم خلال المحنة فلا يتزحزحون. لا شك في أنّ لوقا يصوّر سلوك أناس أصحاب قلب طيّب وجميل ويقابلهم بمؤمنين يتراخون في المحنة. إذن، ما يميّز المؤمن الحقيقيّ هو ثباته (وعناده) وسط صعوبات الحياة المسيحيّة.

خاتمة:
كل هذا التعليم يدور حول سؤال: كيف نسمع كلمة الله ونعمل بها؟ في الخبر يشدّد لوقا على "الزرع " (آ 5). وفي تفسير المثل يهتمّ أوّلاً بحالة الإِيمان. إذا كان هناك أناس لا يؤمنون بالبشارة الإِنجيليّة، فلنبحث عن السبب لا في طريقة تقديم البشارة بل في عمل الشيطان. يقوم الإِيمان بتقبّل كلمة الله. ولكن هذا التقبّل الأوّل لا يكفي. فنجد نفوسنا منذ آ 13 أمام مسألة الثبات. فالمؤمنون سيمرّون في المحنة، وبعضهم سوف يتراخى ويتراجع. والهموم وملذّات الحياة تجعل البعض يتهرّبون من المحنة ولكنّهم لن يصلوا إلى النضوج الذي هو الخلاص . ولا يصل إلى الخلاص إلاّ الذين تمسّكوا بالكلمة بقوّة، وبرهنوا عن ثبات (وعناد) فعملوا بكلمة الله وسط المحن.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM