الفصل الثامن والثلاثون
إحياء ابن أرملة نائين
11:7-17
أقام إيليّا ابنَ أرملة صَرفتِ صيدا، وأقام يسوعُ ابن أرملة نائين. فالمقابلةُ واضحة بين العمَلين، ولوقا يستلهم خبر سفر الملوك الأوَّل (ذكره في 25:4 ي) ليدوّن خبرَه، وليقدّم لنا يسوعَ على أنّه إيليّا الجديد. ولكنّه يشير أيضًا إلى أنّ نبيَّ الجليل يتجاوز سابقه بما لا يُحَدّ. هذا ما نكتشفه خلال هذه الدارسة.
ينتمي الخبر إلى تقاليد خاصّة بلوقا. هل تعرَّف إليه حين كان مع معلّمه بولس في قيصريّة، حوالي سنة 55- 66؟ إِستفاد من هذه الإقامة الجبريّة فزار داخل البلاد وأخذ معلومات من شهود يسوع في الجليل، وقد تكون أرملةُ نائين انضمّت إلى حلقة النساء التقيّات اللواتي تعرّف إليهنّ لوقا بصورة خاصّة (8: 1 - 3؛ أع 39:9- 41). وقد يكون لوقا أفاد من مراجع مكتوبة وصلت إليه (رج آ 13 والحديث عن شفقة يسوع مع عبارة "وقال لها"). كلّها افتراضات لا نستطيع التحقّق منها، وبالأخصّ الافتراضان الأوّلان. والافتراض لا يُنافِى الآخر. ومهما يكن من أمر، فما هو أكيد هو أنّ لوقا حصل على معلومات ثمينة، وطبع هذا الخبر بأسلوبه وأغناه بالمواضيع التي كان يحبّها.
أ- توطئة لدراسة النصّ
1- الخبر كما دخل في الإِنجيل.
الخبر موجَزٌ وطبيعيّ. لا تفاصيلَ غريبةً تبعدُنا عن المعقول، ولا نجد عرضًا مصطنعًا أو معقّدًا. لا تعظيمَ مجانيًّا لصانع العجائب هذا. إنّ يسوع يقيم ميْتًا بكلمة بسيطة، وهذا ما يدلّ على تساير سلطانه. وإذا كان كل شيء يهيّئنا لكي نتعرّف إلى المخافة الدينيّة التي تحرّك المشاهدين، وإلى مديح الله، وإلى إعلان الزيارة الإِلهيّة ("تفقّد الله شعبه ") التي تطرح السؤال حول هويّة يسوع النبيّ، فنحن لا نُحسّ بأي تصنّع أو مناورة مسبَّقة: إن الظرف المباشر للمعجزة هو شفقة يسوع العفوّية (آ 13: "فلمّا رآها الربّ أشفق عليها").
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، جُعلت المعجزة في نائين وهي قرية لا تزال تحمل إسمها اليوم، وهذا ما يجذّر خبر إقامة الميت تجذيرًا ثابتًا في التقليد الفلسطينيّ. نشير هنا إلى أنّ نائين لم تذكر في العهد القديم، ولا عند المؤرّخ يوسيفوس، ولا في العهد الجديد، ما عدا النصَّ الذي نقرأ. إذن، لم يعرف لوقا بواسطة التوراة بوجود هذه القرية المغمورة التي يسمّيها "مدينة". إن موقع معجزة أليشاع (2 مل 8:4- 37) هو في شونَم، القريةِ القريبة نائين. ولكن قد يكون التقارب بين القريتين أمرًا عرضيًّا.
2- الأسلوب
هاتان الملاحظتان السابقتان تجعلان المؤرّخ يضع ثقته في جوهر الخبر العجائبيّ. ولكنّ طريقة الرواية هي خاصّة بلوقا. فنحن نجد مواضيع "تمجيد" الله، يسوع النبيّ، تفقّد الله لشعبه. وهي مواضيع عزيزة على قلب لوقا. والمَيْت هو "إبن وحيد" (آ 12) كما أنّ إبنة يائيرس هي وحيدة (42:8؛ مت 9: 18: "ماتت ابنتي "؛ مر 23:5: "ابنتي الصغيرة")، وكما أنّ الابن المصروع هو وحيد (38:9: "ولدي الأوحد"؛ مت 17: 15: "ارحم ابني "؛ مر 9: 17: "جئت إليك بابنيّ ") عند لوقا.
وتحدّث لوقا عن النعش (التابوت) (آ 14)، ولا نعشَ في إسرائيل كما في أماكن عديدة في هذا الشرق. قد يكون لوقا أراد أن يتكيّف وعاداتِ أهل اليونان، أو قد يكون جاهلاً للعالم الفلسطينيّ. نشير هنا أيضًا إلى "قرميدات " بيت كفرناحوم (5: 19)، وإلى أساسات بنيت بين البيت والصخر (47:6- 49)، وإلى سهل يجري فيه نهر حقيقيّ (48:6- 49)، وإلى سراج لا يوضع في "قبو" (مخبأ، مكان خفيّ) (33:11). إن كلمة "نعش " (سوروس في اليونانيّة) تدلّ على وعاء مُغْلَق، ولا يمكن أن تشير إلى المَحمِل الذي يضع عليه أهل فلسطين موتاهم ولا يغطّونهم. في تك 26:50 حسب السبعينية تقابل "سوروس " كلمة "أرون " التي تدلّ على صندوق وُضع فيه يوسف قبل أن يُدفن على الطريقة المصرية.
وأخيرًا، إن لوقا يتتبّع خبر معجزة إيليّا في صرفت صيدا (1 مل 17:17- 24). ففي الحالتين نحن أمام ابن وحيد لأرملة، والحدَث يحصل عند باب المدينة، والولد يسلَّم إلى أمّه، صانع المعجزة يسمَّى "النبيّ " (لوقا) أو "رجل الله " (1 مل).
3- قرائن النصّ.
لا نستطيع أن نكتشف هنا توسيعًا منطقيًّا أو هدفًا لاهوتيًّا خاصًّا بلوقا في ترتيب ألقِسم الثاني من إنجيله (3: 1- 9: 50) الذي يحدّثنا عن رسالة يسوع في الجليل (بعد 14:4): إن لوقا يتبع مرقس وُيقحم أخبارًا خاصّة به تشكّل "القاطعة الصغيرة" (6: 20- 8: 3).
داخلَ هذه القاطعة تبدو موحَّدةً مختلفُ عناصر ف 7 الواقع بين خُطبة السهل (6: 20- 49) وأوّل تعليم بالأمثال (8: 1- 21). نحن أمام قدرة يسوع المسيحانيّة والمتسامية وهو الذي يشفي خادم أحد الضبّاط (7: 1ي) ويقيم ابن أرملة نائين، فيحقّق بهذه الصورة المعجزات التي أنبأ بها أشعيا (جواب إلى يوحنا المعمدان، 18:7 ي؛ أش 61: 1). وهو الذي يغفر بسلطانة للخاطئة التي انكبّت على قدميه تقبّلهما (36:7 ي).
وفي الوقت عينه تُصوَّر مُختلف ردّات الفعل عند أناس واجهوا هذه القدرة العلوّية، هذه الزيارة (التي بها تفقّد الله شعبه) التي هي عمل يسوع: إيمان الضابط الوثنيّ ("ما وجدتّ مثل هذا الإِيمان حتى في إسرائيل ") وسخاؤه ("بنى لنا المجمع")، تذمّرات المتشكّكين الذين رفضوا إرادة الله وجعلوا مخطَّطه من أجلهم باطلاً (7: 30)، تعاطف الشعب بعد إحياء ابن أرملة نائين: "ظهر فينا نبيٌّ عظيم وتفقّد الله شعبه) (16:7)، صراخ "أبناء الحكمة" (35:7) الذين تحرّكهم خشية دينيّة فيرون إصبع الله في نشاط يسوع المليء بالشفقة أو الرحمة (13:7). ولكن الشعب يكتشف كلّ ما في عمل يسوع السامي من غنى. وسيقول لنا يسوع إن لقب نبيّ لا يكفي (رج 19:9).
إذا كان مُجْمَل ف 7 يلقي ضوءًا على خبر نائين، إلا أنه يبدو من الممكن أن نحدّد بُعده على ضوء رباطه المباشر مع المقطوعة التي تتحدّث عن الوفد الذي أرسله يوحنا المعمدان (18:7 ي). لقد أَقحم لوقا خبر إحياء ابن الأرملة قبل هذه المقطوعة التي فيها يجيب يسوعُ السابقَ "إن الموتى يقومون " (آ 22) فهيّأ وبرّر مسبَّقًا أقوالاً بعثها يسوع إلى يوحنا. هذا الافتراض تثبّته آ 21: إهتمّ لوقا بتبرير جواب يسوع المتعلّق بالطَرش والصُمّ (كوفوس) الذين يسمعون، والعميانِ الذين يبصرون. وهكذا رأى مبعوثا يوحنا بأعينهما سلسلة من الأعمال العجائبيّة. إختلف متّى (3:11) عن لوقا، فروى شفاء العُميان (مت 27:9- 31) وشفاءَ ممسوسٍ أخرس (مت 32:9- 34). أمّا لوقا، فما أورد بعدُ معجزاتٍ من هذا النوع. أمّا إقامة ابن نائين فتُعفيه من التحدّث عن إقامة الموتى في البيان العامّ في آ 21، وهذا ما يبرّر بما فيه الكفاية جواب يسوع.
وهكذا نُدفَع إلى البحث في هذا الجواب عن مدلول معجزة نائين. إن متّى جعل حدَث إقامة ابنة يائيرس (مت 18:9- 26) الذي يسبق البيان إلى يوحنا المعمدان، يلعب هذا الدور. لهذا، فهو يُلغي الأمر بالصمت (مت 9: 26: "وانتشر الخبر في تلك الأنحاء كلّها"؛ ق مر 5 :43: فأوصاهم يسوع بشدّة أنْ لا يعلم أحدٌ بما حدَث") الذي يحتفظ به لوقا (56:8: "أوصماهما بأن لا يُخبرا أحدًا بما جرى").
تحيَّر المعمدان من أسلوب يسوع في العمل، فتساءل هل هو ديّان نهاية الأزمنة، فأرسل اثنين من تلاميذه. فأجاب يسوع مصوّرًا معجزاته ونشاطه التبشيريّ لدى المساكين " في ألفاظ مأخوذة من أشعيا (61: 1؛ رج 35: 5- 6، 8؛ 19:26؛ 18:29- 19): لم يأتِ الوقت بعد (وقد لا يأتي أبدًا بصورة حصريّة ورئيسيّة) لغضب الله كما انتظره المعمدان وأعلنه للذين يرفضون أن يؤمنوا. ما يتحدّث عنه أشعيا هو ساعة يسوعَ صانعِ المعجزات والمبشّر بالرحمة. أمّا فيما يتعلّق بإقامة الموتى، فالجواب يعود إلى أش 26: 19: "الموتى يقومون، والذي هم في القبور يستيقظون ". وإن لوقا يرى في معجزة نائين تحقيقًا لهذه النبوءة.
وبهذه المعجزة التي ترتبط بجواب يسوع إلى مبعوثي يوحنا، يكمّل لوقا بالرسم والصورة لوحةَ رسالة يسوع المسيحانيّة في مشهد الناصرة التدشينيّ: إن الاستشهاد الطويل من أشعيا حول الذي مُسح واوكلت إليه مهمّة تبشير المساكين، وإعادة النظر إلى العميان والحريّة إلى المظلومين (اش 61: 1- 2= لو 18:4- 19) قد وجدت الآن ما يبرّرها.
هذا الاستشهاد خاصّ بلوقا. وهناك مقطعان آخران خاصّان بالإِنجيل الثالث، يستعيدان تعديدًا مماثلاً يستلهم إشعيا: "المساكين، العُرج، الجدع، العميان " (لو 13:14، 21؛ ق مت 22: 10) هم المميّزون في الملكوت. تهنّئهم التطويبات اللوقاوّية. هم تعساء "الآن " ولكنهم سينالون السعادة.
ب- قيامة شابٍّ من نائين (آ 12- 15)
بعد مقدّمة (آ 11) حدّدت موقع الحدَث وحدّثتنا عن يسوع السائرِ في الطريق مع التلاميذ والجموع الغفيرة، جاءت آ 12- 15 فروَت المعجزة في حدّ ذَاتها.
1- شفقة يسوع
إذا عُدنا إلى الرَسمة الكلاسيكيّة لأخبار المعجزات، نجد في هذه المقطوعة ذِكرًا لواقع الشرّ، ولتدخّل يسوع الفاعل بطريقة سامية، ولردّة الفعل عند المشاهدين. يشير لوقا إلى واقع الشرّ بكلمة واحدة: نحن أمام ميْت وهو وحيد أمّه. إنّه موضوع على مَحمِلٍ جَنائزيّ. إنّهم ذاهبون ليدفنوه، وقد جاوزوا باب المدينة وبدأوا يتوجّهون إلى البريّة.
وُيبرز لوقا الطابعَ المفاجئ والحقيقي للقيامة بشكل يَلفِت النظر: أطلق يسوع أمرًا قصيرًا ولكن قاطعًا، فاستوى المَيْتُ جالسًا. وأخذ يتكلّم. إنَّه حيّ.
ولكن أَغفل الإِنجيل هنا عنصرًا تعوّدنا أن نجده وهو الإِيمان الذي يُطلَب قبل المعجزة. يلمّح إليه النصّ حين يقول إن حاملي النعش توقّفوا ساعةَ لمسَه يسوع. فلا شيء يُبعد انتباه القارئ عن شفقة صانع المعجزات، وقد شدّد عليها الكاتب بلباقة حين رتّب الخبر ترتيبًا يعطي المشهد شَحنةً قويّة من التأثّر والاحساس: نحن أمام امرأة، أرملة، تبكي بكاءً مرًّا، تدفن ابنها، ابنَها الوحيد، الذي لم يزل في ريَعان الشباب. أحسّ يسوع بهذا التأثّر يدخل الى أعماقه.
لا شكّ في أنّ لوقا أراد أن يقدّم هذه المعجزة على أنها التعبير الأكمل عن الشفقة عند يسوع. وإذا قابلنا خبر شفاء المصروع في 37:9- 43 مع ما يوازيه في متّى (14:17 - 18) ومرقس (14:9- 27)، نجد أنّنا مع صلاح وحنان يدهشنا. والعبارة "سلّمه (ردّه) يسوع إلى أبيه " تذكّرنا بما نقرأ في 7: 15 (سلّمه إلى أمّه) التي تستلهم الخبر البيبليّ عن إقامة ابن أرملة صرفت صيدا. والخبر اِلبيبليّ عينُه قد ألهم أيضًا أع 9: 36- 42 (إقامة طابيثة). نحن أمام قالبٍ واحد تَدخل فيه أخبارُ مثل هذه المعجزات.
إنّها المرّةُ الوحيدة التي فيها ينسب لوقا إلى يسوع بصورة مباشرة عاطفةَ الشفقة. ولهذا استنتج بعضُ الشُرّاح أنّه عاد إلى مَرجِعٍ سابق. ولكنّه إن عاد فقد أخذ مُعطَياته على عاتقه. وحين صوّر لوقا بلسان يسوع رحمة (شفقة، حنان) الله على شكل رحمة أبٍ لابنه العائد (15: 20)، فقد أراد أن يبينّ رسالته كمخلّص رحوم تبدو عنايتُه بالخطأة العلامةَ الفاعلة لاهتمام الله بهم.
الفعل المستعمل عن الشفقة هو "سْبَلانخنيزاستاي" النادر الوجود في السبعينية. إنّه يقابل في العِبريّة والعربية "رَحْم (سبلنخنون). وهو يدلّ على عاطفة قوّية، على شعور يُمسك بمجامع الإنسان (كما في مَخاض). إن أَلم الأمّ المسكينة ولَّد في يسوع شعورًا من هذا النوع. ولكن اعتاد لوقا أن يتجنّب الإشارة إلى عواطف يسوع، كما يقول ريغو (رج مت 36:9؛ 14: 14؛ 15: 32؛ 18: 27، 30، 34؛ مر 6: 34؛ 8: 2؛ 9: 22؛ لو 10: 33؛ 15: 20). لهذا فسِياقُ الخبر واستعمال الكلمات يدعُواننا إلى تجاوز المعنى البشريّ المَحض، لنكتشف عَبْرَ حركة إحساس صحيحة، علامةً عن رسالة يسوع المسيحانيّة: إذ جاء يخلّص الإِنسان من شقائه، كشف له هذا الحنان الإِلهيّ الذي تكلّم عنه العهد القديم بصورة مؤثّرة (هو 25:2؛ إر 31: 20؛ مز 8:103- 13؛ أش 7:54).
وشفقة يسوع هذه التي هي علامة فاعلة تدلّ على شفقة الله الذي يدشّن ملكه، تتوجّه إلى الجموع عامّة (مت 9: 36)، ولكن بصورة خاصّة إلى المميّزين في الملكوت أي الفقراء والمرضى والخطأة؛ أمّا الذي نعِمَ بهذه الشفقة هنا فهو أمرأة، كما أنّ التي سيغفر لها فتبدو مثالاً للحبّ هي امرأةٌ أيضًا (36:7- 50؛ رج 2:8). إن لوقا يهتمّ بصورة خاصّة بالنساء اللواتي هنّ موضوعُ رحمة الله. وقد لفتَ نظرَه حنانُ يسوع تجاه كل الذين احتقرهم العالم القديم، كالخطأة والنساء والغرباء، وشدّد على أنّ المرأة هي أيضًا مدعوّة إلى ملكوت الله. إليها يتوجّه خبر الخلاص المُفْرح الذي حمله المسيح إلى الفقراء، كما يتوجّه إلى كلّ الضعفاء في هذا العالم.
2- إقامة مَيْت، علامة إسكاتولوجيّة
لقد دلّنا درسُ السِياق على أنّ لوقا جعل من حدث نائين تبريرًا مسبَّقًا لجواب يسوع إلى يوحنا: "الموتى يقومون " (آ 22). فقيامة هذا الشابّ تشكّل منذ الآن علامة كبرى عن حلول الأزمنة المسيحانيّة وعن هوّية يسوع الذي هو الأتي (آ 19). ولكننا نودّ أن نخطو خُطوةً أخرى.
إنّ لوقا الذي يَروي خبرَيْ إقامة موتى اضطلعَ بهما المسيح (إبن أرملة نائين، وإبنة يائيرس: 8: 40- 56)، بينما لا يروي متى ومرقس إلاّ خبرًا واحدًا (إبنة يائيرس)، كما يورد إقامة طابيثة بيد بطرس (أع 36:9- 43) وإقامة أفثيخس على يد بولس (أع 7:20- 12)، يريد أن يذكّر المسيحيّين كما فعل يوحنا بمناسبة إقامة لعازر، أنّ يسوع هو "القيامة" (يو 11: 25) وأنّ كلّ الذين يؤمنون به سيقومون في اليوم الأخير. ونحن سنسير على خطاه ونصدّقه خصوصًا حين نعرف أنّ بين النصّين الوحيدين اللذين يكلّماننا بوضوح عن قيامة الأبرار، واحدٌ هو خاص بلوقا (14: 14: "تكون مكافأتك في قيامة الصدّيقين") والثاني يتوسع فيه لوقا بشكل مبتكَر. نعود هنا إلى الجدال مع الصادوقيّين (0 27:2- 38). هناك زيادتان رئيسيّتان في آ 36: "ولا يمكن من بعدُ أن يموتوا لأنّهم يكونون مثلَ الملائكة، وأبناءُ الله يكونون أبناءَ القيامة) وآ 38: "وليس هو إلهَ أموات، بل إلهُ أحياء، لأنّ الجميع يَحيَون له ". نحن لا نستحقّ حقًّا اسم "ابن الله" الذي ينسبه العهد القديم إلى الملائكة، إلاّ إذا صرنا بالقيامة شبيهين بالملائكة (آ 36). إنّ الله يبقى دومًا أمينًا للذين خدموه بأمانة مثل الآباء: "الجميع يَحيَون له" (آ 38) حين يؤمنون به على هذه الأرض (رج غل 2: 19) أو يستمرّون بالاتّحاد به عَبْرَ الموت (رج روم 6: 10).
لا شكّ في أنّ إقامة شابّ نائين كانت للوقا ولقرّائه رمزًا ينبئ بالقيامة المجيدة. ولكن هذا لا يُفهَم إلاَّ على ضوء الفصح. وهذا ما يشير إليه لوقا حين يسمّي يسوع "الربّ " (كيريوس، آ 13). فالمسيحيّ وحدَه، والمؤمنُ الذي بعد الفصح، يستطيع أن يفهم أنّ معجزة يسوع هذه على الأرض هي انعكاس مسبَّق للحياة الجديدة التي ستُعطى لنا على صورة المسيح القائم من الموت وبفعله، والتي ستكون أبعدَ ما يكون عن استعادة مؤقّتة لحياة فاسدة.
ومن جهة أخرى، إنّ فعل "إيغايراين " (آ 14: ايغارتاتي: قم) لا يدلّ فقط في اللغة المسيحيّة الأولانيّة (التي أخذ بها لوقا) على قيامة المسيح (رج 1 كور 15: 4؛ أع 3: 15؛ 5: 30؛ 37:13؛ لو 24: 6؛ مر 16: 14) وعلى قيامة المختارين في نهاية الأزمنة (37:20؛ رج 22:7). إنّه ينطبق أيضًا على اليقَظة الروحيّة التي يحقّقها العِماد، وهذا ما يشهد له النشيد الليتورجي القديم الذي نقرأه في أف: 14:5: "استيقظ أيّها النائم وقُم من بين الأموات فيضيءَ لك المسيح " (رج كو 12:2؛ 3: 1). نحن لا نقول إنّ أصل خبر لوقا يعود إلى شعائر العبادة. ولكنّنا نعتقد أنّه أشار في الوسَط اللوقاويّ إلى القيامة العِماديّة التي هي باكورة الحياة الأبديّة.
ج- وبعد حدَث القيامة (آ 16- 17).
نحن نجد ذروة الخبر في آ 16 التي تشير إلى بُعد المعجِزة. وتشكّل آ17 امتدادًا لها. لم يكتفِ يسوع بأن يجفّف دموع أمٍّ ثَكْلى. فلقد فهِمَ كلّ المشاهدين أنّ نبيًّا عطيمًا قام بينهم، وأنّ رأفته تدلّ على رأفة الله. الله قد "افتقد" شعبه (لاؤس، كلمة بيبلية تتوارد في لو وأع) كلّه. أعدّنا لوقا لنفهم منذ المقدّمة نتائج
هذا العمل، فأحاط يسوعَ بتلاميذه وجمعٍ يتوجّه إلى نائين. والتقى جمعان يسيران الواحدُ باتّجاه الآخر، فيلتقيان قرب الباب، ويشاهدان معًا الحدَث: وهكذا نفهم أن تكون فلسطين كلّها مع البلدان المجاورة قد عرَفت بالخبر.
1- إفتقاد الله.
إنّ الخوف المُفْعَم بالاحترام (وهو شكل ملتبس لديانة صريحة) يمسك بالجمع أمام هذا الظهور الإِلهيّ العجيب (إقامة مَيْت) ويدفعه إلى تمجيد الله لأنّه أقام فيهم نبيًّا عظيمًا. لقد عرف الإِزائيون الثلاثة (مر 12:2؛ مت 8:9؛ 15: 31) تمجيد الله بعد المعجزة، وبصورة خاصّة لوقا الذي ينهي معجزة مخلّع كفرناحوم بالقول: "وانطلق إِلى بيته وهو يمجّد الله. فدهشوا جميعًا ومجّدوا الله، وقالوا وقد امتلأوا خوفًا: لقد رأينا خوارق " (25:5- 26؛ رج 16:7؛ 13:13؛ 15:17 ؛ 43:18؛ 47:23). ولكنّنا نتوقّف هنا عند مضمون التمجيد: "قام فينا نبيّ عظيم وافتقد الله شعبه ".
هناك موازاةٌ بين قيام النبيّ وافتقاد الله. لا شكَّ في أنَّ القسم الثاني من العبارة مفتوح على فهم أوسع ممّا في القسم الثاني، إلاّ أنّ لوقا يحاول أن يرينا في كلا القسمين مضمونًا إيجابيٍّا ونقصًا خطيرًا.
إن موضوع افتقاد الله (أو المسيح) يَبرز أربع مرّات عند لوقا، ومرّةً واحدة في سائر العهد الجديد. فهو في التوراة اليونانيّة يرتبط بكلمتي إبسكبتوماي، إبسكوبي اللتين تقابلان "فقد" وغيرها في العبريّة وتعنيان: راقب، لاحظ، سهر على، أحصى، عاقب... نحن في بعض المرّات أمام الدينونة الأخيرة (حك 7:3، 13؛ 1 بط 12:2)، ولكنّنا بالأحرى أمام تدخل إلهيّ مُهمّ في تاريخ إنسان أو شعب. حين "يفتقد" الله على هذه الصورة، فهو يريد أن يسبر قلب "الإِنسان ويمتحنه " (مز 3:17؛ حك 1 :6) أو بالأحرى أن يعاقبه (خر 32: 24؛ أش 10: 3؛ 23: 17؛ إر 6: 15؛ 9: 24؛ 10: 15؛ 11: 22- 23؛ مز 6:59؛ زك 3:10)، أو يخلّصه. في هذا المعنى الأخير، يفتقد الله امرأة ليمنحها ولدًا (تك 21: 1؛ 1 صم 12:2). ويفتقد شخصًا دلّ على أمانته له (إر 15:15؛ أي 12:10؛ مز 106: 4). ولكنه يفتقد بصورة خاصّة شعبه فيخرجه من مصر (تك 24:50؛ خر 16:3؛ 4: 31؛ 19:13). أو يعيدُه من المنفى البابليّ (إر 36)10 حسب السبعينيّة؛ 10:29 حسب العبريّة، حز 34: 11- 12؛ مز 80: 15؛ زك 3:10؛ يه 33:8). وهناك حسنات تاريخية أقلّ أهميّةً تسمّى زيارات الله وافتقاده: مثلاً را 1: 6: "سمعت نُعمي أنّ الرب افتقد شعبه ". هي عبارة قريبة ممّا نقرأهنا في لو 16:7.
ولكنّ لوقا الذي يقتدي بالسبعينيّة اقتداءً بارعًا، كان باستطاعته أن يترك عبارة راعوت. فإنّ 16:7 موجود في النشيد المسيحيّ المتهوّد الذي وضعه في فم زكريا، والد يوحنا المعمدان: "مبارك الربّ إله إسرائيل، لأنّه افتقد شعبه وأجرى لهم فداء" (68:1). نحن أمام الفداء المسيحانيّ الذي بدأ يتحقّق، والذي كان التحرير من مصر وبابلونيا صورةً عنه: فافتقاد الله هو عينُه افتقاد الكوكبِ الشارق (1: 78) أي المسيح.
ولكن هل تعرّف الجمعُ في نائين إلى مسيحانيّة يسوع ورسالته؟ هذا ما نشُكّ فيه حين نلاحظ مسيرة الإِنجيل فنصل إلى تأؤه يسوع وتحسُّره: "لم تعرفي وقت افتقادك " (19: 44) (أي الوقتَ الذي فيه افتقدك الربّ، يا أورشليم).
دعا لوقا قراءه لينضمّوا إلى هذه الجوقة الممجّدة فيعلنوا إيمانهم المسيحيّ، ولكنّه لا يخفي سوء التفاهم الدراماتيكيّ الذي يفصل يسوع عن محيطه، فيما يخصّ صفتَه كنبيّ، وطبيعةَ زيارةِ الله وافتقادِه.
2- يسوع نبيّ ومسيح.
تعرّف الجمع إلى افتقاد الله في ظهور نبيّ يستطيع أن يقيم الميت، كما فعل إيليّا وأليشاع في الماضي. وهكذا دلّ على بداية إيمان، وانفرز عن أصحاب النوايا السيّئة، مثلَ سمعان الفرّيسي الذي رفض أن يسمّي يسوع نبيًّا (39:7). إنّ لوقا يشدّد على الوُجهة الإِيجابيّة لهذا الموقف: لقد أشار بسِمات تدوينيّة مختلفة أنّ الإِقامة التي تمّت في نائين جعلت من يسوع إيليّا الجديد. وشدّد في مكان آخر على وعي يسوع أنّه النبيّ. قال يسوع: "لا بدّ من أن أواصل السير اليومَ وغدًا وما بعدَه، إذ لا يليق أن يهلك نبيٌّ خارج أورشليم " (33:13، عبارة خاصّة بلوقا).
ولكن لا يكفي أن نتوقّف عند هذا الحدّ في نظر لوقا وقرّائه. هو لم يستعمل لفظة النبيّ (رج يو 1: 21) الذي يدلّ على المسيح، على موسى الجديد الذي أنبأ به تث 15:18- 18، ولكنّه يشير على ما يبدو، إلى هذه الكرامة فيقول نبيّ "عظيم ". ولكنّ الجمع الذي ينظر إلى المسيح نِظرةً وطنيّة وأرضيّة، لا يستطيع أن يرتفع إلى هذا المستوى. فهو يَحسِبُ يسوعَ يوحنا أو إيليّا أو نبيُّا قام من بين الأموات (7:9- 8؛ 9: 19): ليس افتقادُ الله له بَعدُ "افتقاد الكوكب المُشرق " (78:1). فالتلاميذ وحدَهم سيرَون قريبًا (في 7: 11 يميز لوقا بين التلاميذ والجمع) في يسوع المسيحَ، وسيعلنه بطرسُ كذلك باسم الجميع (9: 20): "أنت مسيح الله ".
3- يسوع الخادم والربّ.
إنّ إيمان التلاميذ السابقَ للفصح، الذي أعلنه بطرس، قد صوّره لنا لوقا في خبر تلميذَي عمَّاوس اللذين حلَما بكآبة بهذا "النبيّ المقتدر في الفعل والقول " والذي أسلمه رؤساء الكهنة إلى الموت (24: 19). والموازاة مع أع 7: 22 تجعلنا نفسّر هذه العبارة بالمعنى المسيحانيّ ونطبّق على يسوع نص تث 18 حول النبيّ الشبيه بموسى.
ولكن لا يكفي أن نرى في يسوع موسى الجديد والمحرّر المسيحانيّ والإِسكاتولوجيّ. يبقى علينا أن ننفتح على مخطّط الله المتعلّق بالتحرير الموعود به، وعلى الطريقة الغريبة التي بها يتمّ يسوع هذا التحرير. وهذا ما كان. فحالاً، بعد إعلان بطرس لمسيحانيّة يسوع، كشف يسوع لأخصّائه ضَرورة الصليب والقيامة: "يجب على ابن الإِنسان أن يتألمّ ويُحكم عليه بالموت ويقوم (22:9؛ رج 18: 31- 33). فهذا هو مخطّط الله كما رسمته الأقوال الإلهيّة حول نبيّ الله وعبده. فإن رأينا في يسوع، شأنُنا شأن جمعِ نائين، نبيًا يصنع المعجزات مثل إيليّا، بقِينا على المستوى السطحيّ للسرّ. وإنّ أعلنّا مع بطرس والتلاميذ أنّه "مسيح الله "، نكون قد أعلنّا إيماننا ولكن دون أن ندرك طرُق الله كلَّ الإِدراك. فعلى التلاميذ بعد هذا أن يقبلوا بشريعة الفشل والاستشهاد الملتصقة بكل مُهمّة نبويّة (4: 24؛ 33:13- 34). وبصورة أعمق، عليهم أن يكتشفوا في يسوع العبدَ المتألّم والممجّد. ولكن هذا لن يصبح ممكنًا بالنسبة إليهم إلاّ على ضوء الفصح والقيامة.
غير أنّ لوقا يلقي مسبَّقًا هذا النور الفصحيّ على حادث نائين وعلى إنجيله كلّه. فالخبر الذي نقرأ (آ 13) هو الأوّل في سلسلة من النصوص اللوقاويّة، وهو يسمّي يسوع "الربّ " (كيريوس، يهوه) وهو اسم الله في السبعينيّة، وقد طبّقته الكنيسة الأولى (رج مثلا أع 2: 36) على المسيح القائم من الموت فدلّت على سلطانه الشامل الملتصق بوضعه الالهيّ. فاستعمال لقب "ربّ" هو في مكانه، في هذا السياق . الذي يبدو فيه يسوعُ ملتحفًا بسلطة سامية على الحياة والموت، وموضوعَ إيمانِ الكنيسة وعبادتها (فل 2: 10).
إنّ النبيّ العظيم الذي تغلّب على الموت في نائين، هو الذي سيتغلّب على موته الشخصيّ بقيامته. ستتعرّف إليه اليهوديّة (آ 17، أي فلسطين كلّها رج 4: 44. سينتشر الخبر في الجليل وأبعدَ من الجليل) والتلاميذ الحقيقيّون، ولا سيّما تلميذَي عمّاوس اللذَين تذكّرنا مسيرتهما الروحيّة بمسيرة عدد من النفوس الطيّبة التي ستصل إلى اكتشاف يسوع بصورة سامية. ظنّ كليوبا ورفيقه أنّ يسوع هو "نبيّ قدير في القول والعمل " (24: 19). وأمِلا أنّه هو الذي "يخلّص إسرائيل " (آ 21). إنّه المسيح الوطنيّ والمنتقم، موسى الجديد الشبيه بصاحب الخوارق المعارضة لمصر. ولكنّ موته المذلّ جعلهما يتحيّران. فهذا المجهول الذي يرافقهما في الطريق يشرح لهما الكتب ويدلّهما على أنّه "يجب على المسيح أن يكابد هذه الآلام ليدخل في مجده " (آ 26).
إنّ دراما الجلجلة تُتمّ بصورة خاصّة نبوءَة عبد الله الذي حدّثنا عنه أشعيا فدلّ على أنّ استشهاد العبد المتألّم وصل به إلى الرفعة والمجد (أش 13:52 حسب السبعينيّة؛ أع 13:3). فهذا الدرسُ الإلهيّ حول تأويل الكتاب المقدّس قد أشعل، قلب التليمذين، فعرفا المعلّم فجأة عند كسر الخبز. ولكنّ يسوع اختفى في تلك الساعة. حينئذٍ عادا بسرعة إلى الأحد عشر الذين أعلنوا لهما: القد قام الربّ حقًّا وظهر لسمعان " (آ 34).
إنّ الكنيسة تعرف الآن أن النبيّ الجليلي العظيم هو عبد الله الذي حرّر العالم من خطاياه. وهي تعرف أنّ افتقاد الله السامي هو فِعلةُ ابن الله المتجسّد وفِعلتُه الفدائيِّة، وأنّ هذا الافتقاد يتواصل حتّى مجيء الربّ الثاني بالعمل المحيي الذي يقوم به الربّ المنبعث. إنَّ الكنيسة تفكّر بكل هذا حين تجمع في تمجيد واحد أهل نائين وفلسطين والمسيحيّين المجتمعين اليوم من أجل كسر الخبز في القداس الالهي.