القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل السابع والثلاثون: شفاء غلام الضابط الرومانيّ
 

الفصل السابع والثلاثون
شفاء غلام الضابط الرومانيّ
7: 1-10

ان المعجزة التي يوردها لوقا في هذا الإِنجيل تقدّم عدة سِمات مبتكَرة: يصنع يسوع المعجزة عن بُعد بناءً على طلب ضابط وثنيّ، ويُقِر بإيمانه الخارق: "لم أجد مثل هذا الإِيمان حتّى في إسرائيل ".
سنجد هذه السِمات عينَها مع بعض الاختلافات في خبرين إنجيليين آخرين: (مت 8: 5- 13، يو 4: 46- 54). يبدو أنّنا أمام واقع واحد أورده الإنجيليّون الثلاثة انطلاقًا من تقليد تنوّع في كرازة الكنيسة.
سندرس أوّلاً خبر لوقا، ثم نقابله مع متّى ويوحنا. وهذا سيتيح لنا في النهاية أن نلاحظ كيف فسّر التقليد معجزة يسوع.

أ- خبر لوقا (7: 1-10)
إن هذا الخبر يلي مباشرةً خُطبة التطويبات (20:6- 49)، كما نقرأ في المقدّمة: "ولمّا فرغ من هذا الكلام " (آ 1). كان يسوع يحدّث تلاميذه بحضور الجمع (17:6- 20). ولمّا انتهى دخل إلى كفرناحوم التي جعلها منطلق رسالته.
وقدّم لوقا حالاً مُحاوِر يسوع الرئيسيّ في هذا الخبر (آ 2). إنه قائد مئة، إنه ضابط مهمّ بالنسبة إلى القرية الصغيرة التي يقيم فيها (آ 6، 10). وهو يرتبط، حسب العُرف، بهيرودس أنيتيباس حاكِم المِنطقة. لا شكّ في أنه رئيس مخفر في هذه القرية القريبة من الحدود بين تترارخية (مقاطعة) أنتيباس وتترارخية أخيه فيلبس. في هذه الحال، قد لا يكون هذا الضابط رومانيًّا. ولكن مهما يكن من أمر، فليس يهوديًّا (آ 5، 9). وكان لهذا الضابط غلام، عبد (دولوس في اليونانية) عزيزٌ على قلبه. كان هذا العبد مريضًا، بل أشرف على الموت.
قَلِق الضابط، ففكّر بالمعجزات التي صنعها يسوع في كفرناحوم (37:4- 41) وفي كل المِنطَقة (14:4؛ 12:5- 16؛ 6:6- 11، 17- 19) (آ 3). فهمَّ بأن يطلب من المعلّم أن يأتي وينتزع غلامه من الموت، لأنه ظنّ أن على يسوع أن يأتي قرب المريض لكي يشفيه، كما فعل حتى الآن؛ ولكن أحسّ بما في طلبه من مخاطرة، لأن اليهوديّ لا يدخل إلى بيت وثنيّ (رج أع 28:10؛ 3:11). فلم يتجرّأ أن يأتي شخصيًّا إلى يسوع (آ 7). فاعتبر أنه من الأفضل أن يرسل إليه طلبه بواسطة وفد من القرية: "اوفد إليه بعض شيوخ اليهود". إن المقابلة بين خبر لوقا وخبرَي متّى ويوحنّا ستبينّ لنا أن لوقا تفرّ د بالإِشارة إلى صعوبة العلاقات بين اليهود والوثنيّين، وهذه الصعوبة تحتلّ مكانةً بارزة في سفر الأعمال.
قَبِل الشيوخ بالقيام بالمُهمّة التي أوكلهم بها الضابط (آ 4) لأنهم يجلّونه ويعتبرونه. ذهبوا إلى يسوع وعرضوا عليه طلب الوثنيّ باهتمام وغيرة: "إنه يستحقّ أن تصنع له هذا. هو صديق اليهود" (آ 5)، وقد بنى لهم مجمعًا كما فعل وثنيّون آخرون في فريجية ومصر، وغيرِهما. قد يكون هذا الضابط من "خائفي الله " شأنُه شأنُ الضابط كورنيليوس الذي رسم لنا لوقا صورتَه في أع 10: 1-2.
تقبّل يسوع بكل بساطة الطلب الذي قدّمه الشيوخ، وانطلق حالاً معهم (آ 6). ولكن ما إن اقترب الضابط حتى غيّر الضابط رأيه. إنه يريد أن يُعفي يسوع من موقف يعارض عاداتِ اليهود. فأرسل الآن أصدقاء يُبقونه بعيدًا عن بيت وثنيّ، وبالتالي غير طاهر. وحمل هؤلاء الأصدقاء كلام الضابط: إنه يحيي يسوع "الرب ". تعنى هَذه اللفظة في فم الضابط: السيّد. ولكن في فم كنيسة لوقا، فهي تعنى الربَّ الله الذي هو سيّد الحياة والموت.
ويدعو الضابط يسوع أن لا يُتعب نفسه وبأتي. فهو ليس بمستحقّ أن يستقبل يسوع تحت سقفه، مع أنه طلب منه في البداية أن يأتي إلى بيته وينقذ غلامه (آ 3). إن كان لم يتجرّأ أن يذهب إلى يسوع، فلأنه غير مستحقّ (آ 7) وهذه سِمَةٌ خاصّة بلوقا الذي يتفرّد فيبينّ كيف أن الوثنيّ يتعاطى مع يسوع عَبْرَ وُسَطاء. وأخيرًا، ألحّ الضابط على يسوع بأن يفعل بكلمته وحدَها، فهي ستكون فاعلة من أجل غلامه (يستعمل لوقا هنا كلمة "بايس " مثل مت 9:8، لا دولوس). ويشرح يقينَه بمقابلة مع وظيفته كضابط (آ 8): هو خاضع لسلطان أعلى منه، ومع ذلك تكون كلمته فاعلةً حين يأمر الخاضعين له. ماذا يكون من أمر يسوع وهو يمتلك سلطانًا ساميًا (32:4، 36)! إن كلمته تستطيع أن تفعل عن بعد.
إن كلمات الضابط شخصيّة، فنحسّ وكأن الوُسَطاء لم يتلفّظوا بها، بل هو بنفسه قد تلفّظ بها. وهذا ما نجده عند متّى الذي يجعلها على شفتي الضابط.
فامتلأ يسوع إعجابًا أمام هذا البلاغ (آ 9): "اعجِب جدًّا". لا نجد هذه الملاحظة إلا عند لوقا، ولا يورِد أيُّ مقطع آخر من الأناجيل إيرادًا واضحًا مثلَ ردّة الفعل هذه عند المعلّم. إلا أننا سنجد عبارة شبيهة أمام ثقة الكنعانيّة بيسوع في مت 28:15: "أيتها المرأة، عظيمٌ إيمانك "!
أمام موقف الضابط المتأكّد من قدرة كلمة يسوع، رأى يسوع إيمانًا حقيقيًّا. فالتفت إلى جميع اليهود الذين يتبعونه (وهذه سِمةٌ خاصّة بلوقا) وقابل إيمان الوثنيّ بالإِيمان الذي وجده حتى الآن: لم يجد مثل هذا الإِيمان العميق حتى في إسرائيل. لا تبدو العبارة قاسيةً كما في مت 8: 11 ("لم أجد عند أحد في إسرائيل مثل هذا الإِيمان ")، لأنها تعتبر إسرائيل فوق سائر الشعوب. إنها تدلّ على أنّ الإِنجيل بُشِّر به خارج إسرائيل. وهكذا يفكّر لوقا بوضع عصره يوم وصل كلام يسوع إلى اليهود وإلى الوثنيّين.
إنتظرنا هنا جوابًا من يسوع على الطلب الذي وجّه إليه، لأن أخبار المعجزات تتضمّن عادة "كلمة شفاء" (4: 35 : "أُخرج من الرجل . رج 13:5، 24؛ 6: 10؛ 14:7؛ 54:8؛ 12:13؛ 14:17؛ 42:18)، وهذا واضح في مت 13:8: "ليكن لك بحسب إيمانك ". وشُفي الغلام من تلك الساعة. ولكن عند لوقا، لا الضابط هو هنا ولا غلامُه ليتلقّيا جوابَ المعلّم. ودوّن لوقا بطريقته الخاصّة عودة المرسَلين (الموفَدين) (آ 10) الذين هم ولا شكّ أصدقاء الضابط (آ 6) لا الشيوخ. ما يَهمّ لوقا أن يقوله هو أن الغلام استعاد الصحّة.
ما يميّز هذا الخبر هو أنه لا يهتمّ كثيرًا بالشفاء الذي يشير إليه بكلمة في آ 10: "تعافى". بل هو يهتمّ بموقف الوثنيّ: استعدادته بالنسبة إلى اليهود (آ 3- 5)، شعوره بعدم استحقاق فلا يسمَحُ لنفسه أن يلتقي يسوع (آ 6- 7 أ)، إقراره بسلطان المعلّم (آ 7 ب- 8)، إيمانه الحقيقيّ الذي وجده يسوع (آ 9). من الواضح أن لوقا أراد أن يورد لنا خبر أعجوبة، بل مثلَ إيمان وجده عند هذا الضابط الوثنيّ.

ب- مقابلة بين خبر لوقا وخبرَي متّى ويوحنّا
من المفيد أن نقابل خبر لوقا مع خبرَي متّى ويوحنّا، فندرك ثبات التقليد وإصالة كلّ من الإِنجيليّين الثلاثة.

1- مقابلة مع مت 8: 5- 13
أوّلاً: نجد في خبر متّى أمورًا مشتركة مع خبر لوقا
فالقرائن هي هي عند الإِنجيليّين: يَرد الخبر في لوقا حالاً بعد خطبة التطويبات. وفي متّى، لا يفصله عن التطويبات إلاّ شفاء الأبرص (2:8- 4) الذي أورده لوقا في 5: 12- 16.
بما أن متّى جمع في ف 8- 9 عددًا من المعجزات، نستطيع القول إنه أقحمَ هنا شفاء الأبرص، ساعةَ كان المَعينُ المشترك بين لوقا ومتى يجعل خبر الضابط حالاً بعد خطبة التطويبات.
ويلتقي الإِنجيليّان عند المعطيات الأساسيّة عينِها: دخول يسوع الى كفرناحوم؛ طلب إليه ضابط وثنيّ أن يشفي واحدًا من أهل بيته. واعتبر نفسه غير مستحقّ أن يستقبل المعلّم تحت سقفه، فطلب إليه أن يعمل بواسطة كلمته وحدَها، لأنه يمتلك كلّ سلطان. ودَهِشَ يسوع أو تعجّب (تومازو) من موقف هذا الوثنيّ، وأعلن أنه لم يجد مثل هذا الإِيمان في إسرائيل. وشُفي الغلام حالاً عن بعد. نجد أن متى ولوقا ركّزا الخبر كلّه على موقف الوثنيّ لا على خبر المعجزة.
والإِتصالات الأدبيّة واضحة جدًّا بين مت 8: 5، 8- 10 ولو 7: 1 ب، 6 ب، 7 ب، 8-9.

ثانيًا: ولكن هناك اختلافات كبيرة بين خبرَي متّى ولوقا
كلاهما يوردان الحدَث في سياق خطبة التطويبات، ولكنّهما لا يعطيان المعنى الواحد لهذه الخُطَبة. فعند لوقا لا يتكلّم يسوع عن الشريعة. أمّا متّى فيقدّم يسوع كذلك الذي جاء ليكمّل الشريعة (مت 17:5- 19). وبعد هذا يتوسّع في التعارض بين البرّ الجديد الذي سيحدّده (مت 5: 20- 48). لهذا سيتّخذ خبر الضابط عند متّى فارقًا جديدًا لأنه يطرح مسألة العلاقات بين اليهود والوثنيّين، ويحصرها حصرًا بالشريعة كما فهمها العالم اليهوديّ في أيّامه. فأمام الضابط الوثنيّ، أبرز يسوع أوّلاً الشريعة (8: 17، كما سنشرحها)، ثم تجاوزها فاستجاب الصلاة الموجّهة إليه. في الخبر السابق، خبرِ الأبرص، دلّ مت 3:8 و4 على أنّ يسوع يتمّ الشريعة ("إمضِ وأرِ نفسك للكهنة") ويتجاوزها ("مدّ يسوع يده ولمسه ").
عند متّى، المريض هو غلام (بايس) الضابط (مت 6:8، 8، 13)، وهذا يعني خادمَه أو ابنَه. عند لوقا، إنه عبد (دولوس، 2:7، 3، 10)، ولكنّه سيصبح غلامًا في فم يسوع (7:7؛ رج مت 8:8). قد نكون هنا أمام اللفظة التي وجدها الإِنجيليّان في المرجع اليونانيّ.
في نظر لوقا (2:7)، العبد هو مريض وقد أشرف على الموت. وفي مت 6:8، هو يكابد عذابًا قاسيًا لأنه مُقْعد.
حسب متّى، جاء الضابط شخصيًّا إلى يسوع. وحسب لوقا، هو لا يلتقيه؛ بل أرسل إليه على التوالِي "شيوخ اليهود" (3:7)، ثم أصدقاء (7: 6). شعرنا في معرض تفسيرنا أنه نتج عن تدخّل هؤلاء الوسطاء عدّة صعوبات في خبر لوقا: فطلب آ 6 يتوافق بصعوبة مم طلب آ 3. وبلاغ آ 6- 8 يُفهَم فهمًا أفضل إنْ نحن وضعناه على شفتي الضابط، كما في مت 8: 8- 9، لا على شفتَي الموفَدين. وسنرى فيما بعد، أنّ لوقا لم يورد "كلمة الشفاء" كما في مت 13:8، لأنّ الضابط لم يكن بقربه، بل بعيدًا عنه. إن هذه السِمات المختلفة تدفعنا إلى القول أنّ وفدَيْ الوسطاء لم ينتميا إلى الشكل الأصليّ للخبر.
في مت 7:8 يعتبر عدد من الشُرّاح أن يسوع دهش أوّلاً لطلب الضابط، بل رذلَ طلبه (كما في مت 26:15: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويُلقَى لصغار الكلاب "؛ رج مر 27:7). ولهذا ترجموا: "هل أذهب أنا وأشفيه "؟ وهكذا أبرز متى الصعوبة التي شعر بها يسوع ليدخل إلى بيت الضابط، وهيّأ بالتالي جواب الضابط في آ 08 أمّا عند لوقا، فيسوع قبِل حالاَ بأن يذهب إلى بيت الوثنيّ. هذا يتجاوب مع المثال الرسوليّ الذي أعلنه الإِنجيل الثالث.
إن مت 8:8- 9 لا يختلف عن لو 6:7 ب- 8 إلا بسِمات خاصّة بلوقا (إرسال الأصدقاء في 6:7 ب، شرح غياب الضابط في 7:7 أ)، وببعض اختلافات تدوينيّة وضعها لوقا بيده، لا مجال لذكرها هنا.
إن مت 10:8 هو أقدم من لو 9:7 على ما يبدو. فقد قام الإِنجيليّ الثالث ببعض تصحيحات أدبيّة، وخصوصًا بتصحيحين لهما مدلولهما: حينَ أعطى مفعولاً (اوتون، به) لفعل "تومازو" فقد جعل المعنى كما يلي: أُعجب يسوع بالضابط. أمّا عند متّى فالفعل من دون مفعول يعني: أن يسوع دَهِش، تعجّب. تجنّب لوقا الحديث عن دهشة يسوع وأبرز جمالَ إيمان الوثنيّ. والحكم على إيمان إسرائيل قد خُفّف عند لوقا الذي يشير إلى أن الإِنجيل بُشّر به لبني إسرائيل كما للوثنيّين (هذا ما قلناه في التفسير).
غير أنّ قول مت 8: 11- 12 ("يأتون من المشرق والمغرب... ") حول مجيء الوثنيّين ورَذْل إسرائيل الذي اعتَبر نفسَه وارث الملكوت، لا يرِد عند لوقا في خبر الضابط، بل في موضع آخر (28:13- 29) وبشكل مختلف. فإن انتمى هذا القول في الأصل إلى هذا الخبر، فكيف فصلَه لوقا عنه مع أنه يعبّر عن فكرته في خطّ موقف الضابط الذي يصوّر مسبَّقًا مجيء الوثنيّين إلى الإِنجيل؟ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، إن بداية مت 13:8 (حيث نقرأ: "ثم قال يسوع "، مع أنه كان يتكلّم، رج 8: 10 و13) تبدو بشكل لُحمة تدوينيّة. ولهذا اعتبر معظم الشُرّاح أن متّى أقحمَ هاتين الآيتين في خبر الضابط (جاك دوبون في التطويبات).
إن مت 13:8 يقدّم جواب يسوع على طلب الضابط. غابت هذه السِمة عند لوقا، لأنّ الضابط ليس هنا. ومن جهة ثانية، أراد لوقا أن يختم خبره فدوّن آ 10 التي تتحدّث عن عودة الوفد الذي أرسله الضابط إلى يسوع.

ثالثًا: كيف فسّر الشرّاح الإختلافات بين متّى ولوقا؟
- ظنّ بعضهم (مانسون) أن المَعين المشترك بين متّى ولوقا قدّم لهما فقط الحِوار حيث يبدو نصّاهما قريبَين الواحدُ من الآخر (مت 8: 8- 10؛ لو 6:7 ب- 9). ولكن يبدو من الصعب أن نقبل أن التقليد احتفظ بهذا الحوار دون إطار إخباريّ يتلقّاه، وذُروة تُبرز معناه.
- واعتبر آخرون (هانشن) أن متى ولوقا ارتبطا بمراجع (أو نسخات) مختلفة. هذا الإِفتراض يبرز اختلافهما، ولكنه لا يشرح التشابه العجيب بين الإِِنجيليَّين في الحوار بين الضابط ويسوع.
- وقالت فئة ثالثة (شورمان) إن متّى ولوقا تبعا مَعينًا واحدًا، حافظ عليه لوقا. هذا يصحّ بالنسبة إلى زيادة 8: 11- 12. ولكن إذا نظرنا بصورة إجماليّة وجدنا أن خبر متّى يبدو أكثر تماسُكًا من خبر لوقا.
- وأخيرًا، أعلن آخرون (كنوكس) أن متى ولوقا استقيا من معين واحد، ويعتبر أن لوقا أعادَ صياغة النصّ الأوّلاني. من جهة، يبدو نصّ لوقا أقلّ تماسُكًا من نصّ متّى؛ ومن جهة ثانية، إن السِمات الخاصّة بخبر لوقا تتوافق وخبرتَه واهتماماتِه: إنه يعرف الصعوبات التي يحرّكها لقاء اليهود مع الوثنيّين (رج أع 10: 1- 11، 18). وإنه التقى وثنييّنن أظهروا سخاء تجاه اليهود (كورنيليوس في أع 2:10)، كما التقى يهودًا دافعوا عن قضيّة الوثنيّين أمام أبناء دينهم (بولس وبرنابا في أع 2:15- 4، 12). فهل نَدهَش إن هو انطلق من زمن الكنيسة فقدّم لنا خبرًا من حياة يسوع؟ نحن اليوم لا نكتب التاريخ بهذا الشكل، ولكن دراسة لوقا تدلّ على أنه كان متحرّرًا بالنسبة إلى مراجعه، فلم يكتفِ بتقديم تقرير مفصّل كما يفعل الصِحافيّ، بل أبرز لقرّائه لاهوتاً قرأ فيه أعمال يسوع وأقواله في حياة الكنيسة (4: 16- 30؛ 5: 1- 11؛ 28:9- 36؛ 19: 11- 26، 47- 48؛ أع 2: 1ي؛ 10: 1- 11، 18؛ 15: 1- 35).

2- مقابلة مع يو 46:4- 54
لا شكّ في أن يوحنّا يستخرج خبره من المرجع الذي أخذ منه خبر معجزة قانا (ق يو 2: 11: "تلك هي أولى عجائب يسوع " و 54:4: "تلك هي الآية الثانية التي صنعها يسوع ").

أوّلا: يلتقي يوحنّا مع متّى ولوقا في عدّة نقاط
تتّفق الأخبار الثلاثة على عدّة مُعطَيات مميَّزة: طلب "ضابط " من يسوع (يو 49:4: كيريي: مت 8:8= لو 6:7) أن يشفي له أحد أعضاء بيته (يو 51:4 يسميه "بايس " مثل مت 6:8 ،8 ،13 ولو 7:7) المريض في كفرناحوم. تيقّن من فاعليّة يسوع فشُفي المريض عن بعد. ويهتمّ الإِنجيليّون الثلاثة بإيمان الطالب أكثر من اهتمامهم بتصوير الأعجوبة.
نشير هنا إلى أن متّى ولوقا يتحدّثان عن ضابط في الجيش؛ أمّا يوحنّا فعن ضابط ملكيّ (باسيليكوس). تُستعمل اللفظة اليونانيّة لأقرباء الملك، كما تُستعمل لموظّفيه المدنيّين والعسكريّين. ويطبّقها فلافيوس يوسيفوس على الموظّفين المدنيّين، بل على جنود الملك. إذن نحن عند يوحنّا أمام موظّف ملكيّ، وربما عسكريّ. يوردُ متّى ويوحنا نفسَ اللقاء الشخصيّ بين الضابط ويسوع، وإطلاق المعلّم للضابط: الإعلان بشفاء المريض (يو 4: 50؛ مت 13:8). العبارة: في أيّة ساعة، للإستعلام عن الوقت الذي فيه شفي الغلام (يو 53:4؛ مت 13:8). ويمكننا أيضًا أن نقرّب بين اعتراض في البداية في يو 48:4 ("أوَلاَ تؤمنون ما لم تعاينوا العجائب والآيات "؟) وهتافه في مت 8: 7 كما قلنا أعلاه: "هل أذهب أنا وأشفيه "؟
والغلام هو في متّى ابن الضابط كما هو في يوحنّا (هيوس، 46:4، 47، 50، 53، رج بايس في 4: 49).
أمّا نقاط الإِلتقاء بين لوقا ويوحنّا فهي قليلة وبسيطة. المريض أشرف على الموت (يو 47:4 ولو 2:7). ثم هناك بعض مفردات لا يطبّقها الإِنجيليّان على نفس الأشخاص (يو 47:4 ولو 3:7؛ يو 4: 50- 51 ولو 6:7).

ثانيًا: يبتعد يوحنّا عن متّى ولوقا في عدّة نقاط
يختلف خبر يوحنا عن المَعين المشترك بين متّى ولوقا. فالطالب هو في نظره موظّف (ليس من الضروري أن يكون عسكريًّا). ولا شيء يشير أنه وثنيّ. التقى يسوع في قانا (46:4) لا في كفرناحوم، وتوسّل إليه من أجل "ابنه ". لامه يسوع بقساوة لأنه يتطلّب آية قبل أن يؤمن (آ 48). لا يشير الموظّف إلى أنه لا يستحقّ، ولكنّه يشدّد على يسوع لكي يأتي. هو لا يدعو المعلّم إلى أن يشفي له ابنه بكلمة واحدة. ثم إن يسوع لا يمتدح ايمانه، بل يطلب منه هذا الإِيمان قبل أن يطلقه إلى بيته. حين أطاع الوالد البائس بدأ يؤمن (آ 50). عاد إلى البيت فعلم وهو في الطريق بشفاء ابنه (آ 51). حينئذ بلغ إلى ملء الإِيمان مع كل أهل بيته (آ 53).
أمّا الفرق البارز بين يوحنّا ومتّى ففي مت 8: 11- 12. ونلاحظ أيضًا أن "بايس " هو مُقْعد (مخلع) في مت 6:8 . أمّا يوحنا فلا يحدّد مرضه، شأنُه شأنُ لو 2:7.
ولكن الإِختلافات عديدة بين يوحنّا ولوقا: عند لوقا، المريض هو ابن الضابط، وعند لوقا هو عبدُه. لا يتحدّث يوحنّا عن وفد الشيوخ ثم الأصدقاء إلى يسوع. وأخيرًا، إن لوقا لا يعلن شفاء المريض حين يُطلَق الضابط، كما في متّى ويوحنّا.

ثالثًا: تفسير هذه المُعطَيات
شدّد التأويل القديم على الإختلافات بين يوحنّا والإزائيّين، واستنتج أن ما يرويه يوحنّا غير ما يرويه متّى ولوقا. ولكن هذا الرأي قد تعدّاه الزمن.
والشُرَّاح المعاصرون يتوافقون على القول إن الإِنجيليّين الثلاثة يقدّمون نفس الواقع حسب تقليد أخذ به الإِِزائيّان كما أخذ به يوحنا.

ج- قراءات ثلاثٌ للحدَث.
إذن، تُقدّم الأناجيل ثلاثَ قراءات مختلفة لحدَث ضابط كفرناحوم. وسنحاول أن نحدّد المعنى الذي أعطاه كلّ إنجيليّ لهذا الحدث في إطار كتابه وتفكيره.
قدّم متّى في الخُطبة على الجبل أمانَةَ يسوع للشريعة (مت 5: 17- 19) وسلطته الجديدة عليها (مت 5: 20- 48). ثمّ أورد سلسلة من المعجزات دلّت على قدرة المعلّم. وتقف المعجزتان الأولَيان أمام الشريعة: لا يخاف يسوع أن يلمس الأبرص (مت 3:8)، رغم أن الشريعة تعتبره نجسًا (لا 13: 45- 46). ثم يرسله إلى الكاهن ليتبينّ شفاءه فيسير حسب الشريعة (لا 2:14- 3). ويتعجّب يسوع أيضًا من الضابط الذي يطلب منه أن يدخل إلى بيته النجِس (لأنه بيت وثنيّ) (مت 7:8)، ثم يتعرّف إلى إيمان هذا الوثنيّ، بل يعلن أن هذا الإِيمان هو أعظم ما وجده في إسرائيل. ويتنبّأ بدخول الوثنيّين إلى ملكوت الله ونبذ إسرائيل (مت 8: 11- 12). إذن، يبدو الضابط كالسابق والممثّل لكل الوثنيّين. إن متّى ينظر إلى وضع المسيحيّة في عصره: رفض إسرائيل الرسميّ الانجيل، فانتشر الإِنجيل في العالم الوثنيّ. وأنهى خبره مؤسّسًا شفاء المريض على إيمان الضابط.
ما يهمّ لوقا في هذا الخبر ليس الشريعة التي لم يتكلّم عنها في الخطبة السابقة بل لقاء وثنيّ مع يسوع. هو يعرف الصعوبة التي يلاقيها وثنيّ ليستقبله يهوديّ. ويبيّن أيضًا في سفر الأعمال أن الإِنجيل وصل إلى الوثنيّين عبر إسرائيل: فالمبشّرون الأوّلون كانوا كلّهم يهودًا، وقد بدأوا تبشيرهم في المجامع اليهوديّة حتى في المدن الوثنيّة. هذا ما يفكّر به لوقا حين يرينا "شيوخ اليهود" يتدخّلون لدى يسوع من أجل وثنيّ. وإن شدّد على طيبة الضابط تجاه اليهود (7: 5) فهو لا يريد أن يبينّ حسنات الوثنيّ بقدر ما يشير إلى العلاقات الطيّبة بين اليهود والوثنيّين خلال حياة الكنيسة الأولى (صورة مختلفة عمّا عند بولس الرسول، رج أع 11: 22- 24، 27- 30؛ 15: 1- 35؛ 17:21- 26). فمِحْور الخبر عنده كما عند متّى هو الحوارُ الذي فيه يتفجّر إيمان الضابط. ففي نظره كما في نظر بولس، يصل الإِنسان إلى الخلاص بالإيمان (12:8، 50؛ أع 9:14؛ 16: 31). وأخيرًا، حين أعلن يسوع أن إيمان الوثنيّ أعظمُ من الإِيمان الذي وجده في إسرائيل، فهو يفكّر (مثل متى) بتقبّل العالم الوثني للإِنجيل. ولكن لوقا لا يقسو على إسرائيل مثل متّى، لأنه ليس منخرطًا كالإِنجيليّ الأوّل في الحرب ضدّ المجمع. كما أنّه بيّن مرارًا في سفر الأعمال يهودًا يؤمنون بالإِنجيل.
ويحتفظ يوحنا في خبره بعدّة سِماتٍ نجدها عند متّى ولوقا، غير أنّه يعطيها اتّجاهًا مختلفًا. إن ركّز الخبر على إيمان الضابط (48:4- 50، 53)، فهو لا يعارض بين إيمان الوثنيّين وإيمان بني إسرائيل. فالموظف الملكيّ يبدو يهوديُّا. ويسوع يوجّه كلامه إلى إسرائيل أكثر منه إلى أب قلِق فيَلُومه لأنّه يتطلّب الآيات والمعجزات لكي يؤمن (آ 48).
بالإِضافة إلى ذلك، يتحدّث متّى ولوقا مطوَّلاً عن إيمان الضابط قبل جواب يسوع وشفاء الغلام (بايس). أمّا يوحنّا فلا يتكلّم عن إيمانه إلاَّ بعد كلمة يسوع (آ 50). فيدلّ على أن آية يسوع تقود الأب إلى الإِيمان الكامل. أخيرًا، يلاحظ يوحنا ثلاث مرّات أننا أمام طلب بأن "يحيا" (آ 50، 51، 53) الولد: هذا هو المكان الوحيد الذي لا يدل فيه هذا الفعل على الحياة الأبدية. إذن، يبدو من المعقول أنّه يريد أن يقدّم الموضوع المركزيّ للإِيمان بيسوع، ينبوعِ الحياة الأبديّة. فمسألة العلاقات بين اليهود والوثنيّين هي مهمّة جدًّا في نظر متّى ولوقا، وثانويةٌ في نظر يوحنا. لقد صارت مسألة من الماضي في أيّامه. أمّا المسألة الأولى في نهاية القرن الأوّل فهي مسألة الإِيمان.
أصغى الإِنجيليّون الثلاثة إلى مشاكل عصرهم. وحين أرادوا أن يقدّموا لها جوابًا عادوا إلى التقليد الواحد الذي يربِطُنا بيسوع المسيح.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM