القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل السادس والثلاثون: التلميذ والأخوة الفاعلة

لفصل السادس والثلاثون
التلميذ والأخوة الفاعلة
6: 36- 45

هذا الجزء الصغير من إنجيل لوقا هو قطعة من خطبة وجّهها يسوع إلى الجمع حين نزل من الجبل الذي عليه اختار الاثني عشر (رج 12:6- 20 و7: 1). بدأت هذه الخطبة بإعلان النعمة التي يمنحها الله للفقراء والمضطهَدين، لا للأغنياء وللذين يقول فيهم الناس كلامًا حسنًا (6: 20- 26). بعد هذا وصل يسوع إلى موضوع خطبته الخاصّ وهو تحديد موقف التلاميذ الحقيقيّين. عالج أوّلاَ محبّة الأعداء (27:6- 35)، وبعد أن انتقل إلى حضّ على المغفرة الأخويّة (6: 36- 38)، وصل بنا إلى المقطع الذي ندرس.
يجد هذا المقطع ما يوازيه عند متى: في خطبة الجبل (مت 3:7- 5، 18، 16) وفي. قرائن أخرى (من15: 14؛ 10: 24- 25؛ 12: 33 ج، 30، 34 ب). من الواضح أن الانجيليّين استقيا من ينابيع مشتركة، ولكنّهما رتّبا العناصر التي أخذاها كل على طريقته. ونحن نفهم الاختلافات في البُنية وفي التعبير، إمّا بعمل التقليد الذي سبقهما، وإمّا بمجهودهما الخاص لابراز كلمات يسوع إلى قرّائهما.
ولكن ما يهمُّنا في النهاية هو كلمات يسوع. ونحن لا نستطيع أن ندركها إلاَّ عَبْرَ ما يقدّمه لنا الانجيليّون. إذن، سنبدأ بدرس نصّ لوقا: الموضع الذي يجعله لهذا المقطع في خطبة يسوع، المعنى الذي يعطيه لهذا النصّ. بَعد هذا نحاول العودة إلى كلمات يسوع.

أ- موضع آ 39- 45 في خطبة لو: آ 20- 49
قدّم الشُرّاح عدّة تصميمات للوقا في بُنية خطبته، وهذه الافتراضات قادتهم إلى تفاسير مختلفة للنصّ الذي ندرسِ. أمّا نقطة الاختلاف الرئيسيّة فهي الوظيفة المُعطاة للآية 39: "وضرب لهم أيضَا هذا المثل ".
أوّلاً: يرى بعضُهم في الكلمات الأولى لهذه الآية عبارة مقدَّمة تدلّ على بداية جزء جديد. وهذا ما يقودهم إلى أن يربطوا آ 36- 38 بالجزء السابق وهو مخصص كلّه للمحبّة. أمّا الجزء الذي يبدأ في آ 39 فيسمّونه مجموعة امثولات، امثولة في المحبة او الطاعة، تحذير من المعلمين الكذبة.
ثانيًا: واهتمّ آخرون بالموضوع الجديد الذي يبدأ في آ 36- 38 ويمتد في آ 41- 42: فبعد محبّة الأعداء (آ 27- 35) تأتي الرحمة تجاه الاخوة وعدم إطلاق الدينونة: "ما بالك تنظر إلى القذى التي في عين أخيك "؟ اذن، هم يَجمعون آ 36 - 42 في قطعة واحدة فيجدون فيها تحريضًا بأن لا ندين، أو درسًا في الرحمة. أمّا وَلْيُ الخطبة، فيفرز فيها بعضهم آ 43- 45 (او 43- 46) حيث يحدّد مثَل الشجرة وثمارها الورَع الحقيقيّ أو الرحمة، وآ 46-49 (او 47- 49) التي تختتم الخطبة. وآخرون يجدون وحدة في آ 43-49: يستندون إلى تكرار فعل "صنع " (بويايو، صنع ثمرا) في آ 43 (مرتين)، 46، 47، 49، وإلى الموضوع العامّ حول واجب العمل.
إن للحَلَّين سيئاتِهما. فالحلّ الأوّل يفصل آ 41-42- عن آ 37 التي تحمل المعنى عينَه وترتبط بهما عند مت 7: 1- 5. وهو يجد صعوبة ليجد وَحدةً في آ 39 - 45 التي تقدّم سلسلةً من الصور والمواضيع قليلةَ التماسك. ويصطدم الحلّ الثاني مع آ 39- 40 اللتين لا تجدان موضعهما في تعليم عن الرحمة الأخويّة.
ومهما يكُنْ من أمر، فلوقا يتبع هنا مجموعة من الأقوال رُتّبت لا حسب تماسك منطقيّ، بل بأساليب بُنيويّة سامية. ونحن نجد إشارتين في هذا النصّ. لقد رأى الشُرّاح مرارًا أنّ القول على الأعميَين (آ 39) جاء إلى هذا السِياق عَبْرَ صورة العين (ذكرت ستّ مرّات في آ 41-42). والتِقنيّة السامية، تقنيةِ الكلمة العاكفة تَبرز بصورة خاصّة باستعمال فعل "صنع " طوال آ 43- 49.
و إذا أردنا أن نختار واحدةً من البُنيتَين على مستوى لوقا، يَلفِت نظرَنا وضوحُ الجزئين اللذَين يحيطان بالمقطع الذي ندرس: آ 27-35 عن محبّة الأعداء (نقرأ في بداية آ 35 تكرارًا لما في آ 27)، آ 43-49 حول واجب العمل (تكرارًا فعل صنع، عمل). غير أنّ تماسك آ 36-42 يبدو أقلَّ وضوحًا، وما يبلبله هو آ 39- 40. أمّا آ 41- 42 فهما تقابلان آ 37. وتقدّم آ 37 الدرسَ بأن لا ندين الآخرين. والحثَّ على السخاء في آ 38 يجد مكانه في هذه المجموعة التي تعالج المحبّة الأخوية. أمّا العبارة البادئة في آ 39، فليس من الأكيد أن لوقا يستعملها في بداية جزء جديد. فقد حصل له أن استعمل هذه العبارة (وضرب لهم أيضًا هذا المثل) ليربط المثل بالقرينة السابقة (5: 36؛ 12: 16؛ 13: 6؛ 18: 1، 9؛ 21: 29). من أجل هذه الأسباب يبدو لنا تجميع آ 36-42 في وَحدة متماسكة حلاًّ لا بأس به.
في هذه الفرضيّة، ترتبط آ 39-45 بجزئين مختلفين. هذا ما نأخذه بعين الاعتبار حين نفسّر هذه الآيات.

ب- التفسير: فكر لوقا في 6: 39- 45
إذا أردنا أن نكشف كامل معنى هذه العناصر، نجعلهما في الجزئين اللذَين تنتمي إليهما.
1- الرحمة الأخويّة (آ 36- 38) 39- 42
يفتتح لوقا هذا الجزء بدعوة للاقتداء برحمة الآب (آ36: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم ")، ويربط بها ثلاثة أشكال متوازية من نداء يسوع: "لا تدينوا فلا تدانوا" (آ 37). وتأتي بعدها دعوة إلى السخاء يفسّرها وعد الكيل الجيّد الملبَّد المهزوز الذي يقدّمه الله إلى الذين أحسنوا العطاء (آ 38).
وتصل بنا آ 39 إلى موضوع آخر. إنه قول مأثور يسميّه لوقا "مثلاً". لم نعد أمام السخاء تجاه القريب في الدينونة أو الصدقة، بل أمام النظرة المستنيرة الضروريّة لمن يريد أن يقود الآخرين. رأينا أعلاه أن تبديل الموضوع هذا والعبارة التي تبدأ الآية، دفعت عددًا من الشُرّاح ليجدوا هنا بداية جزء جديد. قد يكون البرهان حاسمًا لو أنّ الآيات التالية تتوجّه أيضًا إلى المسؤولين عن إخوتهم. ولكن ليس هذا وضع آ 40 ولا آ 41-42. فإن آ 39 وُضعت هنا، على ما يبدو، لارتباط صورة الأعمى بصورة العين في آ 41-42، وهذا الارتباط لا يعود إلى لوقا بل إلى العالم السامي الذي أخذ منه هذه الآيات. أحسّ لوقا بعدم تماسك هذه البنية، ولهذا دوّن مقدمة لهذه الآية (وضرب لهم أيضًا).
ولكن ما هو المعنى الذي أعطاه لهذا القول الذي لا يبدو في مكانه؟ إنه يفكّر بمسؤولي الكنيسة الذين يتوجّب عليهم أن يقودوا إخوتهم. تفرّد بين الانجيليّين فسمّى "المتقدّم " او "المترئّس " (هيجومينوس في 26:22، رج عب 7:13، 17، 24) في الكنيسة، واهتمّ اهتمامًا خاصًّا بالمُوَكّلين على إخوتهم (رج 12: 41 وسفر الاعمال). إنه يذكّر المسؤولين ببُعد النظر الذي تفرضه عليهم وظيفتهم: لا يحقّ لهم أن يكونوا عميانًا. في هذا الجزء الذي يدعو كلّ التلاميذ ألاّ يدينوا إخوتهم، يقدّم لوقا تحريضًا للذين يقضُون في الأمور ويدعوهم ان يتجنّبوا كل تقدير خاطئ.
وترتبط آ 40 بالتي سبقتها، لأن العلاقات بين المعلّم والتلميذ تقابل العلاقات بين القائد والذي يتبعه. ولكن، شدّدت آ 39 على مسؤوليّة القائد، وحدّدت آ 40 موقف التلميذ: فلا يطلب أن يرتفع فوق معلّمه. ليجعل كل عنايته بأن يقتدي به.
وحّد شورمان آ 39-45 فوجد فيها هجومًا على معلّمي الضلال في الكنيسة في زمن لوقا. وهكذا فهو يرى في آ 39 تحذيرًا للتلاميذ من المعلّمين المضلّين. كما يرى أنّ لوقا يشير في آ 40 إلى معلّمين كذَبة يعتبرون نفوسهم تلاميذ المسيح، فيحملون تعليمًا جديدًا يظنّونه أعلى من تعليم معلّمهم. ولكنّ عبارة لوقا تتعلّق بتصرّف التلاميذ لا بتعليمهم. إذن، يتوجّه مُجْمَل المقطع إلى التلاميذ. وبقول شورمان أيضًا إن المثل في آ 41-42 يتوجّه إلى المعلّمين المُضِلّين. وفي ظنّنا أنه يتوجّه إلى التلاميذ كما في آ 37 "لا تدينوا لئلاّ تُدانوا".
ان التفسير الذي يقدّمه شورمان لا يبدو حاسمًا خصوصًا فيما يتعلّق بالآيات 40، 41- 42، 45.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى لوقا: المعلّم هو يسوع. والتلميذ هو كل مؤمن من المؤمنين. وفي هذه القرائن المخصّصة للرحمة والغفران، لا يستطيع لوقا إلاَّ أن يفكّر بالمعلّم الذي يرحّب بالخطأة ويعلن لهم الغفران (5: 20- 24؛ 47:7- 49؛ رج 19: 9- 10؛ 43:23). فمَثَلُه هو شريعة حياته.
يشير مثل القَذى والخشبة (آ 41-42) إلى العلاقات بين الاخوة. تتكّرر فيه كلمة "أخ " أربع مرّات، فتَعني عند لوقا أعضاء الجماعة المسيحيّة كما في 3:17 ("إن خطئ أخوك فعاتبه، وإن تاب فاغفر له "). هذا المثل الغريب الذي يعبّر عنه في صيغة المخاطَب، شأنُه شأنُ أقوال الحكماء (وفي خطبة لوقا، آ 29- 30: "من ضربك على خدّك الأيمن ")، يتوجّه إلى كل تلميذ. إنه يلوم من ينتقد عند أخيه أقلَّ زلّة وِيتعامى عن زلاته التي تكون أكثر خطورة. نحن أمام صورة عن الحضّ على ألاَّ ندين لئلاّ نُدان (آ 37).
يسميّ يسوع "هيبوكريتس " كلّ من يرى القذى في عين أخيه (آ 42). لا ترِد هذه الكلمة إلا مرّتين في السبعينيّة (أي 30:34؛ 3:36)، وهي تترجم "حنف " العبريّة التي تدلّ على الانسان الذي مالَ عن الله. ويستعمل لوقا أيضًا مرّتين هذه المفردة: يطبّقها في 56:12 على الجموع التي لا تعرف أن ترى يوم الخلاص. وفي 15:13 على الخصوم الذين يريدون أن يمنعوا يسوع من صنع المعجزات يوم السبت. إذن، هو لا يعني الخبث والتخفيّ الواعي بل الحُكم المضِلّل الذي لا يقدر أن يتعرّف إلى الحقّ. الكلمة قاسية بالنسبة إلى "الاخ "، ولكن يسوع يوجّه مرارًا إلى تلاميذه توبيخات لاذعة (رج 13:11).
إذن، تبدأ آ 36- 42 وتنتهي بنداءِ أن لا ندين إخوتنا، أن نكون رحومين لهم (آ 36- 37، 41- 42). وتسير آ 38 في الاتجاه عينِه فتحثّنا على السخاء. وهكذا تدعونا كلّ هذه الآيات الى المحبة الأخويّة الملموسة. وكذلك نقول عن آ 40. وتبدأ آ 39 موضوعًا آخر هو بُعدُ نظر "القوّاد". ولكن قد يكون لوقا فهمه في خطّ قرائنِه كنداءٍ إلى المسؤولين عن الجماعات، ليمارسوا وظيفتهم في الحقّ والمحبّة. إذن، نستطيع أن نقول إن لوقا عالج محبّة الأعداء الذين من خارج الجماعة، ثم وحّد مختلف أقوال آ 36- 42 حول موضوع المحبة الأخويّة في الجماعة المسيحية.

2- يُعرف التلميذ الحقيقيّ بأعماله: آ 43- 45 (46- 49)
يتوجّه الجزء الأخير من خطبة لوقا حول فعل "صنع " الذي يدلّ على موضوع الفاعليّة، ما هو مفيد وناجح.
يبدأ بصورة: الشجرة الجيّدة (الصالحة)، الشجرة الفاسدة، او الرديئة (حرفيُّا: المهترئة) تُنتجان بالضرورة ثمرًا يوافق طبيعتهما (آ 43). قد تنطبق الصورة على أمور مختلفة، ولكنّ وَلْيَ النصّ يدلّ على أن لوقا يفكّر في ما يصنعه البشر: التلاميذ الحقيقيّون يثمرون ثمرًا صالحًا، ثمر كلمة معلّمهم. والتلاميذ الأردياء لا يثمرون إلاَّ ثمرًا رديئًا. إن أعمالهم هي التي لكشف صفاتهم العميقة وتتيح للناس أن يحكموا عليهم (يرى شورمان في آ 43- 44 تحذيرًا من المعلّمين المُضلين. هذا ما يقوله مت 16:7- 20 ضدّ الأنبياء الكَذبة. غير أنّ لوقا يتطلّع إلى سلوك التلاميذ). ويقدّم لوقا مثلاً ينطبق على المبدأ العامّ: لا يُجنى من الشوك تين، لا يقطف من العُلَّيق عنب.
وبعد الصورة يأتي التطبيق (آ 45): الشجرة الصالحة هي الرجل الصالح الذي يعمل الخير لأنه يستخرجه من أعمق أعماقه، من قلبه (حرفيا: من كنز قلبه. ننسب إلى لوقا ذكر القلب، وهذا غائب من النصّ المُوازي في مت 12: 35). والشجرة الرديئة تكون عكس ذلك. الثمار هي أقوال الانسان الذي سيُدان عليها. هذا هو المعنى إذا تمسّكنا بنهاية الآية (الأقوال التي تفيض من القلب) وعدنا إلى النصّ الموازي في مت 32:12- 37. ولكن في إطار لوقا خصوصًا بالنظر الى آ 46-49 التي تلي، الثمارُ هي أعمال التلميذ. إن بُنية آ 45 تعكس ترتيب مت 34:12 ب- 35 فتجعل الأعمال قبل الأقوال. ومهما يكن من أمر فالدرس واضح: من أراد أن يكون تلميذًا صالحًا، عليه ان يُثمر ثمرًا جيّدًا، أن يعملِ أعمالا صالحة. وإذا أردنا أن نصل إلى هذه الغاية، يجب أن يكون قلبنا صالحا. هذا نداء إلى توبة عميقة تظهر في الحياة الملموسة.
وتتوسّع الآيات التالية في موضوع ضرورة الأعمّال فتدعونا إلى حفظ أقوال يسوع والعمل بموجبها. تهاجم آ 46 التلاميذ اللامنطقيّين الذين يعلنون أن يسوع هو الربّ ولا يعملون بما يقول لهم. وفي آ 47-49 نقرأ مثلين متعارضين، مثَل الانسان الذي يؤسّس بيته على الصخرة، ومثل الذي يبني بيته على التراب، بلا أساس. نحن أمام نوعين من السامعين ليسوع: الذي يعمل بموجب كلمات يسوع، والذي لا يعمل بموجبها.
إذن، تبدو كلّ مجموعة آ 43-49 كنداء لعمل نافع. يتكلّم يسوع فيدعو تلاميذه إلى العمل. ولن يكونوا تلاميذ صالحين إلاَّ إذا أثمروا ثمرًا جيّدًا، إذا تجاوبت أعمالهم مع تعليم المعلّم.

ج- نحو أقوال يسوع
أظهرت قراءة النصّ أن يسوع لم يتلفّظ مّرة واحدة بمختلف الأقوال التي جمعت هنا. فان آ 39 و 40 لا تتوافقان بسهولة مع سياق النص. ثم إن عددًا من آيات لوقا نجدها عند متى في قرائن جدّ مختلفة. نجد آ 39 في مت 14:15، آ 40 في مت 10 :24-25 (يو 16:13؛ 20:15)، آ 45 في مت 35:12 و 34 ب. هذه السِمَة ليست حاسمة، لأن متى جمع هو أيضًا أقوال يسوع حسب نظرته إلى التعليم والكرازة. ولكن تفحّص مختلف أقوال هذا الجزء يدلّ على أنها لعبت في الأصل وظيفةً غيرَ التي نجدها هنا في لوقا.
والأمر واضح بصورة خاصّة بالنسبة الى آ 39. فالتحذير ضدّ القوّاد العُميان يشير إلى المعلّمين الذين يقودون إخوتهم. فليس بمستحيل أن يكون يسوع قد وجّه هذه الكلمات إلى تلاميذه وهو يفكّر بمهمّتهم المقبلة (هكذا يفسر لوقا أقوال يسوع. ولكن المعقول هو أن يسوع تلفّظ بهذه الكلمة في إطار هجوم على المعلّمين اليهود في عصره، فلامهم بسبب عَماهم (مت 16:23؛ 14:15؛ 24:23؛ يو 39:9- 41). هكذا فهم مت 15: 14 كلامه، وهذا هو التفسير المعقول لكلامه في معناه الأصليّ.
أمّا آ 40 فقد توجهت منذ البدء إلى التلاميذ. هذا ما يدل عليه مضمونها، وهكذا فسّرها كل من متى ويوحنا. أورِدها متى في خطبة الارسال (مت 10: 24 - 25) فجعلها تنبيهًا للمرسلين: سيُرفضون كما رُفِض معلّمُهم. ويعطيها يوحنا مدلولاً مشابهًا عندما يعلن للتلاميذ أنهم سيُضطَهَدون (يو 15: 20). ويتبع هذه الآية بالتفسير التالي: "إذا كانوا اضطهدوني فسوف يضطهدونكم أيضا". أمّا بعد غسل الأرجُل، فإن يو 16:13 يعلن درسًا في الخدمة المتواضعة تُفرَض على التلاميذ كما على يسوع. إن هذين الندائين للاقتداء بالمعلّم الخادم (عبد الله) المضطهد، يميّزان فكر يسوع الذي قد يكون أعطى هذا المعنى وذاك، لقول المعلم والخادم.
ويَستعمل مثلُ القذى والخشبة (آ 41-42) صورة معروفة في تعليم الربّانيين، وطابعه طابع هجوميّ: في بدايته بشكل لوم، وفي المنادى الأخير: يا مرائي. وحين يتحدّث يسوع عن "الأخ " فهو يشير إلى كل يهوديّ، حسب عادة عصره. وقد يوجّه لومه إلى تلاميذ أو هو يتطلّع إلى كل السامعين بصورة إجمالية. ولكن نبرة القول الهجوميّة تجعلنا نفكر أنه يتوجّه هنا إلى الخصوم. نحن في وضع مشابِه لما في مر 18:2، 24؛ 7: 5 حيث يتلقّى تلاميذُ يسوع الهجوم.
وتطرح آ 43-45 مشكلة خاصّة لأنها تجد ما يوازيها في مت 7: 16- 20؛ 12: 33-35: نقرأ آ 43 في مت 18:7 (و 12 :33 أب)، آ 44 أ في مت 12: 33 ج (و16:7 أ، 20)، آ 44 ب في مت 16:7 ب، آ 45 أب في مت 12: 35، آ 45 ج في مت 12: 34 ب. يبدو أن متى ولوقا أخذا موادّهما من تقليد تنوّعَ قبل أن يصل إليهما. بُني مقطعا متّى حول موضوع مركزيّ: مت 15:7- 23 هو تحذير ضدّ الأنبياء اَلكذَبة (يستعيد مت هذا الموضوع في 11:24، 24)، مت 12: 32- 37 يعلن أنّ الناس سيُدانون على أقوالهم. وبما أنّ متى قد جمع مرارًا أقوال يسوع حسب هدف تعليميّ، فقد يمكن أن يكون شتّت عناصر مرجع واحد احتفظ بها لو 43:6- 45، وأعاد كتابتها بطريقته. غير أن آ 45 التي لا تجد ما يوازيها في مت 7 ترتبط ارتباطًا متراخيًا مع آ 43-44: لا يتكلّم لوقا عن الشجرة ولا عن الثمرة ولا عن "صنع ". كل ما نجده هو بعض نقاط الاتصّال مع مت 52:13. لهذا يعتقد عدد من الشُرّاح أن آ 45 ارتبطت بهذا الاطار بواسطة لوقا او بواسطة المرجع الذي استقى منه.
ومهما يكُن من أمر، فإن آ 43-44 لا تدعواننا أوّلاً إلى ان نثمر ثمرًا جيّدًا حسب سياق نصّ لوقا، على ما يبدو. إنهما تعبّران بالأحرى عن مبدأ يتيح لنا ان نميّز الرجل الصالح من الشرير (في آ 33 كما في مت 7: 16، 20 و 33:12، يطلب منا ان "نعرف "). ولكن على من يقَع هذا التمييز؟ إن مت 15:7- 23 يطبّقه على الأنبياء الكذَبة، وهذا التطبيق يرتبط بزمن متى لا بزمن يسوع. قال التقليد اليهوديّ إن الثمار تدل على أعمال الانسان. ومن الممكن أن يكون يسوع قد أشار لا إلى تعليم هذا أو ذاك من المعلّمين، بل إلى الأعمال التي تتيح لنا أن نتعرّف إلى التلميذ الحقيقيّ (كما في آ 45 أ ب، 46، 47- 49).
كانت آ 45 في الأصل منفصلة عن آ 43. ويبدو أنّ آ 45 أ ب ("الانسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح، والانسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشرّ") كانت في الأصل منفصلة عن آ 45 ج ("فمن فيض ما في القلب يتكلم الفم ")، لأنّ هذا الشطر الأخير يبدو بشكل مثل ربّاني ويشير إلى أقوال الانسان؛ أمّا آ 45 أ ب فتنطبق على كلّ أعماله. ما نجده من فكر في آ 45 أ ب، عزيزٌ على قلب يسوع: فلا قيمة لأعمال الانسان إلا بقلبه (مر 15:7 - 23). وإن نسبنا لفظة القلب إلى لوقا (غابت من مت 35:12)، فهذا التحديد يفسّر أفضل تفسير فكر يسوع. أمّا المثل في آ 45 ج، فقد يكون يسوع وجده فرأى فيه ما يعبّر أفضل تعبير عن فكرة حولَ بُعد أقوال الانسان.

خاتمة:
لقد تنظّمت أقوال يسوع تنظيمًا عميقًا حتى وصلت إلينا في بُنية لوقا (39:6-45) الأدبيّة. ونقول الشيء عينه عن مت 16:7- 20؛ 12: 33- 35. تواترت هذه الأمور في التقليد الانجيليّ فدلّت على اهتمام مستمرّ لدى الكنيسة وهو: الانطلاق من كلمات المعلّم لتكشف قاعدة حياتها أمام ضرورات عصرها. وقد وجّه هذا العملَ الأدبيّ الايمانُ بكلمة يسوع الحيّة والعناية بنقل هذه الكلمة نقلاً أمينًا. وهذه الأمانة تفسّر بعض النقص في تماسك عناصر النصّ الانجيليّ. ما أراد الانجيليّ أن يَضيع أيّ شيء من كلام المعلّم، فجعل العبارةَ بجانب العبارة ولو على حساب المنطق الأدبيّ.
أمّا النصّ الذي قرأناه، فهو يقدّم لنا متطلّبتين رئيسيّتين من متطلّبات يسوع، المحبّةَ الأخوية، وحفظَ كلمة يسوع والعملَ بها. وهكذا كان لوقا في هذين الدرسين الشاهدَ الأمين للمعلّم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM