القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الرابع والثلاثون: التطويبات حسب القدّيس لوقا
 

الفصل الرابع والثلاثون
التطويبات حسب القدّيس لوقا
6: 20- 26

1- المقدّمة (آ 17)
تشير هذه المقدّمة إلى التطويبات، إلى المكان وإلى سامعي الخطبة: يتكلّم يسوع في السهل ويتوجّه إلى الجموع.
نحن نَدهَش حين نعرف أن خطبة الجبل في مت 5- 7 تبدو عند لوقا كأنها خطبةٌ في السهل... في الواقع، يرتبط كل من متى ولوقا بتدوين إنجيليّ قديم يعرض بَعدَ سلسلة من المُجادلات العناصرَ التالية:
أوّلاً: لوحةً عامّة صغيرة تتعلّق بنشاط يسوع في الجليل لدى الجموع (رج مر 7:3-12 وز).
ثانيًا: خبرَ تأسيس الاثني عشر على يد يسوع في الجبل. كان قد اعتزل هناك في التأمّل والصلاة، بعيدًا عن الجموع (رج مر 13:3- 19 وز).
ثالثًا: خُطبةً موجّهة إلى "التلاميذ" أو إلى الرسل، أو إلى مجموعة أوسعَ اختار يسوعُ الرسل من بينهم.
لم يحتفظ مرقس بالخطبة. بدّل متّى موضع تأسيسه الإِثني عشر، ولكنه احتفظ بالمقدّمة ("صعد إلى الجبل ") فصارت مقدّمة الخطبة. وهكذا خطب، يسوع في الجموع من أعلى الجبل، ولكنّه توجّه بصورة خاصّة إلى التلاميذ الذين أُفرزوا عن الجمع وتجمّعوا في حلقة حميمة حول المعلّم: "فلمّا رأى يسوع الجموع، صعد إلى الجبل، ولمّا جلس دنا إليه تلاميذه" (مت 5: 1).
بدّل لوقا بين العنصرين الأوّل والثاني، ولم يُبق على الجبل إلاّ تأسيسَ الحَلقة الرسوليّة. بعد هذا، نزل يسوع حالاً إلى السهل، نَحو الجموع المتشوّقة إلى تعليمه ومعجزاته (آ 18). ولكن المقدّمة المباشرة للخطبة (آ 20) تفهمنا أنّ يسوع يتوجّه بالدرجة الأولى إلى التلاميذ: "ثم رفع عينيه إلى تلاميذه وقال" . بدّل لوقا ترتيب المقطوعات وجعل خطبته في السهل (لم يبقَ في الجبل مع تلاميذه وحدَهم). عاد إلى الجموع فوسّع حلقة سامعيه. نقرأ في آ 17: "جماعة كثيرة من تلاميذه "، "جمهور غفير من الشعب ". رسالة شاملة. هكذا أرادها المعلّم. فَعبْرَ السامعين الأوّلين، ستصِل كلمة الله منذ الآنَ إلى جميع البشر.

2- التطويبات قبل لوقا ومتّى
تعوّدنا أن نقرأ التطويبات في إنجيل متّى (3:5- 12). وحين نقرأها في لوقا نقابلها طوعًا بما في متّى، فنتساءل كيف نفسر هذه التشابهات المحدّدة وهذه الاختلافات الكبيرة؟ ما الذي قاله يسوع بالضبط في هذا المجال؟
التفسير الوحيد المقبول لهاتين النسختين للتطويبات، هو أنّ متّى ولوقا استعملا كلٌّ بطريقته الخاصّة حالةً سابقة للنصّ. والدراسة النقديّة تتيح لنا أن نعيد بناء هذا "المَعين " بصورة معقولة.
طوبى للمساكين، فإنّ لهم ملكوتَ السماوات
طوبى للحزانى فإنهم يعزَّون
طوبى للجياع لأنهم سيشبعون
طوي لكم حين يبغضونكم وينبذونكم ويشتمونكم ويهينون اسمكم بسبب ابن البشر. إفرحوا وتهلّلوا، لأن أجركم عظيم في السماء.
هكذا اضطهدوا الأنبياءَ الذين سبقوكم.
إن هذا النصّ الأساسيّ ("وثيقة أولانيّة") يجمع مُعطياتٍ تعود إلى أصول مختلفة. ونحن نستشفّ فيها نقصًا في التماسك، سواءٌ في المبنى أم في المضمون.

أوَّلاً: المبنى
نقرأ التطويباتِ الثلاثَ الأولى في صيغة الغائب بشكل مقتضَب وموزون (أسلوب شفهيّ). أمّا التطويبة الرابعة فيعبّر عنها النصّ في صيغة المخاطَب ويتوسّع فيها مطوّلاً تاركًا الوزن والإيقاع.

ثانيًا: المضمون
تشكّل التطويبات الثلاثُ الأولى إعلانًا عن مجيء ملكوت الله والمخصّصين للدخول إليه. يستعيد يسوع هنا (كما في مت 11: 5 وز؛ لو 18:4) لغة أش 61: 1- 2؛ 49: 10، 13؛ 7:52 ،9. ويقدّم نفسه بهذه الصورة على أنّه الرسول الأخير وحامل البشرى ووسيط الخلاص الموعود به: إنه يأتي الآن من أجل الفقراء والحزانى والجياع. نحن أمام تسميات ثلاثٍ لفئة واحدة من المستفدين من ملكوت السماء، من التعزية المسيحانيّة، من الوليمة الإسكاتولوجيّة؛ تسمياتٍ ثلاثٍ لواقع الخلاص الواحد.
إن هذه التطويباتِ الثلاثَ تعكس بصورة مباشرة كلماتِ المخلّص، وتعلن بُشرى حدَث الملكوت الذي هو بلاغ مفرح، به يدشّن المسيح مُهمّته الرسوليّة بصورة فاعلة.
أمّا التطويبة الرابعة، تطويبةُ المضطهَدين من أجل ابن الإنسان، فإنها تنقل مضمونًا مختلفًا. هي لا تعلن مجيئًا قريبًا للملكوت من أجل الذين يتأّلمون الآن... بل تحدّد موقعها في منظار الاضطهادات المقبلة والأَجر النهائيّ. وهي لا تتوجّه إلا إلى المسيحيّين، هؤلاء الذين سيُقاسون الاضطهاد بسبب إبن الإِنسان. فالتعبير المُسْهَب والبواعث الكرستولوجيّة الواضحة تدلّ على تفكير مسيحيّ. قد يعود جوهر هذه التطويبة إلى المسيح بصورة غير مباشرة، ولكن بعد أن قاسى يسوع نفسُه الاضطهاد وانتظر أن يكون مصيرُ تلاميذه مشابهًا لمصيره.

3- تقديم لوقا
يستعيد لوقا أربعَ تطويبات من الوثيقة الاولانيّة مع بعض التصليحات البسيطة، وُيتبعها بأربع ويلات تقابلها بالتفصيل. وهكذا نكون أمام تعارُض أدبيّ وتعليميّ.
كان النصّ الأولانيّ قد برز في شكل مفارَقة وتعارُض: أعلن أنّ الأشقياء هم سعداء، وزاد لوقا النقائضَ المعاكسة فأعلن شقاءَ سعداءِ هذا العالم. كرّر المفارقات عينَها ولكن بصورة سلبيّة. كان قريبًا من المُعطى الأصليّ، ثم أعطاه قوّةً ووضوحًا.
لا شكّ في أنّ ربطَ التوّيلات (قال: الويل) بالتطويبات والمطابقةَ التامّة في التعبير، يعودان إلى عمل الإِنجيليّ التدوينيّ. فهذه التهديدات العنيفة والمتكرّرة، وهذه الأحكام التي لا استئناف فيها ("الويل لكم... الويل لكم...") لا يمكن أن تنتمي إلى إعلان يدشّن الخبر الطيّب. كما لا يمكن أن تتوجّه إلى التلاميذ المذكورين في آ 20، ولا إلى الجموع المذكورة في آ 17 والمتشوّقة إلى سماع الكلمة. لقد أعلن يسوع فقط شقاءَ السامعين الذين رفضوا بعناد تعليمَ الخلاص الذي يقدّمه: شقاءَ سكّانِ مدن البحيرة، والكتبةِ والفريسيّين والمرائين. عاد لوقا إلى هذا السِياق المتأخّر فاستعاد مبدأ الحُرم والانقطاع عن الجماعة تجاه التطويبات وما تحمله من سعادة. ثم إن إعلان التوّيلات يتضمنّ خصائص لوقاويّةً على مستوى اللغة والأسلوب.
قد يكون مضمون التويّلات قد وُجد في التقليد السابق للوقا، ونحن نجد بعضَ نبراته في رسالة القديس يعقوب (9:4؛ 5: 1). ولكنّنا ننسب إلى لوقا زيادة "الويل، الويل " إلى التطويبات، وأسلوبَ التَوازي في التعبير عنها، ونحن نتعرّف إلى هذه الزيادة حين نتعرّف إلى انتقالة آ 27: عاد إلى المستفيدين الحقيقيّين من التطويبات، وإلى الذين توجّهت إليهم الخُطبةِ كلها، أي التلاميذ، فقال لهم: "أمّا أنتم أيّها السامعون، فإني أقول لكم: أحِبّوا أعداءكم ". إن الويلات تتوجّه إلى سامعين آخرين.
تبدأ التطويبات في الإِنجيل الثالث في صيغة المخاطَب. ولكن هذه الصيغة ليست الفنَّ الأدبيّ العاديّ للتطويبات بل للتويُّلات. أيكون لوقا قام ببعض التصليحات في نصّ التطويبات الأوّلاني، منطلِقًا من التوّيلات التي زادها؟ وهكذا توحّد النصّ وبرزت النقائض. تعدّت النبرة زمن يسوع واتّخذت شكلاً عنيفًا: الكلام يتوجّه مباشرة إلى السامعين (والقراء) وعليهم أن يتخذوا موقفًا.

4- تحليل النصّ
أوّلاً: الفقراء والأكنياء (آ 20- 34)
تَذْكر التطويبة الأولى الفقراء ولا تزيد تحديدًا آخر كما في متى: "المساكين بالروح ". ففي السِياق اللوقاويّ، تدلّ هذه التسمية المُطْلَقة على الفقراء والبؤساء والذين لا يملكون شيئًا، تدلّ على طبقة اجتماعيّة دُنيا.
ويشير الويل الأوّل إلى الأغنياء بالمعنى المعروف، إلى طبقة اجتماعيّة، طبقةِ الذين لا ينقصهم شيء.
إن تسمية الفقراء والأغنياء في رأس اللائحة يشرف على التَعداد اللاحق. ففي التطويبات الثانية والثالثة والرابعة، نحن أيضًا أمام فقراء، آلَ بهم فقرُهم إلى الجوع والبكاء وشقاء الأيّام. وفي المقابلِ، كان الأغنياء هؤلاء المتخمين والضاحكين والذين يكرّمهم الناس.
وكان وعد بالملكوت، بملء السعادة، للفقراء والمساكين. وهذا الوعد سيكرّر بكلمات أخرى التهانَي السابقة: يشبعون في الوليمة المسيحانيّة، ويشاركون في الفرح النهائيّ، وينالون أجر السماء. ولكن سنرى أنّ لوقا ينظر إِلى هذه السعادة في المستقبل، إلى ما بعدَ الموت. لم يعد المنظارُ منظارَ الملكوت الحاضر منذ الآن، بدخول المسيح على مسرح الأحداث. لقد وعى لوقا تأخّر المجيء. والملكوت سيكون في العالم الآخر.
والأغنياء بدورهم سيَلحقهم الشقاء في العالم الأخير. لا سعادة لهم ينتظرونها. فهم منذ الآنَ ينالون ما يُرضيهم، ينالون عزاءهم.

ثانيًا: الجائعون والمُشْبَعون (آ 21 أ، 25 أ)
ويذكر لوقا حالاً بعد الفقراء، لا الحزانى (كما في الوثيقة الأولانيّة) بل الجائعين. فبعد الأغنياء يأتي المُشْبَعون. نلاحظ مرارًا عند لوقا هذا التقريبَ بين الفقراء والأغنياء، هذه الطريقةَ في عرض الأمور. فالمزارع الغنيّ في 12: 19 يحلُم بأن يأكل ويشرب ويتنعّم. ولعازر الفقير كان يرغب في أن يملأ بطنه من الفُتات المتساقط عن مائدة الغنيّ (16: 21). إذن، من الواضح أننا أمام فئات اجتماعيّة واقتصاديّة، لا أمام استعدادات داخليّة.
الويل (هذا خاصٌّ بلوقا) لا يتكلّم فقط عن الذين شبعوا بل عن المُتْخَمين والمكتظّين. حرفيًّا: عن المملوئين. مفردة واقعيّة الى أقصى حدود الواقعيّة.
ويزيد الإِنجيليّ كلمة صغيرة: أنتم الجائعون "الآن ". وقال أيضًا: أنتم الباكون "الآن ". وفي النصّ المُوازي: أنتم المُشْبَعون "الآن "، أنتم الضاحكون "الآن ". فقُربُ الخلاص الموعود به لم يعُد واضحًا كما كان في التعبير الأوّلانيّ. يستعمل لوقا هنا هذا الظرف في معناه المعروف والبسيط لا في مدلول تِقنيّ يرتبط بالركيزة القديمة: وبعبارة أخرى لا تدلّ المفردة على "الآن " (أو "اليوم ") الإِسكاتولوجيّ، يوم الخلاص الذي يُتمّ مواعيد الماضي (رج 2: 29؛ 4: 21). إنه يقابل بين الوضعَ الحاليّ للاغنياء أو الفقراءِ ووضعِهم المقبل.

ثالثًا: الباكون والضاحكون (آ 21 ب، 25 ب)
في التطويبة الثالثة لا يتحدّث لوقا عن الحزانى، بل الباكين (الذين سيضحكون) ويقابلهم بالضاحكين الذين سيبكون. إن هذه المفردات تُدهشنا. إستعمل في التويُّلة ما استعمل أيضًا في التطويبة. ويتخلّى لوقا مرّةً أخرى عن مرجع كتابيّ مميّز نجده في أش 13:49؛ 61؛ 2 يتحدّث عن الحزانى. وإذ أراد أن يبرز التعارض بين مصير الفقراء والمتأّلمين الحاضر ومصيرِهم المقبل، بين مصير الأغنياء والضاحكين الحاضرِ ومصيرِهم المقبل، فقد فضّل استعمال هذه المفردات المعبّرة وإن لم تكن دينيّة.
في القِسم الثاني من التويُّلة ("لأنكم ستحزنون وتنوحون ") تبدو لفظة تحزنون وكأنّها زائدة، فتثقّل الإِيقاع. إنّها تأتي من التطويبة الأصليّة.
إنطلق لوقا من الوثيقة السابقة وأعطاها وُجهةً جديدة دون أن يبدّلَها تبديلاً كاملا.

رابعًا: المحتقَرون والمكرَّمون (آ 22- 23، 26)
تتعلّق التطويبة الأخيرة أيضًا بالفقراء، فلم نعد أمام المُعطى الأوّلاني الذي أشار إلى المضطهَدين من أجل المسيح. يستعيد لوقا بأمانة هذا المُعطى السابق. غير أنه يتجنّب لفظة "اضطهاد" المعبّرة والصحيحة. وفي التويُّلة لا ينادي المضطهِدِين (تجاه المضطَهَدين) بل الذين ينعَمون برضى جميع الناس: "الويل لكم إذا ما الناس جميعًا قالوا فيكم حسنا". وهكذا اختفت في التويُّلة فكرة الباعث الدينيّ ("من أجل ابن الانسان "). ما لفتَ نظرَ الإنجيليّ هو تحمّلُ المعاملات السيّئة، لا السببُ الذي من أجله نتحمّلها.
في التطويبة الرابعة يفكّر لوقا بمسيحيّي عصره الذين يواجهون الظلم مرارًا. هذا الوضع يجعلهم على مستوى الفقراء في التطويبات السابقة. ومقابِلَ هذا، إن فقراء التطويبات الأولى هم المسيحيّون الأوّلون (خلفاء "التلاميذ" في آ 20) الذين ينظر إليهم الكاتب في وضعهم الاجتماعيّ الذي تدنىّ.
ويتوافق لوقا مع مَرجعِه فيذكر المعاملات السيّئة التي قاساها حقًا المسيحيّون الأوّلون من قِبَل أبناء جنسهم الأغنياء والأقوياء والمُعادين للدين الجديد: البُغض (17:21 وز؛ مت 22:10)، الحُرم (يو 2:16؛ رج 22:9؛ 42:12)، التعيير (1 بط 14:4؛ عب 10: 33؛ 13: 13؛ أع 5: 41)، التشنيع. يشدّد لوقا على تكديس هذه المعاملات السيّئة، لا على بُعد كل معاملة على حِدَة. إن لوقا يعرف كم قاسى المسيحيّون الأوّلون من اضطهاد من قِبَل اليهود: 49:11 ي؛ 12: 11- 12؛ 12:21؛ أع 4: 1ي؛ 17:5ي ؛ 9:6 ؛ 3:8؛ 13: 50 ؛ 2:14-19؛5:17-13.
وتحدّث المَرجع عن الوعد بالأجْر فقال: إفرحوا وابتهجوا. ترك الإِنجيليّ الفعل الثاني، مع أَنّه مُفْردة بيبليّة ومسيحيّة: فعل "اغالياماي ". لا نجده إلاّ في التوراة وفي نصوص تأثّرت بالتوراة. إنه يدُلّ في العهد القديم على فرح الأزمنة الأخيرة: أش12: 6؛ 25: 9؛ 35: 1- 2؛ 41: 16؛ 49: 13؛ 51: 11؛ 61: 10؛ 65: 14- 19؛ مز 96: 11- 12؛ 97: 1، 8؛ 126: 2، 5- 6. إستعاده العهد الجديد فعبّر عن البهجة أمام حدَث الخلاصي: 1: 14، 44، 47؛ 10: 21؛ أع 26:2، 46؛ 16: 34؛ يو 35:5؛ 56:8؛ عب 1: 9؛ 1 بط 1 :6، 8؛ 13:4؛ يهو 24؛ رؤ 7:19.
ترك لوقا فعل إبتهج وأحلّ محلَّه فعل "تهلَّل " (سكيرتاوو: رقص، قفز) فشدّد على المفارقة دون أن يرتبط بالكتاب المقدّس.
وزاد لوقا: "في ذلك اليوم ". قد تدلّ هذه العبارة على اليوم الإِسكاتولوجيّ العظيم (10: 12؛ 17: 31؛ 21: 34، وهنا في آ 22- 23 يُذكر ابنُ الإِنسان وُيذكر الأجرُ المهيّأ في السماء). ولكنها في الواقع تُفهَم في معنى عاديّ. نحن نقابلها مع "الآن " التي أقحمَها لوقا في السِياق فشدّد على المفارقة: حين يُضطهَد التلاميذ، عليهم في ذلك اليوم أن يفرحوا.
حين يقاسي التلاميذُ المعاملات السيّئة، يجدون نفوسهم في الوضع عينِه الذي عرفه الأنبياء القدماء الذين اعتبرهم التقليد أكبر المضطهَدين في تاريخ شعب الله (مت 23: 29- 35 وز؛ 13: 57 وز؛ لو13: 23؛ 1 تس 2: 15؛ روم 11: 3؛ عب 11: 32- 40؛ يع 5: 10؛ رؤ 11: 18؛ 6:16؛ 24:18). فإنْ قاسموهم مصيرَهم في الاضطهاد، فهم سيعرفون في النهاية سعادتهم في السماء.
وأعاد لوقا صياغة الجملة الأخيرة التي كانت مُلتبِسة: سبق الأنبياء المسيحيّين، ولكن المسيحيّين ليسوا أنبياء. إذن، هو يَذكر لا سابقي التلاميذ، بل سابقي المضطهدين وهكذا يُقحم موضوعًا عزيزًا على قلبه: فالآباء (بنو إسرائيل في الماضي) قد اضطهدوا الأنبياء (11: 47- 48؛ أع 7: 51- 52).
ويرِدُ الويل بصورة مقتضَبة. كان الإِنجيليّ قد احتفظ في التطويبة بجملة طويلة وجدها في مَرجعِه. أمّا الآن فهو يوجز كلامه حين يتحدّث عن الذين يمدحهم الناس، وُيبرز التعارض الذي يقابل خاتمة التطويبة: إن الذين يُجلّهم الناس سيكون مصيرهم كمصير الأنبياء الكذَبة.
بعد هذه الملاحظات الأدبيّة حول التطويبات والتويُّلات، نطرح سؤالاً من الوُجهة التعليميّة: لماذا زاد لوقا التويّلات (ويل) على التطويبات (طوبى، هنيئًا)؟ لماذا هذه اللوحة التي يتباين فيها الأوّلون؟ لماذا هذه التناقضات القوّية التي تجعله ينسى عدّة تذكّرات كتابيّة وُجدت في المُعطى الأوّلاني؟
5- لوقا ومثال الفقر لديه.
حين يعالج لوقا موضوع الفقر أو التجرّد، فهو يبدو جَذْريًّا ومتصلّبًا إلى حدٍّ يجعله يعزّز متطلِّبات المسيح.

أوّلاً: تناقضات تقليديّة
أعلن يسوع نفسُه بوضوح الموقفَ الأساسيّ: هناك تعارُض أساسيٌّ بين الملكوت والمال، بين التعلّق بخيرات الأرض وطلب الله.
لا يستطيع أحد أن يعبد سيّدين: الله والمال. فلا بدَّ له من أن يُبغض واحدًا من الاثنين (13:16؛ مت 6: 24). فالشابُّ الغنيّ المتعلّق بخيراته لم يستطع أن يتبع يسوع (18: 22- 23 وز). فالاهتمام بالرفاهيّة واللباس والطعام يَنفي الاستسلامَ البنويّ للعناية الإلهيّة وطلبَ الملكوت (29:12- 31؛ مت 6: 31- 32). والغنى وملذّات الحياة تخنق كلمة الله المزروعةَ في قلب الإنسان (8: 14 وز). حيث يكون كنز الإنسان، في السماء أو على الأرض، هناك يكون أيضًا قلبه (34:12؛ مت 21:6).
ليست هذه التعارضات خاصّةً بلوقا. فهي تعود إلى التقليد المشترك، وترجع أساسًا إلى يسوع نفسِه. وحين دوّن لوقا تعارضات ف 6 كان عملُه امتدادًا لخطٍّ رسمَه المعلّم.

ثانيًا: لوقا والغِنى.
غالبًا ما تندّد البيبليا (العهدُ القديم والعهد الجديد) بالغنى بسبب التجاوزات التي يجرّها وراءه: ظلم الفقراء، الغشّ، التكبّر، الكفر بالله، الفِسق والدعارة. ولكن لوقا يهاجم الغنى ويحكُم عليه، لا بسبب التجاوزات التي ترافقه وحَسْب، بل في حدّ ذاتِه.
يتفرّد لوقا فيسمّي المالَ "الظالم " (الفاسد والمنحرف، مامون الظلم، 9:16)، كأن المال هو دومًا نتاجُ الظلم. فيورد حُكم يسوع على الفرّيسيّين "أصدقاءِ الفضّة": "الرفيع عند الناس رجِسٌ عند الله " (14:16- 15). وفي مثَل الغنيّ ولعازر الفقير (خاصّ بلوقا، 19:16- 31) يصوّر التعارض بين وضعيهما: يلبَس الغنيّ الأرجوان والبَزّ ويتنعّم كلّ يوم بأفخر المآكل. أمّا الفقير فهو جائع ومضروب بالقروح. لا يقول النصّ إن الغنيّ سلبَ الفقير، إنه يتنعّم بخيرات اقتناها ظُلمًا. لا خطيئةَ له إلا تعلُّقه بغناه. ولكن من هذا الغنى تنبع لامبالاتُه المُرعبة تجاه بؤس الفقير الذي هو قريب منه. وبعد الموت انقلب التعارض. صار الغنيُّ في اللهيب وقاسى العطش. وحُمل الفقير إلى حضن إبراهيم أي إلى وليمة الملكوت (28:13- 29؛ مت 8: 11). لا يُوجَّه أيُّ لوم واضح إلى الغنيّ. فالدرس نقرأه في انقلاب الأوضاع: "نلتَ خيراتك في حياتك ولعازز أيضًا بلاياه. فهو الآن ههنا يتعزّى وأنت هناك تتعذّب ". تعارضٌ بين الغنيّ والفقير، تعارضٌ بين هذه الحياة والأُخرى. يكتفي لوقا بتصوير التعارض دون أن يعلن تقييمًا أخلاقيًّا: فالمال مذموم في حدِّ ذاته.
ويتفرّد لوقا بإيراد مثَل الغنيّ الجاهل (16:12- 21). ملاَّك كبير أغلَّت أرضه غلاّتٍ كثيرة، فأخذ يتلذّذ في فكره بخيراتٍ يكدّسها، وحياةٍ يتنعّم بها ولا يخشى الغد: "يا نفسي، إنّ لك ههنا خيراتٍ كثيرة مدَّخرة لسنين كثيرة. فاستريحي وكُلي واشربي وتنعّمي ". هو لا يستعمل ماله من أجل الشرّ، بل يخطِّط للتنعّم به. ولكنه لا يتوق إلى شيء آخر. هو يضع ثقته في ماله وكأنه خير مُطلَق وكأنه قيمة نهائيّة. ويأتي المنعطَف الحَرِج، تأتي ساعةُ الموت. فيختتم لوقا كلامه: "لا ندخّر إلاَّ من أجل الله " (آ 21)، فالملكوت وحدَه هو الخير الحقيقيّ (آ 31).
إن الغنى يولّد لا محالةَ اهتمامًا يحصُر الإِنسان في هذه الأرض، يميل به عن القريب، عن الآخرة، عن الملكوت، عن الله. الويلُ للأغنياء.

ثالثًا: لوقا والفقر.
إذا أردت أن تستعمل مالك استعمالاً صالحًا فأَعطِه. هذه هي نظرة لوقا. والوكيل الخائن (العديم الاستقامة) تعلّم كيف يستعمل المال ليربح أصدقاءَ فيستقبلونه في المَظالّ الأبديّة، في الآخرة (16: 9).
ويجب خصوصًا إن نتجرّد من المال تجرّدًا حقًّا. نُعين المحتاجين، ونعطي الفقراء الذين لا يستطيعون أن يعاملونا بالمِثل (6: 30، 35؛ 11: 41؛ 14: 14؛ 8:19). نتحرّر من المال، ونكون فقراءَ حقًّا لنتبع المسيح. ليس مثال الفقر عند لوقا تجرّدًا باطنيًّا وحَسْب (الفقر بالروح)، بل تجرُّدٌ فعليٌّ وكاملٌ . في هذا المجال يعبّر الإِنجيليّ الثالث عن فكره بطريقة جَذريّة فيدعَمُ متطلّبات المسيح بكلمة أو بعبارة.
وفي حدَث الشابّ الغنيّ، جعل لوقا جوابَ يسوع لا في جملة شرطيّة ("إن شئت " كما في متّى) بل في جملة جازمة (كما عند مرقس): "يُعوزك بعد شيء. بِعْ كلّ ما لك ووزّعه على المساكين ". لقد زاد لوقا لفظة صغيرة: "كلّ " (22:18) فدلّ على عُمق التجرّد.
أورد متّى نصيحة يسوع: "من يسألْك فأَعطه ". فشدّد لو 6: 30: "كلُّ من سألك أَعطه " (أعطِه كلَّ مرّة يسألك).
وكتب مت 6: 19- 20: "لا تكدّسوا لكم كنوزًا على الأرض، بل اكنُزوا لكم كنوزًا في السماء" (لا يحدّد متّى الطريقة). أما لو 33:12 فقال "بيعوا ما تَملك أيديكم وأعطوا صدقة. اصطنعوا لكم أكياسًا لا تفنى وكنزًا في السماوات لا ينفد".
ونقرأ خبر دعوة بطرس وأندراوس. ناداهما يسوع فتركا شباكهما وتبعاه. هذا ما قاله متّى ومرقس. أمّا لوقا فكتب: "تركوا كلّ شيء وتبعوه " (11:5). تحدّث متّى ومرقس عن لاوي حين دعاه الربّ فقالا: "قام فتبعه ". أمّا لوقا فشدّد قائلاً: "ترك كلّ شيء وتبعه " (28:5).
وفي 11: 41 و 33:14 أقحم لوقا بالقوة الدعوةَ آلى التجرّد الكامل وإلى الصدقة. وعلى الفقراء أنفسِهم أن يُعطوا من القليل الذي يملكون. فالذي يملك فقط ثوبَين، "يعطي من ليس له " (3: 11. خاصّ بلوقا). وفَلسُ الأرملة هو موضوع مديح من قِبَل يسوع: "إن هذه المرأة الفقيرة قد أعطت كلّ ما تملك " (4:21).
وفي بداية سفر الأعمال ترسُم الإجمالات (2: 44- 45؛ 4: 34- 35) صورةً مثاليّة عن زمن الاندفاع الروحيّ الذي فيه تخلّى المؤمنون الأوّلون عن كلّ ما يملكون، وجعلوه مشتركًا ووزّعوه. في هذه الإجمالات التدوينيّة التي لا يرتبط فيها لوقا بمَراجعه، فهو يتكلّم من غنى قلبه، فيبسّط الواقع ويعبّر عن مثاله الخاصّ وعن طريقته الخاصة في تصوّر مسيحيّةٍ لا انقسامَ فيها في الفقر الإراديّ وفي المشاركة الأخويّة، في الابتهاج الروحيّ ورجاءِ الملكوت، في شفّافيّة المحَبّة.

رابعًا: لوقا ونظرة الناس.
إذا أردنا أن نلقي الضوء على التطويبة الرابعة، نتذكّر أنّ لوقا يهتمّ بصيت الناس، بالاعتبار الذي نحيطهم به، بعلامات الاحترام التي نظهرها لهم.
تحدّث متّى ومرقس عن المقتدِرين الذين يجعلون الناس يحسّون بتسلّطهم. فزاد لوقا لقبًا مطريًا يطالبون به: أوارجاتيس (محسنون) (22: 25). وأورد لوقا وحدَه مثلَ الذين يختارون المقاعد الأولى أو الأخيرة في الولائم (14: 7- 11). إنه يهتمّ بالعظمة أو المجد (آ 10)، أو بالخجل (آ 9) الذي يحسّ به المدعوّ أمام الناس. وفي مكان آخر يلاحظ "خجل " الإنسان الذي يُجبر على التسوّل (3:16). وفي سفر الأعمال، يشدّد مطوَّلاً على الصيت الذي يتمتّع به الأشخاص الذين يتكلّم عنهم (أع 34:5، جملائيل؛ 3:6؛ 10: 22، كورنيليوس، 16: 1- 2، 22: 12).
هذا الشعور الخاصّ لدى لوقا يفسّر تأثّره بالاحتقار أو التعيير الذي يصيب المسيحيّين، كما تتحرّك مشاعره أمام فقرهم المُدْقع. ومع ذلك، هذا هو مثال التلاميذ على هذه الأرض: أن يطلبوا المقعدَ الأخير، أن يفرحوا في الاتّضاع. ففي هذا العالم يتوجّه المديح والكرامةُ إلى الأغنياء وحدَهم (رج يع 2: 1- 4).

6- تعليم لوقا
إن هذا الإِطار اللوقاويّ الواسع يلقي ضوءًا ساطعًا على التطويبات والتويُّلات. فقساوة التعارضات ترتبط بمتطلبة لوقا الجَذريّة، فيما يخصّ الفقرَ والغنى. فالمستوى الإجتماعيّ الذي يقف فيه يعكس مثالَه بتجرّدٍ فعليّ وفقر حقيقيّ. وانتظار الملكَوت في الآخرة يقابل لاهوتَه حول الزمن المتوسّط الذي هو الآنَ زمنُ الكنيسة. فتبدُّل الأوضاع يصوّر تبدّلَ القِيَم الذي أدخله وحي المسيح إلى العالم.
أعلن التعليم الأولاّنيّ مجيء المسيح للفقراء الذين هم أخصّاء الله. وأعاد لوقا كتابة التطويبات على ضوء خبرة مسيحيّة اختبرها. وحين تذكّر الفقراء والمذلولين فكّر خصوصًا بتلاميذ أيّام الكنيسة الأولى، فكِّر بالذين عاشوا بطريقة بطوليّة الفقرَ من أجل المسيح. هذه الخبرة التي عاشها بقيادة الروح، رسَمت له بوضوح طريق المعلّم.
وحين أعلن يسوع أن وضعَ الفقراء يستحقّ التطويب، أسمعنا نداءً متضمّنًا حتّى نأخذ بهذه الطريق بإرادتنا، إمّا في تجرّد باطنيّ (كما في متّى) وإمّا في تخَلٍّ فعليّ عن كلّ شيء. وقد تألّفت الجماعات المسيحيّة الأولى من تلاميذ ارتضَوا بإرادتهم بالفقر مع كل نتائجه: الجوعِ وكلِّ أنواعِ الحِرمان، الشقاءِ والدموع، التعيير والاحتقار. وهكذا حقّق هؤلاء الناس بطريقة ملموسة رجاء الملكوت في تَخَلًَ جَذريّ عن خيرات الأرض، في إيمان مجرَّد بمواعيد المسيح، في فرح روحيّ وتعلّق بالقِيَم العُلويّة وحدَها.
لقد تقبّل لوقا هذا التفسير الخاصّ للإِنجيل كما أعلنه يسوع وأعاد تدوينه حسب نفسيّته الخاصّة. فالفقر الإراديّ بدَا في أوّل عهد المسيحيّة كمثال حياة قاسٍ، ولكنّه مثالٌ يحرّك النفوس. ولقد تأثّر لوقا بهذا المثال وقلْبُه يتعلّق بالمُطلَق.
وحين نشرح التطويبات لا نكتفي بأن نقول إنّ لوقا حنّ على شقاء البشر وأخذ بإشعاع المحبة المسيحيّة، وتشكّك من قساوة قلب الأغنياء. إنه أدرك بصورة عميقة تساميَ خيرات الملكوت، فخاف من كلّ ما يقسم قلب الإنسان بين قِيَم الآخرة ومنافعِ الأرض، بين الله ومامون (أي المال). فعلى المسيحَيّ أن يختار بقلب كامل وغير منقسم، أن لا يطلب إلا خيراتِ العلاء، أن يتخلّى عن كلّ شيء ليتبع المسيح، أن لا يعطي قلبه إلا لله.
هذا هو النداء الذي يوجّهه إلينا لوقا الآن: أن لا نطلب إلا الملكوت في الفقر الإراديّ، أن نتخلّى عن كلّ شيء من أجل المسيح.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM