القسم الثالث: رسَالة يسُوع في الجليل الفصل الخامس والثلاثون: التعليم الجديد

الفصل الخامس والثلاثون
التعليم الجديد
6: 27- 38؛ مت 5: 38- 48

يسوع نبيّ عظيم بأقواله وأعماله. هذا ما اختبره تلميذا عمّاوس وتحدثا به مع رفيقهما في الطريق (24: 19). وهذا ما سنتعرّف إليه الآن مع الرسل الإِثني عشر الذين تمّ اختيارهم. سنتعرّف أولاً إلى تعليم جديد يختلف عمّا قاله الكتبة كلّ الاختلاف، وهو يشدّد لا على الشريعة نكمّلها، بل على الرحمة نعيشها على مثال الآب السماويّ الذي هو رحوم.
أورد متّى "عظة الجبل " (ف 5- 7) ولوقا "عظة السهل ". يرينا متّى في 5: 17- 48 أن "البر الأكبر" المطلوب من التلاميذ يقوم أساسًا على الحبّ، هذا الحبّ الذي يجد كماله في محبّة الأعداء. ويعارض في ست نقائض بشارة يسوع الجديدة مع شريعة العهد القديم. أما لوقا فلا يتكلّم عن هذا الاختلاف في النظرة إلى الله حسب الشريعة وحسب المسيح. ولا يقول للتلاميذ إن عليهم أن يتجاوزوا الفرائض التي وضعها الأقدمون، أو إن تتميم إرادة الله يجب أن يكون أكبر من برّ الفرّيسيّين. ففي كنيسة تحدرت من الشريعة اليهوديّة، صارت وصيّة المحبّة التي أعلنها يسوع، صارت شرعة التلاميذ الجديدة. لا حاجة بعد اليوم إلى جدال حول الشريعة القديمة، لهذا ترك لوقا كل الاستشهادات التي نجدها عند متّى وراح مباشرة إلى الجوهر. قال مت 43:5: "سمعتم أنه قيل: أحبّ قريبك وأبغض عدوّك، أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم ". ترك لوقا نصّ العهد القديم وقال مباشرة: "ولكني أقول لكم أيها السامعون: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم. باركوا لاعنيكم وصلّوا لأجل الذين يفترون عليكم " (6: 27- 28). ثم يعود لوآ 32- 33 إلى مت 5: 46- 47.
إن ما نقرأه في لو 20:6- 49 هو ثلث ما في متى، وإن نحن تفحّصنا النصّ تفحّصًا أدبيًّا نجد أن لوقا لا ينقل متّى. فالنسختان تعودان إلى مرجع واحد، وكل منهما استعمله في خط إنجيله. لا شكَّ في إن متِّى اهتمّ بنقل كلام المعلم، ولكنه دوّنه في أسلوب "خطبة عن الشريعة". أما لوقا فاحتفظ بإعلان يسوع النبويّ في أنقى مظاهره. إن تسلسل الأفكار عند لوقا بسيط وهو يربطنا بأثمن وأقدم ما في التقليد.
يبدأ هذا التعليم الجديد بالتطويبات والتوّيلات (ويل، ويل)، بخطبة تعني الذين يريدون أن يتبعوا يسوع. الخلاص (السعادة) هو للفقراء والويل (التعاسة) للأغنياء. بعد هذا نعود إلى القسم الجوهريّ من خطبة السهل في لوقا، وهو لا يتكلّم إلا عن المحبة. المحبّة لا تردّ على الشرّ بالشر، بل تردّ على الشرّ بالخير (27:6 - 31). لا تستند المحبّة إلى التبادل، ولا فضل لنا إن أحببنا من يحبنا (32:6- 34)، بل هي مستعدّة لأن تعمل الخير في كلّ حال، لأن تغفر، لأن تعطي دون أن تنتظر من يردّ لها العطاء (آ 35-38).

1- أَحبّوا أعداءكم (آ 27- 28).
إن الأغنياء الذين توجَّه إليهم "الويل " ليسوا هنا. فالتفت يسوع من جديد الى تلاميذه الحاضرين هنا أمامه، ونحن أيضًا الذين نسمعه. حدّثهم بكل عظمته: "أمّا أنتم فأقول لكم ". كلامه بلاغ آتٍ من عند الله، وهو يتكلّم كمن له سلطان، لا مِثل معلّمي الشريعة والفرّيسيين (مت 29:7). لقد أعاد يسوع الشريعة كلّها، لقد أعاد "البر" الذي هو إتمام إرادة الله، إلى وصية المحبة: "أحب الربّ إلهك من كل قلبك، كل نفسك وكل قدرتك وكل فكرك، وأحب قريبكُ مثلما تحب نفسكِ " (27:10). إنّ الطّريق الى محبة الله بكل القلب قد تحررت بعد التطويبات والتويلات، فلم يبقَ من حديث إلاّ حديث محبة القريب..
نحن هنا أمام فداء يتوجّه إلى "الذين يسمعون يسوع " لكي يتركوا محبة الله (ورحمته) تفعل في داخلهم. قدّم إلينا متّى نقائض تبرز "البر" الجديد الذي يعيشه المؤمنون الجدد. أما لوقا فلم يحتفظ إلاَّ بالنقيضة الأخيرة المتعلّقة بمحبة الأعداء في خط أم 25: 21: "إن جاع عدوّك (من يبغضك) فاطعمه خبراً، وإن عطش فاسقه ماءً، فإن فعلت هذا تركم على هامته جمرًا والربّ يكافئك ". وذكرنا لوقا أيضًا بأن لا نقاوم من يطالبنا.
نقرأ عند متّى: "سمعتم أنّه قيل ". هذا يعني بكلام واضح: قال الله لكم (رج روم 9: 12- تك 23:25؛ روم 9: 25= هو 2: 25). قال، أمّا أنا فأقول: من يقدر أن يبدّل شريعة الله إلاَّ الله نفسه؟! وقال متى: سمعتم. هذا يدلّ على قراءة الشريعة في المجمع. فهذه الشريعة المقدّسة والتي لا تمس، التي يحيط بها مجدُ سيناء ومعجزات الخروج، هذه الشريعة واجهها يسوع: "أمّا أنا فأقول لكم ". لو وصلتنا آراء الربانيين لقالوا إنّه يجدف. ولكن ما يعتبره اليهود تجديفًا هو خدمة الدعوة المسيحانية. إنّه موسى الجديد الذي يؤسس نظامًا جديدًا ويقدّم شريعةً جديدةً تُلغي ما في القديمة من عتيق.
ما يطلب منّا المسيح هو محبّة القريب. قال لا 18:19: "أحبب قريبك كنفسك". كانت وصيّة بين سائر الوصايا، فعزلها يسوع ورفعها فوق كل وصايا الشريعة ليعطيها الأهميّة الأولى. وفسّرها تفسيرًا جديدًا. ليس القريب فقط إبن الأسرة أو القبيلة أو البلدة أو الدّين. القريب هو كل انسان، حتّى من نحسبه عدوًّا. وإنطلاقًا من هذا التفسير الجذري للمحبة، ستُبنى أخلاقيات الشرعة الجديدة.
"أعداؤكم " هم أعداء مجموعة التلاميذ، الذين يفترون عليهم، يسيئون إليهم، يضطهدونهم. إنّهم أعداء كل تلميذ. فأنا أفكر بصورة خاصة بعدوّي الذي أساء إليّ. ومع ذلك، يطلب يسوع منّا أن نحبّهم. ولكن، هل يأتي الحب بصورة آلية "بكبسة زر"؟ هل تأتي العاطفة. بمجرّد أمر أُصدر إلينا؟ هل نستطيع أن نقتني بكل بساطة العاطفة التي تجتذبنا إلى القريب؟ ما يطلبه يسوع هو أن نحسن (نعمل الخير)، نبارك (ولا نعلن)، نصلّي (ونتشفّع) من أجل الذي يبغضنا ويلعننا ويسيء إلينا.
لا يقوم حبّ القريب فقط بأن نغفر لمن ظلمنا. لا يتحدّث يسوع هنا عن الغفران، فالغفران أمر مفروغ منه. فالتلاميذ لا يغفرون فقط، بل يفعلون كل ما يعود بالخير إلى العدوّ. يردّ التلميذ على البغض بعمل الخير، وعلى اللعنة بالمباركة، وعلى المعاملة السيئة بالصلاة.
إنّ الذي يحبّ عدوّه لا يجعل نفسه فقط في خدمة هذا العدوّ بالخير الذي يصنعه له، بل يجنّد الله طالبًا منه أن يفعل ما لا يقدر أن يحقّقه بنفسه لعدوّه. لن يبقى في قلبنا موضع إلاَّ واجتاحته المحبّة من أجل أعدائنا: العمل المنظور، الرغبات، الكلمات، القلب الذي هو مركز الصلاة.

2- من ضربك على خدّك (آ 29- 30).
قدّم متّى (38:5) شريعة المِثل: من أخذ لك حياتك (نفسًا تخصّك) تأخذ له حياته، ومن أخذ لك عينك تأخذ له عينه وهكذا تتم المساواة في الأذى علي ما قالت شرعة حمورابي (القرن التاسع عشر ق. م.) وشرعة العهد: "نفس بنفس (اي: حياة)، عين بعين، سن بسن، يد بيد، رجل برجل، كيّ بكي، جرح بجرح، رض برضّ " (خر23:21- 25؛ رج لا 24: 20). ثم يقول لنا متى مبدأ عامًّا: "لا تقاوموا الشرّير" ويقدّم لنا ثلاثة تطبيقات عملية: "من ضربك.... من أخذ ثوبك... من سخّرك ميلاً" وينهي كلامه بتعليمة إيجابية: من طلب أعطه. تبع لوقا ما نجده عند متّى. ولكنه بدّل ما قاله متى في التطبيق العملي الثاني. ذكر متّى القميص ثمّ الرداء. ولكن الرداء يؤخذ قبل القميص، وهو يُلبس فوق القميص.
هنا نجد تدرّجًا على مستوى الغفران. طالب لامك في نشيده بالانتقام سبعين مرّة (تك 23:4- 24). أمَّا شريعة المِثل فسمحت بالانتقام مرّة واحدة. طلبت خطبة الجبل أن لا نقاوم الشرير. أما الخطبة الكنسية فأمرت التلاميذ أن يغفروا سبعين مرّة سبع مرات (مت 18: 21- 22). مقياس الانتقام إِنقلب فصار مقياس الغفران.
بدّل لوقا بعض الشيء بالنسبة إلى متّى. حدثنا متى (46:5- 47) عن الأعداء التقليديين لليهودي التقي: العشّارون والوثنيّون. أمّا لوقا فوسع مدلول العدو إلى كلّ من يسيء إلينا، من يهاجمنا شخصيًّا أو يحاول أن يستولي على أملاكنا. إذن، العدو هو كل من يمس ما يخصّنا أكان صيتنا أم جسمنا أم ثوبنا أم مالنا.
حبّ الأعداء أمر صعب: ندافع عن نفوسنا ضد الظلم، نريد أن ننتقم من الذي أساء إلينا. نريد أن نضع حدًّا للشر برَدّ قاس: عملتُ لك ما عملتَه لي. أخذت لي عيني فأخذت لك عينك (رج مت 5: 38).
طلب منّا يسوع أن لا نردّ على الشرّ بالشرّ، بل أن لا نقاوم الشرّ. هذه المبادئ تسري فيما يخص الظلامة الشخصيّة التي أصابتنا (من ضربك على خدّك)، كما تسري على ما يخص أملاكنا (من أخذ الرداء).
ويفرح تلميذ يسوع بأن يعطي عطاءً لا حدود له، ولا يضاهيه فرح: "كل من يطلب منك (شيئًا) فأعطه (إياه) " دون أن تنظر إلى بلده أو معتقداته أو آرائه الشخصيّة ومواقفه السياسية وكرامته (غني أو فقير، متعلّم أو أمّي). اعطِ، أعطِ دومًا. ويذهب يسوع أبعد من ذلك: الملك الخاص الذي أُخذ بالقوة أو الحيلة، لا تطالب به. من مُني بخسارة لا يحاول أن يدافع عن نفسه أو يستعيض ما هو له. ولكن، إلى أين نحن ذاهبون ان حلّ الظلم محل العدل؟
هل نستطيع أن نستمع بهدوء إلى متطلّبات يسوع هذه؟ هناك ثورة في داخلنا، هناك إعتراضات عميقة. كيف يتخلّى الشخص البشري عن حقوقه؟ بهذه الطريقة نفتح الباب أمام هجمة الشر ونشجّع أحقر الغرائز بين البشر!
الأمثلة التي أعطاها يسوع مدهشة وهي تستعمل أسلوب المفارقة، لأن النّاس يتصرّفون في الواقع بين بعضهم حسب قواعد مختلفة كل الإختلاف. وهذه الأمثلة تبيّن لنا إلى أي حد يعاكس سلوك البشر العادي إرادة الله. فعلى ملكوت الله أن يمسك بهم لكي يحوّلهم. نظن أن الشر يُدمّر إن نحن قاومناه، إن رددنا على الشر بالشر. ولكن يسوع يعلن أننا نغلب الشر بالخير، نتجاوزه بعمل الخير. جاءنا يسوع بملكوت الله، وبالخير الذي ينتشر في هذا الملكوت تتثبت غلبة الخير على الشر.
طريقة يسوع في التعبير عن فكرته مليئة بالصور وهي قاسية. إنه يريد أن يزرع فينا القلق (لا طمأنينة النعام)، أن نحس بوخز الضمير. يريد أن يوقظنا من سباتنا، أن يحرّك خمولنا، أن يدفعنا إلى التوبة. والأمثلة التي أعطاها تدل على موقف يريد أن ينشره. هو لا يقدم لنا مقالاً أخلاقيًّا مع أداة الشرط (اذا...) أو الاستدراك (ولكن). لم يُرد بكلامه أن يحدد تشريعًا جديدًا يتضمن أربعة بنود: أوّلاً، من ضربك على خدك، ثانيًا: من أراد أن يأخذ رداءك... ان قلنا هكذا لم نفهم معنى كلمات يسوع. هذه الأمثلة هي تحقيقات نموذجيّة لموقف أساسي. وما يريده يسوع منّا هو هذا الموقف. فعلى التلميذ أن يترجمه في تفكيره ويحقّقه في أعماله عبر ظروف حياته الملموسة.

3- القاعدة الذهبية (آ 31)
كيف نترجم محبة الأعداء بالأعمال؟ ما الذي يجب أن اعمل من أجل قريبي، من أجل عدوّي؟ لقد تكلّم معلّمو الحكمة في كل مكان، لدى اليهود ولدى الوثنيين، وأوصلت إلينا التوراة اليهودية القاعدة الذهبيّة.
أوردها متّى (7: 12) كملخَّص للشريعة والأنبياء، وكخاتمة للإلتزام من أجل البر في الملكوت. إنّها قاعدة التضامن البشري التي أعطاها طوبيط الشيخ لإِبنه: "ما لا تريده لنفسك، لا تفعله لأحد غيرك " (طو 15:4). ونقرأ في سي 21: 15: "إفهم ما عند القريب مما عندك " أو: "احكم على (شعور) القريب انطلاقًا من نفسك ". وأعلن رابي هلال قولاً مأثورًا مشابهًا لهذا القول: "ما لا تحبّه لا تفعله لقريبك. هذه هي الشريعة كلّها وما تبقى شروح وتفاسير".
وعرفت الحكمة اليونانية (هيرودوتس، ايسوكرتس) هذه القاعدة منذ زمن بعيد. وقد عبَّر عنها الرواقيون بالعبارة التالية: "ما لا تريد ان يُفعل لك، لا تفعله لأحد غيرك،. إن الإِنسان يحمل في ذاته كتاب الشريعة والعودة الى مواقفه ليحكم على مواقف الآخرين. فرغباته وحاجاته تعلّمه كيف يتصرف مع القريب.
ولكن وردت هذه القاعدة مرارًا في صيغة سلبية. فاستعادها يسوع وأعطاها شكلاً جديدًا. أعطى الآخرون قاعدة تدعونا إن لا نعمل ما يزعج القريب. أمّا يسوع فطلب منّا أن نعمل ما يرضي القريب، بل العدو، ما يُفرح الآخرين. هذا هو الفرق الشاسع بين ما قاله الأقدمون وما قاله يسوع: لا نمتنع عن الشرّ وحسب، بل نفعل الخير. فتلميذ يسوع لا يكتفي بأن لا يعمل، بل هو يعمل كل الخير الذي باستطاعته. حبُّنا لنفسنا هو القاعدة والمقياس لحبّنا للقريب: "أحبب قريبك كنفسك ". ولكننا سنرى فيما بعد ان مقياس محبّتنا للقريب هو محبّة الله لنا: "أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم " (يو 34:13).

4- إن أحببتم من يحبّكم (آ 32- 36).
قدّم يسوع لنا الآية الذهبية فكشف كنوز الانفتاح والرحمة التي جعلها الله في القلب البشري. يبقى علينا أن نتقبّلها، ان ننفتح على الآخرين ونقبلهم ونعاملهم بالرحمة، وهكذا تتجلّى "النعمة" والحنان في المجتمع وتتحوّل العلاقات بيننا وبين الآخرين.
ثم يُوضح لوقا الموقف المطلوب، ويقابله بالموقف الذي يقفه "الخطأة". ما يميّز سامع الكلمة من الذي لا يسمعها، هو أن الأول ينال قوة بأن يتجاوز مستوى التبادل في الحبّ البشري الطبيعي، ويعيش هذا التجاوز كنعمة ظاهرة في حياته. إنّه ضعيف، إنّه عاجز ولكن الله يَغمره بعطاياه، ولهذا فهو يشهد بحياته لمجانية الله: "هو لا ينتظر شيئًا مقابل ما عمل " (آ 35). كانت الشريعة اليهودية قد قالت: "إن رقّت حال أخيك وقصرت يده عندك (أي: عن دفع ديونه لك) (فلا تطالبه) بل اعضده (اسنده) وليعش معك كغريب وضيف نازل في بيتك، وهكذا يكون كأخيك (رج لا 33:19- 34). لا تأخذ منه ربى ولا ربحًا، وهكذا تدل على مخافتك لله وتسمح لأخيك أن يعيش في جوارك ". (لا 35:25- 36).
هذا ما طلبته الشريعة من اليهودي حيال أخيه اليهودي الذي يقيم معه. ولكن يسوع طلبه من كل إنسان. ففي النهاية ما يؤسس الموقف الذي فيه نقبل الجميع هو موقف العلي نفسه. ففي هذه السنة التي يقبلنا فيها (رج 19:4)، يمنحنا ان نحيا كابناء. قال سي 8:4- 11: "املٍ اذنك الى الفقير ورد عليه تحيته بوداعة. أنقذ المظلوم من يد الظالم ولا تكن جبانًا حين تصدر الحكم. كن أبا لليتامى، وبمنزلة رجل لأمهم. هكذا تكون ابن العلي الذي يحبّك أكثر من أمّك".
ويمنحنا الله أيضًا أن نحبّ حيث يبدو الحبّ مستحيلاً: فهو صالح لناكري الجميل، للذين لا يستحقون النعمة (اخاريستوي= بدون رحمة. رج 2 تم 3: 2). هو صالح للأشرار (بونيروي) أي التعبون والمتعَبون.
هذا هو الأجر العظيم الذي أُعلن عنه في آ 23، للذين يبغضهم الناس بسبب شهادتهم من أجل إبن الانسان: لقد عاشوا التطويبات فانفتحوا على رحمة الآب (آ 36). لا بد من الدخول في صيرورة، أي أن نصير شبيهين بالآب الرحيم، نصير على صورته. ونكون صادقين في تشبهنا به إن أحببنا أعداءنا متجاوزين قاعدة التبادل التي تطبع العلاقات بين البشر.
في العهد القديم كان المؤمن يصلِّي ضد عدوّه. يقول مز 13:17 بلسان إنسان بريء: "قم يا الله، قاومه، إصرعه. نجِ نفسي من المنافق بسيفك " (رج مز 4:48؛ 23:69- 29). أما في الشريعة الجديدة فيجب أن نصلّي من أجلهم. وحجة المؤمنين هي إقتداء بمحبة الآب السماوي الشاملة. كتب لوقا: انتم أيّها السامعون، ففكّر بقرائه وأوَّن لهم كلمة يسوع كما فعل بالنسبة إلى التطويبات.
في آ 32- 33 كان لوقا قريبًا من مت 5 :46- 47، ولكنّه تجنّب ذكر الوثنيين لأنه يكتب إليهم. قال مت 5: 47: "إن كنتم لا تسلّمون إلاَّ على أصدقائكم، فأي شيء غريب عملتم، أما يعمل الوثنيون هذا"؟ أمّا لوقا فتحدّث عن الخاطئين. "إن أحسنتم إلى المحسنين إليكم فأي فضل لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يعملون هذا" (آ 33). وتحدّث متّى عن "الأجر" وهي كلمة معروفة في اللاهوت اليهودي. أمّا لوقا فاستعمل كلمة "خاريس" (نعمة)، التي تعني الجمال والعطية والفضل، والتي يعرفها اليونانيون ويحبّونها. وأخيرًا، حوَّل لوقا سؤال مت 46:5 ج (أما يعمل العشّارون هذا؟) و5 :47 ج (أما يعمل الوثنيون هذا؟) الى تأكيد ليجعل النصّ واضحًا قال: "الخاطئون أنفسهم يقرضون الخاطئين " (آ 34).
وُينهي متّى كلامه: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو" (مت 5 :48). يستلهم هذا القول لا 2:19: "كونوا قدّيسين لأني أنا قدوس ". حدّثنا متّى عن الكمال (رج 19: 21: قال يسوع للشاب الغني: إن شئت أن تكون كاملاً)، ولوقا عن الرحمة التي هي عزيزة على قلبه (رج 37:10 ومثل السامري الصالح الذي عامل الجريح بالرحمة).
أعطى متّى مثلين عن المحبّة (46:5) والتحيّة (آ 47). أمّا لوقا فأعطى ثلاثة أمثلة: عن المحبّة (آ 32)، عن الخير (آ 33 (وعن العطاء (آ 34). ثمّ عاد فتحدّث عن محبّة الأعداء، عن محبّة الجميع على مثال الآب السماوي (آ 35).
على تلاميذ يسوع أن يتمّوا إرادة الله تتميمًا كاملاً وجذريًا. هم لا يستطيعون أن يعيشوا عيش الخاطئين (أي: البعيدين عن الله وعن وصاياه). إنّهم ملح الأرض والنّور على الجبل (مت 13:5 ي). لهذا لن تكون محبّتهم مبنيّة على التبادل: أحبّك حتى تحبّني، أُعطيك حتى تعطيني! إن لم يحبّوا إلاَّ الذين يعبّرون لهم عن محبّتهم، فليسوا أفضل من الخاطئين. عليهم أن يحبّوا حتى الذين لا يقدرون أن يردّوا لهم المحبّة. عليهم أن يحبّوا لأن تلك هي إرادة الله. قال يسوع في مت 3:6- 4: "إذا أحسنت إلى أحد فلا تجعل شمالك تعرف ما تفعله يمينك، حتى يكون إحسانك في الخفية وأبوك الذي يرى في الخفية هو يكافئك ". وقال يسوع لرجل دعاه في لو 12:14 ي: "إذا أقمت وليمة، فلا تدعُ إليها أصدقاءك، بل أدعُ الفقراء والمشوهين... هم لا يقدرون أن يكافئوك، فيكافئك الله في قيامة الأبرار".
ونترجم الحبّ بالخير الذي نعمله: نعطي، نقرض... فالذي يحب نجده في كل موضع فيه شقاء. فالحب الذي يحدّثنا عنه يسوع هو حبّ فاعل. "لا تكن محبّتنا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحق " (1 يو 18:3).
ويعد يسوع بالمكافأة لهذا الحبّ. يتعرّف الله إلى أعمال الانسان ويدل على رضاه ويعطي نعمته.
"أعطوا غير راجين شيئًا". هذه هي علامة محبّة التلاميذ. لا عرفان جميل من قبل الناس، لا مديح، لا عطاء في المقابل. لا يتوافق الحبّ مع الحسابات. إنّه ينبع من أعمق أعماق الانسان وينتشر. فحين يعطي التلميذ قرضًا فهو لا ينتظر أن يستعيد قرضه، بل يريد أن يساعد.
والتلميذ الذي يتم وصية محبة الأعداء ينال أجرًا كبيرًا. يُدعى إبن العلي على مثال يسوع نفسه (32:1). يشارك يسوع في بنوّته وفي سلطانه.
وليست البنوّة الالهيّة واقعًا سننتظره في نهاية الأزمنة. إنّها تعطى لنا يوم نحب أعداءنا حبُّا حقيقيًّا. فبالحبّ المتجرّد، بالحبّ الذي لا يتأسس على التبادل، يصبح التلميذ شبيهًا بالله.
"كونوا رحماء كما أن أباكم رحوم " (آ 36). فالرحوم هو الذي يتأثّر بشقاء البشر، ينفتح على ضيق الآخرين وتعاستهم، يساعد كل الذين حنت ظهورَهم المصائب.
يعلن يسوع أن الله رحوم. ثمّ إن ملكوت الله يبدأ بالرحمة في إنجيل لوقا، يحدّثنا عن حريّة للاسرى، ونور للعميان، وخلاص للمظلومين. فيسوع الذي أرسله الله ليعلن زمن الخلاص، بل ليحمل زمن الخلاص هذا، يجول أرض فلسطين وهو يعمل الخير. يغفر الخطايا ويهتم بالخاطئين، ويتكلّم عن فرح الآب السماوي.
وتُعلِّم رحمةُ الآب التلاميذَ ما عليهم أن يفعلوا ليتشبّهوا بهذه الرحمة. يقول التقليد اليهودي: "كما أنّ الله ألبس العراة (تك 3: 21) ألبس أنت العراة مثله. كما ان الله زار المرضى (تك 18: 1) زُرْ أنت المرضى مثله. كما أن الله سُمي الرَحوم والحنون، كن رحومًا وحنونًا واعطِ كلَّ واحد ولا تنتظر جزاء. سمي الله الصالح، فكن أنت صالحًا".
للحبّ مقياسان بهما يقيس الانسان موقفه الملموس ويختبر صدقه: رغبة قلبه العميقة (أحبب قريبك كنفسك) ورحمة الآب السماوي. وهذان المقياسان هما في الواقع مقياس واحد. فالتلميذ هو إبن الله، إنّه صورة الله. وشموع يعيد صورة الله إلى الانسان لانّه جاء يعلن ملك العلي الذي هو الآب الرحوم.

5- لا تدينوا (آ 37- 38).
ندين شخصًا حين نحكم عليه. هكذا دان الفرّيسي المرأة الخاطئة (37:7). قال متّى: "لا تدينوا" (مت 7: 1) فعمل لوقا مثله ولكنّه زاد عبارة مشابهة: لا تحكموا على أحد. لا تدينوا لئلا تُدانوا. إن المجهول اللاشخصي يمنعنا من إستعمالِ الاسم الالهي. لا تدينوا أحد وتحكموا عليه، فلا يدينكم الله ويحكم عليكم. إذًا، لسنا أمام تبادل بين البشر: من يدين الناس يدينه الناس.
وهنا يبدو نص متّى قريبًا من الدينونة الأخيرة (مت 25: 31- 46) "عندما يجلس إبن الانسان على عرش مجده وتُجمَع لديه كل الامم ".
أمّا نص لوقا فيتوجّه نحو المحبة الاخوية التي هي إحدى الاهتمامات الرئيسية في الانجيل الثالث. أجل، إن آ 37- 38 تدلاّننا كيف نعيش المحبّة بصورة عملية كنعمة مشابهة لرحمة الله. لسنا هنا أمام تبادل وإن يكن التعبير واردًا بشكل تبادل. في الواقع، إنّه يدل على دينامية رحمة الله التي تدعونا إلى الدخول بحرية في عالم لا دينونة فيه على أحد، لا حُكمَ فيه على أحد، على عالم الصفح والغفران.
لا يكلّمنا يسوع عن الجواب المناسب إلى الذي يحبّنا أو يحسن إلينا (آ 32 - 34)، بل يشدد على المبادرة تجاه الذين لا يحبّوننا. أولاً، بطريقة سلبية: لا تدينوا، لا تحكموا (آ 37 أب) ثم بطريقة إيجابية: إغفروا (آ 37 ج)، أَعطوا (آ 38). ما الذي يدفعنا الى هذه المواقف؟ نجد الجواب في قول مأثور قديم: بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم). نجد هذا القول في التقليد اليهودي، كما نجده في العقود التجارية في مصر أو اليونان. يتضمّن الشق الثاني صيغة المجهول، وهكذا نشير إلى الله دون ان نسميه: الله يكيل لنا. فالسخاء الفياض الذي يُعطى لمن يسمع يسوع يعود إلى رحمة الله التي لا تنفد لاجلنا. مثل هذا السخاء هو فيض الرحمة التي يغمرنا بها الآب. "أي فضل لكم ثم (32:6، 34) تساوي: من أي فضل تعيشون؟ والجواب: من فضل الله.
أجل، من يُعطي القليل ينال القليل، ومن يعطي بسخاء يُعطَى له بسخاء. من يعطي البشر، من يغفر للبشر ينال عطايا الله وغفرانه. ومن لا يعطي ولا يغفر، لا أمل له بعطاء الله وغفرانه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM