الفصل الرابع والعشرون: قوّة يسوع تخرج الشياطين
 

 

الفصل الرابع والعشرون
قوّة يسوع تخرج الشياطين
4: 31- 37؛ مر 1: 21- 28

وتبدأ الرسالة في كفرناحوم. كفرناحوم هي مدينة في الجليل حيث "حصل" (23:4) شيء ما. فإِليها أرسل الضابط الرومانيّ رسلاً إلى يسوع (7: 1). كفرناحوم هي حقل رسالته الأهمّ، وفيها صار الله قريبًا من البشر في يسوع. يسميّها مت 9: 1 مدينة يسوع الخاصّة. كانت مسرح أعمال قدرة يسوع فافتخرت ولكنها ستدمَّر (15:10) فيتمّ فيها كلام أش 13:14- 15: "وان ارتفعت إلى السماء سوف تهبطين إلى الجحيم".
يحدّد لوقا: كفرناحوم وهي مدينة في الجليل. ففي الجليل تكوّن الرسل الأولون، وفيه اختار يسوع شهوده الأولين الذين سيسمّون "جليليّين". و"الجليل" (4: 31) تحيلنا إلى "اليهوديّة" (4: 44). إن "يوم" يسوع هذا يضمّ حقل رسالته المقبل كلّه. ومنذ الآن نجد التعبير عن الإِنشداد نحو الجليل والمدينة المقدّسة: "إلى مجامع اليهوديّة". يبدأ النصّ بفعل "نزل" (حرفيًا: جاء إلى تحت) (4: 31) الذي يذكر بفعل "جاء" في 4: 16. وِنهاية المقطوعة "كان كارزًا (أو مناديًا)" في آ 44 يقابل مع ساعة العماد: وكان بادئًا في 23:3.
تنقسم هذه "الرسالة في كفرناحوم" (4: 31- 44) إلى زمنين. هناك زمن أوّل (32:4- 37) يتركزّ على سلطة كلام يسوع (آ 36:32). إنه يتمّ يوم السبت في المجمع ومن هناك ينتشر صيت يسوع إلى النواحي. والزمن الثاني (38:4- 44) يتكلّم عن اشفية (آ 39- 40) تمَّت ابتداء من بيت سمعان، ومن هناك سينطلق يسوع إلى المدن الأخرى. ففي الزمنين، يواجه يسوع الشياطين والأرواح النجسة (آ 33، 35 . 36، 41). وهم يعرفون (آ 34، 41) من هو، ولكن البشر لا يعرفونه، كما يبدو، شأنهم شأن أهل الناصرة (آ 22).
إن نشاط يسوع خلال يوم السبت هذا يشكِّل برنامجًا: إنه يعلَّم، إنه يشفي (حرفيًا: يعتني بالمرضى كما يفعل الطبيب). ثم يشدّد النصّ بوضوح على الإِنتقال من المجمع إلى "بيت سمعان" في آ 038 إخراج الشياطين و"خوف" (آ 35 - 36). ثم شفاء و"خدمة" (آ 39). وكلّ هذا ينتهي بأشفية "عند غروب الشمس". قد نجد هنا تلميحًا إلى موت يسوع الذي فيه شُفينا كلّنا (رج 23: 44، 56).
ويهتمّ الشياطين بأن يكتشفوا بردّات فعلهم العنيفة ما في الأمر: "أعرف من أنت: أنت قدوس الله" (آ 34)، "أنت ابن الله" (آ 41). ولئلا يخطئ احد ترجم لوقا الكلام بوضوح: "عرفوا أنه المسيح" (آ 41). نحن هنا في الواقع امام التجربتين الثانية والثالثة على مستوى الرسالة، وشموع سينتصر عليهما. إن يسوع يشارك في قداسة الله فتدمّر كلمتُه سلطةَ الشيطان (رج 6:4؛ 53:22؛ أع 18:26). وشموع يجرَّب من قباء الجموع: انها تريد أن تراه يستغل نجاحه الأوّل (رج 4: 12). ولكنه لا يسمح لهم بأن "يحتفظوا به": يجب أن أبشر سائر المدن (آ 43) يجب أن ينطلق إلى اليهوديّة حيث آلامه وموته قبل قيامته. أجل، إذا كانت يده تشفي، إن كان يحرّر البشر من أجل خدمة الله (حماة بطرس)، فهو لا يعمل هذا من أجل مجده الخاص. انه ابن الله الذي يقوم برسالة أوكله بها الآب.

1- يسوع يعلِّم بسلطان (آ 31- 32)
هنا يلتقي لوقا مع مت 28:7 ب-29 ومر 1: 21-22
يبدأ مرقس "وفي الحال" التي هي اداة اخبارية بسيطة خاصّة بمرقس. أغفلها متّى ولوقا كما اعتادا أن يفعلا في الأخبار الموازية. فهي لا تدلّ دومًا على رباط كرونولوجيّ بما سبق: فدعوة الرسل (5: 10- 11؛ مت 18:4- 22؛ مر 1: 16- 20) تمّت في يوم من ايام الأسبوع، في يوم عمل. أمَّا شفاء المتشيطن فتمَّ يوم السبت.
نشير هنا إلى أن لوقا زاد "مدينة الجليل" بعد أن ذكر كفرناحوم. فقراؤه يجهلون الطوبوغرافيا الفلسطينيّة. هل كانت الجليل معروفة بعد الحرب اليهودية الرومانيّة التي انتهت سنة 70 ب. م. بدمار أورشليم؟ الأمر ممكن.
أليوم سبت. علّم يسوع في الناصرة يوم السبت (آ 16). وها هو في كفرناحوم يوم السبت، وفي المجمع بالذات. هكذا فعل يسوع وهكذا تبعه الرسل ولا سيّما بولس، فبدأوا تعليمهم في المجامع يوم السبت، في قبرس (أع 13: 5)، في انطاكية بسيدية (أع 12:13)، في ايقونيّة (أع 14: 1). ولكن تعليم يسوع لم ينحصر في يوم من الأيام، ولا في مكان واحد. وكذلك نقول عن الرسل. سينطلقون من المجامع ليتوجّهوا إلى الأمم الوثنية فيصل خلاص الربّ "إلى أقاصي الأرض" (أع 13: 44 -47).
ماذا علَّم؟ هذا ما لا يقوله النصّ في هذا الشأن. ولكنه يعطينا النتيجة: تعجّبوا من تعليمه، أصيبوا بالدهشة بالنسبة إلى تعليمه. لا شك في أنه عاد إلى الكتب المقدّسة والتقليد، ولكنّه لم يكتفِ بتكرارها كما يفعل الكتبة. كان يضع سلطانه كله، بل يضع شخصه فيها بشكل لم يسمع به أحد. وسبب "دهشة" السامعين هو ان هذا التعليم جديد، يُعطى بسلطان هو سلطان الله نفسه. فكلام الله يفعل وبالحري حين يخرج من فم الذي هو الكلمة بالذات.
والشطر الأخير. قال مر 1: 22: "مثل الكتبة"، فأشار إلى معلمي ذاك الزمان، الذين ينسخون الكتب المقدّسة والتقاليد فيتعرّفون إليها وينقلونها إلى الشعب. قال مرقس: "الكتبة". أمَّا متّى الذي يفكرّ بقرَّائه اليهود والمسيحيّين المتهوّدين فكتب "كتبتهم" أي كتبة اليهود. وهكذا ميَّز الجماعة المسيحيّة عن الجماعة اليهوديّة. اجل، بدأ الإِِنفصال فعلاً منذ الحرب اليهوديّة الرومانيّة وازداد جدًا في السنوات 80 يوم كتب إنجيل متّى، وكان الشرخ واسعًا على مستوى كنيسة متى والعداء عميقًا. ويبدو أنه هدأ في وقت لوقا، أو أنه كان بعيدًا عن قرّائه الوثنيّين. لهذا أغفل ذكر الكتبة واعتبره تفصيلاً يمكن أن يُهمل، فاكتفى بأن يشدّد على شخص المسيح ولا يشبّهه بأحد: "كان يتكلّم بسلطان".
تحدّث الفصل عن التعليم في بداية المقطوعة (آ 32)، وسيعود إليه في النهاية. قال مر 1: 27: "تعليم جديد". ولوقا (آ 36): "أي كلام"! فنحن أمام تضمين، فنعيد في النهاية ما قلناه في البداية، وهذا يدلّ على أن النص يهتم أول ما يهتم بالتعليم. فيسوع يدلّ على سلطانه بالتعليم قبل أن يدلّ عليه بطرد الشياطين. ما يهم الإِنجيليّين، ولا سيما مرقس، ليس مضمون التعليم، وإن هم أوردوا لنا الكثير منه، بل نشاط يسوع في ذاته. فهذا النشاط يدلّ على هويّة يسوع. ويتميّز هذا التعليم بميزتين: الجدّة والسلطان. هو جديد لا بما يورده وحسب، ولكن بنوعيّته. هو جديد لأنه يُعطى بسلطان. والسلطان لا يدلّ على كفاءة شبيهة بكفاءة الكتبة ومعلّمي الشريعة الذين كانوا يعرفون الشيء الكثير. هي كفاءة من نوع آخر.
كان الرابي يرتبط بمعلّميه فيكرّر كلامهم ويهتمّ أول ما يهتم بشرح حرف الشريعة: يتبسط في التأويل ويبقى أمينًا للنصّ والتقاليد التي رافقت النصّ، ويقرّ بجهله إن عرضت عليه أمور في الشريعة عجز عن شرحها. سلطانه كلّه من الشريعة وتفسيرها. أما يسوع فلم يتعلّم في المدارس (يو 7: 15). إنه لا يرجع إلى معلّم سابق ولا يقبل أن يكون عبدًا للحرف. إنه فوق الشريعة وهو يفسّرها. فله سلطان على الشريعة نفسها: "إن الإِنسان هو ربّ السبب أيضًا" (مر 28:2). فحين شفى الأبرص دلّ على أنه أقوى من الشريعة: فهي تلاحظ المرض فقط وتطرد المؤمن من جماعة الله. أما يسوع فيزيل النجاسة ويعيد المؤمن إلى الجماعة. والسلطان الذي يمارسه هو سلطان تحرير الإِنسان من كل العبوديات، بما فيها عبوديّة الخطيئة (مر 2: 10). إذن هو سلطان إلهي يظهر أيضًا في تعليمه.
والطريقة التي بها يعلّم يسوع تطرح السؤال حول شخصه. هذا ما يعبّر عنه أهل الناصرة. تعجّبوا من كلام النعمة الذي يخرج من فمه. ولكنّهم توقفوا عند صفته البشريّة، بل القبليّة والعائليّة. "انه ابن يوسف" (آ 22)! من أين جاءته كلّ هذه الحكمة؟ لا، ليسبى يسوع واحدًا من الربانيّين، بل هو يتصرّف كنبي يتصلّ اتصالاً مباشرًا بالله (رج تث 18 : 15،18). إنه يقول كلام الله ولا يعود إلى أي مقياس بشري يدلّ على صحة كلامه. إنه "قدوس الله" كما قال الشيطان ولم يخطئ، وهو من الله يستقي تعليمه. إنه يجد ينبوع سلطانه في حرية الروح وهو سلطان يكشف سرّ الله ويحرّر الإِنسان. ويُذكَر تعليم يسوع في موضوعين محدَّدين وهما في: الأمثال (مر 4: 1- 2) وإنباءات الآلام الثلاثة. هنا يكشف يسوع عن شيء خفي لا يدركه الانسان بنفسه. يكشف عن سرّ الملكوت (مر 4: 11) ويدلّ على وضع عبد الله المتألم (مر 33:8؛ 9: 31).
إن خبر التقسيم الذي سنعود إليه والذي يدخل في إطار تقديم تعليم يسوع، يهدف إلى أمر واحد وهو تصوير هذا السلطان كسلطان التحرير على كلّ الصُعُد وفي كل المجالات. لهذا نفسره في منظار ما يدلّ عليه التعليم، لا خارج قرائنه فكأنه معجزة خارقة وحسب. ونحن نجد التقارب عينه بين التقسيم والتعليم، وخضوع التقسيم للتعليم في رسالة التلاميذ (مر 6). يُقال في البداية ان الله أرسلهم وأعطاهم سلطان ليطردوا الأرواح النجسة (آ 7)، وفي الواقع طردوا عددًا من الشياطين (آ 13). ولكن حين عادوا أعطى مرقس ملخصًا عن رسالتهم: اخبروا يسوع بكل ما عملوا وعلّموا (آ 30).

2- يسوع يخرج شيطانًا (33:4- 37= مر 1: 23-28)
إن إخراج الشياطين لأول مرة يتّخذ كل معناه إن نحن وضعناه في سياق مر 1: 12- 22 وما يوازيه عند متّى ولوقا. فحين اعتمد يسوع إرتدى روح الله فبدأ حالاً يعلن شيء الملكوت الذي يضع حدًا لتسلّط الشيطان. في هذا الوقت بالذات تدخّل الممسوس فجعل صراع تجارب يسوع يمتدّ وذلك بعداوته للإِِنجيل. وحين انتصر يسوع دشنّ الأزمنة المسيحانيّة حسب رجاء إسرائيل وتقواه. نقرأ في وصية لاوي (من وصيات الآباء الإِثني عشر، كتاب منحول): "تنفتح السماوات، ومن هيكل المجد تأتي عليه القداسة بصوت أبوي، كما من إبراهيم إبن اسحق... ويقيَّد بليعار (بليعال) بيده فيعطي سلطانًا لأبنائه بأن يدوسوا الأرواح النجسة. وسيُسرّ الربّ بحبيبه إلى الأبد".

أ- قراءة النصّ
يبدأ الخبر كما في رواية معجزة فيعرض الحالة: "كان هناك رجل". نقابل مثلاً مع بدايات أخرى: حماة سمعان: "كانت حماة سمعان طريحة الفراش بالحمى" (مر 1: 30). "وجاء أبرص" (مر 1: 40). "جاؤوا إليه بمخلّع" (مر 3:2). ولكن تبدّلت الأمور حالاً. يذكر النصّ عادة مبادرة تدلّ على إيمان المريض أو إيمان مرافقيه. أما هنا فلا يتدّخل أحد. ويسوع نفسه لا يتحرك. حدث "انفجار". حين وجد الشيطان نفسه أمام يسوع أطلق صراخَه. نكتشف هذه النتيجة في خبر تقسيم آخر، حين شفاء الصبي المصاب بداء الصرع: "فلمّا رأى الروح (النجس) يسوع، أخذ يحرّك الصبيّ ويجعله يتلوّى" (مر 9: 20؛ رج لو 9: 39؛ مت 17: 14 ي). من الواضح ان اللقاء بيسوع أحدث صدمة. لا يمكن أن يبقى الشيطان في هذه الحالة لا مباليًا.
وهو يفسر وضعه بوضوح في عبارتين. الأولى: ما لنا ولك؟ أي ما الذي بيننا وبينك؟ ماذا تريد منا؟ بماذا تتدخل؟ تدلّ هذه العبارة على مسافة بين شخصين، أو على سوء تفاهم، أو على خلاف بعد ارتباط، أو على رفض كلّ علاقة أو كل مساومة بين عدوين. نحن أمام اعلان حرب. أو، كما تقول العبارة الثانية: (جئتَ لتهلكنا) اعلان عداوة قديمة ورفض للصراع لأن الشخص (هنا الشيطان) يعرف النتيجة مسبقًا. وسنجد عبارة الرفض والخوف من الهزيمة في مشهد أرضا الجراسيّين: "ما لي ولك "؟ ثم: "لا تعذبني" (مر 7:5؛ مت 13: 29؛ لو 8: 28).
في هذه الحوارات المدهشة يُعطي الشيطان يسوع لقبًا: "قدوس الله". في خبر الجراسيّين "ابن الله العليّ" عند مر 7:5 ولو 28:8، و"ابن الله" في مت 13: 29 . ان عبارة "قدوس الله" نادرة في العهد الجديد. نجد في أع 3: 14: "القدوس والبار" وفي 4: 27- 30: "فتاك القدوس". نحن أمام عبارة كريستولوجيّة عرفتها الكنيسة الأولى. في لو 1: 35 يرتبط "القدوس" مع "ابن الله". ولن نجد عبارة "قدوس الله" الاّ في يو 6: 69 في اعتراف ايمان بطرس (كما في قيصرية فيلبس في الأناجيل الإِزائيّة). يدلّ الإِِنجيل على يسوع كذلك "الذي يأتي من الله ويعود إلى الله" (يو 3:13؛ 16: 20)، أو ذلك الذي أرسله وقدّسه (يو 36:10).
أما في العالم اليهوديّ فلا تدلّ عبارة "قدوس الله" على لقب مسيحانيّ. لهذا دلّت في آذان سامعي يسوع على أن يسوع كان ينتمي إلى دائرة القداسة الإِلهية. دلّت على كائن يرتبط ارتباطاً خاصًا بالله. وهكذا عبّرت صرخة الشيطان (أنت قدوس الله) على أن لا توافق اطلاقًا بينه وبين يسوع.
يسمّي لوقا العدو "الشيطان". أما مرقس فيسمّيه "الروح النجس". لا يرتبط الروح بالنجاسة على مستوى الجنس أو غيره من الشرائع الأخلاقيّة. نجس أي غير طاهر. أي: لا يجب ان يُلمَس، وان لمسناه تنجسنا. هذا هو وضع خنازير الجراسيّين التي ارتبطت بالشياطين. النجس هو الذي يمنعنا من الإِقتراب من العالم القدسيّ، من عالم الله. النجس يعارض ما هو مكرَّس لله ومقدّس. إنه القوّة المعاديّة لله ولقداسته. في هذه الظروف نفهم أن الشيطان شعر بحضور يسوع وكأنه حرب وعدوان، فكان هذا "الإِنفجار". وسيؤكّد لنا وَليُ الخبر على مخاوف الشيطان. لقد هدّده يسوع، بل أمره امرًا إلهيًا لا يقبلّ المماطلة والتسويف. هذا هو معنى فعل "ابيتيمو" في العهد القديم اليونانيّ.
هنا يعطي يسوع أمرين. الأوّل: اصمتّ. حرفيًا: اجعل كمامة (على فمك). يستعمل الفعل في المعنى الحرفي في 1 كور 9:9: "لا تضع كمامة على فم الثور وهو يدوس الحبوب" (رج 1 تم 18:5: تث 25: 4). وفي المعنى المجازيّ، طلب بطرس من المسيحيّ ان "يسكت (يغلق، يضع كمامة) فم الجهل (جهالة الأغبياء) بسلوكه الحسن" (1 بط 15:2). ويقول مت 15:22 ان يسوع "أغلق فم" (أفحم) الصدوقيّين. وإنه أغلق فم الشيطان (مر 1: 25 وز؛ لو 4: 35) والبحر (مر 4: 38). وهـكذا نتصوّر الشيطان كحيوان مفترس يكبح الربّ جماحه ويمنعه من أن يُلحق الأذى بأحد.
الأمر الثاني الذي يوجّهه يسوع إلى الشيطان: "أخرج منه". هذا ما نجده أيضًا في مر 8:5 ولو 29:8 مع ممسوس الجراسيّين، وبصورة أوضح في مر 9: 25: "فلّما رأى يسوع أن الجموع يتبادرون إليه، إنتهر الروح النجس قائلاً: أيها الروح الأصمّ والأبكم. أنا آمرك: أخرج منه ولا تعد إليه بعد الآن". أما لو 42:9 فاكتفى بالقول: "إنتهر يسوع الروح النجس وابرأ الصبيّ". خرج الشيطان وكان خروجه نهائيًا.
وأخيرًا صوّر مرقس بألفاظ عنيفة كيف خرج الشيطان. هزّ الممسوس، صرعه وصرخ صرخة قوّية. ولكن لوقا لا يحب مثل هذه الصور التي تشتّت انتباه قرائه الذين لا يفهمون الخيال الشرقي وتبعدهم عن المعنى العميق. لهذا ألغى هذه الصور وتكلّم كطبيب: "خرج الشيطان من غير أن يصيبه بأذى". يدلّ هذا الصراخ على النتيجة التي حصل عليها يسوع (ق مر 26:5) ولكن من دون صراع، عكس ما حدث مع ممسوس الجراسيّين والولد المصروع. في هذين الحادثين الأخيرين واجه يسوع بعض المقاومة، أما هنا فالنصر سريع. وهذا ما يُعجب به الحاضرون وقد رأوا فيه أمرًا غير عادي: أطاعت الأرواح النجسة كلمة يسوع، خضعت لهذه الكلمة الفاعلة.

ب- معنى النص
ويفسّر الإِِنجيل مشهد طرد الشيطان فيخضعه لشيء آخر، ويعبّر عن هدفه في ايراد مثل هذه الأخبار. ولكن بم يقوم هذا الهدف؛؟
إنه يكمن في إبراز شخص يسوع واكتشاف تدريجيّ لعمله. فإذا أردنا أن نجيب على السؤال الأساسي: "من هو يسوع"؟ يجب أن نطرح سؤالاً آخر: "من يقدر أن يقول من هو المسيح"؟ إن خبر التقسيم هذا الذي ينتهي بسؤال يتضمّن جوابًا، وهو يدلّ على انشداد نجده في كل الإِِنجيل الذي يقود القارئ إلى الأعتراف بالإِيمان المسيحيّ، إلى الأعتراف بيسوع كالمسيح وابن الله، بل الله نفسه. التعرّف إلى سر يسوع غير ممكن إلاّ بعد طريق طويلة وطبقًا لبعض الشروط. كل ما يحدث قبل ذلك أو عن طريق أخرى هو غير مقبول. هناك دروب كاذبة، هناك فخاخ يجب أن نتجنّبها. ويعلّمنا مرقس مثلاً كيف نتجنّبها. فأخبار التقسيم التقليديّة تعطينا عناصر التعليم، شرطَ أن نفسّر تفسيرًا مختلفًا عنصرَي التقنية اللذَين اكتشفناهما في الأخبار الإِنجيليّة وهما: التلفّظ باسم الشخص، وضع "الكمامة".
ففي التقسيمات اليهوديّة أو الوثنيّة كان التلفّظ بإسم المقسِّم وسيلة يدافع بها الشيطان عن نفسه، مجهودًا يائسًا ليلغي سلطان الذي يريد أن يطرده. ولكن حين يلفظ المقسِّم بدوره إسم الشيطان فهو يسكت الشيطان خصمه ويسيطر عليه بانتظار أن يطرده. من الواضح أن هذه الوجهة السحريّة في الصراع لا تهم الإِِنجيل: إنه يلغيها كليًّا مبدّلا معناها. وهذا واضح من الإِجمالة في مر 1: 34؛ 3: 11- 12 ولو 4: 41: لقد صار الإِسكات (وضع الكمامة) أمرًا واضحًا بالسكوت وعدم الكلام. وما يدفع يسوع إلى إسكات الشياطين هو أنها تعرف هويته. فالإِِسم الذي تتلفَّظ به الأرواح النجسة هو أوضح في الإِجمالة (مر 3: 11- 12) منه في الأخبار.
لن نتخيل أن الجموع كانت تستطيع أن تسمع صراخ الشياطين. ولكن الإِِنجيل يفكّر بالقراء ويقدّم لهم تدبير الله في وحيه. ما يريد أن يقوله هو أن تكرار ذكر "يسوع ابن الله" بالشفاه وبصورة آلية دون الدخول في السر، يبقى عملية شيطانيّة تضرّ في النهاية برسالة يسوع والتعرف الحقيقيّ إلى شخصه.
من هو يسوع؟ معرفة الشياطين له معرفة خاطئة، وهم يقولون ما يعرفون قبل الأوان. واحد وحيد يعرفه وهو الاَب: "ما من أحد يعرف من هو الإِِبن إلاّ الآب" (22:10). لقد تاق الأنبياء إلى هذه المعرفة وتاق الملوك (يتحدث مت 17:13 عن الأبرار) ولكنّهم لم يحصلوا عليها. أما الله فكشفها للصغار أي للتلاميذ (رج مت 42:10؛ 25:11). كشفها لهم خاصة عند الصليب. فلا يكفي أن نعرف معرفة من يستولي على شيء بقوّته أو باستحقاقاته، بل أن نتقبل هذه المعرفة بالإِيمان وكأنها عطيّة من الله. ولا نُسرع في قول ما تعلمناه، فقد نخطئ أو نكون كمن يرمي جواهره أمام الخنازير. إن اعمال يسوع تجعل الجموع يتقاطرون إليه، تدفعهم إلى طرح السؤال: "ما هذا"؟ أو "من هو هذا"؟ ولكن هذه الأسئلة لا تأخذ كامل معناها إلا في الآلام. لا نستطيع أن نعرف حقًّا من هو يسوع إلاّ إذا تبعناه حتّى الصليب. وعلى ضوء القيامة نتعرّف إليه كالرب والإِله.

خاتمة
إن هذا الحدث جزء من مجموعة سُمِّي يوم كفرناحوم. فيه جمع مرقس (1: 21- 34) وتبعه لوقا (31:4- 41) ما فعله يسوع في سبت من السبوت في كفرناحوم: تعليم، طرد الشياطين، شفاء حماة بطرس، لوحة إجماليّة عند المساء. تتوزّع هذه الأحداث على التوالي في المجمع، في بيت سمعان، على باب المدينة. ولكن هذه المتتالية نفسها تنتمي إلى مجموعة أوسع (مر 1 :14- 39= لو 14:14- 41). وفيها يكشف يسوع عن نفسه في الجليل: يأتي إلى شاطئ البحر، يدخل كفرناحوم، يدخل إلى المجمع، يخرج منه، يذهب في المساء إلى باب المدينة، يترك في الصباح المدينة ليجول في الجليل. وفي النهاية يكرز في المجامع ويطرد الشياطين. وبعبارة أخرى، إنه يعمل في كلّ مكان ما عمله في مجمع كفرناحوم: يعلِّم ويطرد الشياطين.
إن هذا الحدث هو نواة حركة تركيز وتوسيع: إنه يركز على نشاط يسوع في المجمع (الموضع الرسمي الدينيّ)، في البيت، على باب المدينة (موضع الإِجتماع). ولكنّه يوسّع فيبين لنا أن التحرر الذي حمله يسوع إلى كفرناحوم سينتشر في الجليل ويصل إلى أورشليم. وبعد الفصح، ستصل الرسالة إلى العالم كلّه (مر 15:16). فهل نتعجّب إن ذاع صيته، لا في أورشليم واليهوديّة والسامرة؟ فسيحمل الرسل إسمه إلى أقاصي الأرض.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM