الفصل الثالث والعشرون لا يقبل نبي في وطنه

الفصل الثالث والعشرون
لا يقبل نبي في وطنه
21:4-30

يشكّل المشهد الأوّل في الناصرة (16:4- 30) قطعة أساسيّة في إنجيل لوقا ووسيلة تساعدنا على فهم كلّ مؤلّفه فهمًا لاهوتيّا. جُعل في بداية رسالته العامة فوجّه القارئ نحو ملء إدراك سرّ شخص المخلّص وعمله. إنه يحدّد مسبقًا برنامج عمله على الأرض، ويجعلنا نستشف النهاية المأساويّة حين يُرذل عبدُ الله ويموت. وإن أحالنا هذا الخبر إلى وضع تاريخي واقعي، إلاّ أنّنا لا نفهمه حقًا إلاّ على ضوء كنيسة بعد فصحيّة تتحدّث عن المخلّص والقائم من الموت، وتنفتح بكل إدراك على عالم الوثنيّين.
إذا نظرنا إلى الوجهة الأدبيّة لهذه المجموعة نكتشف جزئين كبيرين. الجزء الأوّل (4: 16- 21) يذكر مجيء يسوع إلى الناصرة. يقدّمه لنا في إطار ليتورجيا مجمعيّة (أي: داخل مجمع يهوديّ أو كنسيّ) كذلك الذي يأخذ على عاتقه أقوال النبيّ أشعيا (أش 61: 1- 2 أ) فيحدّد نفسه على أنه النبيّ المسيحانيّ. إنه رجل الله الذي أوكلت إليه مهمّة حمل بشرى التحرير إلى صغار القوم. وبمجيئه سيُدخل في زمن بشري "يومَ" الله (4: 21)، سيُدخل زمن "النعمة" الخارقة (4: 19، 22) في تاريخ الخلاص. هذا هو ملخّص الإِِنجيل كلّه، وهو في بداية عمل يسوع برنامج واضح عن رسالته، كما هو دعوة ملحّة تتوجّه إلى كلّ إنسان، فيطلب منه أن يحدّد موقعه بالنسبة إليها.
ويورد الخبر الثاني (4: 22- 30) ردّات الفعل المتنوّعة لدى السامعين في الناصرة: عرفان جميل وتقبل وإعجاب في البداية (آ 122). ثمّ دهشة وحيرة (آ 22 ب). وفي النهاية، رذلوه وقطعوا علاقاتهم به (آ 28- 29). هذه المسيرة الرافضة تدريجيًّا تدهشنا، ولا سيما وأن يسوع هو الذي سبّبها كما يقول العمل التدوينيّ: لم يكتفِ بأن يورد المثل الشعبيّ: "يا طبيب اشفِ نفسك" (آ 23)، بل لجأ إلى شهادة إيليّا واليشاع (آ 25-27) ليوبّخ مواطنيه على موقفهم الذي يخلو من الإِِيمان.
هذا الوضع يتطلّب شرحًا ويدعونا أوّلاً لكي نرى كيف اعاد لوقا قراءة نص مرقس الذي اتّخذه له نموذجًا. بعد هذا، نحدّد معنى الزيادات التدوينيّة وبُعدها في إطار مؤلَّفه العام أيّ في إطار الإِِنجيل الثالث وسفر الأعمال.

1- قراءة نص مرقس (آ 22- 24)
يقدّم الخبر من آ 22 إلى آ 24 موازاة مع مر 6: 1- 6 أ، مع تحوّلات عميقة لها معناها. فالطريقة التي بها يعيد لوقا تدوين مرقس يعكس تفسيره الشخصيّ لحدث الناصرة الذي يوضحه أيضًا في آ 25- 30. قراءة الفعل لدى أهل الناصرة تبدو موافقة ليسوع في البداية، وهذا ما لا نجده في مر 2:6- 3، فيدهشنا حين نأخذ بعين الاعتبار نهاية الحدث. قالت آ 22: "فشهدوا له كلّهم وتعجّبوا من كلام النعمة الذي يخرج من فمه". أمّا في آ 28- 29 فنقرأ: "غضبوا كثيرًا، فقاموا واخرجوه الى خارج المدينة...".
يفترق لوقا عن مر 2:6 فلا يلمّح إلى معجزات نسبها أهل الناصرة إلى يسوع. ونحن نفهم هذا الوضع حين نعرف أن الإِِنجيليّ جعل حدث الناصرة يقع في بداية رسالة يسوع، يوم لم يكن بعد قد اجترح معجزة واحدة. إذن، سيتركّز إعجاب الناس على "الأقوال المليئة بالنعمة، التي تخرج من فمه". نحن ولا شكّ أمام تأوين قام به يسوع حين طبّق على شخصه نبوءة أش 61 التي قرأها فيما قبل وأعلن عنها: "اليوم تمّت هذه الكلمات".
لا يشدّد النصّ على مضمون كلمات يسوع (تحدّث مر 2:6 عن الكلمة)، بل بالأحرى على وقعها وتأثيرها: إنها تحمل نعمة يوصلها الله إلى البشر، وهي تتماثل مع يسوع نفسه. فالتماثل بين يسوع وكلمته (يسوع هو كلمته) يبرز في صيغة البدل التي نجدها في أع 10: 37- 38: "الكلمة (أو الحدث) التي جرت في اليهوديّة... ويسوع الناصري". نلاحظ تشديد الانجيليّ على تقديم يسوع كحامل هذه النعمة (2: 40، 52؛ أع 14: 3؛ 15: 11- 40؛ 20: 32). ثم نرى في عبارة "الكلمات الخارجة من فم يسوع" تلميحًا إلى تث 3:8: "لا يحيا الإِنسان بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم الله". يورد مت 4: 4 الجملة كلَّها في خبر تجارب يسوع. أمّا لوقا فيورد القسم الأوّل في 4: 4، ويطبّق القسم الثاني هنا على الأقوال الخارجة من فم يسوع.
ويجمع لوقا في جملة واحدة ما قاله مر 3:6 عن تفاسير أهل الناصرة حول هوية يسوع وقرابته: "أما هو ابن يوسف" (آ 22 ب)؟ بما أن يسوع ليس في نظر الإِِنجيليّ "ابن يوسف" بحصر المعنى (22:3- 23: "كانوا يحسبونه ابن يوسف")، فقد نكون أمام تلميح خفيّ إلى عجز أهل الناصرة عن التعرّف إلى هوية يسوع الحقيقيّة. ويفترق لوقا هنا أيضًا عن مرقس: لا نوايا شريرة لدى اهل الناصرة، بل سؤال تعجّب ودهشة. أما في المقطع الموازي في مرقس، فأقوال أهل الناصرة عن يسوع وأمه وإخواته وأخواته، تجعلنا نظنّ أنهم يحسبونه انسانًا عاديًا، ويرفضون أن يصدقوه أو يثقوا به. لهذا تشكّكوا بسببه أي انزعجوا حين رأوا يسوع يبرهن عن حكمة وقدرة عجائبيّة تتجاوزانهم.
نحن لا نجد شيئًا من هذا عند لوقا. فيسوع نفسه هو الذي "يهاجم" أهل بلدته. نلاحظ بسهولة أن لوقا لا يهتمّ بالخبر في ذاته كما أورده متّى ومرقس، لا يهتمّ بعدم فهم أهل الناصرة ليسوع وقد جاء يزور موطنه. إنه يتطلّع إلى رسالة يسوع وما ستؤول إليه. فأوّل مرّة جعل يسوع يتكلّم في بداية عمله الرسوليّ، جعله يتنبّأ عن فشل رسالته لدى مجمل شعب إسرائيل. وهذا ما يفهمنا قساوة يسوع وهجومه. فكأنّي به يفترض في الأساس النوايا الشرّيرة لديهم: "لا شكّ. ستقولون لي هذا المثل: يا طبيب اشف نفسك. فاعمل هنا في وطنك ما سمعنا أنك عملته في كفرناحوم" (آ 23).
نجد هذا القول الشعبيّ (يا طبيب) في الأدب الربّاني. مثلاً في "التكوين العظيم": "يا طبيب، اشف نفسك من فالجك". ونقرأ تفسيرًا لرابي لاوي (حوالي سنة 300) حول كلمة لا 3:4: "اذا كان الممسوح بالزيت قد أخطأ... يجيب: الويل لمدينة كاهنها مريض في رجله بمرض النقرس".
حين يطبّق يسوع هذا المثل على أهل الناصرة فهو يعبّر في نظرهم عمّا هو ضروري لكي يتعرّفوا إلى يسوع: كما أنّ على الطبيب أن يستطيع تأمين الشفاء لنفسه ليحوز على ثقة زبائنه المقبلين وتقديرهم، فعلى يسوع أيضًا أن يبرهن على سلطانه الخلاصيّ أمام أهل بلده قبل أن يحاول ان يقنعهم. وإلاّ اية قيمة لكلمات النعمة الخارجة من فمه؟
إن التلميح إلى ما يمكن أن يكون يسوع قد صنعه في كفرناحوم يدهشنا في هذه المرحلة من تدوين الإِِنجيل، ولا يُفَهم من الوجهة التاريخيّة المحضة، لأن يسوع بدأ رسالته في الناصرة حيث هو الآن، ولأن الإِِنجيل لم يروِ لنا بعدُ شيئًا عن نشاطه في كفرناحوم. لا شكّ في أنّ آ 14-15 تحدّثاننا بصورة عامّة عن تعليم يسوع في الجليل. ولكن يبدو أن لوقا لا يشير هنا إلى نشاط سبق خطبة الناصرة. نحن بالأحرى أمام مقدّمة لمجمل الخبر الذي يلي. في الواقع، سيصوّر لنا لوقا عمل يسوع في كفرناحوم حالاً بعد حدث الناصرة (4: 31- 43= مر 1: 21- 39). إذن، إن 23:4 تستبق ما حدث في كفرناحوم. ونحن نفهم هذا بالنسبة إلى الطابع الذي به طبع لوقا مقطوعة الناصرة: إنّها برنامج عمله فيما بعد. وهذه المقطوعة لا تروي فقط الحدث الأوّل من رسالة يسوع كما حصل في الزمن، بل تشير بصورة رمزيّة إلى مجمل هذه الرسالة: كيف رذله شعب إسرائيل وكيف تقبّله الوثنيّون.
ولهذا يميل لوقا في هذا المشهد عينه إلى اظهار معارضة محاوري يسوع بشكل قاسٍ بقدر ما تبدو هذه المعارضة نموذجًا لموقف اليهود بصورة عامة. وإن هو أوجز في آ 22 ما قاله مرقس وخفّف من قوة ردّة الفعل عند أهل الناصرة، فقد احتفظ بالشيء الجوهريّ: عدم إيمانهم (مر 6: 16). كما صوَّر بصورة جذريّة بُعد قلة الإِِيمان هذا في فم يسوع نفسه. والأمر ملفت بصورة خاصة في الطريقة التي بها يُعيد قراءة نهاية خبر مرقس ويعيد تدوينها كليًّا. قال مر 6: 5- 6 أ: "وتعذّر على يسوع أن يصنع أية معجزة هناك، سوى أنه وضع يديه على بعض المرضى فشفاهم، وكان يتعجّب من قلة إيمانهم".
إن عدم قدرة يسوع العجائبيّة عند مرقس لم تكن في المخطط: إنها نتيجة عدم ايمان أدهش يسوع وقيَّده بشكل من الأشكال. أما عند لوقا فلا مجال إلى أن يعمل يسوع معجزة واحدة، مع أن أهل بلده طلبوا منه بوضوح. إن سؤال أهل الناصرة لدى مرقس يدلّ بالأحرى على أنهم لا ينتظرون شيئًا من "ابن مريم". ولكن الوضع يتبدّل عند لوقا. قالوا له: "فاعمل هنا في وطنك ما سمعنا أنك عملته في كفرناحوم" (آ 23).
ويعبر يسوع نفسه عن هذه المتطلبة. ولكن كلّ شيء يشير إلى أنه يوردها لكي يرفضها: هو لا يقدر أن يفعل أي شيء من أجل أهل البلدة، بل هولا يريد. وإن كان لا يريد، فهذا ناتج في نظر الإِِنجيليّ، عن رفض مجمل الشعب اليهوديّ بأن يتقبّل كلمات النعمة الخارجة من فمه، بأن يقرّ أن يسوع هو الذي يُتمّ مواعيد العهد القديم . ولكن هذا لا يمنع لوقا من أن يورد بعد هذا سلسلة من المعجزات تمّت فعلاً على يد يسوع من أجل إسرائيل، أكان ذلك في كفرناحوم أو في مكان آخر. ولكن لوقا يشدّد على أن يسوع لم يُرد بملء حريّته أن يعمل معجزة واحدة في بلدته، فيقدّم لنا تفسيرًا لاحقًا عن عمل يسوع كلّه: إن اسرائيل لن يستفيد من الخلاص الذي حمله إليه يسوع.
وتقدّم آ 24 جواب يسوع على الكلمات التي نسبتها آ 23 إلى محاوريه، ثم تبدأ إعلان آ 25-27. وهنا أيضًا قام لوقا بتصحيح آخر لنصّ مر 4:6 له معناه. كتب مرقس: "لا نبيّ بلا كرامة إلا في وطنه". فكتب لوقا: "لا يُقبل نبيّ في وطنه". لا يكتفي لوقا بأن يستعيد بطريقة شخصيّة المثل الذي أورده مرقس عن النبيّ، بل يشدّد على ما يقول فتحلّ لفظة "دكتوس" (مقبول) محل "أتيموس" (بلا كرامة). اختار لوقا "أتيموس" قصدًا، فعاد إلى نبوءة أشعيا التي ذكرت اعلاه وأعلنت سنة نعمة، سنة مقبولة (دكتوس) من عند الربّ (آ 19). المعنى واضح: إن زمن الخلاص الذي دشّن يسوع تتمّته (آ 21) بكلمات النعمة الخارجة من فمه (آ 23) لا يتحقّق لأهل الناصرة الذين لا يقبلون يسوع، حامل هذا الخلاص.
والمثل الشعبيّ الذي أورده مرقس والذي يجد في يسوع تطبيقًا بين تطبيقات عديدة، ويقابل ملاحظة مؤسفة ولكن لا مدلول خاصًا لها، اتخذ هنا شكل بلاغ لاهوتيّ. لم نعد أمام نبيّ (من الأنبياء) استهان به أقاربه، بل أمام النبيّ الذي أرسله الله إلى شعبه ليخلّصهم في هذا الوقت المحدّد من تاريخهم، ولكن هذا النبي لم يكن مقبولاً في بلده.
والنتائج عند لوقا أكثر خطورة مما عند مرقس: لم نعد أمام عجز عجائبيّ موقّت ومحدّد في حياة يسوع. فلوقا يفهمنا أن مجمل شعب إسرائيل ابتعد بصورة نهائيّة عن عمل يسوع الخلاصيّ، لفائدة الوثنيّين. وهذا ما يدلّ عليه وَلْيُ الخبر. نحن هنا أمام رؤية تستبق رسالة يسوع وترتبط بخبرة عاشتها الكنيسة بعد الفصح.


2- معنى الزيادات التدوينيّة وأبعادها
أ- خلاص يُعطى للوثنيّين (آ 25- 27)
إن آ 25- 27 هي خاصة بلوقا. دوّنها، فدلّت على تحوّل ظاهر في النظرة، وارتسمت في منطق تقديم كرازة يسوع التدشينيّة في الناصرة كما رآها لوقا. وهي تُقدّم أيضًا الجواب الإِيجابيّ والشامل على آ 23- 24. هنا رذل أهل الناصرة ابنَ بلدهم النبي يسوع، فكان تصرّفهم نذيرًا لتصرّف مجمل شعب إسرائيل. أمّا في آ 25- 27، فالتذكير بما أتمّ إيليّا واليشاع من معجزات من أجل غير اليهود (أي: الوثنيّون) ينبئ بخلاص سيحمله النبيّ يسوع إلى الوثنيّين.
لن نبحث هنا عن تحقيق لكلمات يسوع خلال رسالته على الأرض، وهي ستنحصر جوهريًّا في شعب اليهود ولن تتوجّه إلى الوثنيّين إلا في حالات استثنائيّة. هذا ما نقوله عن ممسوس الجراسيين (26:8- 39 وز) وضابط كفرناحوم (7: 1- 10 وز) والأبرص السامري (17: 11- 19، خاص بلوقا). لا شكّ في أن يسوع سيقول بأن ايمان الضابط يتفوق على الايمان الذي وجده في إسرائيل (7: 9؛ مت 8: 10) وأن السامري الذي شفي مجّد وحده الله (18:17). ولكن هذا لن يدفعه إلى نشر عمله بصورة عادية لدى الوثنيّين.
والعودة إلى إيليا وأليشاع لا توافق أيضًا الواقع التاريخيّ. فهما لم يحصرا عملهما في شعب إسرائيل، ولكنهما في الواقع بدأا عملهما لدى شعبهما. ولكن لوقا يحتفظ فقط بحدثين ساعداه على إبراز البُعد الشامل لعمل يسوع كما يتصوّره.
وعلى مستوى التعبير، فالتقديم اللوقاويّ يشدّد على الطابع النموذجيّ لهذين الحدثين ويعطيهما بعدًا استثنائيًّا لم يكن لهما في خبرَي كتاب الملوك. لا شكّ في ان إرسال إيليّا إلى أرملة صرفت صيدا ليؤمّن لها الطعام بصورة عجائبيّة وليقيم لها ابنها (1مل 7:17- 24) وشفاء نعمان السوري على يد أليشاع (2 مل 5: 1- 27) يدلاّن على أن قدرة إله إسرائيل وصلت من ذلك الوقت إلى الوثنيّين فنعموا بها. ولكن لا شيء في هذين الخبرين يفترض أن معجزتي هذين النبيّين تتضمّنان شيئًا يدلّ على أن إله إسرائيل يفضّل الوثنيّين على اليهود. فأليشاع سيصنع عجائب كثيرة من أجل أبناء أمته، ويقيم خاصة إبن الشونمية (2 مل 4: 8- 37).
غير أن لوقا يقدّم هاتين المعجزتين وكأن الله يفضل الوثنيّين على اليهود. قال: "كان في إسرائيل كثير من الأرامل في إسرائيل: وما أرسل الله إيليّا إلى واحدة منهنّ، بل أرسله إلى أرملة في صرفت صيدا. وكان في اسرائيل كثير من البرص في زمن النبي أليشاع، فما طهّر الله أحدًا منهم إلاَّ نعمان السوريّ". وُضعت هذه الكلمات في فم يسوع فدلّت، انطلاقًا من مثلين خاصين، على أن نبيَيْ العهد القديم لم يصنعا معجزات إلا من أجل غريبين عن شعب اسرائيل، لا من أجل الكثير من ابناء شعبهما الذين احتاجوا إلى تدخلهما.
والنتيجة الخفيّة هي أن يسوع نفسه، وهو النبيّ الذي لم يقبله أهل بلده، لن يمارس في النهاية خدمته إلا لدى الوثنيّين. وهكذا يرى لوقا لاهوتيّ التاريخ، أن حياة يسوع على الأرض والأقوال التي قالها والأفعال التي قام بها حقًا وسط شعبه، لم تحمل إلى هذا الشعب الخلاص الذي سينعم به الوثنيّون. إن مقطوعة الناصرة تصوِّر مسبقًا ما وصلت إليه رسالة يسوع الذي كان يتوقّع استقبالاً أكثر حرارة وايمانًا.
ورفض يسوع أن يصنع معجزة واحدة من أجل بلده، مع أنه سيصنع في كفرناحوم. فوطنه ومجمل الشعب اليهوديّ لم يرَ فيه النبيِّ الذي يُتمّ اليوم مواعيد الكتب المقدّسة، لهذا فهو لن يرى تحقيق هذه المواعيد التي ستتعدّى حدود إسرائيل وتمتدّ إلى العالم كلّه. وسيصوّر لوقا مسيرة هذه البشارة في سفر الأعمال. قد بدأ بطرح الفكرة في بداية الإِِنجيل، وستكون الذروة في ما سيقوله بولس لليهود في رومة: "أُرسل خلاص الله هذا إلى الوثنيّين وسيستمعون إليه" (أع: 28: 28).

ب- إعلان مصير يسوع المأساويّ (آ 28- 30).
ودوّن لوقا نهاية المقطوعة (آ 28- 30) فأنبأ بالمصير المأساويّ الذي يُنهي عمل يسوع على الأرض. ما أراد أهل وطنه أن يستقبلوه. بل هم حاولوا أن يزيلوه: "فلمّا سمع الحاضرون في الجمع هذا الكلام امتلأوا غضبًا (ردّة فعل مماثلة ضدّ اسطفانس في أع 7: 54). فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة..." ففي طرد يسوع العنيف خارج مدينة الناصرة، أراد لوقا أن يقدّم صورة مسبقة عن موت يسوع مهانًا ومصلوبًا خارج مدينة أورشليم. سنجد هذا الموضوع في مَثَل الكرّامين القتلة. أرسَل اليهم صاحبُ الكرم ابنه الحبيب، فرموه خارج الكرم وقتلوه (15:20؛ مر 8:12). منذ بداية حياة يسوع العامة، يركّز لوقا انتباه القارئ على النهاية: الموت الخلاصي للذي سيسمَّى يومًا ملك اليهود (23: 33).
"وجاؤوا به الى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه ليلقوه عنه. لكنّه مرّ من بينهم ومضى". يمكننا أن نتساءل: أما يدلّ الخلاص الذي نعم به يسوع هذه المرّة على الحماية التي يؤمنها الربّ للصديق في مز 91: 11-12؟ "يوصي ملائكته بك ليحفظوك في كل طرقك. على أيديهم يحملونك لئلا تصدم . بحجر رجلك". روى لوقا في 9:4- 12 أن الشيطان عاد إلى هذه الكلمات الكتابيّة خلال التجربة الثالثة ليدفع يسوع إلى أن يرمي بنفسه عن شرفة هيكل أورشليم. ولكن يسوع رفض أن يجرِّب الربّ الإِِله.
ما نقرأه في لوقا هنا هو صدى لهذا المشهد، وهو يبيّن أن يسوع يملك في ممارسة رسالته سلطانًا امتنع عن استعماله حين طلب منه الشيطان ذلك. وإلى أن تأتي الساعة الحاسمة (53:22؛ رج يو 7: 30، 44؛ 59:8؛ 10: 39) سينجو من أبناء بلده. ولكن الطريق التي تبعها ستقوده في النهاية إلى أورشليم ليموت فيها (9: 51، 53؛ 13: 22، 33؛ 17: 11؛ 19: 28).
أمّا هو فجاز (مرَّ) بينهم. نستطيع أن نقرأ هنا بإيجاز ما فعله المسيح النبيّ. أمّا أع 38:10 فيعبّر عن هذا المرور بايضاح: "مسحه الله بالروح القدس والقدرة، فمرّ وهو يعمل الخير ويشفي جميع الذين استولى عليهم ابليس، لأن الله كان معه ".

3- تعليم يتوجّه الينا اليوم
قد نظنّ أننا بعيدون عن موقف أهل يسوع. ولكن غالبًا ما يكون تصرّفنا مثل تصرّفهم دون شعور منّا. نحسب أن يسوع هو لنا وفي الوقت عينه نرذله. نعجب بكلمات النعمة الخارجة من فمه، ولكننا لا نعمل شيئًا لكي تتحقّق فينا اليوم، فنترك مناسبة الخلاص تمرّ دون أن نستفيد منها. قد نشهد ليسوع ولكننا لا نفهم تعليمه ولا ندخله في حياتنا.
لا نسمّيه "ابن يوسف" بل "ابن الله " ولكننا في الواقع نتجاهله. قد ننتظر منه أن يضع قدرته في خدمة مصالحنا، وإن لم يفعل عارضناه "ولم نقبله". نتعبّد لابن الله، ولكنّنا نرفض النبيّ الذي يوجِّه إلينا كلمة الله.
وهكذا نصل، نحن المسيحيّين، إلى ما وصل إليه اليهود من أهل يسوع. رفضنا الإِِنجيل فتوجّه إلى غيرنا وكنا نعتبرهم غرباء ووثنيّين. مثل هذه النظرة تُدهشنا وتملأنا غضبًا. لا نستطيع أن نزيل يسوع، نحاول ان ننكر اليقين، نحاول أن نقتل الكلمة التي يوجّهها إلينا الانبياء اليوم. ولكن يسوع يمرّ في وسطنا ويمضي. يسير في طريقه بعيدًا عنّا نحو أناس آخرين سيستمعون إليه. وحين نغلق آذاننا عن الإِِنجيل، لا نقدر أن نمنع انتشاره خارج كنائسنا. والمخرج الوحيد بالنسبة إلينا هو أَن نترك اليقينات الكاذبة والمخاوف التي تقيّدنا. والطريقة الوحيدة تقوم بأن نتبع يسوع في طريقه إلى أورشليم، في طريقه إلى الآلام والمجد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM