الفصل السابع والعشرون: نكران بطرس للمسيح

الفصل السابع والعشرون
نكران بطرس للمسيح
22: 56- 62

نقرأ خبر نكران بطرس ليسوع في الاناجيل الاربعة. فهذا الخبر كان دوماً جزءاً من رواية الآلام. ويتّفق الإنجيليون الأربعة على نكران بطرس المثلّث وعلى بعض تفاصيل بسيطة. ولكنهم يختلفون أيضاً في أمور مهمة أو أقلّ أهمية. فخبر مرقس مثلاً يفترق عن الثلاثة الآخرين في أنه يربط نكرانات بطرس الثلاثة بصياح الديك مرتين. كيف نفسّر هذا التفصيل؟ لهذا، سنقوم بتحليل نقدي لخبر مرقس، ونتفحّص الأخبار الموازية التي تساعدنا على إلقاء الضوء على خبر مرقس كما على التعبير عن التقليد المتعلّق بنكران بطرس.
1- تحليل نقدي لخبر مرقس (14: 66- 72)
أ- الانكار الأول (أ 66- 68)
نجد في هذه الآيات خبراً حياً عن أول نكران. وجَّهت فجأة خادمةٌ إلى بطرس الكلام، بعد أن رأته معنياً في قضية يسوع الناصري. فتهرّب بطرس في الحال وقال: "لا أعرف. لا أفهم ما تقولين". ولكنه لم يحسّ نفسه في أمان. فابتعد وكأنه يريد أن يكذّب بابتعاده ثقتَه بنفسه عندما تكلّم.
هنا نلاحظ آ 68 ب: ومضى نحو الخارج: تحوّل من مكان إلى آخر. وحين قال مرقس إن بطرس خرج نحو الخارج، فهو يعني أن بطرس ذهب إلى الرواق حيث داخل في البداية وبدأ يصطلي (آ 54). هذا هو معنى العبارة. وقد استعملها متى في الانكار الثالث، ليقول لنا إن بطرس خرج من الرواق، مسرح خطيئته (مت 26: 75). ولكن بعد النكران الأول (مر 14: 68 ب) لم يكن لهذه الكلمات معناها الطبيعي، لأن بطرس لم يخرج بعد حقاً. ثم هناك عبارة "إلى الدهليز" أو الرواق. نحن هنا أمام إشارة تحاول أن تصحّح التي سبقتها، بل تعارضها. بما أن بطرس (حسب الخبر الذي يلي) لم يزل في متناول الناس الذين كان يصطلي معهم في الدار، فهذا يعني أنه لم يخرج. لم يصبح خارج الكنيسة رغم خطيئته. ظلّ في الدار، على الباب، مثل الخطأة التائبين في بداية الكنيسة.
وتتضمّن آ 68 أيضاً صعوبة أخرى: هل انتهت مع عبارة "فصاح الديك"؟ أم أن هذه العبارة لم تكن موجودة. الأمثولتان تجدان من يسندهما في المخطوطات. الاسكندراني والافرامي والبازي واللاتينية العتيقة والشعبية تحتفظ بالعبارة (فصاح الديك). ويغفلها السينائي والفاتيكاني والباريسي (19، القرن 8) والسريانية السينائية والصعيدية والبحيرية. لماذا أغفلت؟ إما لأن الامر ليس بمعقول. وإما تمشياً مع سائر الاناجيل التي تحمل أول صياح للديك بعد النكران الأول. ولماذا أبقي عليها؟ بسبب تنبؤ يسوع في 14: 30 (قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرات) الذي تذكّره مرقس في آ 72: "فتذكّر بطرس الكلام الذي قاله له يسوع: قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرات".
ولكن من أين تأتي لفظة "ديس" (مرتين)؟ لسنا متأكّدين من وجودها في آ 30 ولا في آ 72. وهنا يتوزّع الشهود مرة أخرى. في آ 30، جعلت "ديس" تارة قبل "الديك" وطوراً بعد "الديك" ويغفلها السينائي والافرامي والبازي والحبشي والأرمني. ونجد الاختلاف عينه في التقليد النصوصي مع تذكر "نبوءة" يسوع في آ 72. ويتجاهل شهود لفظة "ديس" في آ 68 و72، ويلغون صياح الديك في آ 68. وهكذا يصبح نصّهم شبيهاً بنصوص الأناجيل الأخرى. وهناك شهود (الفاتيكاني، الباريسي) يلغون صياح الديك الأول في آ 68 ويحتفظون بلفظة "ديس" في آ 30 و72. هذا يعني أنهم لم يكونوا منطقيّين مع أنفسهم: في آ 68، تبعوا النص الموازي في مت والانجيلين الآخرين. غير أن "ديس" كان مجذَّراً في نص مر 14: 30- 72، فلم يتجاسروا على إغفاله.
ماذا نستنتج من كل هذا؟ كان النص صعباً وقد قاوم التقليد الجاري الذي يدعو إلى إلغائه. لهذا فإن "ديس" (مرتين) هي عنصر حقيقي في نبوءة يسوع في انجيل مرقس. وهذا ما اقتنع به ناشرو العهد الجديد فأخذوا به في نصّهم. وبعد هذا، انتمت عبارة "وصاح الديك" (آ 68 ب) إلى النصّ ويجب أن نحافظ عليها (مثل هذه العبارة تُلغى ولا تُزاد). وهذا ما نجد إثباتاً له في عبارة آ 72: "صاح الديك ثانية".
حاول عدد من الشّراح أن يفسرّوا "ثانية" كما فسّروا "مرتين" في آ 30 و72 بحيث برّروا التقليد الجاري الذي لا يعرف إلا صياحاً واحداً للديك مع نكران بطرس ليسوع. فهم يرون أن "الصياحين" في خبر مرقس والملحق في آ 72 تدلّ على إدراك خاطئ لتنبؤ يسوع في آ 30 و72. حين قال يسوع ما قال، لم يفكّر في صياحين للديك يتعاقبان في مهلة قصيرة، بل في صياحين للديوك، واحد عند منتصف الليل والآخر عند الساعة الثالثة (يدلاّن على بداية الهجعة الثانية ونهايتها. لهذا سمّيت باسم الديك في اليونانية). إذن (بحسب رأيهم)، أراد يسوع أن يقول لبطرس: هذه الليلة، وقبل نهاية الهجعة المسماة "هجعة الديك"، ستنكرني ثلاث مرات. أو ربما يكون يسوع أعطى إشارة زمنية بسيطة ففهمها مرقس على حرفيتها.
ولكن لا بدّ من الإقرار بأن كل شرح من هذا النوع يعارض المعنى الأول للكلمات في خبر مرقس. فمتى ولوقا، والنساخ الذين جعلوا نص مرقس مثل نصّيهما، تركوا "ثانية" و"مرتين" لأنهم فهموهما في المعنى الحرفيّ. إن خبر مرقس (وهذا ما سوف نلاحظه) يفترض هذا المدلول الحرفيّ وواقعيّة صياح الديك مرتين. فبدلاً من أن نلغيهما، يجب أن نتساءل من أين جاءا. ونلاحظ أولاً أن آ 66- 68 هي خبر إنكار. كانت الخادمة في رواق بيت عظيم الكهنة. وجّهت كلامها إلى بطرس فأعلن بقوة أنه لا يعرف يسوع. وما إن خرج من الدار حتى صاح الديك.
ب- الإنكار الثاني (69- 70 أ)
ليس من السهل أن نفهم كيف يتواصل خبر الإنكار الثاني مع خبر الإنكار الأول. فالخادمة كانت السبب في الإنكار الأول (آ 66). ولكن كيف استطاع مرقس أن يكتب: حين رأت الجارية بطرس؟ هذه العبارة هي في مكانها مع آ 67. أما هنا فهي تدهشنا. فلماذا وجب على هذه الخادمة أن تراه من جديد، بعد أن رأته مرة أولى وتفحّصت وجهه (آ 67) ورأته يخرج؟ وإن قيل أن نظر الخادمة التقى بنظر بطرس في الدهليز (آ 68)، نتساءل أيضاً عن معنى هذا الخروج الذي ليس بخروج، لأنه لم يحمِ بطرس من النظرات الفضولية والأسئلة الحرجة. فكأني به لم يخرج. إنه ما زال قريباً من الناس الجالسين حول النار بحيث يجيب على ملاحظة تتوخه إليهم لا إليه، وهكذا ينكر معلّمه مرة ثانية (آ 70 أ)، في هذه المرة، ظلّ بطرس محلّه وتحدّى الخادمة والآخرين. نحن نفهم هذا الموقف كما نفهم خروج بطرس في آ 68، إن كان هناك من خروج حقيقي.
ج- الانكار الثالث (آ 70 ب- 71)
يفترض خبر الانكار الثالث أيضاً أن الخروج في آ 68 لم يحصل، وأن بطرس ما زالت حاضراً وسط الناس المتحلّقين حول النار، وأن ملاحظة الخادمة جعلت الانتباه يتحوّل إليه. حسب ست 26: 73، عرف الحاضرون أن بطرس هو جليلي من لهجته. وهذا يفترض أن بطرس شاركهم في الحديث، إلا إذا كانت الكلمات التي تلفّظ بها في الإنكار الأول أو الإنكار الثاني، قد كفت لتجعلهم يقدّمون هذه الملاحظة. مهما يكن من أمر، تبدو هذه الملاحظة طبيعيّة إذا كان بطرس قد لبث بينهم (لا إذا كان قد ابتعد عنهم). هوجم بطرس فرد على الهجوم بقوة وأسند "تصريحه" إلى اللعن والحلف.
د- النتيجة (آ 72)
"وفي الحال". سقطت هذه العبارة من مخطوطات عديدة. ولكن بما أن هذه المخطوطات تضمّنت في أكثريتها أول صياح للديك (آ 68)، ظنّ النسّاخ أن هذه العبارة مع عنصر المفاجاة ليست في مكانها هنا. كير أن متى ولوقا قرأا عبارة من هذا النوع في "نسخة مرقس" التي وصلت إليهما. لهذا نحافظ على العبارة فنقرأ: "وفي الحال صاح الديك ثانية".
يرى مرقس أنه رغم صياح الديك الأولى، أشار الصياح الثاني إلى تتمّة نبوءة يسوع حالما حصل الإنكار الثالث. ولفظة "ثانية" هي في مكانها في خبر يعرض مرتين صياح الديك. سقطت هذه اللفظة في شهود لا يعرفون صياح الديك الأول في آ 68 (السينائي مثلاً)، ولكنها تتوافق مع ما في خبر مرقس من أصالة. ونلاحظ أخيراً أن مرقس لم يقل إن بطرس خرج بعد الإنكار الثالث (إنه لأمر طبيعي، وهذا ما يقوله مت 26: 75) لأنه سبق وقاله في آ 68. ولكن ليس من المعقول أن يكون بطرس قد طفق يبكي في الدار أو في الدهليز وذلك بمرأى من الجميع.
د- عودة إلى آ 68
وها نحن نعود إلى آ 68 ب ج التى قد تحتوي سّر تأليف خبر مرقس. فالانجيل الثاني يربط وحدة الانكار المثلث بصياحين للديك. إن آ 66- 68 (كما قلنا) تشكّل وحدها خبراً مقتضباً ولكن حيّاً لإنكار بطرس ليسوع ينتهي بهذه الكلمات: "ومضى إلى الخارج، فصاح الديك". ولكن لو خرج في تلك الساعة لمَا كان بالإمكان أن نروي إنكارين آخرين. لهذا أقحم مرقس عبارة "إلى الدهليز" بعد أن قال: ومضى نحو الخارج. ظلّ بطرس قريباً "من التجربة" رغم خروجه. وهذا ما خلق صعوبات من أجل فهم آ 69- 72.
أراد لوازي أن يكتشف "النص الأبسط" الذي اعتبر أن مرقس حوّر فيه، فاقترح بأن يُلغى ذهاب بطرس (الذي لم يذهب) وصياح الديك (آ 68). حينئذ تصبح ملاحظة الخادمة الثانية طبيعية: أولاً، وجّهت السؤال. تهرّب بطرس، فتوجّهت حالاً إلى الحاضرين الذين كانوا قرب النار وقالت لهم: كان منهم. ولكن هل نستطيع أن نلغي خروج بطرس؟ كلا. فمرقس قد قرأ هذا الخروج في المرجع الذي وصلى إليه. وزاد "نحو الدهليز" ليستطيع أن يروي الإنكارين الثاني والثالث اللذين عرفهما في مرجع آخر.
وها نحن نقدّم الفرضية التالية: إن خبر الإنكار في انجيل مرقس هو حصيلة دمج تقليدين يتطرّقان إلى نكران بطرس ليسوع. نجد الأول في آ 66- 68 والثاني في آ 69- 72. القرابة بين التقليدين واضحة: كلاهما حدثا في رواق عظيم الكهنة. كلاهما عرفا الدور الذي لعبته الخادمة، كما عرفا صياح الديك. قبل أن نتفحّص بُعد هذه الخاتمة بالنظر إلى تأليف خبر مرقس، نتفحّص سائر الاناجيل التي تروي ثلاثة إنكارات وصياح ديك واحدا، ونتساءل عن علاقتها بإنجيل مرقس.
2- الأخبار الموازية
أ- خبر متى (26: 69- 75)
إذا ألقينا نظرة إجمالية إلى الإنجيل الأوّل، رأينا أن مت 26: 69- 75 تبع بشكل أمين جداً خبر مرقس، وصحّح الأمور التي بدت صعبة. قرأ بلا شك "وخرج في الدهليز" أو نحو الدهليز (مر 14: 68 ب)، ولكنّه خفّف العبارة فجعلها في جملة اسمية: "وإذ كان خارجاً في الدهليز، نحو الباب". وهكذا احتفظ بعبارة "ذهب إلى الخارج" لخروج بطرس الحقيقي بعد الانكار الثالث (آ 75). أحسّ متى بالصعوبة فلم يقل كما قال مر 14: 69. إن الخادمة التي دفعت بطرس إلى إنكاره الاول رأت بطرس، بل حدّد: "رأته جارية أخرى" (آ 71). واعتبر أن الناس الذين كانوا حول النار لم يكن باستطاعتهم أن يوجّهوا كلامهم إلى بطرس (الذي خرج نحو الدهليز) إلا إذا اقتربوا منه (آ 73). لم يورد متى أول صياح للديك (مر 14: 68) بدا له هذا الأمر غير معقول فصحّحه محتفظاً بالانكارات الثلاثة: إذا افترضنا أن متّى عرف المراجع التي استقى منها خبر مرقس، فهو لا يرتبط إلا بخبر مرقس لكي يروي نكران بطرس ليسوع.
ب- خبر لوقا (22: 56- 62)
تبع لوقا خبر مرقس، ولكنه بدا أكثر تحرّراً من متى. حوّل بعض الألفاظ، وأبرز التسلسل في الانكارات الثلاثة. محا كل أثر لخروج بطرس "الاول" (مر 14: 68 ب). وأحلّ محلّ التدخل الثاني للجارية (مر 14: 69) تدخَّل رجل (لا امرأة) (22: 68 ب). وهكذا نجد في خبر لوقا إنكاراً مع امرأة، وإنكارين أمام رجل. هذان الانكاران هما مهمّان لأن شهادة الرجل مقبولة في المحكمة لا شهادة المرأة. ثم إننا أمام شاهدين. فكيف يستطيع بطرس أن ينكر ما فعله؟
ما أراد لوقا أن يزيد شيئاً على الانكار، فترك جانباً الحلف واللعن (مت 27: 72، 74؛ مر 14: 71)، وهذا ما يوافق ميله إلى التخفيف من قساوة مرقس ضدّ الرسل: مثلا، ترك "إذهب يا شيطان"، رج مر 8: 32- 33؛ مت 16: 22- 23؛ ترك سؤال ابني زبدى، رج مر 10: 32- 33. لم يذكر هرب التلاميذ. أما الاشارة المهقة في خبره فنقرأها في 22: 61: "إلتفت الرب ونظر إلى بطرس". هكذا اعتاد أن يضيف عبارة مؤثرة فيجعل الخبر دراماتيكياً (7: 12: ابن وحيد لأمه؛ 8: 42: لأن له ابنة وحيدة؛ 9: 38: إنه وحيدي).
إذن، يبدو أن لوقا أخذ من مرقس خبر الإنكار المثلث.
ج- خبر يوحنا (18: 15- 18، 25- 27)
روى يوحنا هو أيضاً إنكارات بطرس الثلاثة وأتبعها بصياح الديك (18: 15- 18، 25- 27). تميّز بالحديث عن التلميذ الآخر المعروف من رئيس الكهنة والذي أدخل بطرس إلى الرواق (آ 15). إن الخادمة التي سبّبت الإنكار الأول هي البوّابة العاملة في بيت عظيم الكهنة (آ 16- 17). والشخص الذي طرح على بطرس سؤالاً فأنكر يسوع للمرة الثالثة، هو قريب لذاك الذي قطع بطرس أذنه ساعة توقيف يسوع (آ 26). إعتاد يوحنا أن يسمّي الأشخاص: فالتلميذ الذي قطع أذن عبد رئيس الكهنة هو بطرس (18: 10). والمرأة التي مسحت يسوع بالطيب هي مريم أخت مرتا (12: 3). والذي احتجّ على هذه الفعلة كان يهوذا (12: 4- 5). وهكذا فعل يوحنا هنا، فقال: "نسيب الذي قطع سمعان بطرس أذنه" (آ 26).
تماشى خبر يوحنا مع خبر لوقا، فجعل النكرانين الثاني والثالث أمام رجلين.
وهكذا يبدو يوحنا أميناً لتقليد النكران المثلث الذي برز بشكله الأول في الانجيل الثاني.
د- الاستنتاج
ماذا نستنتج من هذا العرض لأخبار موازية لخبر مرقس؟ إذا افترضنا أن متى عرف مراجع مرقس، إلاّ أنه فضل خبر مرقس على سائر الأخبار القديمة. وكذا نقول عن لوقا. لماذا تركز خبر النكران المثلّث في التقليد الانجيلي، بينما ألغي صياح الديك من مت، لو، يو، وقاوم عوامل قاسية حاولت أن تلغيه من مر؟
نستطيع أن نقول للوهلة الأولى إن خبر الانكار المثلّث قد فرض نفسه، لا مراعاة للدقة التاريخيّة وحسب، بل لأنه يدلّ على واقع نكران بطرس ليسوع بشكل لا يقبل الشكّ. سنعود إلى هذه النقطة فيما بعد. ولماذا ألغي صياح الديك الاول؟ الجواب: كيف سمعه بطرس ولم يَتُب حالاً؟ في مرقس، تصرّف بطرس وكأنه لما يسمع صياح الديك. وإذا كانت الدموع هي ردّة الفعل المباشرة على صياح الديك (في التقليد، رج مر 14: 72: وأخذ يبكي؛ مت 26: 75: فخرج وبكى بكاء مراً؛ لو 22: 62: فخرج وبكى بكاء مراً)، نفهم أن يكون متى ولوقا قد أغفلا صياح الديك الأول الذي لم يعطِ أية نتيجة.
3- التقليد ومعنى خبر مرقس
إذا كان مرقس استعمل تقليدين قديمين لكي يؤلّف خبره، فوضعُه لا يختلف جوهرياً عن وضع متى ولوقا. وإذا كان مرقس قد دوّن خبر نكران بطرس مستعيناً بتقليدين سابقين (يمكن أن يكونا قد دوّنا أو ظلاّ على المستوى الشفهي)، فوجودهما مهم لمن يريد أن يصدر حكماً على القيمة التاريخية لهذا التقليد. فقد عارضه غوغيل الذي لم يؤمن بتاريخية نكران بطرس ليسوع، وتبعه بولتمان. ولكن نتيجة دراستنا تعارض هذا الرأي. فخبر إنكار بطرس، وإن يكن ثانوياً، يعود إلى تقليد قديم عرفه مرقس في شكلين مختلفين.
أ- خبر بطرس في التقليد
نجد الشكل الأولى في مر 14: 66- 68 (بدون "نحو الدهليز" ومع "صاح الديك") فبدا بسيطأ جداً ولم يُورِد إلاّ إنكاراً واحداً سبّبته جارية. والشكل الثاني جاء موسّعاً فزاد على الإنكار الأول إنكاراً ثانياً هو جواب بطرس على الحاضرين الذين "هاجموه" (آ 69- 72). تحدّث لوقا ويوحنا عن رجلين. ولكن يبدو أن خبر مرقس (الجارية) هو أقدم. ومهما يكن من أمر، نحن نعلم أن خبر مرقس لم يولد من لا شيء. لهذا يبدو من الصعب أن ننكر تاريخيّة نكران بطرس ليسوع.
ويبدو أن خبر بطرس لعب دوراً حاسماً في التقليد المتعلِّق بنكران بطرس. لقد ألّف بطريقة محيرّة، وبدا في شكل غريب. ضمّ مرقس تقليداً إلى تقليد، فخلق خبراً جديداً يتضمّن ثلاثة انكارات وصياحين للديك، وذلك حسب "نبوءة" يسوع: قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرات (مر 14: 30، 72).
ألّف مرقس خبره فأراد أن يكون أميناً لشخص يسوع ورسالته. لم يخضع لاهتمام تاريخي، بل لمتطلّبة لاهوتية سنحاول أن نبيّنها الآن.
كان عليه أن يثبت واقع نكران بطرس في كل خطورته، فيجعله بمنأى عن كل اعتراض.
إن قاعدة الشرع اليهودي لا تجعل الواقع ثابتاً إلا بشهادة شاهدين أو ثلاثة (عد 35: 30؛ تث 17: 6؛ 19: 15). وظلت هذه القاعدة حاضرة في المسيحية الأولى (مت 18: 16 ي؛ 2 كور 13؛ 1 تم 5: 19؛ عب 10: 28؛ يو 5: 6 ي). ولم تكن تكفي شهادة الخادمة لتثبت نكران بطرس. أولاً لأنها شاهدة واحدة. ثانياً لأنها امرأة، وشهادة المرأة غير مقبولة. لهذا أسند كلامها إلى شهادة الحاضرين (مر 14: 69- 70. لهذا أخذ بطرس يحلف ويلعن). وإذا كان نكران بطرس قد تكرّر ثلاث مرات في فترة قصيرة، فهذا يدلّ على أنه واقع لا يردّ. وإن كان الديك صاح مرتين، فهذا يدلّ على صحّة نبوءة يسوع (مر 14: 30، 72) كما يعطي شهادتين الهيتين تثبتان شهادات البشر وتربطان بالله التاريخ الذي تدخلان فيه.
ب- التشديد على واقع نكران بطرس
ولكن لماذا هذا الاهتمام بإثبات واقع نكران بطرس ليسوع؟ هل هناك عداوة للرسول؟ هل هناك نيّة تريد أن تذلّه أمام رسول آخر؟ هذا ما يبدو في الظاهر. فنحن لا نجد عند مرقس "أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة" (مت 16: 17- 19). وأغفل مرقس خبر ظهور يسوع على بطرس (1 كور 15: 5) مع العلم أنه عرف به (مر 16: 7). واحتفظ مرقس بعبارة: "إذهب خلفي يا شيطان" (8: 31- 33): وأعطى لخبر الإنكار شكله القاسي بالنسبة إلى بطرس. فهل نستنتج، كما فعل البعض، أننا أمام اتجاه مناوئ لبطرس دوّن في محيط هلنستي وبولسي، ومناوئ للوجهة المتهوّدة التي مثّلها بطرس؟ كلا ثم كلا.
أولا: لا يعامل مرقس سائر التلاميذ أفضل ممّا يعامل بطرس (10: 35-45؛ 14: 27-50). ولا شيء يوحي بأن ما عمله مرقس هو لإفادة بولس. ثانياً: لا يستسلم مرقس إلى حرب "كنسيّة"، بل هو يعبِّر من خلال نكرن بطرس عن إحدى أهم فكراته اللاهوتية وهي: قساوة قلوب الذين أرسل يسوع إليهم.
لم يستطع مرقس أن يفهم المسيرة المحيّرة لمهمة يسوع التاريخية، فشله الظاهر، فشله السريع والكامل، إلا بالعودة إلى عمى القلوب الذي اصطدم به، بل سبّبه بشكل من الأشكال بأقواله وأعماله. هذا العمى أصاب أولا الشعب اليهودي ورؤساءه (3: 5؛ 4: 11- 12). ولكنه أصاب أيضاً تلاميذ يسوع أنفسهم. فقد شدّد مرقس على عماهم على دفعتين، وكل مرة بمناسبة تكثير الأرغفة، هذا الظهور الساطع لحضور ابن الله بينهم. قال مر 6: 52؛ 8: 17- 21: "كانت قلوبهم عمياء". فإذا كانت معجزتا الخبز لم تحطّما قساوة قلوب التلاميذ، فكم يحتاج يسوع إلى معجزات ليحطّم قساوة الشعب كله؟ موت يسوع وقيامته هما اللذان يزيلان العمى ويحطّمان القلوب القاسية.
لهذا كان نكران بطرس ليسوع خلال ذهابه إلى الموت، شهادة رئيسية عن عمى التلاميذ، يمثّلهم ذاك الذي شدّد بقوة وقبل الجميع على أمانته ليسوع حتى الموت (14: 31). في هذا المنظار يرتدي صياح الديك الأوّل كل معناه. لن نقول إنه معقول أو لا معقول. ولا نبحث له عن تبرير تاريخي، سيكولوجي، أو تقويّ. المهمّ هو التبرير اللاهوتي. فصياح الديك الأوّل (14: 68)، شأنه شأن الصياح الثاني (14: 72)، لا ينتمي إلى واقع الأرض وما فيه من ثقل. إنه يدوّي كعلامة إلهية ترافق الدراما البشرية وتنيرها. لم يتأثّر بطرس بهذه العلامة، ولم يسمعها كما يجب ان يسمعها (وهذا طبيعي). فصياح الديك يكشف حقاً عمى (قساوة) بطرس والطابع الحتمي للانكارات الثلاثة التي تتم عندما يصيح الديك ثانية.
إن إنباء يسوع في دقّته المخيفة، جعلت نكران التلميذ في ضوء المعرفة الالهية المسبقة، وهو نور قد نظنُّه جامداً بلا رحمة. ولكننا نخطئ. فنحن أمام علم مسبق للمعلّم الذى عرف تلميذه وعرف أنه يستطيع أن يتغلّب على عماه. لهذا، فكلمة المعلم التي أدركت التلميذ في أعماق كيانه، هي التي حطّمت تصلّبه: "حينئذ تذكّر بطرس الكلمة التي قالها له يسوع، فاسترسل لا البكاء" (آ 72).
وأخيراً يتخذ خبر نكران بطرس كل معناه من السياق الذي وضعه فيه مرقس. فحسب 14: 53- 54، أوقف يسوع في جتسيماني، واقتيد لدى عظيم الكهنة. تبعه بطرس عن بعد ودخل إلى بيت عظيم الكهنة حيث سيحكم المجلس على يسوع، وانضمّ إلى الخدم المتحلّقين حول النار يستدفئون. هناك لمحته خادمة فكانت السبب في الانكار الأول (آ 66). ولكن بين آ 54 وآ 66، أقحم مرقس مثول يسوع أمام المجلس الذي حكم عليه بالموت (آ 55- 65). خضع مرقس في كل هذا لدقة كرونولوجيّة، بل لرغبة في أن يجعل النكران حيث يجد النور الحقيقيّ فيمنحه كلّ مدلوله اللاهوتي. وازى بين نكران بطرس ومثول يسوع أمام المجلس، فجاء الحدثان متقابلان في الزمن. هذا ما دلّ عليه مرقس حين رتّب الخبر فارتبطت آ 66 (عبر آ 55- 65 التي تروي الحكم على يسوع)، مع آ 53- 54 (هما مقدمة لخبر النكران). "وفيما كان بطرس في الدار، في الأسفل، أتت إحدى جواري رئيس الكهنة" (آ 66).
إن لهذا التوازي معناه. فبطرس لم ينكر معلّمه مرّة واحدة وبغفلة منه، في ظروف تفسّر سقطة عابرة في حياة رجل مغمور. فبطرس أنكر يسوع في موضع الآلام، في الساعة التي فيها يعارض نكرانه كل المعارضة أمانته لمعلّمه، في دار بيت دلّ فيه يسوع على هويّته السرية في تصريح كلّفه حياته (14: 62). إن هذا التوازي بين نكران التلميذ واعتراف ابن الانسان الذي بذل حياته للكثيرين (10: 45)، يعبرّ عن موت يسوع في فكر الانجيلي. أعلن يسوع عن آلامه فاحتجّ بطرس معتداً بقوته، وأنبأ يسوع بالنكران. ولا بدّ من كلمة الراعي الذي ضرب من أجل خرافه (14: 27) لكي يتحطّم من الداخل تصلبُ قلب التلميذ. فالصليب يفتدي مسبقاً أولئك الذين نصبوه.
خاتمة.
يتألّف خبر مرور يسوع أمام السلطات اليهودية من ثلاث لوحات. بطرس هو في قلب اللوحة الأولى. لقد نسي حواره مع معلّمه بعد العشاء السري. جاء إلى بيت عظيم الكهنة. تبع يسوع كما يفعل كل تلميذ. ولكنه تبعه عن بعد كما عمل التلاميذ خلال صعود يسوع إلى أورشليم. وفي هذا الرواق "الدافئ" سيطعن يسوع في ظهره ثلاث مرّات. مرّتين أنكر أنه يعرف يسوع، أنه من تلاميذه. أين التضامن مع يسوع ومع سائر التلاميذ. كذب بطرس على الخادمة وعلى الرجل الذي سأله، بانتظار الرد الثالث على "التهمة": لا أفهم ما تقول.
أجل سقط بطرس ثلاث مرات في محنة وجب عليه أن يمرّ فيها. والرقم ثلاثة يدلّ على خطورة عمل قام به أمام شاهدين. من اعترف بي أمام الناس... من أنكرني أمام الناس. أية شهادة هي شهادة بطرس! ولكن نظرة يسوع حوّلت الشّر خيراً، وصلاته جعلت بطرس يتوب بعد أن اعتبر أنه لن يسقط. من أنكر ربه نال الغفران، وسيكون له أن يشهد بثقة أمام المجلس الأعلى. تعلّم الشجاعة من معلّمه الذاهب إلى الموت، القائم إلى الحياة، فأعلن: "نحن شهود. والله أولى بالطاعة من البشر".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM