الفصل السادس والعشرون: القبض على يسوع

 

الفصل السادس والعشرون
القبض على يسوع
22: 47- 55

إن النسخة اللوقاوية لأول حدث من أحداث الحاش بالمعنى الحصري للكلمة، تتوزّع على ثلاث مراحل موزّعة توزيعاً واضحاً. ما قام به يوضاس الخائن، ما قام به أحد التلاميذ الامناء. وبعد كل موقف كانت كلمة ليسوع. قال ليوضاس: "أبقبلة تسلّم إبن البشر"؟ وقال للتلميذ الأمين: "قفوا عند هذ الحدّ". وفي المرحلة الثالثة إتخذ يسوع المبادرة ووجّه خطبة صغيرة إلى رؤساء اليهود الذين جاؤوا ليقبضوا عليه.
نجد نظرتين في هذه المجموعة من الآيات. النظرة الأولى تحيط بالخبر كله، فتجعل القارئ ينتظر وهو يعرف أن يسوع أوقف، كما تجعله يعرف أن يسوع لم يخضع هنا لأية قوّة بشريّة. والنظرة الثانية تنبثق من المرحلتين الأولى والثانية، فتدلّ على أن يسوع بمارس حتى النهاية أعمال الرحمة، ولا يكتفي بالحديث فقط عن رحمة الاب تجاه الخطأة، وستظهر هاتان الظاهرتان أيضاً في ما يلي من خبر الآلام.
1- قبلة يهوذا (22: 47- 48)
يبدأ هذ الحدث بجملة انتقالية تربط هذ الحدث بالسابق: "وفيما هو يتكلّم". عبارة نجدها في مر 4 1: 43 ومت 26: 47. وهكذا نشاهد مجيء الفرقة يقودها يهوذا.
تأتي لفظة "أوخلوس" بدون أل التعريف، وهي تدلّ على الفرقة العسكرية. لسنا أمام تجمّع شعبي كما في موقس. رج مر 14: 43؛ أع 1: 15؛ 6: 7. نشير إلى أن لفظة "جمع" في لو كما في أع هي ذات مدلول غامض، وبدون رمزية دينيّة محدّدة. يوردها لوقا ليدلّ على النجاح الباهر الذي حازته كرازة يسوع.
وهناك عبارة "المسمّى (المدعو) يهوذا" الاغومينوس الذي يقال له). إعتاد لوقا أن يستعمل لفظة "كالومينوس" للذي يسمّى، يُدعى. رج 6: 15 (سمعان المدعو الغيور)؛ 8: 2 (مريم المدعوة المجدلية)؛ 19: 29، 37؛ 22: 3 (المدعو الإسخريوطي)؛ 23: 33 (المدعو الجمجمة)؛ رج أع 1: 12، 23؛ 3: 11؛ 8: 10؛ 9: 11؛ 10: 1؛ 13: 1؛ 15: 22، 37؛ 27: 14. كان هذا استعمالاً مع أل التعريف. وهناك استعمال بدون أل التعريف في 7: 11 (مدينة تدعى نائين)؛ 9: 10؛ 10: 39؛ أع 7: 58؛ 27: 8، 16. كما أن لوقا يستعمل عبارات أخرى أمام اسم العلم. وندهش حين نقرأ عبارة "المسمّى يهوذا" وكأننا نتعرّف إليه للمرة الأولى. فالقارئ قد عرف يهوذا (يوضاس) في 6: 16 (يهوذا الاسخريوطي الذي صار خائناً)؛ 22: 3 (يهوذا الملقّب بالاسخريوطي).
إذا قابلنا خبر لو مع مت ومر، نجده وكأنه يقلب الأدوار. فيجعل الفرقة في الواجهة. ولكن الفرقة في حدّ ذاتها، سوف تختفي فيما بعد كلياً من النصّ. وفي هذا القسم الأول نرى يهوذا وحده الذي يدنو إلى يسوع ليقبّله.
قال مت 26: 47: فإذا يهوذا (إيدو يوداس). وقال لوقا: فإذا الفرقة. إن استعمال "إيدو" بدون واو العطف (كاي) في خبر من الأخبار، يبدو نادراً في لو + أع. إن عبارة: "كاي إيدو" نجدها 26 مرة في لو، 8 مرات في أع، 27 مرة في مت. وتغيب كلياً عند مر وعند يو. إنها تقابل العبري "وهنه".
في الواقع، لا يختلف لوقا هنا اختلافاً جذرياً عن سائر الأناجيل. غير أنه يوجّه كل شيء إلى قبلة يهوذا: يقدّم على التوالي الفرقة، ثم يهوذا، وأخيراً فعلة يهوذا تجاه يسوع: دنا إليه ليقبّله. في هذه الآية، يؤكّد لو استقلاليته ويجعل من يهوذا قائد الفرقة. وهذا ما يقوله أيضاً بوضوح في أع 1: 16: "كان دليل الذين أوقفوا يسوع".
إذا عدنا إلى مرقس الذي تبعه متّى، نجد أن حضور يهوذا ودوره محدّدان في هذا الظرف بالذات: يجب أن تتعرّف الشرطة إلى يسوع. لهذا كانت القبلة الوسيلة لكي يوقفوا يسوع. قالت مر 14: 44: "وكان مسلمه قد أعطاهم علامة: الذي أقبّله هو هو، فأمسكوه وقودوه في احتياط" (رج مت 26: 48). لم يبقَ شيء من وظيفة يهوذا كدليل للفرقة عند لوقا. بل هو يسير في مقدّمة الفرقة ويوصلها إلى يسوع. الفعل هو "بروارخوماي"، سار أمام، قاد، سبق (1: 17، يوحنا). يبدو أن العبارة مطبوعة باللغة اللاتينية. وهذا ما دفع البعض إلى الحديث عن مرجع آخر عبر مر استعمله لوقا هنا. ولكن هذا الموقف بيدو ضعيفاً، لأن لو 22: 47 آ يتضمّن عشر ألفاظ مشتركة مع مر (تبقى 4 ألفاظ خاصة به).
وفعلَ لوقا مثل مر 14: 43 ومت 26: 47؛ فذكر أن يهوذا هو "أحد الاثني عشر". إيضاح مفيد في سياق يبرز فيه الجوّ الدراماتيكي والشعوري بشكل خاص. وهكذا نصل إلى قبلة يهوذا التي لا تفسّر إلا في اختلافة المخطوط البازي في نهاية آ 47 التي تستعيد بإيجاز مر 14: 44. ولكن يطرح السؤال: هل أعطى يوضاس حقاً قبلة لمعلمه في نظر لوقا؟ حين نفرأ النصّ نجد فقط أن يهوذا "اقترب" ليقبّله. هنا استعمل لوقا الفعل المجرّد (فيلاين، قبّل) ولم يستعمل المزيد (كاتافيلاين) كما في مر 14: 45. قد يكون لوقا أدرك إمالة عاطفية فاستعمل الفعل المجزد احتراماً لشخص يسوع. أما حين يتحدّث عن قبلة ترافقها عاطفة عميقة، فهو يستعمل الفعل المزيد. رج 7: 38، 45 (الخاطئة في بيت سمعان)؛ 15: 20 (الابن الضال)، أع 20: 37 (قبّلوا بولس).
نحن أمام أسلوب واضح خصوصاً حين نعرف أن هذا التفصيل (الذي أغفله لوقا، لم يقل "قبّله". لكن هناك اختلافة تحاول أن تنسّق بين نصّ لوقا وسائر النصوص، تقول: اقترب فقبّل يسوع) ليس منعزلاً في الخبر اللوقاوي عن الآلام. اعتبر لوقا هذه الفعلة مهينة ليسوع، فجعله يقطع حركة يهوذا بكلمة: "يهوذا، بقبلة تسلّم ابن الإنسان". قد نكون أمام جملة استفهامية: "أبقبلة تسلّم ابن الإنسان"؟ أو أمام النفي: "لا تسلّم بقبلة ابن الإنسان". إن بُعد العبارة ليس بواضح. فهي تستعيد عبارات تسجّلت في التقليد وردّدها لوقا كما فعل متّى ومرقس.
بدأ يهوذا بفعل، فأوقفه يسوع. لأنه رآه "يجدّف" على المحبّة التي تعبرّ عنها القبلة. وبدأ الابن الضال يلقي خطابه. ولكن والده أوقفه حين قال: "لا أستحقّ أن أدعى لك ابناً" (15: 21). بل هو ابنه ويبقى ابنه. "قال له يسوع" (22: 48 أ). هذا ما نجده في مت 26: 50 مع اختلاف بسيط في الترتيب.
"بقبلة تسلّم إبن الإنسان". رج 9: 22، 44؛ 17: 24- 25؛ 18: 31- 33؛ 22: 4، 26، 21، 22، 23، 25؛ 24: 7، 20. لا يفترق لوقا عن متّى ومرقس حين يستعمل "باراديدوناي" (أسلم) بالنسبة إلى آلام يسوع. ولقب "ابن الإنسان" يبقى حاضراً عند لوقا في منظار الآلام، بل يضاف في الخطبة الاسكتولوجية الأولى (17: 24- 25؛ رج مت 24: 27). وهكذا يدلّ لوقا على أهمية هذا اللقب في إنجيله.
نجد في جواب يسوع ليهوذا بديلاً عمّا أعلنه يسوع في جتسيماني في مر 14: 41: "هوذا ابن البشر يسلم إلى أيدي الخطأة". ولكن يمكن أن نتساءل: هل نحن في كلام يسوع ليهوذا أمام توبيخ يلوّنه "القرف" بغية التأثير على القارئ؟ أم نقرأ هذه العبارة السابقة للفعلة المشؤومة، وكأنها تحاول أن توقفها. أي: المحاولة الأخيرة لتبديل قلب يوضاس والمجيء به إلى التوبة؟ هناك من يستند إلى حدث اللص (23: 39- 43) ويأخذ بالرأي الثاني.
نحن ولا شكّ أمام حالتين مختلفتين. فلصّ الجلجلة قد قام بالعمل الحاسم الذي يلاقيه كلام يسوع الايجابي. أما يوضاس فلم يفعل شيئاً. غير أننا إذ أردنا أن نرى في كلمة يسوع إلى يهوذا آخر خشبة خلاص قبل الجريمة، فسوف نجد إشارات عديدة في إنجيل مليء بالرحمة وبالنداء إلى التوبة: 1: 77- 78؛ 5: 32 (ق مر 2: 17)؛ 6: 36؛ 7: 36- 50؛ 13: 1- 19؛ 15: 1- 32؛ 18: 9- 14. إن توجيه الكلام إلى الخائن باسمه، وهذه ظاهرة لوقاوية (7: 43؛ 19: 15؛ 22: 31؛ 23: 42؛ أع 5: 3؛ 9: 4، 10، 17، 43، 40؛ 10: 3، 13، 31؛ 11: 17؛ 22: 7، 13؛ 26: 14، 24)، يخلق في قلبنا شعوراً بأن يسوع أراد بكلامه إلى يوضاس أن يؤثّر على قلبه ويبعده عن الشّر.
وننهي هذا القسم بملاحظة حول قبلة يهوذا التي لم "تتمّ" بحسب لوقا. هذا ما يدخل في التفاصيل التي استبعدها لوقا لأنها تمسّ بكرامة يسوع. ففي النزاع لم يسقط يسوع على الأرض (رج مر 14: 35؛ مت 26: 39)، بل ركع ركوع المؤمنين وأخذ يصليّ (22: 41). ولم تُذكر قبلة يهوذا (22: 47). وتحدّث لوقا بسرعة عن توقيف يسوع وكأنه لم يوقف (22: 54)، كما تحاشى فعل "كراتين" (أوقف، أمسك) في حديثه عن يسوع. وفي مشهد الهزء بيسوع (22: 63)، كان موجزاً فألغى الحديث عن البصاق. لا يتّهم يسوع بأنه مجدّف بعد حكم السنهدرين (22: 71) كما في مر 14: 64 وقت 26: 65. وفي لوقا لا نرى يسوع مقيّد اليدين أمام بيلاطس (23: 1) كما في مر 15: 1. والجلد بيدو بشكل حيلة بارعة (23: 16، 22). وصمتَ لوقا فلم يتكلّم عن هزء الجنود الرومان بيسوع (رج مر 15: 16- 20؛ مت 27: 27- 31). ما تحدّاه أحد "بأن ينزل عن الصليب"، بل أن "يخلّص نفسه" (23: 35، 37، 39). وصرخته الأخيرة هي صرخة الاستسلام بين يدي الله (في يديك استودع روحي)، وهي بعيدة كل البعد عمّا في مر 15: 34 ومت 27: 46 (إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟).
2- ضربة السيف (22: 49- 51)
ظلّت قبلة يهوذا في غموض. ومع ذلك تابع الخبر مسيرته مع حدث ضربة السيف. ترد آ 49 دون أن يوازيها شيء في سائر الأناجيل، فتدّل على تدرّج في العمل بفضل العبارة اللوقاوية "وإذ رأوا". إن فاعل هذا الفعل هو مجموعة رفاق يسوع.
ترد عبارة "ايدونتوس دي" (إذ رأوا) 15 مرة في لو، 5 مرات في أع، 9 مرات في مت، 3 مرات في مر. ولا ترد بعد ذلك في أي سفر من أسفار العهد الجديد. أدخلها لوقا 5 مرات حين تبع مرقس. في 5: 12 (رج مر 1: 40): وإذ رأى يسوع. في 8: 34 (رج مر 5: 14): وإذ رأى الرعاة ما جرى. في 8: 47 (رد مر 5: 33): وإذ رأت المرأة. في 18: 24 (رج مر 10: 23): وإذ رآه يسوع. في 20: 14 (رج مر 12: 7): فإذ رآه الكرّامون. كما ترد هذه العبارة في السبعينية 12 مرة في تك، 4 في خر، رج أي 2: 12؛ 1 مك 4: 35. يجب أن لا نشدّد أكثر مما يجب على البعد الخاص بالنظر. قد نكون أمام وصلة بين مقطع وآخر.
وهناك عبارة "هوي باري اوتون" (الذين معه). هي تدلّ على التلاميذ الذين تبعوا يسوع ساعة أوقفوه، وهم الذين سمّاهم لوقا بشكل واضح في 22: 39 (تبعه تلاميذه)، 45 (وجاء إلى تلاميذه). لم يذكر لوقا التلاميذ هنا لئلا ينسب إليهم عملاً "مضحكاً" لا يوافق عليه يسوع. أرادوا أن يدافعوا عن يسوع، وأي دفاع! وكانت نتيجته قطع اذن عبد عظيم الكهنة بشكل يخلو من البراعة، عمل لا يشّرف أولئك الذين حاول لوقا مراراً أن يبرّر موقفهم. فهو يعذرهم لأنهم كانوا نائمين ساعة كان يسوع في نزاعه. قال: "كانوا نائمين من الحزن" (23: 46). كما أن لوقا لم يذكر هربهم، وأغفل حلف بطرس ولعنه حين كان ينكر يسوع. وأخيرا ضمّ لوقا إلى النسوة الحاضرات إلى الجلجلة "جميع أصدقاء"، يسوع وجميع معارفه، فدلّ بذلك على الرسل (23: 49).
توقّع الرسل ما سوف يحصل. توقّعوا أن يُوقف معلّمهم، فتوجّهوا إليه وسالوه: "يا ربّ، أنضرب بالسيف"؟ نحن هنا أمام سؤال، لا أمام تحريض خفي يوجّهه التلاميذ إلى نفوسهم. ولكن السؤال ظلّ بدون جواب، بل إن أحد التلاميذ لا ينتظر الجواب، بل كال خادم عظيم الكهنة بضربة من سيفه فقطع "أذنه اليمنى".
نتوقّف هنا عند تفاصيل النصّ. "إسومنون" (ما سيجري). نجد اللفظة في 22: 49؛ أع 8: 27؛ 22: 5؛ 24: 11، 17؛ 25: 13؛ رج مت 27: 49؛ مر 11: 13؛ عب 13: 17. نجد في المخطوط البازي "غاتومنون" في المعنى عينه وهي تحاول أن تنسّق الحدث مع مت ومر اللذين يرويان كيف أوقف يسوع.
نجد هنا أداة "أي" كبداية خطبة مباشرة: هل؟ هذه طريقة سامية انتقلت إلى العهد الجديد بواسطة السبعينية. رج تك 17: 17؛ 44: 19؛ عا 3: 3، 6؛ 6: 12. إذا وضعنا جانباً مت 12: 10؛ 19: 3؛ مر 8: 23، لا نجد هذه الأداة في العهد الجديد إلا في لوقا (13: 23؛ 22: 49؛ أع 1: 5؛ 7: 1؛ 19: 2؛ 21: 37؛ 22: 25).
إن لفظة "كيريي، (يا ربّ) الموجّهة إلى يسوع خلال حياته على الأرض، نجدها 19 مرة في لوقا، ومنها 17 مرة غابت من مرقس. وفي المرتين الباقيتين، حوّل لوقا نصّ مرقس 5: 12 (ق مر 1: 40)؛ 18: 41 (ق مر 10: 51). إستعمل لوقا أيضاً 6 مرات "ابستاتس" ليتحدّث عن يسوع "على الأرض" في أع، تاركاً لفظة "كيريوس" للمسيح القائم من الموت.
"واحد من 9 مع المجرور كما في مر 14: 47، عبارة نجدها في السبعينية مراراً. كما استعمل لوقا مع متّى (26: 51) فعل "باتاساين" (ضرب، كال)، لا فعل "باياين" كما في مر 14: 47. فكان قريباً من السبعينية. في 22: 50 استعمل لوقا "اوس" وفي الآية التالية التصغير "اوتيون" (اذن). ولكن لا فرق بين الاثنين. وفي 5: 18- 19، استعمل "كليني" و"كلينيديون" (تصغير كليني) (الفراش). إن التفصيل عن "الأذن اليمنى" مشترك بين لوقا ويو 18: 10. يبدو أن الشخص الذي ضرب كان أعسر اليدين لكي يقطع الأذن اليمنى لهذا الخادم التعيس. غير أن هذه "الزيادة" الاخبارية توافق فعلة يسوع الذي يعمل عادة بيده اليمنى: كان الجريح أمامه فشفى له بسهولة أذنه اليمنى.
وانفتح فراغ جديد في خبر يعفي يسوع من اتخاذ موقف، مع أنه يفهمنا أن ما فعله هذا التلميذ لقي عنده موافقة خفيّة. ولكن، إن كان سمح به، فهو سيوقف حالاً ما يمكن أن يليه. عرف لوقا تقليد ضربة السيف، ولم يجد من المناسب أن يغفلها. ففعل مثل متّى: حاول أن يستعملها في أفضل الظروف. فلا شيء يتتم دون أن يقررّه يسوع. وضربة السيف تدخل في عداد ما قرّره. غير أن يسوع لم يوافق. وإن تركه يتمّ فهو سيوقفه حالاً لأنه يكره كل عنف. أما العبارة الخاصة التي يستعملها فتعني حرفياً: "اترك (هذا أو هذه) (تكون، تسير) حتى الآن". لم نجد حتى الآن عبارة مثل هذه العبارة في كل العالم اليوناني. غير أن الاطار الذي وقعت فيه يوضحها. ثم إنها تجد ما يوازيها في 22: 38 حيث تبدو عبارة "هيكانون استين" (كفى) واضحة. "يكفي الآن، لا تكمّلوا".
وهكذا رفض يسوع كل دفاع من أجله يتوسّل العنف. ما يحدث الآن قد أراده الله، وأراده يسوع نفسه. ثم إن الذي كرز في الماضي بتصرف يتّصف بالوداعة واحتمال جميع الناس (6: 27- 35)، لا يوافق على استعمال طرق مغايرة من أجل الدفاع عنه، مع العلم أن لوقا يقدّمه لنا نموذجاً خلال آلامه (صلاته، غفرانه، نسيانه لذاته وتفكيره بالآخرين).
إن هذا التعليم يرتبط "بعظة السهل" (تقابل عظة الجبل في كما 5- 7) في 6: 17 ي. بل يرتبط بالاحرى هنا، بهذا المشهد الخاص بلوقا الذي نقرأه في نهاية الحوار بين يسوع وتلاميذه: لما يفهم التلاميذ (لم يذكرهم لوقا هنا. "قالوا") شيئاً، ففسّروا تفسيراً مادياً ولا معنى حرفي كلمة يسوع، وقدّموا نفوسهم للدفاع عنه قائلين: "يا رب، إن ههنا سيفين". نحن أمام استعداد متهوّر ومضحك، شبيه بالتدخّل الذي تلاه على جبل الزيتون. رفض يسوع هذين التدخّلين، ساعة تحدّثوا عن سيفين، وساعة ضرب أحدهم بالسيف. وجاء التعليم في الحالتين هو هو: لا يريد يسوع "سيوفاً" حتى من أجل الدفاع عن نفسه (وعن كنيسته).
واهتمّ يسوع بأن يتابع ممارسة الرحمة التي عاشها طوال حياته. وهكذا تفرّد لوقا فروى لنا كيف شفى يسوع الجريح بلمسة عجائبية (لا يحدّد لوقا العمل بالتفصيل). أما هكذا كان يفعل مع المرضى خلال نشاطه في الجليل، وخلال سفرة قادته إلى أورشليم وتخوم المدينة المقدسة (18: 35- 43)؟ وهكذا أعطى في ذاته مثالاً لما يفرضه على تلاميذه. أما كان قد قال لهم: "أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى من يبغضكم" (6: 27)؟
ونعود هنا إلى بعض التفاصيل. "لمس" يسوع كما فعل في 7: 14 (لمس النعش) و 18: 15 (قدّمو إليه الأولاد ليلمسهم). وقد يلمسه الآخرون. يلمسه الشعب لأن قوة كانت تنبعث منه (6: 19). ولمسته الخاطئة (7: 39) في بيت سمعان الفريسي. ولمسته النازفة فوقف في الحال نزف دمها (8: 44- 54، 47). ويرد فعل "شفى" (يستاي) مرة في لو، 4 في أع. والاسم "ياسيس" يرد في 23: 32 (أجري الاشفية)؛ أع 4: 22، 30. حين يتحدّث لوقا عن شفاء عبد رئيس الكهنة، تزيد اختلافة في المخطوط البازي: "مذ يسوع يده ولمسه، فعادت أذنه صحيحة" (رج 6: 10؛ مر 3: 5).
3- كلام يسوع إلى السلطات اليهودية (22: 52- 53)
وجاءت مقدّمة (آ 52) دوّنت في أسلوب لوقاوي فأعلمتنا أن السلطات اليهودية لم ترسل جنودها (كما نجد في سائر الأناجيل)، بل ذهبت هي بنفسها لتقبض على يسوع. تفرّد لوقا فاتخذ هذه المبادرة الجريئة. نجد هنا "السنهدرين". وتتحوّل اللوحة بعض الشيء حين نجد "قادة حرس الهيكل" بدل الكتبة (9: 22؛ 20: 1؛ 22: 66). فكأني بالمجلس الأعلى صار أداة حربتة جاء به لوقا إلى المكان الذي قبض فيه على يسوع، من أجل هدف وضعه أمامه.
تبدو آ 52 خاصة بلوقا كما قلنا. فعبارة "إيبان دي" لا توجد إلا في لوقا (59 مرة في لو مع تحويل نصّ مرقس 13 مرة؛ 15 مرة في أع. رج يو 12: 6). وهناك فعل قال مع "برولس" (له) الذي لا نجده عند مت ومر، بل نجده 100 مرة في لوقا (مع 29 مرة في تحويل نصّ مرقس) و49 مرة في أع (20 مرة في سائر أسفار العهد الجديد).
أوقف "الرؤساء" يسوع. هذا ما حدث لاسطفانس أيضاً (أع 6: 11- 12). لم يوقفه "الشعب" بل "الشيوخ والكتبة". نشير هنا إلى أن عبارة "قوّاد الهيكل" لا نجدها إلا في 22: 4، 52؛ أع 4: 1؛ 5: 24، 26.
إن الخطبة التي يوجّهها يسوع إلى هذا المجلس الرفيع تشبه (ما عدا في القسم الأخير) إلى حدّ بعيد ما نقرأ في مر 14: 48 ب- 49 الذي استلهمه لوقا بدون شكّ. غير أن الاختلافات عن مرقس لها مدلولها العميق.
إذا كان لوقا قد جعل يسوع يلوم سامعيه لأنه حملوا السيوف والعصي، وكأنهم جاؤوا يمسكون لصاً، وهذا ما لا يليق بالكتبة والشيوخ، فقد فرض عليه هدفه الخاص بأن يلغي هنا هدف هذه الهجمة التي تتوخّى القبض على يسوع. فقد جعل فعل "سيلمباناين" جانباً ليستعمل في 22: 54 (ألقوا القبض). فهم لا يقبضون على يسوع (ق مر 14: 53: إقتادوه) إلاّ بعد أن يقول ما أراد أن يقوله.
ذكر لوقا إقامة يسوع في الهيكل، وسهولة القبض عليه من قبل السلطات ولا سيّما قواد الهيكل. ولم يذكر التعليم الذي كان يعلنه في الماضي في هذا المكان، كما فعل مر 14: 49 (كنت في الهيكل أعلّم)؛ مت 26: 55. لماذا أغفل لوقا هذه الأمور؟ هل هو أمام مرجع غير مر؟ بل قد أراد أن يتجنّب التكرار. فقد سبق له وذكر مرّتين وفي الألفاظ عينها هذا التعليم (19: 47؛ ق مر 11: 18؛ لو 21: 37: ليس لهذا المقطع ما يوازيه). وهكذا بدا له هذا الموضوع جانبياً فاكتفى بإشارة إجمالية إلى الإقامة في الهيكل. هناك، كان باستطاعة أعدائه أن يقبضوا (يضعوا اليد) عليه. لا شكّ لا أن لوقا تذكّر مر 14: 46 (ألقوا الأيدي وأمسكوه). ولكنه احتفظ بعبارة كتابية كما فعل في 20: 19 (ق مر 12: 12) و21: 12 (لا نجد ما يوازي هذا المقطع). وضع مرقس "كراتاين" (أوقف، سجن، رج مت 26: 4، 48، 50، 55، 57). وطبّق لوقا الفعل على القديس بولس (أع 24: 6). ولكنه لم يستعمله أبداً في معرض حديثه عن يسوع، احتراماً لشخص يسوع وبالتالي لتلاميذه الذين أشركهم يسوع مسبقاً في مصيره (21: 12: سيلقون الأيدي عليكم).
فيسوع ما زال حراً حتى الآن. وهو بحرّية تامة يسمح لهم بأن يلقوا الأيدي عليه، ساعة تأتي ساعتهم وقدرة الظلمة. وهي ستأتي قريباً. إن هذه الجملة الخاصة بلوقا تحلّ محلّ التلميح إلى تتمة الكتب، كما نقرأ في مر 14: 49 ب (لكي تتمّ الكتب) أو في مت 26: 56 أ (تتمّ كتب الانبياء). أعاد متّى كتابة الجملة، فما عاد إلى نصّ محدّد. فقدّم لوقا جملة موازية هي مثال عن أسلوبه الاسكاتولوجي الذي يكفل أع 26: 18 المرجع الذي أخذت منه، فيحدّد الهدف لرسالة بولس: "أن يفتح عيون (الشعب الإسرائيلي والشعوب الوثنية) ويعيدهم من الظلمة (ابو سكوتوس) إلى النور، ومن سلطة (اكسوسيا) الشيطان إلى الله" (رج لو 1: 79؛ 2: 32).
في 22: 53 ج (ولكن هي الآن) جاءت عبارة بارزة فأقامت رباطاً مع السياق. فيسوع لن يُوقف إلا بعد خطبته. حتى الآن، لم يمسكه أحد. وإذا أراد أعداؤه أن يصلوا إلى مبتغاهم، وجب عليهم أن ينتظروا أن يقول لهم: لقد حل الوقت وهذه ساعتهم من أجل العمل (قد تكون لفظة ساعة ارتبطت مع مر 14: 35- 41). ولكن لا يضلّوا نفوسهم: إنهم أدوات بين يدي إبليس. وهذا ما نعرفه منذ زمن بعيد. قُهر الشيطان في وقت من الأوقات بعد أن حمل يسوع إلى جناح الهيكل. ولكنه استعدّ ليأخذ بثأره (4: 13). وقد اتَّخذ هذا الثأر شكله مع يهوذا الذي دخل فيه إبليس (22: 3)، والذي حرّك بعمله دراما الآلام كلها. وعملت القوى الشيطانية في الآلام، وضاعفت عملها في هذه المحاكمة التي بها يرتبط خلاص البشر (رج 1 كور 2: 8). فاليهود والرومان، الشرطة ويهوذا التلميذ الخائن، لا يستغنى عنهم. ومع ذلك، إنهم في قبضة قوة هائلة قد قرّر الله أن يقضي عليها (هذا ما نجده في يو 13: 2- 27).
لقد نبّه الكاتب القارئ من كل تفسير دنيوي لما حدث ولما سيحدث. لهذا، فهو يستطيع الآن أن يتحدّث عن القبض على يسوع. تحدّث مر 14: 50 ب ومت 26: 56 ب عن هرب التلاميذ. أما لوقا فلم يقل شيئاً في هذا المجال، لأنه أراد أن يقدّم للقارئ صورة رفيعة عن مجموعة التلاميذ، بانتظار أن يجعلهم حاضرين مع النسوة عند صليب المخلّص (23: 49).
4- قبضوا عليه وقادوه (22: 54- 55)
في لو 22: 54- 61 يتميّز ترتيب الأحداث عمّا في مت ومر. لقد رويا على التوالي مثول يسوع في الليل أمام السنهدرين، ومشهد الهزء، وإنكار بطرس. أما لوقا فبدأ بنكران بطرس ثم الهزء بيسوع. وترك إلى الصباح مثول يسوع أمام المجلس الأعلى.
لماذا اختار لوقا هذا الترتيب؟ لأنه أراد كعادته، أن يجعل في مجموعة واحدة ما يتعلّق بشخص من الأشخاص (مثلاً، يوحنا المعمدان، 1: 5- 80؛ 3: 1- 20) أو بموضوع من المواضيع. أما مرقس فأدخل القارئ في خبر الانكار قبل مشهد السنهدرين، فجعل بطرس في قصر عظيم الكهنة.
إذن، جعل لوقا يسوع يمثل أمام المحكمة العليا في الصباح. ما الذي حدث بين وصول يسوع إلى بيت عظيم الكهنة والحكم عليه؟ أولاً، إنكار بطرس ليسوع الذي جعله لوقا يمتدّ في الزمن (22: 59). ثم كان الهزء بيسوع الذي امتدّ حتى الصباح (22: 65). هكذا دلّ لوقا على أن يسوع الذي عُذّب وأهين ظلّ هادئاً أمام القضاة. وهكذا قدّم لوقا درساً للمؤمن في ساعة المحنة.
عاد لوقا إلى نسخة مرقس في معرض سرده لإنكار بطرس ليسوع. ولكنه قام ببعض التحويلات الخاصة: ذكر مرة واحدة صياح الديك، وأعطى دفعاً للعاطفة عند القارئ دون المساس بشخص بطرس.
إذ أراد لوقا أن يقول إن يسوع أوقف، تذكّر الكلمة التي قالها يسوع للفرقة في مر 14: 48 ب (خرجتم على لصّ بسيوف وعصي). دوّنها في 22: 52 ب، وحذف منها اللفظتين الأخيرتين. فيسوع في نظره لم يوقف (لم يقبض عليه) بعد. أما الآن، فقد تمّ توقيفه. بعد هذا يتبع لوقا مر 14: 53 أ (وذهبوا بيسوع إلى رئيس الكهنة) فيقول إنهم أخذوا يسوع إلى "بيت" رئيس الكهنة. فاجتماع المجلس (ق مر 14: 53 ب) يتمّ في الصباح. أما الان، فالانتباه مسلّط كله على شخص بطرس وتصّرفه. نعرف هنا (كما في مت ومر) أنه تبع "من بعيد" يسوع الذي قبض عليه. هو لم يتخلّ عنه. وكذلك الرسل العشرة الباقون الذين لا يقول لنا لوقا إنهم هربوا.
وهكذا يجعلنا لوقا في دار بيت عظيم الكهنة. فيصوّر لنا الإطار الطبيعي والاشخاص الحاضرين. وفي النهاية يصل إلى بطرس. أشعلت نار في وسط الدار، وتحلّق الخدم حولها يستدفئون. وها هو بطرس "في ما بينهم". لقد صار كل شيء جاهزاً من أجل بداية الحوار بين بطرس والجارية... وهكذا نستعد لفصل آخر عنوانه: نكران بطرس للمسيح.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM