الفصل الرابع والعشرون: صلاة يسوع على جبل الزيتون

 

الفصل الرابع والعشرون
صلاة يسوع على جبل الزيتون
22: 39- 46

إن خبر نزاع يسوع (وصلاته في جبل الزيتون) في الإنجيل الثالث يختلف اختلافاً كبيراً عن ذاك الذي نجده في متّى ومرقس. إنه يشبه إلى حد بعيد ما نجده في يو 12: 27- 31. ومع ذلك، فهناك معطيان أساسيان في خبرَيْ النزاع عند مرقس ومتّى نجدهما بدون تبديل عند لوقا: طلب يسوع المشروط بأن يُعفى من هذه الكأس مع الاستسلام في النهاية إلى مشيئة الآب. ثم فى عوة إلى الصلاة وجّهها يسوع إلى تلاميذه. وها نحن نبدأ بخصائص الخبر اللوقاوي. وبعد نظرة عامة إلى مؤلّف لوقا (لو+ أع)، نربط بهذه النظرة خبر نزاع يسوع وآلامه.
1- خصائص الخبر اللوقاوي
أ- التفاصيل الرئيسية في حدث النزاع
لا يذكر لوقا "جتسيماني". في آ 39، يقدّم لنا إشارة غامضة: "خرج وذهب كعادته إلى جبل الزيتون". وإن الانجيل الثالث لا يقول شيئاً عن اختيار ثلاثة تلاميذ ليسهروا ويصلّوا مع يسوع. وهكذا يبدو أن طلبات يسوع تتوخه إلى مجموعة التلاميذ كلّهم.
في آ 14، يقول لنا الإنجيلي إن يسوع حين وصل إلى جبل الزيتون، انفصل عن تلاميذه مقدار رمية حجر. وخرَّ على ركبتيه وجعل يصليّ.
لم نكن لننتظر الفعل الذي يعبرّ عن فكرة الانفصال (ابوسباوو)، يعني حرفياً: أخرج بعنف، انتزع. مثلاً: انتزع الرجل عن امرأته وأولاده، انتزع شخصاً من يد شخص آخر. هذه الكلمة نادرة في الكتاب المقدس: 4 مرات في العهد الجديد، و 10 مرات في السبعينية. نقرأ في حز 19: 5: رأى شعب إسرائيل كل أمل يبتعد عنه، ينفصل عنه، ينتزع منه. وفي سفر الأعمال، في نهاية خطبة بولس التي بها ودّع شيوخ أفسس، جثا على ركبتيه للصلاة. حينئذٍ بكوا كثيراً وارتموا على عنق بولس وقبّلوه. وكان أكثر ما أحزنهم قوله لهم: لن تروا وجهي بعد اليوم. ثم شيّعوه إلى السفينة. ولما انتزعنا نفوسنا منهم (فارقناهم. لوقا يتكلم في صيغة المتكلّم الجمع)، أبحرنا متوجهين إلى "كوس" (20: 36- 21: 1). كان لوقا رجل شعور واحساس، وكان حاضراً المشهد، فاستعمل فعلاً قوياً به يدلّ على ألم الانفصال: انتُزعنا منهم.
لماذا لا نحافظ على قوّة هذا الفعل في نصّ لوقا عن النزاع. فبعد توطيد روابط الصداقة بين يسوع ورسله خلال وليمة الوداع (العشاء السّري)، وبعد أن أعطاهم جسده ودمه في الافخارستيا، وهي عطية لم يُسمع بها، بدا الفراق ثقيلاً على قلب يسوع. لا شكّ في أن يسوع اعتاد أن يطلب العزلة من أجل الصلاة. أما في جتسيماني فنحن أمام مفارقة: إن يسوع يريد أن يصليّ وحده، ومع ذلك يرغب بأن يرافقه تلاميذه الاعزّاء مرافقة روحيّة.
وبدا يسوع متعباً حين ابتعد عنهم قدر رمية حجر. ماذا عنى لوقا بكلامه؟ رغم ابتعاد يسوع، فإنه كان باستطاعة التلاميذ أن يروا ويسمعوا معلّمهم. وبالتالي، إن الحدث الذي رواه الإنجيلي كان له شهوده. فمنهم أخذ لوقا بشكل مباشر أو غير مباشر جوهر التفاصيل التي يعطينا.
وقال لنا لوقا إن يسوع أخذ يصليّ بعد أن "جثا علي ركبتيه". كانوا يصلّون عادة وهم وقوف (رج 1 مل 8: 22: هكذا صلى سليمان؛ مت 6: 5: يحبون الصلاة وقوفاً؛ لو 18: 11: وقف الفريسي يصلي). ولكن إذا كان المؤمن يريد أن تكون صلاته حارة وملحّة ومتواضعة، يجثو راكعاً. رج مز 59: 6 (تعالو نسجد ونركع له)؛ أش 45: 23 (ستنحني لي كل ركبة)؛ دا 6: 11 (كان يركع على ركبتيه ثلاث مرات في النهار)؛ أع 7: 60 (سجد اسطفانس وصاح بأعلى صوته)؛ 9: 40 (سجد بولس وصلىّ)؛ 20: 36؛ 21: 5. وأحل لوقا هنا لفظة ليتورجية محلّ كلمة استعملها مرقس (14: 35: سقط، إرتمى على الأرض).
هنا يطرح التدوين اللوقاوي سؤالاً على النقد النصوصي: هل نقول: إن شئت فأبعد عني هذه الكأس؟ أو: إن شئت ابعاد هذه الكأس عني. الطريقتان ممكنتان. ثم إن الحلّ لا يبدّل كثيراً في فهم النصّ.
وأشار لوقا في آ 43 إلى تدخّل ملاك جاء من السماء (لا نقول: إنه ينتمي إلى البلاط السماوي). جاء ليقوّي يسوع ويشجّعه. لا ننسى أولاً أن الملاك يدلّ على حضور الله. إن اللفظة التي تعبرّ عن هذا الظهور (تراءى، رؤي) لا توجد إلا مرة واحدة في مرقس (9: 4) وفي متّى (17: 3). إلا أنها ترد مراراً عند لوقا (1: 11؛ 9: 31؛ 24: 34؛ أع 2: 3؛ 7: 2، 26...) لتدلّ على ظهور "منظور". إن يسوع يحتاج إلى قوّة النفس والجسد. والملاك حمل إليه هذه القلوّة. كيف ذلك؟ هذا سّر الله.
في آ 44، نلتقي بلفظة "نزاع" (أغونيا). تدلّ هذه الكلمة اليونانية على الحرب والصراع والتمارين الرياضية. كما تدلت على اضطراب في النفس وقلق وضيق (رج 2 مك 3: 14؛ 15: 19). ما يدلّ عليه لوقا هنا ليس فقط العلامات التي تسبق موت يسوع القريب. وليس فقط الخوف أمام موت مريع ينتظره. بل هو الضيق حين يفكّر بمحنة يواجهها وحرب يقوم به من أجل خلاص العالم. قال يسوع للذين جاؤوا يقبضون عليه: "هي ساعتكم وهذا هو سلطان الظلمة" (22: 53). أجل، نحن أمام ضيق وصراع، والمسرح هو يسوع بكل قواه البشريّة.
يبدو يسوع هنا كأحد المصارعين قبل بداية المعركة: وجه شاحب، ارتعاد في الجسم، عرق غزير. بل يبدو على جبل الزيتون ذاك المصارع الكامل. هنا نتذكّر أن تجارب يسوع في البرية، وفي بداية رسالته العلنية، اعتُبرت بداية صراع مرير هو صراع الآلام بعد بدايته في جتسيماني. نحن هنا أيضاً في إطار المحنة والتجربة (آ 40- 46) كما في البرية. وكان لوقا قد أنهى خبر التجارب بما يلي: "ولما استننفد الشيطان كل التجارب، ابتعد عنه إلى الوقت المعيَّن" (وقت الآلام) (4: 13). وفي 22: 28، سيتحدّث يسوع عن كل رسالته العلنية وكأنها سلسلة من التجارب والمحن، وسيكون النزاع (والآلام) ذروتها. "أنتم الذين ثبتّم معي دوماً في محنتي".
كان النزاع على جبل الزيتون (آ 39). ونلاحظ أيضاً أن الصعود تمّ أيضاً على جبل الزيتون (أع 1: 12). إن لهذا التقارب معناه. فالنزاع هو بداية طريق الآلام والذلة التي عرفها يسوع. غير أن الصعود هو الهدف الأخير لهذه الطريق. وكل ما وُجد بين هذين الحدثين، يعتبره لوقا ذروة حياة يسوع وذروة تاريخ الخلاص. فلقد قال المسيع القائم من الموت إلى تلاميذه: "أما كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام ليدخل إلى مجده" (24: 26)؟
وصوّر الإنجيلي كيف صار عرق يسوع مثل قطرات دم تسقط على الأرض. هو الطبيب يتكلّم. هو لوقا يبرز الوجهة الجسدية في هذا الضيق، بينما رسم متّى ومرقس الضيق الروحي الذي عرفه يسوع.
إعتبر بعض الشّراح أن عرق الدم هو صورة عن المجهود الذي قام به يسوع. واستندوا إلى أداة التشبيه "مثل" (قطرات الدم). هنا نقول إن أداة التشبيه قد تتوافق مع واقع الأشخاص أو الاشياء. مثلاً في لو 15: 19: "عاملني مثل أحد اجرائك". أو في 16: 1: "وشي به على أنه يبدّد أمواله". ويبدو أن الدم هو الذي يسقط على الأرض. ولوقا لا يتحدّث عن العرق الذي يسيل.
إذن نحن أمام دم حقيقي يخرج من جسم المخفص. والسبب هو تأثُر عنيف وعميق. وبما أن ألم يسوع في جتسيماني كان فريداً من نوعه، يمكننا أن نفترض أن الظهور "الجسدي" لهذا الألم كان ذا طابع فريد وبالتالي كان عجائبياً.
ما هو مدلول هذه الظاهرة؟ ربطها الشّراح مع عماد الدم (الاستشهاد) الذي أعلن في 12: 49- 50 (لي معمودية اعتمد بها، وما أشدّ تضايقي حتى تتم!). أو مع دم العهد في الوليمة الافخارستية؛ 22: 20). أو أخيراً مع الدم الذي سال من جنب المسيح المصلوب (يو 19: 34). هذه الشروح لا تنفي بعضها بعضاً، وهي تلتقي و نقطة مشتركة: إنها تحيلنا إلى دم المسيح الفدائي.
إن الدم الذي أراقه المسيح في جتسيماني، كالدم الذي أراقه على الصليب. هو الذي يصالح البشرية الخاطئة مع الله. أن يبدأ هذ الدم فيسيل في نزاع يسوع، أي ساعة بدأ يقول "نعم" لمخطّط الآب الذي يطلب منه التضحية بحياته، فهذا ما يدلّ على أنه سفك دمه بحرّية تامّة. وإذا كان الأمر هكذا، فالطابع العجائبي لعرق الدم المرتبط بعمل المسيح الحرّ هذا يصبح معقولاً وإن لم يفرض نفسه بشكل مطلق.
الخصوم هم الذين سيريقون دم يسوع فيما بعد. أما في جتسيماني، فهو الذي يقبل بأن يبذله من أجل خلاصنا.
ب- إرتباط حدث النزاع بالسياق المباشر
بعد أن تفحّصنا التفاصيل الرئيسية في الخبر اللوقاوي عن النزاع، نلاحظ ميزتين خاصتين بهذا الخبر. إنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما سبق وبما يلي. بمَ يقوم هذا الارتباط المضاعف؟
أولاً: ارتباط بما سبق
لقد أشرنا إلى اثنين من هذه الرباطات. الأول: حرب يسوع مع الشيطان في بداية حياته العلنية. الثاني: المقطع الذي يسبق حالاً مشهد النزاع (22: 35- 38).
ترتبط دراما الجسمانية بتجارب يسوع في البرية، فترتبط لا الوقت عينه بتجربة آدم وحواء في الفردوس الأرضي. فبين عماد يسوع وإقامته في البرية، أقحم لوقا سلسلة نسب يسوع (3: 23- 30) ليرينا آدم الجديد الذي سينتصر حيث سقط آدم الأولى.
وحين أعلن يسوع عن الحرب الحاسمة حالاً قبل مشهد الجسمانية (22: 35- 38)، لا نستطيع أن نقرأ قراءة حرفية كلا يسوع (مع ما فيه من مفارقة) الذي نصح تلاميذه بأن يأخذوا معهم سيوفا. ففي هذا المقطع عينه يطبّق يسوع على نفسه نصّ أش 53: "أحصي مع المجرمين". إذن، لن يفعل يسوع شيئاً لكي يدافع عن نفسه، ولن يطلب من أخصّائه أن يدافعوا عنه. قبلَ مسبقاً أن يكون مع المجرمين.
ثانياً: إرتباط بما يلي
تشكل الجسمانية عند متّى ومرقس وحدة تامة تتميّز عن الأحداث التي تلي. ولكن الأمر يختلف في الإنجيل الثالث الذي يغفل خاتمة الحدث كما نقرأها في الإنجيليين الأولين: "ناموا الآن واستريحوا، جاءت الساعة". إن مشهد النزاع عند لوقا ينتهي كما بدأ، بنداء ملحّ إلى الصلاة: "ما لكم تنامون، قوموا وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة" (آ 46). فكأنيّ بالانجيلي أراد أن يقول لنا إن الجسمانية هي بداية محنة هائلة: وخلال هذه المحنة، يجب على التلاميذ أن يمتنعوا عن النوم ويداوموا على الصلاة.
التلاميذ هم كلهم هنا، وليس ثلاثة تلاميذ فقط. يدعوهم يسوع إلى الصلاة فقط، وهو لا يتحدّث عن السهر عند لوقا. وهناك أخيراً اختلاف في البنية بين لوقا والانجيلين الأولين. عندهما نلاحظ ثلاث مراحل في نزاع يسوع. أما عند لوقا فقد اختفت هذه الرسمة المثلّثة، فجاء تأليفه مركّباً على الشكل الثالي: صلاة يسوع في قلب المشهد (آ 41- 44) يحيط بها تحريضان للتلاميذ، والتحريض الثاني (آ 46) يكرّر ما قاله الأول بشكل يكاد يكون حرفياً. تصوّر الصلاة في آ 42، 44 أ. أما حالة التعب والضيق التي تتمّ فيها هذه الصلاة فيعبرّ عنها في آ 43 (معونة الملاك المعزي) وفي آ 44 ب (عرق الدم).
يزور يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا ثلاث مرات (مر 14: 37، 39، 40) فتنقسم صلاته ثلاثة اقسام. والرقم 3 يدلّ على حرارة الصلاة وقوة الألم في هذا المشهد كما رواه متّى ومرقس. ويدلّ أيضاً على تحقّق الصلاة واستجابتها كما يقال في المثل العامي: الثالثة ثابتة.
ماذا كانت صلاة يسوع؟ "يا أبتِ، إن شئت". وهكذا نجد نفوسنا أمام الصلاة الربيّة: أبانا الذي في السموات، لتكن مشيئتك. إن تذكرات "الابانا" تتركّز عند متّى في خبر النزاع. أما في النصّ اللوقاوي فلا نجد "لتكن مشيئتك" (11: 2- 4). بل نجد: "لا تدخلنا في تجربة". وهذا ما يشير إليه نصّ النزاع. مقابل هذا، قبل النزاع وبعده نقرأ تذكّرين للصلاة نفسها خاصة بالإنجيل الثالث، وهذا ما يربط حدث جتسيماني بما يسبق وبما يلي: في خبر العشاء السري يقابل 11: 3 وطلبة ليأت ملكوتك ما في 22: 18 (إلى أن يأتي ملكوت الله). وفي خبر الآلام، يوافق 11: 4 (واغفر لنا خطايانا) ما في 23: 24: "إغفر لهم يا أبت، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون".
2- نظرة لوقا في إنجيله وسفر الأعمال
نحن نعرف أن الإنجيل وسفر الأعمال يكوّنان كتاباً واحداً في جزئين. وهكذا لا نستطيع أن نحدّد بالضبط المنظار الخاص بخبر النزاع كما يرويه لوقا إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار هذين الجزئين الموحَّدين توحيدا حميماً.
الإنجيليون هم لاهوتيون قبل كل شيء. ولوقا اللاهوتي يختصّ هنا بأنه لا يتوقّف حصراً عند شخص يسوع. فانتباهه في هذين الجزئين يتوجّه في الوقت عينه إلى هذا الشخص، إلى ما هيّاه (إسرائيل)، إلى ما تبعه (الكنيسة). إذن، لقد كتب لنا تاريخ خلاص.
ولا يمكن اليوم أن نتحدّث عن فكرة لوقا حول تاريخ الخلاص دون العودة إلى معطيات إنسانية وهي ترد في ثلاث مراحل: هناك أولاً زمن إسرائيل، زمن الشريعة والأنبياء. يبرز من 16: 16 أن كرازة يوحنا المعمدان مثلّث المحطّة الأخيرة في هذه المرحلة. هناك ثانياً زمن يسوع الذي يشكل قلب الزمن: خلال حياته العلنيّة، لم يتوجّه يسوع إلا إلى إسرائيل، ولكنه هيّأ منذ ذلك الوقت الجماعة المسيحانية. وارتبط تحقيق الخلاص المسيحاني بالآلام. وهناك ثالثاً زمن الكنيسة الذي يمتدّ من قيامة يسوع وصعوده إلى عودته في المجد.
حين نقدّم هذه النظرة لا ننسى القسمة التقليدية التي تتحدّث عن الوعد وعن تتمّة الوعد. أما زمن الكنيسة الذي أفرد له لوقا كتابا (هو سفر الأعمال) فقد جعله سائر الإنجيليين داخل الإنجيل بحيث نقرأ في مستوى أول حياة يسوع وفي مستوى ثانٍ حياة الكنيسة.
ويرى لوقا أن قلب تاريخ الخلاص وذروته هما ثلاثة أحداث مرتبطة ارتباطاً وثيقاً: الآلام، القيامة، الصعود. من الواضح أن كل ما يسبق يتوجّه إلى هذه الأحداث. وما يلي ينبع منها. وهكذا يكون انطلاق سفر الأعمال من آلام يسوع وقيامته وصعوده.
وإذا عدنا إلى لو 1- 2 (ما يسمّى المقدمة)، فالأمور التي تجري في الناصرة أو في بيت لحم تستقطبها أورشليم حيث ستتم آلام المسيح (سيف الحزن لمريم في 2: 35) وسره الفصحي (يسوع في الهيكل بعد ثلاثة أيام، يا بيت الآب، لو 2: 41- 52).
ونجد البنية عينها في تقديم رسالة يسوع العلنية الموجّهة كلها إلى أورشليم. هنا يمّيز لوقا ثلاث حقبات: الحقبة الجليلية (3: 1- 9: 59) التي فيها أعلن (الخروج" (اكسودوس) الذي سيتمّه يسوع في أورشليم (9: 31، خاص بلوقا). وحقبة ثانية (9: 51- 19: 27) سمّيت الصعود إلى أورشليم (وقد سمّيت أيضاً: سفَر في السامرة). تبدأ بهذه الكلمات: "وحدث أنه، إذ كان يتمّ الزمن الذي فيه يرفع يسوع، سار بعزم في طريق أورشليم" (9: 51). والحقبة الثالثة (19: 28- 24: 53) تجري كلها في أورشليم. فلوقا لا يتحدّث عن ظهورات للقائم من الموت في الجليل. وتتضمّن هذه الحقبة الأخيرة جزئين: الكرازة في الهيكل (19: 28- 21: 38)، والآلام والقيامة (22: 1- 24: 53).
حين نفهم حياة يسوع بهذا الشكل، نراها تسير على الشكل التالي: إنطلقت البشارة من الناصرة فبلغت تدريجياً إلى كفرناحوم والمناطق التي تحيط ببحيرة جناسرت، ووصلت إلى السامرة وبيريه واليهودية. وفي النهاية، وجدت حياة يسوع ذروتها في أورشليم مع أسرار الآلام والقيامة والصعود.
من الواضح أننا نلاحظ في سفر الأعمال حركة معاكسة. نحن لا نصل إلى أورشليم. بل ننطلق من أورشليم إلى أقاصي الأرض. فمن المدينة المقدسة، مهد الكنيسة الأولى، أشعّ الخلاص في موجات متتالية على اليهودية والسامرة والجليل، على الوثنيين في قيصرية وأنطاكية. ثم حمله بولس عبر مختلف مناطق العالم الروماني فوصل به إلى رومة، قلب الامبراطورية، وهكذا تحقّقت نبوءة يسوع في بداية سفر الأعمال (1: 8): "ستكونون لي شهوداً في أورشليم، في كل اليهودية والسامرة، وحتى أقاصي الأرض".
3- خبر النزاع في مؤلف لوقا
هنا نضع في كل هذه المجموعة خبر الآلام وفي الوقت عينه حدث النزاع الذي يرتبط ارتباطاً حميماً بالآلام. فالمعطية الرئيسية التي نشدّد عليها هي: إن الآم يسوع وموته التي قبلها في الجسمانية وأتمّها على الصليب هي في نظر لوقا قبل كل شيء نهاية اضطهادات واستشهاد الانبياء في إسرائيل، بل كل الابرار والصدّيقين الذي سبقوه. وهي ثانياً نقطة انطلاق اضطهادات أصابت الكنيسة، أصابت تلاميذ المسيح. هكذا نتوقّف عند ثلاث درفات. نتحدّث أولاً عن الدرفتين الأولى والثالثة ونتوقّف مطولاً عند الدرفة المركزيّة وعنوانها: المسيح هو ملك الشهداء.
أ- الدرفة الأولى
نرى في الدرفة الأولى آلام واستشهاد الأنبياء القدامى، والأبرار في البشريّة كلها. لقد ربط الانجيليون الأربعة يسوع الانسان بعائلة الأنبياء الروحية ولا سيّما موسى الذي هو في العهد القديم نبيّ الانبياء. ومثلُ الكرّامين القتلة الذي ينتمي إلى التقليد المثلّث (20: 9- 18- مر 2: 1- 11= مت 21: 33- 44)، يقابل بين مقتل يسوع (الابن) ومقتل الانبياء القدامى (الخدم). في هذا الصدد نتذكّر كلام يسوع في التقليد المثنّى (13: 34- 35- مت 23: 37- 38): "أورشليم، أورشليم، يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين إليها...".
غير أن للوقا معطيات خاصة نقدّمها بإيجاز. عند مرقس ومتّى بدأت كرازة يسوع بنداء إلى التوبة لأن "ملكوت الله اقترب" (مر 1: 15؛ مت 4: 17). أما لوقا فجعل يسوع يدشّن رسالته في مجمع الناصرة، وهناك يطبّق على نفسه قول أش 61: 1- 2: أعلن نفسه "ممسوح" الروح "ويحمل البشرى إلى المساكين" (لو 4: 16- 21). وفي الحال تحرّكت المعارضة. غير أن يسوع يحافظ على رباطة جأشه. يقول: لا نبيّ يكرّم في وطنه. وأورد مثل إيليا واليشاع اللذين سمع لهما الوثنيون فنعموا بقوتهما العجائبية (4: 22- 27). وينتهي المشهد بمحاولة قتل (4: 28- 30). هل نعجب بعد ذلك أن يكون يسوع في الخط الروحي للانبياء، ونشعر مسبقاً أن بعد مقتل هذا العدد الكبير من مرسلي الله، ستأتي آلام وموت مرسل المرسلين، إبن الله الوحيد؟ أجل، إدن مصير الانبياء المؤلم هو صورة مسبقة عن مصير يسوع.
روى لوقا أقامة وحيد أرملة نائين فأشار بخفر إلى ما فعله إيليا حين أقام وحيد أرملة صرفت صيدا (7: 11- 17؛ رج 1 مل 17: 17- 24)، وهكذا دلّ على أن يسوع هو أيليا الجديد. وتذكر الإنجيل الثالث إيليا حين رُفع إلى السماء فسمّى الآلام وقيامة يسوع وصعوده "اختطافاً" (9: 31). ويبيّن لنا يسوع يرسل هذا "البلاغ" إلى هيرودس: "لا يليق بأن يموت نبي خارجاً عن أورشليم" (13: 23). وأردف حالاً في 13: 34: "يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء". وتفرّد لوقا فقال لنا إن موسى وإيليا تحاورا مع يسوع في حدث التجليّ، عن خروجه (انطلاقه، موته، 9: 31). وهذا يعني أن مصير يسوع المؤلم والمجيد قد وجد رمزه في مصير كل من موسى وإيليا. هنا نتذكّر أيضاً وجود موسى وإيليا كشاهدين في رؤ 11: 3 ي. ونتذكر ما في رؤيا إيليا الحبشية، وفي سائر التقليد عن المناوئ للمسيح (انتيكرست). فإيليا وموسى هما شخصان متألمّان. ووجودهما في حدث التجليّ يعلن آلام يسوع ويثبّت الإنباء بالآلام في مر 8: 31 ي.
ومن الانبياء تتوسّع نظرة يسوع. ففي حدث تلميذي عماوس، لم يكتفِ يسوع بالانبياء، بل جال في الكتب كلها ليتحدّث عن آلامه: "من موسى إلى جميع الانبياء" (24: 27). وهذا لم يكن بممكن لو لم تكن آلام المسيح قد تهيّات لدى الانبياء ولدى الأبرار في تاريخ البشرية الطويل. هنا نستعيد كلام لو 11: 50- 51 (مت 23: 35- 36)) "دم جميع الانبياء المهدور منذ إنشاء العالم، من دم هابيل إلى دم زكريا الذي قتل بين المذبح والقدس". لم يكن هابيل نبياً، ولكنه كان أوّل ضحية سقطت بيد البشرية الآثمة (تك 4: 2- 9؛ 1 يو 3: 12)، فصار مصيره قريباً من مصير يسوع (عب 11: 4؛ 12: 24).
ب- الدرفة الثالثة
الدرفة الثالثة في هذا البناء اللوقاوي هي آلام واضطهادات واستشهاد قاساها تلاميذ المسيح في الكنيسة. إن الطريق التي قادت المسيح من الألم إلى المجد (24: 26) مرّت على دفعتين في بدايتها وفي نهايتها، عبر جبل الزيتون. فهناك كان النزاع. وهناك كان الصعود. وأعمق من هذا هو الرباط الذي أقامه لوقا بين آلام يسوع (مع انطلاقته في بستان الزيتون) ومحنة الجماعة المسيحية الأولى كما نجدها في سفر الأعمال.
حين تحمّل الرسل الاضطهاد من اليهود، ربطوا هذه المحنة بالإنباء النبوي الذي تحدّث فيه مز 2 عن ثورة البشر على المسيح (أع 4: 25- 26). فالتلاميذ يعانون بغضاً قاتلاً كان قد لاحقهم في الماضي (أع 5: 33؛ 7: 54). بعد هذا، إن آلام المسيح في الإنجيل تتجاوب مخطّط الله، وتشرف عليها لفظة "يجب" السّرية. "يجب على ابن الانسان ممن يتألمّ كثيراً" (9: 22؛ رج 17: 25؛ 24: 26). ويطبّق "يجب" (أو ينبغي) على دعوة بولس: "سأريه كم ينبغي له أن يتألمّ لأجل اسمي" (اع 9: 16). ونقرأ الشيء عينه عن مجمل المسيحيين في أع 14: 22: "بمضايق كثيرة ينبغي لنا أن ندخل ملكوت الله".
والواقع الذي يعني الكثير هو أن اسطفانس، أول الشهداء، بدا قريباً جداً من يسوع المتألمّ. فظروف محاكمته وموته تذكّرنا بآلام المسيح. وقد اختار لوقا العبارات والألفاظ ليرى في استشهاد اسطفانس صورة عن الشهيد الأول يسوع المسيح. وما قاله لنا سفر الأعمال عن اسطفانس يقوله عن بطرس (وسجنه في أع 12: 1 ي يدلّ على موت وقيامة) وعن بولس (صعوده إلى أورشليم مثل صعود يسوع).
ج- الدرفة الوسطى
يبقى علينا أن ندرس الدرفة الوسطى أو الدرفة الثانية: هي درفة آلام المسيح التي تبدأ في مشهد الآلام. هناك الانبياء من قبل، وهناك الشهداء في الكنيسة من بعد، وبين الاثنين آلام الرب في قلب تاريخ العالم الديني. أجل، إن موت المسيح هو الاستشهاد الاعظم الذي يؤسِّس شعب الله الجديد. ويبيّن لوقا كيف أن يسوع هو شهيد في خط الشهداء الذين سبقوه.
الشيطان هو الذي يحارب الشهداء (22: 3، 53). كل استشهاد يتضمّن صراعاً وكفاحاً. وآلام يسوع تبدأ بالنزاع (اغونيا). إن الشهيد ينتظر عوناً من السماء (22: 43). ظهور كائنات سماوية، براءة يسوع، اتهامه بأنه يقاوم القيصر. وفي النهاية سيرى قائد المئة أن هذا الرجل كان باراً (23: 47). وسيقرع الناس صدورهم توبة وندماً (23: 48). أجل يسوع هو الشهيد الشجاع (لا نجد عنده صرخة مز 22: إلهي، إلهي، لماذا تركتني) الذي يقتدي به اسطفانس، ويسير على خطاه بطرس وبولس وسائر التلاميذ.
خاتمة
قالت لنا الافخارستيا ما هو العهد الجديد. ويسوع يعيشه الآن حين يُسلم، حين يترك التجربة تصل إليه مع الشرّ وسلطان الظلمة. ويعيشه خصوصاً حين يسلّم نفسه إلى الآب ويطلب الغفران لقاتليه. هذان الزمنان يتلخّصان في اقحاء يسوع في البداية (آ 39: خرج وذهب كعادته) وفي استسلامه في النهاية (23: 46: في يديك استوح روحي). ونجد في هذه النهاية استباقاً في صلاة النزاع: أيها الآب، لا تكن مشيئتي، بل مشيئتك (آ 42).
رأينا في مشهد النزاع كيف قاسم يسوع حالتنا البشرية قلقها وضياعها وضعفها: لقد جُعل حقا مع المجرمين. وعرف قساوة تاريخنا وما فيه من تمزّق: سُحق يسوع داخل عالم محطّم فخسر انسانيته. ولكنه عبر كل هذا نراه يصلي. إمتلأ من الروح القدس، فظلّ الابن الخاضع لأبيه. وهذا ما يعطيه القوّة لكي يبقى أخاً للجميع. لم يتخلّ عن يهوذا، ولا عن بطرس... ولا عن الجمهور الذي جاء لينظر.
حدّثنا لوقا عن النزاع، فكان خبره قاسياً على المستوى البشري، وفي الوقت عينه منفتحاً على ستر حياة الله الحميمة. بدأ يسوع آلامه بالصلاة، فكان النبيّ الذي يدخل إلى أعماق رسالته التي قادته إلى الموت... بل إلى القيامة.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM