الفصل الخامس والعشرون: محاكمة يسوع

الفصل الخامس والعشرون
محاكمة يسوع

محاكمة تمت في أورشليم منذ ألفي سنة تقريباً. دخل فيها العالم اليهودي بشعبه، ولكن برؤسائه خاصة. ودخل فيها العالم الروماني عبر الوالي الذي حكم على يسوع بالموت بناء على طلب اليهود وخصوصاً الصادوقيين. هذا ما سوف نتعرّف إليه من خلال الأناجيل الأربعة على ثلاثة مستويات: الأخبار والنقد الأدبي، الأخبار والنقد التاريخي، استنتاجات تفسيرية ولاهوتية.
1- الأخبار والنقد الأدبي
نبدأ فنتعرّف إلى النصوص. هناك تداخل بين إنجيل وآخر، لا سيّما بين متّى ولوقا، ولكننا نتوقف عند كل خبر من الأخبار بسبب معلومات أصيلة وطريقة مبتكرة في عرض الأمور. نتوقف عند الاختلافات ولا سيّما عند اختلافين رئيسيين يقعان في قلب قسمَيْ المحاكمة. بعد هذا، نقدّم لوحة إجمالية عن توالي الأحداث في ذاك الصباح من يوم الجمعة العظيمة.
أ- الصعوبة الأولى: القسم اليهودي من المحاكمة
نجد الصعوبة الأولى في القسم اليهودي من المحاكمة. هل هناك جلسة أم جلستان؟ أمام حنان أم أمام قيافا؟ في الليل أم في النهار؟
تحدّث متى ومرقس عن جلستين تمتا كلتاهما أمام المجلس الأعلى: كانت الأولى في الليل (رمز الليل وعالم الظلمة) فجاء خبرها مفصّلاً، والثانية عند الصباح وقد أشار إليها الانجيليان سريعاً. كيف نفهم هذا الخبر؟
إن جلسة رسمية خلال الليل أمر غير عادي وينافي الشريعة. وهل جاء جميع أعضاء المجلس في تلك الساعة؟ وبعد هذه الجلسة التي تمّت بالحكم على يسوع، ما هي الإفادة من اجتماع ثانٍ عند الصباح، لا يقول لنا مرقس عنه شيئاً؟
نعود إلى لوقا الذي أراد أن يكتب كل شيء "بترتيب" (1: 3). تكلّم عن جلسة واحدة وجعلها في الصباح. والصورة التي يقدّمها توافق الجلسة التي جعلها متّى ومرقس في الليل. وهكذا نتبع لوقا بنظرته المعقولة: تمّت جلسة السنهدرين في الصباح الباكر.
ولكن لماذا نقل متّى ومرقس هذا المشهد وجعلاه مشهدين؟ نجد التفسير عند يوحنا. فيوحنا هو شاهد من الطراز الأول حين ينزل من تحلّقه اللاهوتي ليعطينا إشارات إلى الأمكنة والأزمنة. فيوحنا التلميذ الحبيب كان مع بطرس الشاهد العيان الوحيد لهذه الأحداث. دخلا وحدهما إلى قصر عظيم الكهنة وساعة هرب سائر التلاميذ. حدّثنا يوحنا هو أيضاً عن مثولين ليسوع أمام "المحكمة": واحد أمام حنان والثاني أمام قيافا. لما يعطنا أي تفصيل عن الثاني، ولكنه صوّر لنا المحاكمة عند حنان: سأل عظيم الكهنة يسوع عن تعليمه وعن تلاميذه. رفض يسوع أي يجيب. فصفعه خادم رئيس الكهنة. هذا ما حدث خلال الليل وحالاً بعد الوصول من الجسمانية.
إقترح بعض الشّراح على خطى الكودكس السينائي والسريانية العتيقة وكيرلس الاسكندراني أن يبدّلوا موضع الآية التي تذكر انتقال يسوع من عند حنان إلى قيافا (يو 18: 13). "فالترتيب القديم (كما يقولون) يجعل الاستجواب والضمت والصفعة عند قيافا".
ولكن هذه الفرضية غير مقبولة لسببين. الأول: هي تستند إلى شهود نادرة وغير أمينة وغير متوافقة. لقد حاول النسّاخ أن يحلّوا الصعوبات التأويلية التي ما زالت تلفت انتباهنا اليوم. الثاني: إن حصيلة التصحيح تعطينا جلسة واحدة عند قيافا، ولكن الخبر يصبح مختلفاً جداً: لا شهود زور، لا استجواب عن يسوع المسيح وابن الله، لا محكمة تنتهي بالحكم بالاعدام.
إذن، نحافظ على الترتيب التقليدي للنصّ الذي يجعل استجواب يسوع الأول يتم عند حنان. وهكذا نقول إن يوحنا لم يعطنا تفاصيل جلسة السنهدرين الرسمية مع قيافا. لماذا هذا الصمت لدى يوحنا؟ عرف الازائيين فتحاشى التكرار. ثم إنه وزّع مضمون هذا المشهد في عدة أماكن من إنجيله: خلال المحاكمة أمام بيلاطس، وبصورة خاصة خلال جدال يسوع مع اليهود في الهيكل، الذي دوّنه يوحنا فذكّرنا بجلسة السنهدرين كما يرويها الازائيون.
وهكذا وجدنا بفضل لوقا ويوحنا الزتيب الحقيقي للأحداث: مثول أول أمام حنان في الليل، مثول ثانٍ أمام قيافا والمجلس كله في الصباح. تحدّث مرقس ومتّى عن جلستين، لأنه كان في الواقع جلستان. ولكنهما ربطاهما بالسنهدرين، لأنهما تجاهلا أو أغفلا ما يتعلّق بحنان. هذا ما خلق فراغاً فملآه باستباق لجلسة الصباح. وقد يكون سبب هذا التحول، أن في التقليد الذي يرتبط به مرقس (هو تقليد بطرس)، إحتلت إنكارات بطرس المركز الأول في ما حدث تلك الليلة في قصر عظيم الكهنة: حين كان يسوع يشهد عن مسيحانيته، كان بطرس ينكر أنه يعرف المسيح.
وسنجد في التقليد الازائي أموراً من هذه الجلسة حدثت في جتسيماني حيث أوقف يسوع: تحدّث إلى أهل المجلس الذين كانوا حاضرين كما يقول القديس لوقا (22: 52).
وهكذا مثل يسوع مرتين أمام السلطات اليهودية. الأولى خاصة وشبه رسمية تمّت في الليل أمام حنان وأهل بيته. والثانية رسمية وقانونية، تمّت في النهار أمام قيافا والمجلس الأعلى.
ب- الصعوبة الثانية: المرحلة الرومانية من المحاكمة
نتساءل: متى وأين تمّ الجلد والتكليل بالشوك والاهانات؟ هنا يختلف الانجيليون أيضاً. جعل متّى ومرقس كل هذا يتمّ في دار الولاية، وبعد الحكم على يسوع. في يوحنا، المسرح هو هو وكذلك الفاعلون (الجنود الرومان)، ولكنه يجعل كل هذا في وسط المحاكمة لا في نهايتها. ماذا نختار؟
يبدو الجلد في موضعه عند متّى ومرقس. فبعد الحكم بالاعدام، وكمقدّمة للصلب، اعتادوا أن يجلدوا المحكوم عليه، لا ليزيدوا ألمه ألماً، بل ليخفّفوا من ألمه: فالتعليق على الصليب لجسم صحيع قد يدوم طويلاً فيموت المصلوب من الانهاك. لهذا، كانوا يجلدونه فيتحطم اللحم ويسيل الدم فيصبح الموت أسرع. إذن، يستحيل على والٍ روماني أن يجلد شخصاً لم يتأكد الحكم عليه (ليشبع حقد متهميه). وهكذا نتبع متّى ومرقس اللذين جعلا الجلد في نهاية المحاكمة.
أيكون هناك جلد أول يسبق الاستجواب؟ ربّما. هذا ما أراد قائد الألف أن يصنع مع بولس "ليعلم ما سبب ذلك الصياح ضده" (أع 22: 24). وقد يكون يوحنا أراد أن يجعل يسوع "المتوّج بالشوك" أمام من يمثل امبراطورية رومة. إنه منذ البداية الملك الحقيقي.
وأين نضع الاهانات؟ في "وقت استراحة" بين استنطاق وآخر، "ألّفوا" مهزلة "يسوع الملك". واستفاد بيلاطس من هذه الصورة محاولاً أن يخلّص يسوع: أنتم تخافون طموح هذا الملك، رجل مسكين: هذا هو الرجل! فبعد الحكم بالإعدام، لم يعد من وقت لمثل هذه الأعمال. فالوقت وقت الظهر، واليهود يستعدون لعشاء الفصح. فلا يعقل أن ينتظر الناس الجنود يقومون بمشهد الإهانة. لهذا نقول إن مرقس ومتّى جعلا هنا مشهداً تمّ من قبل.
وهكذا كانت الاهانات في وسط المحاكمة كما قال يوحنا، والجلد في نهايتها، كما قال مرقس ومتّى. لا ندهش من هذا الاختلاف في التدوين. فنحن هنا أمام نهج معروف تتقارب فيه الأمور المشابهة، فيرتبط الجلد بالاهانات عند يوحنا والاهانات بالجلد عند متّى ومرقس.
ج- من قام بهذه الأعمال
ونطرح السؤال: إلى من تنسب هذه "المهزلة"؟ إلى الجنود الرومان؟ ولكنهم عرفوا بانضباطيتهم في الخدمة. هل عملوا بتوصية من الوالي؟ ولكن كيف يأمر الوالي بمثل هذه المهزلة؟ قد يكون أراد أن يثير الشفقة عند اليهود! ولكن أين كرامة موقعه واعتقاده بأن يسوع بريء؟
هنا نعود إلى لوقا. هو لا يتكلّم عن الجلد والاهانات من قبل الرومان (نراه في الإنجيل والاعمال مهتمّاً بصيت رومة الطيّب). بل يذكر وحده، وفي منتصف المحاكمة، نقل يسوع إلى هيرودس. هناك يهان بطريقة تشبه مشهد الاهانات عند سائر الانجيليين. هزئ منه هيرودس ورجاله. ألبسه ثوباً لمّاعاً (أحد أثوابه العتيقة من أجل السخرية) وأعاده إلى بيلاطس بهذه الحالة. وهكذا يكون يسوع "ملكاً مهزلة" عند هيرودس، التتراخس اليهودي ورجاله، أي الجليليين القريبين من يسوع. حينئذٍ نفهم أن يكون الجنود الرومان رأوا يسوع على هذه الحال، فزادوا مهزلة على مهزلة. بدأ المشهد عند هيرودس فجعل الإنجيليّون المشهد كله يتم في دار الولاية. ولكن هذا يبقى مجرّد افتراض.
د- لوحة الأحداث
كيف جرت الأحداث في ذلك اليوم، يوم الجمعة العظيمة؟
اقتيد يسوع سجيناً إلى قصر عظيم الكهنة، وهناك قضى الليل بانتظار اجتماع المجلس في الصباح. خلال تلك السهرة، قضى حنان وبعض الرؤساء وقتهم يستجوبون يسوع حوله تعليمه وتلاميذه. لم يكن الاستجواب رسمياً، ولكن سلطة حنان أعطته ثقلاً في مسيرة الأحداث. فحنان كان عظيم الكهنة، وما زال يحتفظ باللقب. وقيافا، رئيس الكهنة الحالي، هو صهره. وقد كان خمسة من أبنائه رؤساء كهنة. أجاب يسوع بوقار، فدلّ على أنه لا يريد أن يوضح موقفه. صفعه الخادم صفعة، كانت بداية لإهانات سيصوّرها الانجيليون الأربعة بالتفصيل. بما أنه رفض أن يتكلّم، قضوا الليل في الهزء به. بصق عليه الرؤساء وطلبوا منه أن "يتنبّأ"، وصفعه الخدم الذين يحرسونه.
بدأ الاستجواب في قاعة من قاعات قصر عظيم الكهنة. ولكنَّ صمتَ يسوع خيّب الأمال من أجل المجادلة. فأخذوا يسوع إلى الرواق حيث سينكر بطرس معلّمه. ولهذا استطاع يسوع أن يلقي عليه نظرة "لوم" فيدفعه إلى البكاء.
وأطلّ الصباح، فاجتمع المجلس في قصر الكهنة حيث يقيم قيافا: بل إلى "قصر المحكمة" في الزاوية الجنوبية الغربية للهيكل. في هذا المعنى نفهم لو 22: 66. "وأحضروا يسوع إلى محفلهم". أما متّى ومرقس فلا يقولان أين التأمت جلسة النهار. فنكاد نظنّ أن كل شيء حصل في قصر عظيم الكهنة. ومهما يكن من أمر، انتهت المحاكمة بالقول إن يسوع يستحقّ الموت.
حينئذٍ اقتادوه إلى دار الولاية، إلى بيلاطس. من اقتاده؟ الرؤساء وشرطتهم. حين نقرأ لوقا نحسّ أن الشعب يرافقهم منذ الآن. ولكن حسب متّى ومرقس، سيتدخّل الشعب فيما بعد، وساعة بدأت الحلقة الأولى من المحاكمة. واستنطق بيلاطس يسوع دون أن ينال منه جواباً أو قراراً يعترف بـ "ذنبه". في هذا الوقت، صعد الشعب إلى دار الولاية، كما قال مرقس (15: 8). لم يصعد الشعب بسبب يسوع، بل لأن عيد الفصح قريب ولهم الحق بأن يطلبوا العفو عن مجرم. حينئذٍ استفاد بيلاطس من المناسبة فقال: أتريدون أن أطلق يسوع؟ كاد الجمع يقبل. أما رؤساء اليهود فاستبقوا الأمور. أطلبوا العفو لبرأبا. واقتنع الشعب بسهولة: فبرأبا هو مغامر سياسي، دخل في تحرّر وشارك في قتل بعض الناس: لقد برهن عن شجاعة وطنيّة ضد المضايقة الرومانيّه. أما يسوع فيريد منّا أن ندفع الجزية لقيصر. وها هو يسلّم نفسه دون أن يقوم بأي دفاع. ليمت! أشعل الرؤساء النار، واندفع الشعب يقول: إصلبه.
ما أراد بولس أن يرضي بغض اليهود الذين يكرههم. أراد أن يربح بعض الوقت ليستنير حول قضية هذا الجليلي. فارسله إلى هيرودس، والي الجليل، الذي كان حاضراً في أورشليم من أجل الاعياد. ولكن هيرودس تهرّب وهزئ من هذا "المسيح الكاذب" الذي يدّعي الملك. وعاد يسوع إلى بيلاطس كـ "ملك مهزلة". راه الجنود عائداً بهذا الشكل "المضحك" فزادوا إهانات على إهانات. وظنّ الوالي أنه يستفيد من هذا الوضع، فعرض هذا المسكين المشوّه على عيون الشعب: هذا هو الخطير الذي يبلبل الشعب! وكانت له مناسبة لكي يهزأ منهم. ولكن الرؤساء اليهود ثبتوا على موقفهم وهيّجوا الجمع. وبما أنهم لم ينجحوا لجأوا إلى وسيلة أخيرة: هدّدوا بيلاطس بأن يشكوه إلى رومة. لقد أصابوا الوتر الحسّاس. لقد سبق له وعرف الصعوبات مع السلطة المركزيّة. كل شيء ولا رومة: تراجع، دلّ على احتقاره لهم، وبيّن أنه لم يقتنع باتهاماتهم الكاذبة. جُلد يسوع وأرسل إلى مكان العذاب.
هذا هو تسلسل متناسق للأحداث نستخلصه من الأناجيل الأربعة. تسلسل يبدو معقولاً من الناحية التاريخية. ولكن أين موقعه من التشريع اليهودي الروماني.
2- الأخبار والنقد التاريخي
أ- المحاكمة اليهودية
انتُقدت جلسة السنهدرين لأنها تجاوزت التشريع اليهودي في نقاط عديدة. فاستنتج بعضهم أن لا قيمة تاريخية لهذه الاخبار. وقال آخرون بوجود أمور غير قانونية تجاوزها اليهود لكي يحكموا بالموت على يسوع. نحن لا نقبل بهذين الاستنتاجين. أولاً: إن معلوماتنا عن مسيرة المحاكم اليهوديّة تعود إلى القرن الثاني ق. م. ولا نعرف إن كان هناك قانون قديم قد عُمل به في زمن يسوع المسيح. ومن جهة ثانية، لا ننتظر من الأناجيل تقريراً حرفياً لما حدث في المحكمة. نحن أمام تعليم ديني استخلص فيه الانجيليون ما يهمّ قرّاءهم: لماذا حكم على يسوع بالموت؟ بماذا أتهم؟ وما هو السبب الحاسم؟ هذا ما توقّف عنده متّى ومرقس ولوقا، فتركوا أموراً عديدة. هناك عن جلسة السنهدرين 10 آيات في متّى، 8 آيات في مرقس، 5 آيات في لوقا. فهل هذا يغطّي كل ما حدث في ذلك الوقت؟ كلا. وهذا ما لا يتوخّاه الانجيل.
إذن، لا فائدة من نظريات تتأسّف لغياب إحدى الشكليات، أو لغياب عرض شامل لما جرى في تلك المحاكمة التي تحتاج أقله إلى 23 قاضياً، هذا ما عدا الشهود. وكانت هناك فرائض، لو عمل بها في زمن يسوع، لدلّت على تجاوزات. الحكم بالاعدام يتطلب جلستين تتمان في يومين نحتلفين. ولكن يسوع لم يمثل إلاّ مرة احدة أمام المجلس. ثم، لا يصدر حكمٌ ليلةَ عيد أو ليلة سبت. ويسوع حُكم عليه يوم الجمعة. من المعلوم أن الحكم بالاعدام في زمن يسوع كان محفوظاً للسلطة الرومانية. فالسلطة اليهودية سلّمت السلطة الرومانية "ملفّ القضية". وهكذا جاءت جلسة السنهدرين جلسة استشارية ينظر في معطياتها الوالي الروماني.
أراد "اليهود" أن يقولوا إن بيلاطس هو الذي حكم على يسوع. إذن، يتحمّل المسؤوليةَ الرومانُ أولاً وأخيراً. ولو كان لليهود سلطة الموت والحياة على يسوع، لكانوا رجموه ولم يصلبوه. فيدافع يوحنا عن الموقف المسيحي، منطلقاً من الواقع الذي عرفه. لقد طلب اليهود يد الرومان، ولكنهم كانوا قد حكموا مسبقا على يسوع بالموت. وهكذا أبرز يوحنا وضعاً تاريخياً شدّد فيه على ضعف الوالي وبالتالي على مسؤولية الرؤساء واليهود في موت يسوع.
ب- المحاكمة الرومانية
ظن بعضهم أنه من غير المعقول أن بيلاطس أرسل يسوع إلى هيرودس. كان ضيف المدينة المقدسة بمناسبة عيد الفصح. كان خارج أرضه فلم تكن له سلطة. فكيف يقرّر في ما يخصّ يسوع؟ لا شكّ في الأمر. ولكن أما يستطيع أن يوكّل أحداً ينظر في القضية ويعلن الحكم؟ لقد تحيّر بيلاطس ولم يجد جرماً في حياة هذا الجليلي الذي لا يعرفه. ففوّض تترارخس الجليل أن يدرس القضية ويسوع هو أصلاً من مقاطعته. ولكن لم يكن لهيرودس شيء واضح يقوله على يسوع. وأحسّ أن المتهم يحتقره، فأعاده إلى بيلاطس.
وهناك أيضاً حقّ العفو الذي جعل في الميزان يسوع وبرأبا. هنا نتذكّر بردية تعود إلى سنة 86- 88 ب. م. وفيها يقول والي مصر سبتيميوس فاجاتس لمتهم: أنت تستحق أن تجلد لهذا السبب وذاك. ولكنني أعفو عنك وأردك إلى الشعب وسأكون أكثر انسانية منك. هل كان للمصريين عادة كما كان لليهود في أحد أعيادهم؟ هل كانت هناك مناسبة فوق العادة ليمنح الوالي عفواً؟ مهما يكن من أمر، ففي فلسطين كان الشعب الاسرائيلي في عيد الفصح يطلب إخلاء سبيل متّهم. لا نجد شهادة عن هذه العادة إلا في الأناجيل، ولا يمكن أن نشكّك في ذلك، فالفصح يذكّر اليهود بتحريرهم من عبودية مصر. وحين يمنعهم والٍ حكيم تحريرَ أحد السجناء، فهو يدلّ على عاطفته الدينية وعلى تسامحه. وهكذا أراد بيلاطس أن يطبّق على يسوع هذا العفو، فلم يستطع. لقد فضّلوا عليه برأبا.
حكم بيلاطس على يسوع. وإذا كان قد سار حسب القانون، فهو قد وافق على حكمهم. ولم يكن ذلك من دون سبب. أما السبب فنجده على الصليب: ملك اليهود. والناس جميعاً عرفوه لأنه كتب في لغات عديدة. إذن، مات يسوع كثائر سياسي خطير. أراد اليهود أن يتخلّصوا من هذا الشخص الذي يتهدّد سلامتهم على ما قال قيافا: "خير لنا أن يموت واحد عن الشعب ولا تموت الأمة كلها" (يو 11: 50).
وهكذا وصلنا إلى قلب الموضوع بعد أن رأينا تسلسل الأحداث التي تشكّل المحاكمة، وتفحّصنا الشكل القانوني. تبقى الاستنتاجات التأويلية واللاهوتية.
3- استنتاجات تأويلية ولاهوتية
أعلن لنا الانجيليون أن اليهود أسلموا يسوع على أنه ثائر يريد أن يكون ملكاً، وجعلوا بيلاطس يحكم عليه بذلك. ولكن السبب الحقيقي ليس سياسياً، بل دينياً. ثم إن بيلاطس لم يلاحظ أي جرم سياسي حقيقي، فحكم على يسوع لأنه تعب منهم أو خاف على سلطته (أنت عدو قيصر).
إن السبب الحقيقي الأول الذي دفع اليهود ليحكموا على يسوع كان ذا طابع ديني. هذا ما تعنيه جلسة السنهدرين كما ترويها الأناجيل. إنها تتضمّن مرحلتين: في الأولى، يُذكر قول يسوع ضد الهيكل. إعتدّ أنه يدمّره ويبنيه في ثلاثة أيام. في الثانية، أعلن بوضوح وبناء على سؤال رئيس الكهنة أنه المسيح ابن المبارك، وأنهم سيرونه آتياً على السحاب وجالساً عن يمين القدرة. هذا ما بدا لهم تجديفاً هائلاً يستحقّ الموت.
لقد فهم الرؤساء اليهود أن يسوع يقيم نظاماً جديداً، وديانة روحية تختلف عن العالم اليهودي الحالي: هذا ما يعنيه تدمير الهيكل وإعادة بناء هيكل آخر. هكذا فعل ميخا وإرميا. تجرّأوا فتكلّموا ضد الهيكل، فكادا يدفعان حياتهما ثمناً لكلامهما المتهوّر. ولكنهما لم يعتبرا أنهما يقلبان الاوضاع كلها، بل كان كلامهما نداء إلى التوبة. أما يسوع فاعتبر نفسه مؤسّس ديانة جديدة، وسمّى نفسه المسيح. لم يكن "مسيحاً" كسائر المسحاء الذين يحاولون أن يعلوا شأن الشعب اليهودي ويطردوا رومة من بلادهم. أمّا يسوع، هذا النبي الناصري، فما اهتمّ بالنظام الزمني، ففكّر بملكوت روحي يكون الله محوره، ويكون هو معه. فقد جعل نفسه أكثر من إنسان، واعتبر أنه على علاقة حميمة مع الآب، علاقة فريدة تجعله على مستوى متعالٍ. هذا هو التجديف الحقيقي في نظر اليهود. مثل هذه "الاعتدادات الجنونية" ضلّلت الشعب الذي يصدّق كل شيء. صدمت المعلمين وأخافتهم لأن الناس يسيرون مع كل ريح. فلا بدّ من قطع الشّر في جذوره وإزالة هذا النبي الكاذب!
ولكن كيف نقدّم اتهاماً لاهوتياً لحاكم روماني؟ لو فعلوا، لكان تصّرف كما فعل غاليون مع الذين اتهموا بولس: "إن تكن ثمة جناية أو منكر، فمن الحق علينا قبول شكواكم. أما إذا كانت مسائل تتعلّق بكلمة وأسماء، وبتوراتكم، فهذا أمر يعنيكم، ولا أريد أن أحكم في هذه المسائل". ثم طردهم من المحكمة (إع 18: 14- 16).
لهذا السبب عرف اليهود كيف يقدّمون القضية بشكل يؤثّر على الوالي: إتهموا "المسيح الكاذب" بنظرات وأهداف سياسية. في هذا الوقت من الخضوع لسلطان خارجي، كان كل طموح مسيحاني ثورة وطنية. لهذا تحفَّظ يسوع في كشف شخصه وبرنامجه للشعب الذي اكتشف أحلاماً زمنية في ما يقوله يسوع عن الملكوت الروحي. لهذا فضّل الصمت مراراً وأمر تلاميذه أن يحفظوا السّر. ورغم فطنته، أراد شعب الجليل أن يقيمه ملكاً. ويوم الشعانين، ابتهج سكان أورشليم أنفسهم لهذا الرجاء الجديد، لأن يوم تجديد إسرائيل صار قريباً. عرف الوالي الروماني كل هذا الهياج الشعبي، إستند إليه رؤساء اليهود ولعبوا على الوتر الحسّاس فسقط بيلاطس في حبالهم.
ولكن نقصَهم البرهان أن يسوع هو شخصياً محرّك هذه الجموع. أنه حرّك الآمال الثورية. ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وهذا ما لاحظه بيلاطس فردّد ثلاث مرات في إنجيل لوقا: "لا أجد أي ذنب لهذا الانسان" (لو 23: 4). "لم أجد أي ذنب لهذا الانسان الذي تشكونه" (23: 14). "إن هذا لم يأتِ ما يستوجب الموت" (23: 15). فالوالي لا يستطيع أن يكتفي بامور ظاهرة واتهامات واهنة. ولكنهم ما استطاعوا أن يقدموا إليه شيئاً. اتهُّم بأنه ملك، ولكن مملكته روحية، متعالية. هي من عالم آخر، فلم يرَ فيها بيلاطس خطراً على رومة... وعلى الحدود، قد يكون هذا الرجل صاحب أحلام... وفي أي حال ليس بمجرم.
إن الملاحظة حول براءة يسوع على مستوى السياسة كما أعلنها بيلاطس، هي حقيقة تاريخية يجب المحافظة عليها. فهي توافق كل ما تقوله الأناجيل عن يسوع. وصمتُ الوثائق الدنيوية يسير أيضاً في هذا الخطّ. فهي لا تتكلّم عن ثائر (سياسي) إسمه يسوع حاول أن يهيّج الشعب على السلطة الرومانية. لقد تحدّث يسوع عن احترام السلطات، وطلب أن تدفع الجزية لقيصر، فلم يعطِ ممسكاً لخصومه لكي يتّهموه كثائر سياسي. هذا ما فهمه بيلاطس. ولهذا قاوم هذا الضغط "الشعبي" الذي يحرّكه الرؤساء.
وفي النهاية استسلم خوفاً، خاف على نفسه وعلى مركزه، وربّما على حياته. لقد كان بيلاطس رئيساً قاسياً وصاحب إرادة صلبة، وما كان يترك الشفقة تدخل إلى قلبه. فما نعرفه عن حكمه الذي دام عشر سنوات، يدلّ على أنه لم يبالِ حين سفك الدم بأمور العدالة والانسانية. يصوّره فيلون، المفكّر اليهودي الذي عاش في الاسكندرية في القرن الأول المسيحي: شراء الناس، العنف، السرقة والابتزاز، معاملات سيّئة، إهانات، تنفيذ أحكام من دون قضاء، قساوة هائلة وبدون سبب. وتميّز خصوصاً ببغضه لليهود. فما ترك مناسبة إلا وحاول الاساءة إليهم وجرحهم في كرامتهم.
واستفاد من حدث يسوع لكي يذلّ اليهود: هذا هو ملككم! مهزلة! لم يكن يسوع هو الذي يهمّ بيلاطس. فيسوع كان مناسبة لكي يفشل خصومه الممقوتين. فقد أحسّ أن قضيتهم خاسرة وأن ليس لهم اتهام ثابت ضد هذا الرجل. هم يريدون أن ينتزعوا منه الموافقة بالقوّة. ثم يلحّون وهو يقاوم، هازئاً منهم في شخص هذا الملك المسكين الذي لا يشكّل أي خطر إلا "عليهم"!
ولقد كان ثبت حتى النهاية، لو لم يبرز تهديد بالشكوى إلى رومة. هذا ما يحسب له بيلاطس ألف حساب. فالسلطة العليا في الامبراطورية لا تريد أن تثير حساسية هذا الشعب المقلق. فقد اجبر طيباريوس بيلاطس على أن يتراجع فيزيل التروس الذهبية التي يستاء منها اليهود. وستأتي شكوى فيما بعد فيُعزل بيلاطس، ويذهب إلى المنفى إلى بلاد غالية (فرنسا الحالية) وهناك ينتحر غصباً عنه. إن بغضه لم يمنعه من الحسابات: يجب أن لا يخسر مستقبله لسبب بسيط كهذا. ما الذي يكلّفه إن دفع إلى الموت يهودياً يراه بريئاً. وهذه لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة. كل ما يطلب منه: الموافقة وبعض الجند. سيعطي اليهود ما طلبوا دون أن يأخذ على عاتقه الحكم الذي أصدره المجلس اليهودي واعتبره موافقاً للشريعة. لم يندم إلا على شيء واحد وهو أنه تراجع أمام خصومه.
وهكذا يكون اليهود المسؤولين الحقيقيين عن موت يسوع. هم مسؤولون لأنهم انتزعوا بالقوّة الحكم على يسوع بالموت. وهنا نميّز بين الشعب والرؤساء. فالشعب لم يفهم شيئاً من الوجهة الدينية اليهودية. رأى في يسوع ذاك "الرابي" الذي سحره، فاقترب منه واستمع إليه بارتياح. رأى معجزاته ولا سيّما تكثير الارغفة، بل أمل أن هذا "النبي" سيتولىّ قضية الإستقلال الوطني. وها هو الآن في دار الولاية يريد أن يدافع عن يسوع، فإذا هو بفعل رؤسائه يفضّل برأبا على يسوع، ويهتف بملء صوته: إصلبه. أجل، كان الرؤساء هنا وهم الذين قادوا كل هذا التحرّك.
لسنا فقط أمام بعض الصادوقيين، بعض الوجهاء، بعض الإنتهازيين الذين فعلوا ما فعلوا ليرضوا الوالي. إن الهجوم على يسوع كان عمل السنهدرين كله، هذا المجلس الذي يضمّ مختلف قوى الأمة: الصادوقيون الذين هم كبار الارستوقراطية المتحرّرة، الفريسيون الذين هم الممثلون لعالم يهودي غيور ودقيق. إذن، تحالفت عدة اتجاهات فطالبت بموت يسوع. لعب البغض دوره والحقد والحسد والكبرياء ضدّ هذا النبي الشاب، وبرزت الغيرة الدينية خصوصاً عند الفريسيين، بما فيها من عمى وتصلّب. نظّموا ضميرهم على قياسهم فاعتبروا أنه يجب أن يحكموا على يسوع. أما كان هذا وضع بولس في بداية حياته ضد الكنيسة؟ ولكنه فهم فيما بعد الخطأ الذي وقع فيه. جاءته النعمة فرأى أنه يقاوم الله (أع 5: 39: هذا ما قال جملائيل لأعضاء المجلس).
وفي النهاية، السبب الحقيقي للحكم على يسوع نجده في جلسة السنهدرين: ما أراد اليهود مسيحاً يحوّل ديانتهم، بل يقلبها رأساً على عقب. ما قبلوا أن يؤمنوا برسالته. هل فهموا أن يسوع هو ابن الله، مساوٍ للآب، في المعنى المتعالي الذي يعرفه ايماننا المسيحي؟ كلا. فمثل هذه الفكرة لا تُعقل بالنسبة إلى فكر يهودي. والرسل أنفسهم لم يفهموا هذه الحقيقة إلا على ضوء القيامة وبعد أن نالوا الروح القدس. أجل لو عرف اليهود شيئاً من هذا "لما صلبوا ربّ المجد" (1 كور 2: 8).
ولكنهم أدركوا أن يسوع سمّى الله أباه. واعتبر أنه على علاقة حميمة معه. وهذا ما بدا لهم تجديفاً يستحقّ الموت. ولكن ما دفعهم إلى إزالته هو عمله أكثر من شخصه: ما أرادوا ديانة محض روحية. ما أرادوا الديانة الشاملة التي يكرز بها. وفي هذا الخط، سيلاحق اليهود بولس حتى النهاية، لأنه أعلن أن الوثنيين هم أصحاب الميراث كاليهود، أن البعيدين صاروا قريبين بدم المسيح.
كان العالم اليهوديّ منطقيّاً مع نفسه. لو قبل ديانة يسوع، لكان وقعّ على زواله. كيف نضع قطعة قماش جديدة في ثوب بالٍ؟ كيف نجعل الخمرة الجديدة في زقاق عتيقة؟ هذا ما لم يرد رؤساء اليهود أن يفهموه. لهذا قتلوا يسوع... رفضوا أن يجتمعوا حول يسوع، كالصغار حول الدجاجة، فصار بيتهم خراباً.
خاتمة
في محاكمة يسوع لعبت كل من السلطة اليهودية والسلطة الرومانية دورها. مثّل بيلاطس السلطة الرومانية، والرؤساء السلطة اليهودية. بدأ العالم اليهودي محاكمة يسوع، وأتمّها العالم الروماني. هو جاء من أجل العالم اليهودي ومن أجل العالم الوثني (أي الروماني)، فحكما عليه. قتلا الله. قال اليهود: لا نريد أن يملك هذا علينا (لو 19: 14). وطلب الوثنيون من يسوع أن يتحوّل عن تخومهم (مر 5: 17). أجل، جاء يسوع إلى خاصته، وخاصته لم تقبله. كان النور الاتي إلى العالم (يو 1: 9- 10) فلم يعرفه العالم. أما الذين عرفوه فصاروا أبناء الله. هم اليهود الذين آمنوا به، وكان الرسل منهم. وهم الوثنيون الذين جاؤوا إليه بواسطة بولس. ولكن أيضاً بواسطة كل المرسلين الذين يحملون الإنجيل إلى أقاصي الأرض. محاكمة يسوع قادته إلى الموت. ولكن موته صار حياة حتى للذين قتلوه. فهو ما جاء ليهلك العالم، بل ليخلّص العالم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM