الفصل الرابع والأربعون
خدمة بولس الرسوليّة
15: 14- 21
بدا البرهان الواسع الذي امتدّ من 1: 16 فوصل إلى 15: 13، وكأنه معترضة طويلة. وهكذا عاد بولس إلى موضوع 1: 8- 15. ما نقرأه في آ 14 هو صدى لما في 1: 8 من حرارة وشوق. توجّه إلى جماعة رومة كأنهم إخوته، مع أنه لم يلتقِ بعد بالعدد الأكبر منهم. فالشعور بالانتماء إلى عائلة، مع المسيح كالأخ الأكبر (8: 29)، أبهج بولس في عدد من الجماعات حول البحر المتوسط، فتجاوز علاقات قديمة مؤسّسة على اللحم والدم، وعلى القوميّة. وكم تمنّى لمسيحيّي رومة شعوراً عميقاً مماثلاً ونظرة متبادلة. هذا الجزء الأخير من روم يتضمّن عناصر مميّزة: هو بولس يتحدّث عن أسفاره فيستعيد مواضيع من جسم رسالته. هو يتحدّث أيضاً عن نفسه وعن روحانيّة رسالته: كان ذاك الكاهن الخاص، الذي لم يقدّم ذبائح على مثال الكهنة في هيكل أورشليم. حياته كانت كهنوتاً، ورسالته ليتورجيا. كان قد قال للمؤمنين في رومة أن يجعلوا من أنفسهم «ذبيحة حيّة، مقدّسة». وها هو الآن يقدّم الأمم، الذين جاء بهم إلى الإيمان، «قربانا مقبولاً عند الله». وذلك بانتظار أن يكون هو ذاك القربان، تلك «الذبيحة التي يُراق دمها» بعد أن جاهد الجهاد الحسن وأتمّ شوطه.
1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 14، تركت بردية 46 والبازي و010 و011، الضمير في «إخوتي». فقالوا: أيها الاخوة. وأيضاً ألغي «أنتم أيضاً». «أنتم أيضاً ممتلئون خيراً». هناك نسّاخ جعلوا محل «خير»، محبّة ثم قداسة. فصار النص: مملوء محبّة أو مملوء قداسة. هناك من يضع أل التعريف أمام «معرفة» (السينائي، الفاتيكاني، 024، 044) وآخرون يلغونها (بردية 46، الاسكندراني، الافرامي، البازي، 010، 011): كل معرفة أو كل المعرفة.
في آ 15، نقرأ «بجرأة». هو ظرف. ولكنه يرد في شكلين، فاختار الناشر ما قاله السينائي والافرامي وبرديّة 46... «كتبت إليكم». أضاف بعضهم (برديّة 46، السينائي...): أيها الاخوة. وذلك من أجل القراءة الليتورجيّة. «النعمة التي وهبت لي من قبل الله، من عند الله». هي الأداة «هيبو» أو «أبو». هذه نقرأها في السينائي والفاتيكاني و010. فالأداتان هما من وضع الناسخ، ولهذا يصعب الاختيار.
في آ 17، «عندي هذا الافتخار». هناك أل التعريف في معنى اسم الإشارة. رج الفاتيكاني، الافرامي، البازي010، 011.
في آ 18، «طاعة الأمم» (هيباكوي). جعل الفاتيكاني «أكوي»، سماع.
في آ 19، «بقدرة روح الله». هناك من جعل الضمير: قدرته (أي قدرة المسيح).
في آ 21، صار تصحيح الآية حسب السبعينيّة في اش 52: 15.
ب- بنية النصّ
بعد أن أكمل بولس جسم البرهان والتعليم، عاد في الحال إلى مشاريع السفر، وأمل في أن يزور رومة. هذا يعني أنه كتب إليهم لكي يسهّلوا له مشاريعه. وهذا ما تثبته آ 15 مع إشارة إلى 1: 5؛ 12: 3. مع ارتباط بين 11: 13، 14، 25 و15: 27- 28: كتب بولس كما كتب لأنه أعطى الانجيل للأمم، وكانت رسالته صعبة حتى تمام مخطّط الله الخلاصيّ. لهذا كانت الحاجة إلى شرح إنجيله وإطلاقه. والتشديد على الرسالة لدى الأمم (آ 16) ينبع من الرسالة ككلّ كدعوة شخصيّة ملحّة، واستنتاجٍ لاهوتيّ لا بدّ منه لفهم مواعيد الله وقصده. واستعمال «ممتلئون» و«فائضون» في آ 14، يعود بنا إلى 1: 29 مع كلام بأن الانجيل يعطي الجواب المؤاتي على الاتهام الذي ورد في البداية، ضد الجنس البشريّ. وموضوع «الطاعة» (والسماع) (آ 18) يؤمّن رباطاً يوحّد الاندفاع الرساليّ والفكر اللاهوتيّ والقسم الارشاديّ (1: 5؛ 5: 9؛ 6: 16). وإيراد اش 52: 15 (آ 21) يرتبط مع برهان ف 9- 11 (9: 30؛ 10: 16، 20). ويشير هذا المقطعُ إلى تواصل حوّل مقولات التقليد اليهوديّ التي يرى فيها بولس جزءاً من الانجيل. وإلى استعمال لغة العبادة في تصوير رسالة بولس إلى الأمم (آ 15- 16). وهذا ما يوازي الاهتمام اليوميّ والمسؤوليّة الاجتماعيّة المطلوبين من قرّائه (12: 1؛ 13: 6). إن تحوّل القديم هذا الذي انحصر في مقولات إثنيّة تميّزُ فهمَ اليهود للعهد، جعل بولس قادراً على الكلام بشكل إيجابيّ عن الافتخار من أجل الله (آ 17)، الذي أبعده عن ابراهيم (4: 2).
رأى بولس عمله يتوجّه إلى نهاية المرحلة: أتمّ دائرة الرسالة في الشرق (آ 19، 23). وستكون الرسالة في اسبانية مرحلة جديدة (آ 24). ولكن قبل المرحلة الغربيّة، يجب أخذ التبرّعات إلى أورشليم (آ 25- 28). إن الرباط بين اسبانية وأورشليم وأنطاكية يدلّ على الانشداد الذي يسعى بولس لكي يحافظ عليه، بين الارث اليهودي وانفتاح الانجيل الشامل كما يفهمه بولس. لغة الدين تشير إلى 1: 14 بشكل خاص، كما أن هناك إشارة إلى اللغة العباديّة في آ 27- 28. إن المبدأ الذي جعل بولس لا يتدخّل في كنائس لم يؤسّسها (آ 20)، يكفي لكي يشرح اللغة الدبلوماسيّة التي أخذ بها مع فعل «ناشد» (آ 30)، حيث اختار عمداً عبارة تدلّ على عدم الثقة (آ 20). والنداء العاطفي في آ 30- 32 يميّز الطريقة البلاغيّة، وإن تميّز بعض الشيء عن 9: 1- 3؛ 10: 1؛ 12: 1.
إن العودة إلى المواضيع كما في 1: 8- 15 ليس فقط قاعدة لعواطف ممتزجة (الرسول الذي سيأتي)، بل هي تقوّي سند القسمين في الجسم الرئيسيّ من الرسالة.
15: 14 التهاني 1: 8
15: 15- 21 رسالة لدى الأمم 1: 13 ب
15: 22 الامتناع عن المجيء 1: 13 ب
15: 23- 24 رغبة في رؤيتهم من أجل الافادة المشتركة 1: 11- 12
15: 25- 27 الدين 1: 14
15: 30- 32 بولس يطلب صلاتهم ويصلّي لأجلهم 1: 9- 10
15: 33 تسليم الجميع إلى الله شكر لله عن الجميع 1: 8
هناك عدد من المواضيع تجد صداها في المراسلة إلى الكورنثيّين: المعرفة (غنوسيس)، آ 14؛ 1 كور 1: 5. جُرؤَ (تولمان) آ 18؛ 2 كور 10: 12. شرعيّة الرسالة. رج آ 18- 19؛ 2 كور 12: 12؛ 13: 3. طابع الرسالة ومنظارها. رج آ 20؛ 1 كور 3: 10؛ 2 كور 10: 15- 16. أرسل (بروبامباين) آ 24؛ 1 كور 16: 6. وفي النهاية، موضوع التبرّع لكنيسة أورشليم.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (15: 14- 21)
يتضمّن المقطع قسمين. في الأول (آ 14- 16)، نتعرّف إلى ثقة الرسول بكنيسة رومة، التي ما عرفها بل سمع عنها، فتجرّأ وكتب لها. وفي الثاني، نكتشف فخر الرسول بما فعله الله على يده، ولا سيّما حمل البشارة إلى الأمم (آ 17- 21).
أ- ثقة الرسول (آ 14- 16)
«فأنا على ثقة» (آ 14). بابايسماي. رج 8: 38 (أنا أثق، أنا أقتنع). «في ما يخصّكم». رج عب 6: 9. «اخوتي». رج 1: 13 مع ضمير المتكلّم المفرد كما في 7: 4؛ 9: 3، مع حرارة خاصة تجاه إخوة لم يلتقِ الرسول بهم بعد. «أنا أيضاً». هو اقتناع عميق وعاطفة قويّة لقرّاء لا يعرفهم. «أنتم أيضاً». لا نحتاج إلى مساعدة أحد من الخارج. بل لا نحتاج إلى رسول يتوسّط بولس وكنيسة رومة. «ماستوس» ممتلئ. هنا، ممتلئون خيراً. في يع 3: 17: ممتلئ رحمة. وهناك المعنى السلبي: مت 23: 38؛ 2 بط 2: 14. «أغاتوسيني»، لفظ بيبليّ. رج قض 8: 35 (الاسكندراني)؛ 9: 16 (الفاتيكاني)؛ 2 أخ 24: 16؛ نح 9: 25،35؛ 2 تس1 : 11، والعبارة «مملوء خيراً» نقرأها في غل 5: 22؛ أف 5: 9.
«فائضون (ممتلئون) بالمعرفة». رج آ 13. صيغة الكامل المجهول. الله ملأكم. ملأكم في الماضي، وما زلتم الآن ممتلئين. إن الثقة التي نقرأ عنها في آ 14، والتمني في آ 13، يحافظان على الانشداد الاسكاتولوجيّ: ما تمّ الآن وما لم يتمّ بعد. هذه المعرفة (غنوسيس) ليست معرفتهم وخبرتهم للخلاص (2 كور 2: 14؛ 4: 6؛ 10: 5؛ فل 3: 8)، بقدر ما هي فهم مخطّط الله الخلاصيّ (11: 33؛ 1 كور 13: 2؛ كو 2: 2- 3). كل المعرفة. هذا يعني أنهم لا يحتاجون إلى تعليمه، تجاه اليهود الذين لم يفهموا مخطّط عهد الله. فكأني به يقول لهم: أعرف كيف تمسكون بالوضع (12: 2؛ فل 1: 9؛ كو 1: 9). «قادرون» أن ينصح (نوتاتيو). يتألف الفعل من «نون» (عقل) و«تيتيمي» (وضع). هي محاولة التأثير على العقل وعلى الاستعدادات بتعليم معارض، بارشاد وتنبيه وتحذير (أي 40: 4؛ حك 11: 10؛ 12: 2، 6). هو عقاب أخفّ من الحكم الالهيّ (مز سل 13: 9). استعمل بولس هذا الفعل بشكل شبه حصري (1 كور 4: 14؛ كو 1: 28؛ 1 تس 5: 12). ونقرأ الاسم «نوتاسيا» في 1 كور 10: 11؛ تي 3: 10. هذا يعني أن الجماعة ناضجة لتقوم بهذا العمل الصعب (النصح، التنبيه). رج كو 3: 16؛ 1 تس 5: 14؛ 2 تس 3: 15.
«ولكنّي كتبتُ إليكم» (آ 15). هي جرأة وعاها بولس، بأن يكتب إلى كنيسة لم يؤسّسها. «في بعض الأمور». ما اكتفى بولس بأن يعطي تعليماً عاماً، بل أشار إلى أوضاع خاصة عرفتها رومة. «نبّه». كما في العالم اليونانيّ وفي العالم البيبليّ. يُستعمل في شكل آخر في مر 11: 21؛ 14: 72؛ 1 كور 4: 17. «وذلك بالنعمة». هذا ما نقرأه في 12: 3 مع اختلاف بسيط. يعود بولس هنا إلى مهمّته الرسوليّة (1: 5)، ويجعل ملء النعمة أساساً لكي يتكلّم بجرأة إلى كنيسة ليست كنيسته. هي نعمة نالها حين صار رسول الأمم.
«حتّى أكون خادم المسيح» (آ 16). «لايتورغوس» خادم. رج يش 1: 1؛ 2 صم 13: 18؛ 1 مل 10: 5. أما هنا فالمعنى: كاهن. رج نح 10: 39؛ اش 61: 6؛ سي 7: 30؛ عب 8: 2. فاللغة العباديّة واضحة. رج فيلون، موسى 2: 94؛ الشرائع الخاصة 1: 249؛ 4: 191. في وص لاوي (2: 10؛ 4: 2؛ 8: 3- 10؛ 9: 3)، لاوي هو من يقوم بالخدمة الكهنوتيّة. نشير هنا إلى أن بولس لا يتحدّث عن نشاطه الكهنوتيّ. وهو يحوّل اللغة العباديّة إلى ملء اسكاتولوجيّ. ألغيَ الانفصالُ بين ما هو عباديّ وما هو كونيّ، كما كان الأمر بين المقدّس والعاديّ، بين الطاهر والنجس، في خطّ ما قيل عن اليهود والأمم. «هيارورغيو»: هياروس: الكاهن، «ارغوس»: عمل، والفعل كلّه يعني عمل الكاهن. يرد هذا الفعل فقط في 4 مك 7: 8، ولا يردُ بعد في السبعينيّة، كما لا يرد بعد في العهد الجديد. أما فيلون (استعارات الشرائع 3: 130: هجرة ابراهيم 67) ويوسيفوس (العاديات 5: 263؛ 6: 102؛ 7: 333؛ 9: 43)، فيتحدّثان عن الكاهن الذي يقدّم الذبيحة. أما بولس فاستعمل الصورة وحوّلها، وطبّقها على عمله الرسوليّ. رج 1: 1 والكلام عن انجيل الله.
«فيصير غير اليهود» (الأمم). «بروسفورا»، قربان (أع 21: 26؛ أف 5: 2؛ عب 10: 5، 8). أو العمل الذي به نقرّب لله تقدمة، نرفعها. رج عب 10: 10،14- 18؛ أع 24: 17، القربان هو الأمم. هي صيغة البدل. فكرة تعود إلى اش 66: 20 حيث الشتات اليهوديّ يشكّل التقدمة الاسكاتولوجيّة. وقد يكون المعنى: ما يقدّمه الأمم، فيشاركون في دور الانجيل الكهنوتيّ، هكذا يكون الأمم سلالة كهنوتيّة، شأنهم شأن اليهود. هنا نتذكّر أن رواق الأمم فُصل عن رواق الرجال والنساء اليهوديّ. ما عاد من وجود للطاهر والنجس، فاستطاع اليهوديّ والأمميّ أن يقتربا من الله. هذا هو الموضوع الأساسيّ في الرسالة إلى العبرانيّين. «اوبروسدكتوس» مقبول. بشكل عام (15: 31؛ 2 كور 6: 2؛ 8: 12). وفي كلام عن صلاة وذبيحة نقدّمها لله (1 بط 2: 5). «هاغيوس» (مقدس). رج 1: 7. «هاغيازاين»، قدّس. لفظ لا يُستعمل إلا في اليونانيّة البيبليّة. رج «هاغياسموس» في 6: 19: نضع الغرض جانباً، نكرّسه لله فيصبح له وحده، ولا يُستعمل إلاّ من أجله. الذبيحة مقدّسة (خر 29: 33، 36- 37؛ 30: 29؛ لو 8: 15؛ عد 18: 8- 9). الكاهن مقدّس (خر 19: 22؛ 29: 1، 21، 44؛ 30: 30). والشعب مقدّس (خر 19: 14؛ لا 11: 44؛ 20: 8؛ 22: 32). والأعمال الطقسيّة تضع الحدود بين اليهوديّ والأمميّ. والسبت مقدّس، والأعياد مقدّسة.
ب- فخر الرسول (آ 17- 21)
«ويحقّ لي إذاً» (آ 17). «كاوخيسيس» (الافتخار). فقط هنا وفي 3: 27، في روم. هذا ما يذكّرنا باعتداد اليهوديّ (2: 17، 23). هذا (تين) الفخرُ يدلّ على خدمة بولس في آ 15- 16. فالخدمة الكهنوتيّة التي تُفهَم فهماً صحيحاً في العهد الجديد هي أساس للافتخار (5: 2، 3، 11). ولكن حين يتجرّد الخادم عنه ويعتاد أن يستبعد الآخرين من نعمة الله، يُمنع الافتخار (3: 27؛ 4: 2). هي البركة التي كان بولس أداتها حين حمل إلى الآخر ما به يفتخر (1 كور 15: 31؛ 2 كور 1: 12- 14؛ 7: 4، 14؛ 8: 24؛ 1 تس 2: 19). في المسيح يسوع. رج 3: 24؛ 6: 11. هنا نقابل بين 5: 11: افتخار في الله بالمسيح. مع 15: 17: افتخار في المسيح من أجل الله، أو حسب ما يطلب الله، أو خدمةً لله.
«لأني لا أجرؤ أن أتكلّم» (آ 18). وعى بولس أن كل افتخار محفوف بالخطر. وفعل «تولماوو» (جرؤ) يدلّ على الاحساس نفسه. لا أجرؤ أن أقول شيئاً ممّا لم يفعله المسيح بيدي. فكأنه يفتخر بما ليس له، ويسلب الآخرين فخرَهم. «كاتارغازوماي»، أتمّ، فعل، نفّذ. «طاعة (هيباكوي) الأمم». ذاك هو الاعقاد الأساسيّ لدى بولس بالنظر إلى رسالته. «بالقول والعمل». هو مجمل النشاط البشريّ.
«وبقوّة الآيات» (آ 19). «ديناميس»، القوّة الالهيّة، رج 1: 16. «المعجزات والآيات». عبارة قديمة تدلّ على عجائب سفر الخروج (7: 3، 9؛ 11: 9- 10؛ تث 4: 34؛ 6: 22). هذا الأساس يدلّ في العمق على فكر بولس المتجذّر في تاريخ الخلاص (الخروج الاسكاتولوجيّ للانجيل خارج فلسطين إلى العالم، يجد مدلوله البعيد في الخروج الأول من مصر). هنا نشير إلى أن العالم اليونانيّ توجّس المعجزات لأنه اعتبرها خرافيّة. رج عب 2: 4 التي تقابل روم 15: 19. وسيورد سفرُ الأعمال عدداً من المعجزات. رج مر 16: 17، 20. لا يتساءل بولس عن اعتقاد بروح الله الذي يتجلّى في أحداث لا تُفسّر (1 كور 12: 10، 28- 29؛ غل 3: 5). ولكنه بالأحرى يجعل هذه الآيات بعد لاهوت الصليب (1 كور 1: 22- 23؛ 2 كور 12: 1- 10).
«قوّة روح الله». رج آ 13؛ 1 كور 2: 4؛ 1 تس 1: 5. «هوستي» (هكذا) تربط آ 18 مع آ 19. عملَ المسيحُ فيه هكذا، فكانت هذه النتيجة. «من أورشليم». هي نقطة انطلاق الرسالة المسيحيّة (أع 1: 8). هي نظرة بولس إلى تاريخ الخلاص. كانت أورشليم محطّة هامة في رسالة بولس، ولا سيّما من أجل الدفاع عن فهمه للانجيل (غل 2: 9- 14). وإذ «استقلّ» عن أورشليم، وبدأ ينطلق من انطاكية صار حقاً رسول الأمم. هي حلقة (كيكلوس) واسعة تمتدّ من أورشليم إلى انطاكية سورية، إلى الليريكون. الشاطئ الشمالي الشرقيّ للبحر الادرياتيكي (تجاه إيطاليا). هي الحدود الغربيّة لرسالة بولس. كما كانت أورشليم الحدود الشرقيّة. «أكملتُ» البشارة بالانجيل. نلاحظ أولاً الأسفار التي قام بها بولس. وقد يكون ظنّ مجيء الربّ قريباً بحيث لم يبق الكثير من العمل. «انجيل المسيح». رج 1: 1، 9.
«وكنتُ حريصا» (آ 20). «وهكذا». يدلّ بولس على حرصه بأن يحمل الانجيل. «فيلوتيميوماي»: حرص. أحبّ، تمنّى. لا يرد الفعل إلاّ في 4 مك 1: 35؛ وفي 2 كور 5: 9؛ 1 تس 4: 11. «أبشّر». رج 1: 15. هنا يفترق بولس عن الذين يحاولون أن يبشّروا حيث سبق هو وبشّر (2 كور 10: 16؛ 11: 4؛ غل 1: 6- 9). «دُعي، سُمّي، لُفظ اسم» (أونومازستاي). دُعي اسم الله في العبادة. ذُكر اسمه للاكرام (يش 23: 7؛ 3 س 9: 4؛ اش 26: 31؛ 1 مك 3: 9؛ أف 1: 21؛ 2 تم 21: 19). «غيري»: ما يخصّ الآخرين ولا يخصّني. كأننا هنا أمام اقتسام حقول البشارة كما في غل 2: 9. وكانت صورةُ وضع الأساس من أجل عمل الانجيل (1 كور 3: 10- 1 2؛ عب 6: 1. ق أف 2: 20؛ رؤ 21: 14 (حجر الزاوية). صورة البناء. رج 14: 19).
«بل كما كُتب» (آ 21). رج 1: 17. أخِذ النصّ من اش 52: 15 مع «أبصر» في البداية لا في النهاية: «سيراه الذين ما قيل لهم عنه، والذين ما سمعوا سيفهمون». هذا النصّ القريب من بداية نشيد عبد يهوه الرابع (52: 13- 35: 12) يعود إلى تأثير هذا «العبد» على الأمم الكثيرة. وبولس (عبد يسوع المسيح، 1: 1) يعمل ما بدأ به يسوع، يتابع مهمّة «العبد» حاملاً نور الانجيل إلى الأمم (اش 49: 6). وبما أنه يرى المجيء قريباً، فقد رأى رسالته في ذروتها في مصالحة العالم كجزء من تاريخ الخلاص في فترة تنطلق من قيامة المسيح لتصل إلى المجيء والقيامة الأخيرة (11: 13- 15).
3- خلاصة لاهوتيّة
وعى بولس نضوج الجماعات التي يكتب إليها (آ 14)، فهي قادرة على القيام بعمل التعليم والتنبيه، بدون حاجة إلى مساعدة بولس في هذا المجال. لقد نالوا نعمة من الروح ليتعاملوا مع المسائل التي يتعرّضون لها.
في آ 15 حاول بولس، كما في 1: 11- 12، أن يجد توازناً بين مسؤوليّته تجاه الأمم ورغبته بأن تنمو كنائس الأمم في المسؤوليّة تجاه بعضها بعضاً في نضوج داخليّ، فترك التهاني وشدّد على مهمّته التي أهّله الله لها كخادم للانجيل. تكلّم بدقّة ولطافة. قال إنه يتجرّأ. إنه يستند إلى نعمة أعطاه الله. ما تحدّث عن سلطة صريحة ولا عن أمر فيه التهديد كما فعل مع كنيسة كورنتوس، بل ذكّرهم بمسؤوليّته تجاه الآخرين (12: 6). نال نعمة، وهو يحملها إلى الآخرين.
أراد الرسول من مسيحيّي رومة أن يعرفوا بما قامت مهمّته الرسوليّة، في نظرة لاهوتيّة (1: 16- 15: 13) وفي نظرة جغرافيّة (1: 13- 15؛ 15: 16- 32). والنظرتان مرتبطتان: عليه أن يشرح البُعد اللاهوتيّ لانجيله قبل أن يطالب بأن يُقبل في منطقة جغرافيّة محدّدة. وفهمُه الخاص للانجيل (لليهود وللأمم)، الذي أوجزه في بداية عرضه الطويل وفي نهايته، أفهمه ضرورةَ إعلان هذا الانجيل إلى الأمم وإلى أكبر عدد ممكن. مع هذه المعطية، يستطيع أن يمدّ ستراتيجيّة الرسالة في كل مكان (آ 15- 21)، ويُبرز المخطط الخاص بالنسبة إلى رومة (آ 22- 32).
والشرح المباشر (آ 16) لما كلّفه به الربّ من مهمّة (خادم المسيح يسوع من أجل الأمم)، لفت انتباهَ سامعيه إذ ركّز على اللغة العباديّة: «كاهن يمارس كهنوته. يخدم كما يخدم كاهن. صار الأمم قرباناً يقدّمه». لم يكن جمعُ كل هذه الصور من قبيل الصدف. كانت تلك طريقة بولس بوضع عرضه اللاهوتيّ للانجيل في عمله خلال دعوته كرسول. من جهة، بيّن التواصل بين رسالته والوحي الكامل لاسرائيل، وقد ركّزه، إلى درجة ما، على الشريعة وشريعة العبادة. أراد بولس أن يكون في تواصل، وفي خطّ الوحي الخلاصيّ في العهد القديم، دون أن يستبعد الشريعة. واللافت أيضاً الطريقة التي بها يحوّل كل ما ارتبط بلغة الشريعة وتجاوزه. إذ طبّقه على خدمته اللاعباديّة في البشارة بالانجيل، بيّن أن الحاجز العباديّ بين المقدَّس والعادي، قد ألغي وتُرك. وإذ تكلّم عن الأمم الذين هم ذبيحة، وهم من لا يحقّ لهم أن يقتربوا من المذبح في الهيكل، وهم المقيمون خارج العهد كما يقول اليهوديّ التقيّ، أكّد أن الحاجز بين اليهوديّ والأممي، ألغي بدون رجعة. في إطار الانشدادات داخل الجماعات على مستوى الطهارة الطقسيّة (14: 1- 15: 6)، لا يحتاج القارئ الرومانيّ إلى العبادة والطقوس، ليعبّر عن هويّته كمجموعة، وليجعل حدوداً بينه وبين سائر المجموعات.
وبعد أن حدّد بولس خدمته على هذا الشكل (آ 17)، نظر إلى افتخاره الذي يختلف عن افتخار اليهود ونظرتهم الضيّقة (2: 17، 23)، والذي هو «في يسوع المسيح». حيث لم يكن لابراهيم أساس للافتخار ما دام هذا الافتخار يُفهم في لغة الأعمال الطقسيّة وممارسات الشريعة التي تقوّي مطالبة اسرائيل بأن يختلف عن الآخرين ويحمي نفسه في ما يتعلّق بالله (4: 2)، فبولس لا يفتخر مثل هذا الافتخار. فحيث تُفهَم الشريعة داخل يهوديّة منقسمة، يقدّم يسوع الآن موضوعَ إيمان ووسيلة هويّة مشتركة لا ترتبط بالنسل ولا بالوطن ولا بالطبقة ولا بالحضارة.
فالمسيح (آ 18) هو السلطة التي وراءها يقف انجيل بولس ورسالة بولس (هما أمر واحد في نظر الرسول). وهي سلطة لا «تنحصر» في السماء البعيدة، بل هي حاضرة، عاملة لدى بولس. لهذا يستطيع بولس أن يفتخر، لأنه لا يرتكز على ما صنعه هو. وما فعله المسيح، لا بولس، هو عمل «من أجل طاعة الأمم». أجل، إن ما يطلبه العهد قد تمّ في جواب الأمم على الإيمان.
وأعطى بولس (آ 19) نظرة شاملة عن عمله الرسوليّ، مرّة أولى وأخيرة. تكلّم عن قدرة الآيات والمعجزات، عن قدرة روح الله التي تدلّ على عملها فيه: فخدمةُ بولس تتواصل وتبيّن قوّة (إصبع) الله، كما عرفها كلُّ يهوديّ في سيرة الخروج. وهي خدمة المسيح عبر بولس في قوّة الروح كمقابل اسكاتولوجيّ لحقبة خدمة موسى (مت 12: 28= لو 11: 20). فكما أقام موسى الجماعة الأولى في الحقبة القديمة، كذلك المسيح، عبر بولس، يقيم شعب الله الذي أعيد تحديدُه، في نهاية الزمن.
ومع ذلك (آ 20) فمن الضروريّ أن يتعرّف قرّاء بولس إلى عمله الرسوليّ وستراتيجيّته. انطلق إلى أورشليم فوصل إلى الشرق والغرب، مع خطّة تدفعه إلى أن يبشّر فقط حيث لم يُعرَف اسم المسيح ولم يكرَّم. قد يبدو كلامُ بولس مضخّماً بحيث نسيء فهمه: لقد زار عدداً قليلاً من المدن الواقعة بين أورشليم والليريكون، بحيث لا يقدر أن يقول إنه أكمل البشارة بالانجيل في الشرق. ورسائله تدلّ على أن اهتمامه بالكنائس يتعدّى وضع الأساس. غير أن كل هذا يبقى خارج الفكرة. هو لا يقدّم التفاصيل، بل يرسم لوحة واسعة ليهيّئ الطريق لزيارته لرومة ويشرح السبب الذي يجعله ينظر إلى الغرب (آ 23- 24).
وفي الوقت عينه، أساس ستراتيجيّة مفصّلة (آ 21) واضح، حين يركّز بولس عمله في المدن الواسعة (مثل كورنتوس وأفسس). ويستعمل هذه المراكز لامتداد الانجيل بواسطة مساعدين (ابفراس في كولوسي). تلك كانت سياسة بولس من أجل حمل الانجيل إلى عالم الأمم. والقول بأنه لا يبني على أساس غيره مبعثه رغبة في أكمال الامتداد الرساليّ مع أقلّ عدد من المرسلين.
وعاد بولس (آ 21) إلى اش 52: 25 ليربط دعوته إلى الأمم بالكتاب المقدس (اش 49: 5)، مع برهانه حول الانجيل الذي يجب أن يشمل الكون. وهكذا دلّ بولس أن مخطّطاته تدخل في لاهوت إنجيله فتدلّ رسالته على بنية متماسكة وموحّدة.
الخاتمة
وهكذا لاحظنا كيف بدأ بولس كلامه بتهنئة الرومانيّين. فهو يستعدّ لأن يزور رومة. كما أنه يوازي في كلامه بعض ما قاله في ما سبق عن دينونة الضعفاء للأقوياء، واحتقار الأقوياء للضعفاء. وإن هو تكلّم بلهجة وبلهجة، فلأنه عرف نفسه رسولَ الأمم، رسول اللامختونين تجاه بطرس رسول المختونين. فكأني به يريد أن لا يزاحمه أحد في هذه الرسالة. فإن هو لم يستطع أن يصل بشخصه، وصل برسالته. بل سمّى نفسه «خادم المسيح»، وكاهن يسوع المسيح، ليجعل من الأمم ذبيحة (12: 1) يرضى عنها الله بعد أن قدّسها الروح. كل هذا يجعل بولس يفتخر، لأن الله يعمل فيه على مستوى القول وعلى مستوى العمل، في الآيات وفي المعجزات. وفي المدى الذي ساره من أورشليم إلى الليريكون. حدود من الشرق وحدود من الغرب بحيث تمّت النبوءة الاشعيائيّة: الذين ما بشّرهم أحد سيُبصرون، والذين ما سمعوا به سيفهمون. هؤلاء هم الوثنيون الذين اهتدوا، ومنهم جماعة رومة التي يستعدّ الرسول لزيارتها.