الفصل الأربعون
نحن أبناء النور
13: 8- 14
أوجز بولس الرسول ارشاده حول علاقات المسيحيّين مع جماعة واسعة، فكرّر النداء إلى المحبّة. محبّة الآخر، محبّة القريب، محبّة متبادلة. والمحبّة المسيحيّة لا تنحصر في جماعة الإيمان، بل تضمّ القريب الذي يمكن أن يكون عدواً. هكذا تتمّ الشريعة التي هدفها الأخير المحبّة. وتتوسّع العائلة المسيحيّة فلا تتوقّف عند ما يقوله سفر اللاويّين عن القريب الذي هو عضو في جماعتي. العائلة المسيحيّة تضمّ البشريّة كلها التي وحّدها المسيح. غير أن مثل هذه النصائح قد تبقينا على مستوى الأرض والحياة الهادئة، إن لم تنعشها نظرة روحيّة تربطنا بعالم النهاية وعودة المسيح. لهذا كان كلام عن «الوقت»، عن الزمن المؤاتي، الزمن الاسكاتولوجيّ الذي يسمّيه الكتاب الأيام الأخيرة التي تدشّنت بموت المسيح وقيامته، وامتدّت امتداد الكنيسة وزمن الخلاص. هذا الزمن يتعارض والحقبة السابقة، لا لأن حقبة تأتي بعد حقبة، بل لأن حقبة تختلف بطبيعتها عن حقبة. فالمسيحيّ هو، منذ الآن، ابن النور، بعد أن تحرّر من عالم الشرّ، عالم الظلام. وهو يشارك في ملك السماوات مع الله وابنه الوحيد. ذاك هو المناخ المسيحيّ الذي يعيشه المؤمن في انشداد بين أن يكون مواطن الأرض ومواطن السماء.
1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 8، نقرأ «لا يكن عليكم». أراد السينائي و077 (جبل أثوس) أن يربطا بين آ 7 وآ 8، فجعلا اسم الفاعل بدل صيغة الأمر.
في آ 9، حاول السينائي وشهود غيره أن يجعلوا هنا الوصيّة الثامنة: «لا تشهد شهادة زور». وذلك بعد «لا تسرق». وألغى الفاتيكاني و010، و011 «إن تو» وفي هذه «الوصيّة»، ولم يقدّروا قوّة «تو» (أل التعريف الحياديّ) في آ 8 وآ9 : أن تحبّ... أن لا تزنِ.
في آ 11، نقرأ مع السينائيّ والفاتيكانيّ حانت الساعة لكم (هوماس). إن برديّة 46 تقرأ «هيماس»: الساعة لنا.
في آ 12، «فلنطرح» (أبوتوماتا). قرأت برديّة 46 ومخطوطات غربيّة فعلاً آخر «أبوبالوماتا» الذي يعني تخلّص، رذل. ونقرأ واو العطف (كاي) قبل «نحمل». هناك من جعل «دي»، لكن، محلّ واو العطف. نقرأ «هوبلا» (سلاح) بدل «إرغا» (أعمال)، كما في الاسكندرانيّ والبازيّ.
في آ 13، جعل الاسكندرانيّ والبازيّ صيغة الجمع مكان المفرد: لا خصام (إريدي)، لا حسد (زيلو).
في آ 14، نقرأ: الربّ يسوع المسيح. أما برديّة 46 فقرأت: يسوع المسيح ربّنا.
ب- بنية النصّ
أعاد بولس كل الجدال حول العلاقات الاجتماعيّة في قيادة المحبّة (12: 6)، مع إقرار ضمنيّ بأنّ طلبَ اسلوب حياة، يمكن أن يثبت بصعوبة بدون مثال ولا مصدر. والتشديد في البداية على المحبّة كدَين، يؤمّن رباطاً فعلياً مع الآية السابقة (أعطوا كل واحد حقّه، أو دينه... لا يكن عليكم لأحد دين). ونقول الشيء عينه عن التلاعب على موضوع فعل الشرّ في آ 10 (المحبّة لا تعمل سوءاً... آ 4: عمل الشر، يعملون الشرّ). وليس من قبيل الصدف أن العودة الصريحة إلى الموضوع الثاني في الرسالة (الشريعة) يَبرز في هذه النقطة. مع أن الكلام اللاهوتيّ عن الشريعة في 1: 18- 11: 36 ارتبط بسؤال حول دور الشريعة كقاعدة خلقيّة شخصيّة واجتماعيّة لشعب الله في حدوده الجديدة. ومع أن الارشاد استعمل مواضيعَ الشريعة وحوّلها، مع الحدود الجديدة لشعب الله في مقولات لاخلقيّة، كان من المهم للشريعة (التي تماهت مع اسرائيل العرقيّ) أن تعرف أيضاً حدوداً جديدة، لا أن تُترك أو تهاجَم. وإلاّ ضاع التواصل بين حقبتين في شعب (ومخطّط) الله. استطاع بولس أن يفعل هذا، لأن التقليد المسيحيّ عن تعليم يسوع بدّل مركزيّة الشريعة حول علاقة الانسان بما في لا 19: 18 (مر 12: 31)، وأعطى مركزاً جديداً يمكن أن يكون متناسقاً مع ما تبقّى عن الشريعة، وبواسطته تحدّدت العودة إلى مبادئ مزاحمة وفائدة قواعد محصورة في العرق والاثنية. إن التكرار المثلّث على حبّ القريب (آ 9، 8، 10)، والتشديد أنه كمال الشريعة (آ 8، 10)، يجمع ما قيل في السابق عن هذه المواضيع (المحبّة، 5: 5؛ 8: 28؛ 12: 9؛ اكتمال، 8: 4؛ رج 1: 5؛ 3: 31؛ 9: 31- 32؛ 10: 6- 8). إن فكر بولس متواصل ولا يمكن أن يقود إلى الغموض. وفي النهاية، نلاحظ التصالب مع لفظ «المحبّة» في آ 10: المحبّة لا تصنع شراً بالقريب... اكتمال الشريعة المحبّة. هي المحبة في بداية الآية، وفي نهايتها.
إن آ 11 تذكّر الذين تقبّلوا المنظور الاسكاتولوجيّ، بالمفهوم الأساسيّ للمسيحيّة: لا حقبة جديدة في قصد الله وحسب، بل حقبة نهائيّة (3: 26؛ 8: 18؛11: 5). وما دفع الرسول إلى هذا الموضوع (كما في التشديد السابق على المحبّة)، هو صعوبة الوضع الذي يطلب مشورة (12: 14- 13: 7). فالتشديد على الخلاص بالإيمان يعود إلى الموضوع في 1: 16. والارشاد يذكّر بما سبق من إرشاد في 6: 12- 13 (آ 12، 14) و8: 13 (آ 14) بشكل خاص. وصورةُ خلع الثوب ولبسه في ارشادات المسيحيّة الأولى، كانت نموذجاً فيه يحثّون المهتدين الجدد والمعمّدين. إن آ 11 ب- 12 هما نشيد أورده بولس بعد أن صاغه. والتوازي مع 1 تس 5: 4- 9 وأف 5: 8- 14، يدلّ على متتالية إرشاديّة مشتركة. وصورة الليل والنهار، والظلمة والنور، هي صدى لثنائيّة في ف 6- 8. ولكن الإقرار بأن الليل لم يأتِ بعدُ، وأن تجديد الالتزام أمر ضروريّ، هو أيضاً صدى لانشداد اسكاتولوجيّ. ووصفُ زمن الليل بالسكر والعربدة (آ 13)، يعكس لدى بولس معرفة بالمجتمع الرومانيّ الذي يهدّد الجماعة المسيحيّة. واللافت في مزج صيغة المخاطب وصيغة الغائب، هو الاستعارة المثلثة في آ 12 ب، وتعارضُ النفي في آ 13، ثلاث مرات (آ 14)، وموجزُ التحريض في لغة صورة المسيح (آ 14)، يشبه الموجز عن الشريعة في وصيّة حبّ القريب (آ 8- 10). وهكذا تعود بنا آ 11- 14 إلى ما قرأناه في بداية القسم الارشادي، في 12: 1- 2.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (13: 8- 14)
يُقسم النصّ قسمين. في الأول، نعرف أن المحبّة توجز الشريعة وتلخّصها، على ما فعل يسوع حين أوجز الوصايا في محبّة الله ومحبّة القريب (آ 8- 10). في الثاني (آ 11- 14)، نعرف أن المسيحيّ هو ابن النور. فينبغي عليه أن يسلك سلوك أبناء نور. يتجنّب ما يتجنّب، ليلبس الربّ يسوع، ليتسلّح به.
أ- المحبّة توجز الشريعة (آ 8- 10)
«لا يكن عليكم لأحد دين» (آ 8) «الفعل» «أوفايلو». يعني أن لا نكون مدينين لأحد، ويوجب أن يكون علينا دين المحبّة. «إي مي»، إلاّ، سوى، ما عدا. المحبّة واجب يحمل جواباً. فكّر بولس في واقع يقول إننا محبوبون من قبل الله في المسيح (5: 8) عبر الروح (5: 5). لهذا انتقل حالاً إلى تعليم يسوع ومثاله: يسوع الذي تكلّم عن المحبّة كشكر عن غفران حصلنا عليه (لو 7: 41- 43، 47). وهو الذي يعطينا القوّة لكي نحبّ القريب، هذا إذا أردنا أن نكون مسيحيّين. رج 1 يو 4: 11.
«فمن أحبّ». «نوموس» هي التوراة (7: 23؛ 8: 2). هي الشريعة كما عرفها العالم اليهوديّ، لا شريعة المسيح (غل 6: 2) ولا وصيّتا المحبّة. هناك من تحدّث عن «شريعة أخرى»، عن القسم الثاني من لوحة الوصايا. نُتمّ الشريعةَ حين لا نحبّ فقط أنفسنا، بل ذاك الذي يرسله الربّ إلينا فيكون قريبنا في ظرف معيّن. نحن لا نختار قريبنا في المعنى المسيحيّ، بل الله يرسله إلينا. رج 2: 1؛ 1 كور 6: 1؛ 10: 24، 29؛ 14: 17؛ غل 6: 2. لهذا استُعمل فعل «بليروو»: أتمّ بشكل نهائيّ حتى استنفد، أرضى كلَّ ما تطلبه الشريعة. هو موقف إيجابيّ من الشريعة.
«فالوصايا التي تقول» (آ 9). «تو» (أل التعريف). تعني ما هو معروف من الوصايا (آ 8). أورد بولس هنا الوصايا العشر في ترتيب خاص. رج خر 20: 13- 17؛ تث 5: 17- 21. ولكن هذا الترتيب يتوافق، على ما يبدو، مع السبعينيّة في الفاتيكاني، كما نقرأه في تث 5. رج فيلون، الوصايا العشر 36: 51، 121- 137، 168- 171؛ الشرائع الخاصة 3: 8؛ لو 18: 20؛ يع 2: 11. أورد بولس وصيتيّن في 2: 21- 22 (رج أف 4: 28). ومثله فعل يعقوب (2: 11؛ رج لا 19: 18). هي وصايا تتعلّق بالحياة في المجتمع، وتتوجّه إلى اليهوديّ والمسيحيّ، كما إلى الوثنيّ. فإن سقط المؤمن، كان مسؤولاً بحيث يجدّف على الله بسببه (2: 24). «وسواها من الوصايا». يؤكّد بولس أن هذه نماذج، وأن هناك وصايا أخرى، وصلت مع اليهود إلى العدد 613. مهما كانت، فهي تجد موجزاً لها في المحبّة. «لوغوس» كلمة من الوحي الالهيّ. فالوصايا هي الأقوال العشرة (خر 34: 28؛ تث 10: 4؛ فيلون، وارث 168؛ الوصايا العشر 32؛ يوسيفوس العاديات 3: 138.) «كافالايوو» : جاء بكل شيء إلى الرأس (كافالي) وإضافة المسبّق «أنا» تعطيه قوّة. هكذا يوجَز برهان الخطيب، كما نقول: خلاصة الكلام.
حاول البعض أن يوجزوا الوصايا. مثلاً هلال (تلمود بابل، شبت 31 أ) أوجز الشريعة في القاعدة الذهبية، ولكن بشكل سلبيّ: «ما تبغضه لا تفعلْه لقريبك. هذه هي الشريعة كلها. والباقي شرح. اذهب وتعلمها». رج لو 10: 26- 28؛ مر 12: 32- 33. وتحدّث رابي عقيبة عن لا 19: 18 فقال: «أعظم مبدأ عام في التوراة». وأعلن رابي شملاي (القرن 3 ب م) أن عاموس وحبقوق أوجزا الشريعة في مبدأ واحد: «اطلبني فتحيا» (عا 5: 4). «البار يحيا بإيمانه» (حب 2: 4). رج تلمود بابل، مكوت 23 ب- 24 أ. أما بولس فتحدّث عن المحبّة. إن كانت هي تكفي، فما الحاجة بعد للتعلّم. «أحبّ قريبك». رج سي 13: 15؛ يوب 7: 20؛ 20: 2؛ 36: 4، 8؛ وص رأوبين 6: 9؛ وص يساكر 5: 2؛ وص جاد 4: 2؛ وص بنيامين 3: 3- 4؛ نج 5: 25؛ 8: 2. نشير إلى أن لا 19: 18 هو النصّ الذي يرد أكثر ما يرد من نصوص البنتاتوكس (مر 12: 31 وز؛ 12: 33؛ مت 5: 43؛ 19: 19؛ غل 5: 14؛ يع 2: 8، الشريعة الملكيّة). «بليسيون» هو القريب من بني اسرائيل. في هذا الاطار نلاحظ تصرّف الكاهن واللاوي مع «الغريب» الذي أعانه السامريّ (لو 10: 25- 37). ولكن هناك بعض الانفتاح (لا 19: 34؛ أم 6: 1؛ سي 13: 15).
«من أحبّ» (آ 10). المحبّة لا تسيء. هو الشكل السلبيّ للقاعدة الذهبيّة. رج مز 15: 3؛ زك 8: 17؛ سي 10: 6. قال طو 4: 15: «ما تبغضُه لا تصنعْه». «المحبّة» (أغابي). رج 12: 9. «فالمحبّة». نقرأ هنا «بليروما» تمام، اكتمال. هو المعنى الناشط. المحبّة تُتمّ، تكمّل. إن ما نقرأ هنا في آ 8، يجعلنا قريبين من غل 5: 14: «كل الشريعة في كلمة واحدة تتمّ، في عبارة» (لا 19: 18). في روم: الشريعة تتمّ في هذه الكلمة، توجَز في (لا 19: 18).
ب- سلوك المسيحيّ في النور (آ 11- 14)
«وأنتم تعرفون» (آ 11). هو الكاتب جمع ما سبق وقال. رج 1: 6؛ 6، 8؛ أف 2: 8. عرف، قَبِلَ بما سمعه من بولس. رج 5: 3؛ 6: 9؛ 1 كور 15: 58؛ 2 كور 5: 6؛ غل 2: 16. هذه المعرفة لا تفرض تقليداً ثابتاً، بل تدلّ على شيء معروف في الجماعة. «كايروس» (الوقت). رج 3: 26؛ 5: 6. «جاءت ساعتكم» (هورا). هو الوقت المحدّد لنعمل عملاً. «حانت» (إيدي). هذا ما يدلّ على الالحاح. لقد دقّت الساعة. هي الساعة الاسكاتولوجيّة مع انتقال من النوم إلى اليقظة، ومن النهار إلى الليل (آ 12). رج دا 8: 17 (ساعة النهاية)؛ 8: 19 (النهاية المحدّدة)؛ 11: 35؛ 11: 40؛ يو 4: 23؛ 5: 25؛ 1 يو 2: 18 (الساعة الأخيرة). «النوم» (هيبنوس). صورة سلبيّة في عالم الفلسفة اليونانيّة: نتجرّد عن العقل الذي يضعف ولا يعود يعمل (أم 6: 4، 9؛ سي 22: 8؛ 4 مك 5: 11؛ فيلون، الأحلام 1: 121؛ 2: 162). قابل في الأدب المسيحيّ، أف 5: 14؛ 1 تس 5: 6- 10؛ مر 13: 35- 36؛ مت 24: 43= لو 12: 39. هو المعنى الاسكاتولوجيّ والخلقيّ.
«فالخلاص الآن». (سوتيريا). هو في المستقبل وإن بدأ الآن. هو تمام نعمة الله (1: 16). الفعل «آمن» في صيغة الماضي الناقص. فعل الالتزام بدأ مع الخبرة المسيحيّة. ففعلُ الإيمان (مع عطيّة الروح) يميّز البداية. رج 10: 9؛ 1 كور 3: 5؛ 15: 2؛ غل 21: 6؛ 2 تس 1: 10؛ 2: 12؛ أف 1: 13. «نين»، الآن. رج 3: 21؛ 5: 9. الزمن بين التزام حصل الآن وخلاص لم يتمّ بعد. «أقرب». هذا ما يجعلنا في الانتظار الاسكاتولوجيّ الذي يعرفه الأدبُ الجليانيّ (4 عز 4: 33- 50؛ 8: 61؛ 11: 44؛ مر 13: 29- 30 وز؛ رؤ 1: 1، 3؛ 3: 11؛ 22: 10- 12). صار الخلاص شخصاً وهو يقترب منا. رج 1 كور 1: 6؛ فل 1: 28؛ 2: 12.
«تناهى الليل» (آ 12). استعارة الليل والنهار. رج مز 139: 12؛ اش 21: 11- 13؛ يو 9: 4؛ 11: 10. ليست متواترة في التقليد البيبليّ. هو الإطار الاسكاتولوجيّ مع تداخل حقبة وحقبة. زك 14: 7؛ رؤ 21: 25؛ 22: 5. والتنبيهُ تنبيهٌ نبويّ كما في اش 43: 19؛ 55: 6؛ مت 3: 10. «بروكوبتو» (تقدّم الوقت). اقترب الليل من النهاية، ما انتهى الليل بعد، ولا جاء النهار. «فلنطرح». نخلع الثياب. وهناك صورة في العالم اليونانيّ: نطرح الرذائل. رج أف 4: 22، 25؛ كو 3: 8؛ يع 1: 21؛1 بط 2: 1. ثم نلبس الفضائل (نحن هنا في العالم العبري). رج أي 29: 14؛ مز 93: 1؛ 132: 9، 16؛ أم 31: 25؛ أش 51: 9؛ 61: 10؛ حك 5: 18؛ با 5: 1؛ فيلون، تبلبل الألسنة 31. وفي العهد الجديد، أف 6: 14؛ كو 3: 12؛ 1 تس 5: 8. وبشكل خاص هنا، أف 6: 11. نبدّل الثياب كما يتبدّل الليل والنهار (هو صراع بين قوى الظلمة وقوى النور).
«إرغا» (جمع ارغون): أعمال. تجاه «هوبلا» (أسلحة). هو المعنى السلبيّ على مستوى الأعمال، والإيجابيّ على مستوى السلاح (6: 13) بكل أنواعه. والتعارض الثالث (بعد الأعمال والسلاح) هو بين الظلام والنور (الأول كان بين الليل والنهار). رج أي 12: 22، 25؛ اش 5: 20؛ 9: 2؛ مز 36: 9؛ 97: 11؛ مي 7: 8- 9. هنا نتذكّر في قمران الصراع بين أبناء النور وأبناء الظلمة (نج 1: 9- 10؛ 3: 24- 25؛ 4: 7- 13؛ رج مت 6: 22- 23= لو 11: 34- 36؛ 1 يو 1: 6). اعتبر اليهود أنهم أبناء النور، ولكن الإطار الاسكاتولوجيّ واضح في يو 3: 19؛ 2 كور 6: 14؛ 1 تس 5: 4- 5.
«لنسلك كما يليق» (آ 13). «باريباتيو»، سلك. رج 6: 4. «اوسيخيمون»: ما هو محتشم ولائق في المجتمع. ما يظهر منا في الخارج (سخيما). رج أم 11: 25؛ 4 مك 6: 10. لسنا أمام مفهوم عبريّ، بل يونانيّ. رج مر 15: 43؛ أع 13: 50؛ 17: 12. استُعمل لفظُ «النهار» (هيميرا) مرتين في آ 12 وآ 13. هو انشداد بين ما حصل وما لم يحصل بعد، وهذا واضح في إعلان يسوع عن الملكوت. «كوموس». احتفال إكراماً للاله ديونيسيوس مع الافراط في الأكل والشرب (حك 14: 23؛ 2 مك 6: 4). في العهد الجديد، فقط هنا وفي غل 5: 21؛ 1 بط 4: 3. «ماتي». السكر (لو 21: 34؛ غل 5: 21). «كويتي»، السرير وبالتالي الفجور. ومثلها «أسالفايا». هي لائحة معروفة (مر 7: 22؛ 2 كور 12: 21؛ غل 5: 19؛ 1 بط 4: 3). «إيريس» (خصام). رج 1: 29. «زيلوس» (حسد). رج 10: 2. نرى الاسمين معاً في 1 كور 3: 3؛ 2 كور 12: 20؛ غل 5: 20. هو الوجه السلبيّ في «زيلوس» الذي يعني أيضاً الغيرة على الخير.
«بل تسلّحوا» (البسوا) (آ 14). ليكن سلاحكم الربّ يسوع. أو: ليكن السلاح الذي تلبسون. نتذكّر هنا لباس اللافساد واللاموت (1 كور 15: 53- 54). ونلبس الانسان الجديد (كو 3: 9- 10؛ أف 4: 24). هذا جزء من فهم بولس لمسيرة الخلاص، بحيث نُصبح مشابهين لصورة المسيح (8: 29). هذا يدلّ على مسؤوليّة المؤمنين داخل هذه المسيرة، وعملهم مع عمل النعمة في زمن الانشداد الاسكاتولوجيّ. المؤمن يتسلّح، وهو يفعل بقدرة الروح (قض 6: 34: الروح على جدعون). في المعموديّة، يخلع الانسانُ لباساً ويلبس آخر، يخلع ما هو لآدم ويلبس ما هو للمسيح. وكل هذا يتمّ بفعل الروح. «ولا تنشغلوا بالجسد» (برونويا، الزاد). لا يرد إلاّ هنا عند بولس: نأخذ زاداً، نتزوّد. رج دا 6: 19. «الجسد» (ساركس، اللحم والدم، الوجهة البشريّة مع الضعف). رج 1: 3؛ 7: 5. «ابيتيميا» (رغبة). رج 1: 24. «رغبة الجسد» نقرأها في غل 5: 16، 24؛ أف 2: 3؛ 2 بط 2: 10، 18؛ 1 يو 2: 16. إن لبّى الانسان حاجات «الجسد» (ساركس) عاش «حسب الجسد» (8: 4 ي). المسيحيّ هو في الجسد (7: 5)، ولكن لا يحقّ له أن يسلك بحسب الجسد (8: 12- 13).
3- خلاصة لاهوتيّة
في آ 8- 10، يوجز الرسول إرشاده حول علاقة الجماعة بالخارج. فيعود إلى الخلقيّة في العالم العبريّ وفي العالم اليوناني، ويطعّمها بالمحبّة. فالقواعد التي تجعل العلاقات ممكنة، جُمعت في وصيّة قرأناها في سفر اللاويين (آ 9). والكل يتلخّص في تصالب يحدّد الحبّ بشكل سلبيّ (لا تفعل شراً بالقريب) وبشكل إيجابيّ تتميماً للشريعة (أحبّ). في الكلام المثلّث عن المحبّة ومحبّة القريب بشكل خاص، نُوجز الشريعة ونُتمّها: أحبّ قريبك كنفسك. الحبّ كمال الناموس. وهكذا نفهم أن انجيل بولس لا يتعارض والشريعة، بل يرى أن اكتمال الشريعة أمرٌ مهمّ. كما يدلّ على التواصل مع الوحي الذي أعطي لاسرائيل (بما فيه الشريعة). فالاكتمال هو اكتمال قصد الله حين أعطى الشريعة لبني اسرائيل. فالذين تعلّقوا بالتوراة بسبب بنيتها الخلقيّة القويّة، يفهمون أن بولس لم يترك الخطوط الكبرى في التوراة، التي توجّه الانسان فتحرّره من سياق اثني خاص.
وليس من قبيل الصدف أن يشدّد الرسول على محبّة القريب. فهذا يكفي ليجعله في عالم يهوديّ متحرّر يجد فرقاً بين ما هو أول وما هو ثان، بين الأساسيّ والثانويّ في الشريعة. فكلام المحبّة كفرض واجب (آ 8)، نعبّر عنه سلباً وإيجاباً (آ 9- 10) بكلامٍ لفت عدداً من السامعين. ولكن بولس يتحرّك من هذا الإطار، ويدعو قرّاءه ليتعرفوا إلى تعليم يسوع. وما شكّ التقليدُ أن يسوع أوجز الشريعة، فجعل اللوحة الثانية في لغة لا 19: 18. هذا التلميح إلى تقليد يسوع، يساعد قرّاءه على الخروج من عاطفة تجعل اليهود بلا خطيئة. فيسوع يقدّر السامريّين والخطأة (لو 10: 33- 37). وهكذا تحطّمت الحدود بين الأبرار والخطأة، بين اليهود والأمم. وقوّةُ فهم بولس لحبّ القريب وسّع عهد الحب، فوصل إلى اللايهوديّ، في عهدٍ تركّز بشكل ضيّق على اسرائيل تقليدُ يسوع الذي احتفظت به الكنائس، بيّن كيف أن يسوع أحبّ القريب بمثَله، فأتمّ الناموس. ذاك هو مبدأ يطبّق على ضوء الظروف، ولا يكون قاعدة تُفرض مهما كانت الظروف (مر 2: 23- 3: 5). دعا بولس إلى «لبس المسيح» (13: 14) بحيث يصبح يسوعُ نموذجاً لقرّائه (15: 2- 3، 5). والجدال في ف 14 هو صدى لجدال يسوع مع حرّاس الشريعة، يُذكر فيه تعليم آخر يسوع. وهذا الحبّ الذي نتكلّم عنه هو عطيّة الروح (5: 5)، ويقوم فقط لأنه ثمر الروح (غل 5: 22).
مع هذا التشديد المتكرّر على أهميّة الحبّ، قد ننزلق إلى عاطفة سريعة أو مثال لا واقعي يُنتج الخطيئةَ لا النعمة. هذا ما قيل انطلاقاً من آ 8. يقدّم بولس واجب المحبّة كدين لا يستطيع الانسان أن يفيه. قال اوريجانس: دين المحبّة مستمرّ، ولن نفيه أبداً. لهذا ندفعه يومياً، ويبقى بعدُ علينا واجب. هنا يجب أن نعرف أن القريب لا يتحدّد باليهوديّ، الذي هو من بني قومي (الانسان القريب مني بالدين...)، بل يضمّ كلَّ انسان، وهذه هي الصعوبة. القريب هو كل شخص نلتقي به في حياتنا اليوميّة، والذي يحتاج إلى معونتنا. ولكن هناك حدوداً «مثل نفسك». نحبّ الآخر بحسب امكانيّاتنا البشريّة. ونفهم مسؤوليّتنا في هذا المجال، حيث العمل البسيط يتفوّق على قول عام عن الحبّ ينتهي بأن لا نحبّ أحداً. إذن، هو حبٌّ واقعيّ وناشط يطلب خير الآخر، أياً كان هذا الآخر، وإن غابت علاقات على مستوى الشريعة أو العرق أو العادات التي تربطنا به.
وعرف الرسول (آ 11- 14) أن قرّاءه دخلوا في حقبة جديدة من وجودهم التاريخيّ. غير أن هذا الجديد لا يترك القديم وراءه، بل إن ظروف القديم ما زالت حاضرة. ولكن المؤمن الذي ما زال عائشاً في القديم، ينال من الجديد قوّة تؤهّله لأن يحيا في هذا الجديد. وتأتي الصور. على مستوى الزمان: الوقت، الساعة، قريب، في متناول اليد. وهناك تعارض بين استيقظ ونام، بين الليل والنهار، بين خلع ولبس، بين الظلمة والنور، بين حياة محتشمة والسكر والفجور، بين أن نلبس المسيح وأن نعمل للجسد. عندئذ لا يشكّ القارئ بأنه يواجه: أو، أو. لا في قرار أوّل لقبول الانجيل. بل في نتيجة القرار بقبول الانجيل. ويتثبّت القرارُ الذي نأخذ، ويُعاش في جميع القرارات المتكرّرة.
وهكذا برز الانشدادُ الاسكاتولوجيّ بقوّة. فقرّاؤه، حتى الذين خطوا خطوة الإيمان الحاسمة، يصوَّرون كأنهم نائمون (آ 11). والظروف التي فيها يعيشون يسيطر عليها الليل (آ 12). هناك أعمال الظلمة التي يجب أن يخلعوها (آ 12). ورغبات الجسد ما زالت قويّة ويجب أن نقاومها. والسكر والعربدة والفجور (آ 13) أمور تميّز سلوك الليل في عبارات يعرفها أهل رومة. كل هذه هي تجارب يتعرّض لها المؤمنون في رومة، فتعود بهم إلى حقبة آدم (5: 12- 21) التي ما زالت تؤثّر على الجيل الأول المسيحيّ. في انتمائهم إلى حقبة قديمة لم تُفتدى، في الرغبات الطبيعيّة وفي السياق الاجتماعيّ، يعرفون هذه القوى ويحتفظون منها لئلاّ تسيطر الظلمة من جديد ويُطفأ النور.
والإشارة إلى الانتظار القريب قويّة جداً. فالخلاص الأخير صار أقرب (آ 10). أي تحويل الانسان كله على صورة المسيح. نور النهار في متناولنا (آ 12). يبقى علينا أن نستيقظ، أن نخلع أعمال الظلمة. أجل، بدأ التزامُنا (آ 11)، وسلاح النور في أيدينا (آ 12). وبولس وقرّاؤه ينتمون إلى النهار، ويقدرون أن يعيشوا في نوره حتّى وإن كانت ساعات الظلمة متقدّمة (آ 13). فالربّ يسوع نفسه هو القوّة التي تَصلب رغبات الجسد وتمنع الشهوات الطبيعيّة من أن تسيطر قبل أن يُفتدى الجسدُ كله (آ 14). لهذا يبقى الواقع الحاسم، لا اهتداء المسيحيّين وحسب، بل سيادة الربّ يسوع المسيح. تحوّلْنا من حقبة إلى حقبة، بقيامة المسيح، ودخلت البشريّةُ الجديدة في الحقبة الجديدة. فيُدعى المؤمنون إلى أن يستيقظوا، أن يخلعوا، أن يلبسوا، لا لأن مستقبلهم يرتبط فقط بقوّة هذا المخطّط، بل لأن الطريق فُتحت أمامهم ليدخلوا في قيادة الله الاسكاتولوجيّة في المسيح.
الخاتمة
وهكذا قدّم لنا هذا المقطعُ مواضيع مختلفة في إرشادات متعدّدة. كانت الصورة الأولى صورة الدَين. لسنا هنا على المستوى الاقتصاديّ. لا دَين على المؤمن سوى دين المحبّة، لأن وصيّة المحبّة هي ملخّص الشريعة كلها. وجمع الرسول وصايا تمنع المؤمن من الاساءة إلى القريب. وانتهى بالقول: «المحبّة تمام العمل بالشريعة». ثمّ نقلنا الرسولُ إلى الأزمنة الأخيرة التي نعيش فيها. لا شكّ أننا في الليل، في حقبة نعيشها اليوم، ولا يملك الله فيها ملكاً ظاهراً. غير أن النهار يقترب، وهو يحمل الكشف التام لمجيء ملكوت الله. يبقى على المسيحيّ أن يحيا منذ الآن في هذا النور. والصورة الثانية التي هي مبدأ حياة جديدة: إلبسوا الربّ يسوع. كونوا في الربّ يسوع. كونوا الربّ يسوع، واتركوه يقيم فيكم، عندئذ يكون سلوككم لائقاً بمن يقيم فيكم.