الفصل الحادي والأربعون: معاملة الضعفاء

الفصل الحادي والأربعون
معاملة الضعفاء
14: 1- 12

هنا دخل بولس، بشكل خاص، في قلب الجماعة، حيث الضعفاء والأقوياء. سنعود في فصل لاحق إلى مسؤوليّة الأقوياء تجاه اخوتهم، فيتصرّفون حسب قواعد المحبّة الأخويّة، التي شدّد عليها ف 13. هناك اليهود، وهناك المؤمنون الذين اعتادوا أن يؤمّوا المجامع قبل أن يهتدوا إلى المسيحيّة. هؤلاء طُبعوا بما حملته المرحلة المكابيّة، حيث الختان يدلّ على هويّة المؤمن، والامتناع عن الطعام المحرّم، يدلّ على أمانته للعهد، مثل دانيال وطوبيت ويهوديت. وهناك أهميّة الأيّام المقدّسة، ولا سيّما السبت منها. كل هذا ميّز «الشعب المختار» من مختلف البدع والمجتمعات. ولكن الإيمان المسيحيّ، مع دخول العدد الكبير من الأمم، بدّل الظروف. لقد أراد هؤلاء المسيحيّين أن يستخلصوا نتائج اهتدائهم إلى الانجيل. ولكن آخرين اعتبروا أنهم مدعوّون للمحافظة على فرائض الشريعة، مع أنهم اعتنقوا الإيمان الجديد. خافوا أن تضيع هويّتهم في هذه المدينة الواسعة التي ضمّت شعوباً من الشرق والغرب. هؤلاء هم الضعفاء الذين يحافظون على ممارسات على مستوى الطعام والشراب، الذين يجب أن لا نحتقرهم، وإن حكموا علينا بعض المرات، نحن الأقوياء، باسم تعلّقهم بقديم ما استطاعوا بعدُ أن يتحرّروا منه.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 2، نقرأ «يأكل». هناك نصوص غربيّة جعلت صيغة الأمر: ليأكل (استياتو)، لتكون في خط آ 3. أو نحن أمام تعبير عن رفض الجماعة المسيحيّة المؤمنة لموقف اليهود الذين أخذ عددُهم يقلّ.
في آ 4، نقرأ «الربّ». في البازي و010، و،011 نقرأ «الله» (تايوس). ونقرأ «قادر» (ديناتوس). أما برديّة 46 فقرأت: لأنه قادر هو. هي محاولة تصحيح النصّ.
في آ 5، نقرأ في البداية «غار» (لأن) في السينائي وغيره. وتُلغى في برديّة 46 والفاتيكانيّ... قد نربط آ 5 بما سبق أو لا نربطها. ويبدو أن المخطوطات تفضّل الغاء «غار».
في آ 6، خاف بعضهم أن لا يكون توازن في آ 6 أ بين مجموعتين، فأضاف ما يوازي آ 6 ب: والذي لا يراعي يوماً للربّ لا يراعي (في آ 6 ب: من لا يأكل).
في آ 8، اعتبرت بعض المخطوطات «زومان» (نحيا) في الصيغة الافتراضية. لهذا جعلت «تموت» في الصيغة نفسها: لنَمُتْ.
في آ 9، حلّ محل «إزيسان» (نحيا) «أناستي» (نقوم). رج 1 تس 4: 14.
في آ 10، جُعل «المسيح» (خرستو) محلّ «الله» (تيو)، فصارت العبارة: أمام محكمة المسيح.
في آ 12، «أون» (إذن). هناك من يلغيه.«الله». قد يكون اللفظ أضيف على ضوء آ 11، ولكننا نجده في السينائي والاسكندرانيّ والافرامي والبازي.
ب- بنية النصّ
في خط المسألة المطروحة في آ 1- 2، يتوجّه الثقل الحقيقيّ، في المقطع الأول (آ 3- 12) بشكل رئيسيّ، نحو الضعفاء في الإيمان، ورداً على اتجاه يدين الاخوة (كرينو، آ 3- 5، 10). إن التوازي مع ف 2 لافت للنظر، وقد يكون بولس أراده ليَلوم الذين يحكمون على الآخرين (12: 1- 3 ). وذكّر الرسول أن كلّ واحد سيواجه دينونة الله (2: 161؛ 4: 10- 12). نحن هنا أمام اليهوديّ النموذجيّ الذي يريد، مع إيمانه الجديد، أن يتعلّق بشريعة يفهمها فهماً تقليدياً. وفي النهاية، قد نكون أمام نشيد ليتورجيّ في آ 11- 12 على مثال ما في 2 تم 2: 11- 13.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (14: 1- 12)
نقرأ هنا ثلاثة مقاطع. في الأول (آ 1- 4)، ينظر بولس إلى ضعيف الإيمان. لا نحكم عليه، لأن الربّ وحده يدين النوايا. في الثاني (آ 5- 8)، يدعونا الرسول إلى أن نتصرّف بحسب ضميرنا. من يأكل فلله يأكل، ومن لا يأكل... وفي النهاية، سنقف كلّنا أمام محكمة الله (آ 9- 12).
أ- ضعيف الإيمان (آ 1- 4)
«إقبلوا بينكم» (آ 1). يبدأ النصّ مع «دي» (لكن). نحن هنا أمام شعب الله. حيث القويّ وحيث الضعيف. فوصيّة المحبّة هي التي تُشرف على العلاقات، لا العواطف البشريّة من احتقار للآخر أو الحكم عليه انطلاقاً من شريعة ضيّقة. فاليهود يتميّزون عن الآخرين في طريقة حياتهم اليوميّة. في هذا الاطار، تبقى القاعدة الذهبيّة، قاعدة المحبّة، التي توجّه المبادئ التي تُشرف على العلاقات بين مختلف الفئات. والضعيف في هذا الوضع هو الذي يعيش حسب الجسد (ساركس). وهنا يشير بولس إلى اليهوديّ الذي ما زال يتعلّق بممارسات تدلّ على هويّته الخاصة. هو «ضعيف في إيمانه». ما استسلم بعدُ كلياً للربّ يسوع، بل ما زال يستند إلى ممارسات سابقة. في 15: 1 سنتعرّف إلى الأقوياء (نحن). بولس يجعل نفسه مع الأقوياء (14: 14، 20). هذا لا يعني أن بولس ينظر إلى الضعفاء بازدراء. بل هو يرى في الضعف البشريّ موضع قدرة الله في الحقبة الحاضرة (2 كور 4: 7- 11؛ 11: 30؛ 12: 5، 9- 10؛ 13: 4، 9). يتكلّم بولس عن ضعيف الإيمان، لأن ثقة مثل هذا الانسان ليست في الله كلها. فيجب عليه أن يتجرّد من كل الضمانات ولا سيّما الوطنيّة والعرقيّة.
«إقبلوا» (بروسلمبانوماي). قبلَ شخصاً في مجتمع، في حلقة معارف. هي ممارسة الأخوّة، لا الاستقبال «الرسميّ». لا نحكم على آرائه، ولا نشكّ في نواياه. «دياكريسيس» (عمل التمييز). «ديالوغسموس». هي صورة الميزان. ثم اعتبار، جدال، برهان. بعضهم تحدّث عن «وساوس» (فل 2: 14؛ 1 تم 2: 8). إن الحرية في جماعة المسيحيّين تضمّ مختلف النظرات والممارسات، دون أن تحسّ أنه يجب أن نجد حلاً. حين نحكم على الآخرين، ندلّ على عدم نضج، على أننا بعدُ جسديّين، على ما قال بولس لأهل كورنتوس (1 كور 3: 1- 3).
«فمن الناس من يرى» (آ 2). في الأصل، يعتقد، يظنّ (بستاواين) أنه قويّ، أن إيمانه كافٍ. لهذا فهو يأكل من كل شيء. هو متأكّد أن إيمانه يسمح له. هذا لا يعني أن لا شيء يضع حداً لتصرّفه. ولكنه لا يحصر نفسه في تقاليد عرقيّة ووطنيّة. «كل شيء». أي كل طعام. ويقابل هذا الطعام الذي تمنعه الشريعة «فاغاين» (أكل). رج 14: 21. «ومنهم من لا يأكل». ميّز بولس بين الذي يأكل من كل شيء، فيعبّر عن إيمانه وعن ثقته اللامشروطة بالله. أما من يأكل البقول فلا يعبّر عن إيمانه. لا نتوقّف هنا عند البدع اليونانيّة وما لها من فلسفة على مستوى أكل البقول وعدم شرب الخمر (كو 2: 16- 21)، بل نتذكّر أن في جماعة رومة من جاء من العالم اليهوديّ ومن جاء من العالم الوثنيّ. والضعيف الذي لا يأكل إلا البقول، على مثال دانيال ورفاقه (دا 1: 12)، هو اليهوديّ أو الوثنيّ المتعلّق بالشرائع اليهوديّة.
«فعلى من يأكل» (آ 3) «أن لا يحتقر» (إكسوتاناين). رج 2 مل 19: 21؛ 2 أخ 36: 16؛ حز 22: 8؛ حك 4: 18؛ لو 23: 11. هنا نتذكّر الحقبة المكابيّة ومحاولة اليهود أن لا يضيعوا هويّتهم. ولكن الوثنيّين احتقروا من أراد أن يموت من أجل طعام. هم لم يفهموا عمق المسألة التي تهزّ الضمير اليهوديّ. «كرينو» (دان). ثم حكم. رج 2: 1، 3، 12، 27؛ 3: 7؛ 14: 4، 10، 22؛ 1 كور 5: 3، 12- 13؛ 11: 31؛ 2 تس 2: 12. وهنا كو 2: 16. هنا يحكم الضعفاء على سلوك الأقوياء، ساعة الأقوياء يحتقرون الضعفاء. كيف نحكم عليه وهو مقبول لدى الله. من لا يأكل، يحسب نفسه «باراً»، ولهذا يدين من يأكل ويعتبره خاطئاً. ذاك كان موقف بعض البدع اليهوديّة. «هو مقبول». الله قبله، استقبله. رج مز 26: 10؛ 64: 4؛ 72: 24. على موقف المجموعة من الآخرين أن يعكس موقف الله نفسه. الله يقبلنا جميعاً، فلماذا لا نقبل بعضُنا بعضاً.
«ومن أنت» (آ 4). رج 2: 1، 3 مع فعل «كرينو» (دان). يتطلّع بولس إلى موقف اليهوديّ المسيحيّ الذي هو واثق من أن هذا السلوك يقع خارج قواعد الشريعة وحدودها، وبالتالي خارج العهد. هم «بدون الله في العالم» (أف 2: 15). «اويكاتيس» الخادم أو العبد الذي في البيت، دون الكلام عن علاقة مباشرة. من يتكلّم باسمه، من يجيب باسمه؟ سيّده وحده. فلماذا نأخذ مكان الربّ الذي يدينه وحده؟ «فهو في عين سيّده». السيّد وحده يرضى أو لا يرضى عن سلوك عبده. وصورة السقوط والثبات تعبّر عن علاقة متناسقة مع السيّد الذي يعفيه من المسؤوليّة أو يواصل ثقته فيه. رج أم 24: 16؛ 1 كور 10: 12؛ فل 1: 27؛ 4: 1؛ 1 تس 3: 8؛ 2 تس 2: 15؛ أف 6: 14. «وسيثبت». سيقوم، أو يبقى قائماً. أي سيبقى سلوكُه مرضياً لدى سيّده مهما كان رأي الآخرين فيه. رج 10: 3.
ب- تصرّف حسب الضمير (آ 5- 8)
«ومن الناس» (آ 5). «كرينو». المعنى الأساسيّ: حكم على الأمور (آ 3). لا فضَّل، ولا وافق. وهما فعلان يأتيان بعد ذلك مع «كلّ». ذاك هو وضع الجماعة في رومة بين يهود وأمم. فيهود صاروا مسيحيّين، وأمم تأثّروا بالتقليد اليهوديّ، أرادوا أن يحافظوا على أعياد خاصة، ولا سيّما السبت. فالسبت كان الممارسة التي تميّز اليهوديّ. وشريعتُه تتجذّر في خبر الخلق (تك 2: 2- 3؛ خر 20: 8- 11). هكذا يفهم بنو اسرائيل أنهم شعب الله المختار (خر 31: 16- 17؛ تث 5: 15؛ نح 9: 13- 14؛ حز 20: 16؛ 1 مك 1: 45؛ يوسيفوس، العاديات 11: 346)، فيجعل أكل الطعام المحرّم على مستوى تجاوز السبت. ولكن بقاء المسيحيّين على مستوى السبت، يُبقيهم في حسّ يفصلهم عن الآخرين أو يعود بهم إلى العالم اليهوديّ الذي يتأثّر به عدد من الوثنيّين، الذين يؤمّون المجامع يوم السبت ويسمعون كلام التوراة. ومع ذلك، يطلب بولس منهم «أن يثبت كل واحد على رأيه» دون أن يفرضه على الآخر. تلك هي الحريّة المسيحيّة في تنوّعها داخل الوحدة.
«لأن من يراعي يوماً» (آ 6). «فروناين». وضع فكره، نيّته في ذلك اليوم. الحريّة التي نتكلّم عنها هي في إطار سيادة المسيح. إنها توافق مشيئة الله. «من يأكل... من لا يأكل». هذا لا يعني أن بولس يُفلت الأمور على غاربها، بل يشدّد على المسؤوليّة، على مستوى الرأي والممارسة. هو واعٍ أنه يعيش ارتباطاً شاكراً بالله. أنه جعل الله في عقله فيوجّهه. «يشكر»، يبارك. رج مر 8: 6 وز؛ 14: 23 وز؛ يو 6: 11، 23؛ أع 27: 35؛ 1 كور 11: 24. إن موقف الشكر لله هذا، يدلّ على ارتباط بالله وانتماء إلى حقبة المسيح (تجاه حقبة آدم). في هذه الحقبة الجديدة تدخل الفئتان: من يأكل ومن لا يأكل. من تحرّر من الممارسات اليهوديّة، ومن ظلّ متعلّقاً بها.
«فما من أحد منا» (آ 7). لمن نحيا؟ لا نقدر أن نحيا لاثنين، بل علينا أن نختار. وفي أي حال، لا نقدر أن نعيش لنفوسنا، إلاّ إذا ألّهناها وعبدناها، بل نحن نحيا للمسيح الذي هو مثال نتبعه (2 كور 5: 14- 1 5؛ فل 2: 5- 11). نلاحظ هنا صيغة المتكلّم الجمع «نحن». كأني بالرسول عاد إلى الكنيسة حيث يُعلن الإيمان بالمسيح الذي مات وقام. هو المثال لنا.
«فإذا حيينا» (آ 8). نحيا أو نموت من أجل أحد. هي فكرة عُرفت لدى اليونان. وبالأحرى لدى اليهود والمسيحيّين. رج 4 مك 7: 19؛ 16: 25؛ ق لو 20: 38؛ روم 6: 10 (في ما يخص الموت). وفي ما يخصّ الحياة، فيلون، تبدّل الأسماء 213؛ الوارث 111؛ ق روم 6: 11؛ 2 كور 5: 15؛ غل 2: 19. رج 1 تس 5: 10. «وسواء حيينا». للربّ نحيا ونموت، ولا نبحث عن شيء آخر. فنحن مُلك الربّ (1 كور 3: 23). الموت والحياة أمران مهمان جداً، يفوقان كل ما يمكن أن نقوله عن طعام أو طعام. ومع ذلك، لم تتبلبل العلاقةُ بين المؤمن والربّ.
ج- أمام محكمة الله (آ 9- 12)
«والمسيح مات» (آ 9). هي اختلافة عن العبارة النموذجيّة. ق 8: 34 مع «زاوو» (حيي) بدل «إغايرو» (قام) المسيح. مات وقام. المسيح مات وعاد إلى الحياة. تكرّر فعل «حيي» ثلاث مرات في آ 8. نجد هنا تعبيراً عن الانشداد الاسكاتولوجيّ (6: 4؛ 8: 10) بين حياة وراء الموت وحياة نعيشها الآن. «ليكون ربّ». أجل موت يسوع وقيامته جعلاه سيّد كلّ شيء، حتى الموتى والأحياء (1 كور 15: 20- 25؛ فل 2: 9- 11)، فما من شيء يُفلت من هذه السيادة. ولماذا قال بولس كل هذا؟ ليبيّن كم أن موضوع الطعام أمر نسبيّ جداً بحيث لا يستحقّ اهتماماً يؤدّي إلى الخلاف في الجماعة.
«فكيف يا هذا تدين» (آ 10). نعود هنا إلى الجدال مع المخاطب المفرد (أنت). يتوجّه بولس إلى المجموعات المختلفة: كيف تدين، كيف تحتقر؟ رج آ 3. يتكرّر فعل «دان» (كرينو) ثماني مرّات في ف 8، فيجعل أمامنا دينونة الضعفاء. أن نحكم على الأمور أمرٌ مقبول. ولكن ما ليس بمقبول أن نأخذ مكان الله لندين الآخرين. وتعود كلمة «أخ» (أدلفوس، 1: 13) للمرّة الأولى منذ بداية القسم الإرشاديّ (12: 1). وستعود هنا في آ 13، 15، 21. المؤمن هو أخ، وعضو في عائلة المسيح الجديدة. فكيف نحتقره. رج 1 كور 4: 1- 5.
«نحن جميعاً سنقف» (باراستيمي). نقف في المحكمة. أمام القاضي. أمام الديّان، رج أع 27: 24. ق 1 كور 8: 8؛ 2 كور 4: 14؛ 2 تم 4: 17. «بيما» (منبر). موضعٌ عالٍ منه نُلقي خطاباً في الجماعة. (نح 8: 4؛ 2 مك 13: 26؛ أع 12: 21). وبالتالي الموضع الذي يقف عليه القاضي (مت 27: 19؛ يو 19: 13؛ أع 18: 16،12- 17؛ 25: 6، 10، 17). ثم كان كلام عن الدينونة الأخيرة (2 كور 5: 10). يكون «المنبر» في الساحة العامة. هذا يعني أن الدينونة فُتحت، والمسيحيّ لا يُسأل إن كان مسيحياً، بل يُسأل كيف كان. هو الوقوف أمام الربّ لنؤدّي حساباً. الآن (آ 4- 6) وفي النهاية (آ 10- 11؛ رج 1 كور 4: 1- 5). وهو يضمّ الماضي والحاضر في فعل التبرير (2: 13).
«والكتاب يقول» (آ 11). لأنه كُتب. رج 1: 17. ما يرد هنا هو مزجُ مقطعين أوردهما بولس من الذاكرة دون العودة إلى النصّ. «حي أنا، يقول الربّ». عبارة ترد مراراً عند الأنبياء (عد 14: 28؛ أش 49: 18؛ إر 22: 24؛ 46: 18؛ حز 5: 11؛ 14: 16؛ صف 2: 9). ولكنّنا لا نقرأها في اش 45: 23 الذي يورده بولس هنا (يعترف كل لسان): كل من يعارض سلطة الله الأخيرة السامية، سينحني في الدينونة الأخيرة، ويقرّ أن لا إله سوى الربّ (يهوه). هو الله العادل والمخلّص (اش 45: 21). هذا يعني أن من يدين الآخرين يتجاوز سلطة يمتلكها الله وحده، فيسقط في فخّ الوثنيّة، ويجعل نفسه مكان الله (1: 21- 25). «إكسومولوغيو»: أقرّ، اعترف، كما في السبعينيّة. رج 15: 9؛ فل 2: 11؛ مت 11: 25= لو 10: 21. هذا ما يذكّر اليهود المسيحيّين (كل لسان)، أن مخطّط الله النهائيّ يضمّ الأمم، والمسيحيّين الأمم، وأن اهتداءهم هو خضوع للاله الواحد الذي تعلنه الكتب المقدّسة. نلاحظ أن بولس حافظ هنا على عبارة «الله»، حين ورد نصّ اش 45: 23 في فل 2: 10- 11 للكلام عن سيادة المسيح. في الواقع، هو الرسول يشدّد في رسالة على دور الله (روم). وفي رسالة أخرى على دور المسيح (فل). أما النتيجة فهي هي.
«فكل واحد منّا» (آ 12). يُؤدّي حساباً. حرفيا: يُعطي كلمة. رج مت 12: 36؛ لو 16: 2؛ أع 19: 40؛ عب 13: 17؛ 1 بط 4: 5. كل انسان. لا يفلت أحد. يؤدّي حساباً عن نفسه، لا عن أخيه، وذلك بشكل علني. ويؤدّي حساباً قدّام الله، لا قدّام عضو في جماعته. المؤمن وغير المؤمن (اليهوديّ والأمميّ) يكونان أمام دينونة الله (2: 6- 16؛1 كور 3: 12- 15؛ 2 كور 5: 10).

3- خلاصة لاهوتيّة
في آ 1- 2 أعطى بولس نصيحتَه طابعَها. فالمجموعة المسيطرة التي استنارت حول الأطعمة والسبوت، لا تحاول أن تفرض نظرتَها على ضعيفي الإيمان. هؤلاء الضعاف ما زالوا يشدّدون على أمور خارجيّة في شعب العهد. ما زالوا على مستوى الجسد. هم أعضاء اسرائيل. هم ما ارتبطوا بعد ارتباطاً تاماً بالله مثل أبيهم ابراهيم. مثلُ هذا الموقف هو موقف الضعفاء.
نلاحظ هنا أن بولس لم يكن هجومياً في كلامه، كما فعل في غل. فالوضع اختلف بين كنيسة رومة وكنائس غلاطية. في غل، أراد بولس أن يحافظ على رسالة تحرّرت من الشريعة، على انجيل موجَّه إلى الأمم، على وجود كنائس تأسّست، وهي الآن مهدّدة. فإن ربحهم المرسلون «الغيورون»، ينكسف التعبير عن الانجيل الذي وقف حياته له، أو هو ينقطع عن ارتباطه بالعهد القديم. أما في رومة، فسيطر فهمٌ متحرّر للانجيل. واليهود الذين عادوا إلى رومة بعد أن طردهم الامبراطور كلوديوس سنة 49، عرفوا وضعهم السريع العطب على مستوى العدد والظروف الاجتماعيّة والسياسيّة. فالخطر هو هو: تصادم بين مجموعتين رئيسيّتين مع نتيجة تؤول إلى أن يخسر الأمم جذورَهم في العالم اليهوديّ. جاءت نصيحة بولس واضحة: لا نستفيد من موقعنا (لأننا الأكثرية، ولأن الخطر لا يتهدّدنا)، ولا نستغلّ الجدالَ لنجعل الآخر يحسّ أنه أدنى، أنه ضعيف. ولا نضغط لكي نفرض رأي الأكثريّة. هذه الحريّة التي يطالب بها الرسول، هي ما يوجّه أقوياء الإيمان في تعاملهم مع الآخرين. ولكنه يعمل على مراحل.
بدأ في آ 3، فنبّه الجهتين من خطر وقوف الواحد تجاه الآخر. المتحرّر يحتقر التقليديّ، والتقليديّ يحكم على المتحرّر. هي نظرة سيكولوجيّة لدى بولس، نجدها في كل جماعة، بين المحافظين والذين يريدون أن يكونوا متحرّرين أكثر من الآخرين في سياساتهم وفي ممارستهم. هؤلاء ينظرون إلى الآخرين كضيّقي الآفاق، تقليديّين متأخّرين. وأولئك يعتبرون المتحرّرين أناساً تركوا أجزاء هامة من التقليد، فصاروا خارج هذا التقليد الذي يشكّل الحماية للإيمان.
وهناك خطر آخر (آ 4) يشدّد عليه بولس ويكرّس له القسم الأكبر من آ 3- 12. إنه يدعو الجميع إلى تقبّل وضع الآخر كمسيحيّ. هذا ما يتوجّه إلى التقليديين. هم ضعفاء، لأنهم ينظرون إلى هذه التقاليد على أنها أساسيّة من أجل الإيمان. لا يمكنهم أن يتعدّوا الإيمان بمعزل عن هذه التقاليد. لهذا يميلون إلى الحكم على المتحرّرين بسبب فهمهم للانجيل. بل هم يعتبرونهم غير مسيحيّين. وكان جواب بولس: المسيحيّة هي أوسع من تحديد التقليديين. والله يقبل بمواقف ونظرات يعتبرها الناس غير مقبولة: الله يستقبل. هذا المتحرّر هو عبد الربّ، والربّ مسؤول عنه، لا أنت. هو يقف لأن الربّ يوقفه، يثبّته. تلك كانت خطة بولس الرعائيّة: أن يقبل التقليديون من يختلف عنهم في أمور يعتبرونها أساسيّة مع أن الله يقبلها. بدون قبول الآخر، نكون وكأننا نترك الانجيل ونجعل حكمنا يحلّ محل حكم الله، بل نفرض عليه رأينا.
والنصيحة الثانية (آ 5) من نصائح بولس: أن يقتنع كلُّ انسان، ملء الاقتناع، في ضميره أن في هذا الموضوع خلافاً. لا أن هذه الآراء تحتاج إلى ما يؤثّر على المسيحيّين على مستوى العقيدة والسلوك. بل إن هذا يخلق الاختلاف في أسلوب الحياة في المجتمع، ويؤثر على التناسق في الكنيسة. فقوّة اليقين عند الواحد، يجب أن لا تجعل الآخر يخاف ولا يجرؤ على التصرّف. يقرّ بولس هنا أن المسيحيين يمكن أن لا يتوافقوا بعضهم مع بعض على أهداف أساسيّة، ويحسب كلُّ واحد أن الحقّ بجانبه. يمكن أن يختلفا ويكون الاثنان على حقّ، لأن الله يقبلهما. ليس من الضروريّ أن يكون الواحد في خطأ، لكي يكون الآخر على حقّ. فغنى الحقيقة المسيحيّة وتعبيرها، يسمحان بعدد من النظرات وطرق الحياة. كلها شرعيّة، وتُبقينا داخل الإيمان.
وخاف بولس (آ 6) أن لا يميّز قرّاؤه الحريّة من الفلتان. لهذا أضاف كلاماً آخر. اعتبر أن الفئتين استنتجتا ما استنتجتا قدّام الربّ. وأن حياتهما وسلوكهما هما تكريم لله وشكر له. هذا يعني أن الحريّة تنحصر في الطاعة المسيحيّة، وتعبّر عن ارتباط الخليقة بالخالق (1: 21). ما يمكن أن نتقبّله من الله، ونقرّبه لله في شكر متواضع، هو السلوك المسيحيّ. ذاك هو الأساس الحقيقيّ للإيمان المسيحيّ ولأسلوب حياة المؤمن، لا التعبير الخاص عن أمور تقليديّة أو طقسيّة. من أقرّ بهذه الطاعة وتمسّك بسلوك شاكر لله، يُقبَل كمسيحيّ، وإن كان سلوكه مغايراً ولا ملائماً لمن يعتبرون نفوسهم تلاميذ الربّ. فالإيمان لا يحدّده النسل ولا العرق ولا الحضارة ولا التقليد الوطنيّ.
فالمؤمن ليس شريعة لنفسه (آ 7- 9). ولا هو شريعة للآخر. فالواحد يقدر أن يطالب بالحرية لشخص دون أن يسمح بالحرية لآخر. فما يمكن أن يكون صالحاً لواحد، قد لا يكون دليلاً أكيداً لما هو صالح لآخر. فإن كان القويّ لا يحاول أن يفرض على الضعيف حريّة يخاف منها وتوجيهات لا تبدو واضحة له، فلا يحقّ للضعيف أن يحصر القويّ في حدود حرّيته الضيّقة. فالاعتقاد عند الواحد لا يُستعمل ليحتقر الآخر، ولا ليحكم على الآخر. كل هذا يربطنا بالربّ الذي من أجله نحيا ونموت. ومن استعمل سلطته ليحدّد يقين الآخر وسلوكه، يكون وكأنه يتعدّى على حقوق المسيح ويسقط في الخطيئة الأولى حيث يحاول الانسان أن يكون «إلهاً» مثل الله.
وجاءت النتيجة واضحة (آ 10- 12). ما من مجموعة في رومة يحقّ لها أن تدين الأخرى، أن تحكم على الذين لا يسيرون معها داخل حلقة المؤمنين. فكل واحد يؤدّي حساباً عن نفسه، لا عن الآخر، في الدينونة الأخيرة. وفي النهاية، سيركع الجميع أمام الربّ، كما تفعل الخليقة أمام خالقها. تلك هي شرعة بولس حول الحريّة المسيحيّة وحول التسامح المتبادل.

الخاتمة
طرح بولس سؤالاً في هذا المقطع: ما العمل حين ينقسم المسيحيّون حول طريقة عيش إيمانهم في العالم الحاضر؟ نقف أمام الله الذي يحبّ الانسان ويخلقه ويحرّره لكي يعيش حياة جديدة وأمانة حقيقيّة. فكيف نقبل باسم هذه الحريّة وهذه الأمانة أن نحكم بعضنا على بعض؟ وعاد الرسول إلى المحبّة. فالانجيل هو قبل كل شيء بلاغ محبّة. لهذا لا شيء يبرّر دينونة الآخرين أو احتقارهم أو معاملتهم من علُ. ذاك كان وضع جماعة رومة: ضعفاء في الإيمان، أقوياء اكتشفوا أبعاد التحرّر الذي يعيشونه. وجاءت نصائح بولس تربطنا بالمسيح وتدعونا إلى البنيان المشترك.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM