الفصل الثامن والثلاثون
المحبّة قاعدة العلاقات الاجتماعيّة
12: 9- 21
حين صوّر بولس الرسول الجماعةَ المسيحيّة كجسد مواهبيّ في المسيح، تذكّر الواقعَ المواهبيّ في الجماعة التي ينتمي إليها، في كورنتوس. وإذ توجّه إلى الكورنثيّين في كلامه عن المواهب، شدّد على أن المحبّة وسيط لا بدّ منه لتمارَس فيه هذه المواهبُ. وإلاّ لا نفع منها. وهنا سار تعليم بولس من المواهب إلى المحبّة في الحياة الاجتماعيّة. هذا لا يعني أننا نختار المواهب أو المحبّة، فنعتبر الواحدة معارضة للأخرى. فالمواهب وظائف في الجسد، وبدونها يتجمّد الجسد. أما المحبّة فتحدّد وظائفَ الجسد، حيث المواهب بدون المحبّة تنتج ما يعاكس مخطّط الله ويجعل النعمة وكأنها ما كانت. ونتيجةُ هذه الفكرة أن بولس رأى الخطر في مواهب تصبح آلية محضة، أعمال غرائزيّة أو روتينيّة. تصبح خطراً يهدّد كل الخدم على مستوى الكلام وعلى مستوى الأعمال. فإذا أردنا لهذه المواهب أن تكون ناجعة، فيجب أن تمارَس في المحبّة بحيث يقبل الواحد أخاه (ولو عدواً) كما قبلَنا اللهُ في المسيح.
1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 9، نقرأ: ما هو شرّ (أبوستيغونتاس). هناك بعض الشهود أخذوا اللفظ الأسهل، مع المعنى نفسه «ميسونتاس».
في آ 11، نقرأ «كيريو» (للرب) في بردية 46، السينائي، الفاتيكاني... غير أن النصوص الغربية (البازي، 011، 011) قرأت «كايرو» الزمن المناسب.
في آ 13، شاركوا في حاجات (خراياليس). مخطوطات غربية (البازي 011، 011) قرأت «منايايس» فصار المعنى: شاركوا في تذكّر القديسين.
في آ 14، مضطهديكم. هناك ضمير الجمع «كم» (هوماس). غاب من برديّة 46 والفاتيكاني. قد يكون أُضيف لإيضاح المعنى. والغت البرديّة 46 «باركوا» قبل «ولا تلعنوا»، فصار النصّ: باركوا مضطهديكم ولا تلعنوا.
في آ 15، قرأ بعضهم «وأبكوا» بدل «ابكوا». أضافوا «كاي»، واو العطف.
في آ 17، اعتبروا الخير (أن تصنعوا الخير) أمام جميع الناس، فتوسع 011، 011، فقال: ... ليس فقط أمام الله، بل أمام الناس أيضاً. رج أم 3: 4؛ 2 كور 8: 21.
في آ 20، «ولكن» (ألا). ظنّ البعض أن هذا الايراد من سفر الأمثال، وهو يتحدّث عن دينونة الله. فأحلوا محل «ألا» «اين أون» إذن إن...
ب- بنية النصّ
كما في 1 كور 12- 13، تحرّك فكرُ بولس من كلام حول جسد المسيح، إلى موضوع المحبّة مع نداء آ 1- 2. لهذا جاء بناء المقاطع متراخياً، فتكوَّن بشكل رئيسيّ من ارشادات فرديّة، وُضعت بعضها مع بعض حسب الفاظ خاصة أو مواضيع مرتبطة: المحبة (أغابي)، المحبّة الأخوية (فيلدلفيا)، المُحبّ بحنان (فيلوستورغوس)، محبة الغرباء أو الضيافة (فيلوكسانيا)، آ 9، 10، 13. ثم الشرّ (بونيروس، كاكوس)، آ 9، 7، 21؛ ثم الخير والجميل (أغاتوس، كالوس) آ 9، 17، 21. ما نسي بولس أن الاتهام في 2: 1- 11، يعمل في مقولات مماثلة (الشر والخير): هذا يتضمّن أن المحبّة وحدها التي تجري من الالتزام والاستعداد (آ 1- 2)، تقدر أن تُتمّ الخير في توافق مع إرادة الله الصالحة. وتسير آ 9- 13 معاً حيث صيغة الأمر في البداية (نداء إلى الحبّ) تتوسّع في عدد من أسماء الفاعل. إن مقابلات مع ارشادات القرن الأول المسيحيّ (1 تس 5: 12- 22؛ 1 بط 3: 8- 1 2)، تدلّ أن بولس أخذ بأسلوب معروف في الارشاد، مع العلم أن العناصر المختلفة يمكن أن تتبدّل أو تمتزج.
يمكن أن نقرأ آ 9- 13 كما يلي:
9 الحب الصادق: أبغض الشر، تمسّك بالخير
10 وكاخوة أحبّوا بعضكم بعضاً
مفضّلين بعضكم على بعض في الكرامة
11 غير متكاسلين في الاجتهاد، متّقدين في الروح
عاملين للربّ
12 فرحين في الرجاء صابرين في الضيق،
مواظبين على الصلاة
مشاركين في حاجات القديسين
مداومين على الضيافة.
تبعت آ 9- 13 ما في آ 3- 8، فتوجّهت إلى العلاقات الداخليّة داخل جسد المسيح. أما آ 14- 21 فركّزت على العلاقة مع العالم الخارجيّ في ارتباط مع 13: 1- 7. وعى بولس بشكل خاص أن الجماعة الصغيرة في رومة تعرف خطراً خاصاً، وهي سريعة العطب تجاه الامبراطوريّة. هذا ما يطلب منها سياسة حياة هادئة لا تردّ فيها على التحرّشات. أما النصيحة فتتجذّر في عالم الحكمة حول العلاقات البشريّة.
آ 15 سي 7: 34
آ 16 أم 7: 7؛ اش 5: 21
آ 17 أم 3: 4
آ 18 مز 34: 24
آ 19 لا 19: 18؛ تث 32: 35
آ 20 أم 25: 21- 22
آ 21 وص بنيامين 4: 3.
هناك عودة إلى نصوص العهد القديم. كما نجد صدى لتعليم يسوع عن محبة القريب: آ 14 (مت 5: 44= لو 6: 27- 28). وهناك تلميح إلى عظة السهل
آ 14 لو 6: 28
آ 17 لو 6: 27- 36
آ 21 لو 6: 27- 36
آ 10 لو 6: 37.
تبدو آ 15- 16 وكأنهما تقطعان حبل الارشاد الموجّه إلى علاقات المسيحيّين مع المجتمع الخارجيّ، غير أنهما تعكسان استعمال ارشاد يهوديّ تقليديّ يضمّ الخلقيّة الاجتماعيّة داخل علاقات متبادلة في شعب العهد، ساعة تبدو الحدود مختلفة في سياق مسيحيّ وفي الشتات. وقد تبدو هاتان الآيتان موجهتين على انشداد داخل جماعة رومة، بين المسيحيّين اليهود والمسيحيّين الأمم، في خلفيّة الاضطهاد الذي لاقاه اليهود في رومة.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (12: 9- 21)
نقسم هذا المقطع ثلاثة أقسام. في الأول، يطلب بولس من المؤمنين صدقاً في المحبّة على جميع الصعُد مع تفضيل الآخرين على الذات (آ 9- 13). في القسم الثاني (آ 14- 16)، ننتقل إلى البركة ونتجنّب أن نلعن أحداً. وفي النهاية (آ 17- 21)، لا نجازي أحداً شراً بشرّ، بل نعمل الخير مع جميع الناس. هكذا تظهر المحبّةُ الأخويّة في الحياة الاجتماعيّة.
أ- لتكن المحبّة صادقة (آ 9- 13)
نحن هنا في بداية جديدة (آ 9) حيث العبارة الأولى تبدو بشكل عنوان كما فعلنا. هي محبّة (أغابي) الله (5: 5، 8؛ 8: 39). محبّة المسيح (8: 35). محبّة الروح (15: 30؛ رج 5: 5). أما هنا فالكلام عن الحبّ البشريّ (لو 1: 10؛ 14: 15). يبدو أن «أغابي» لم تظهر خارج اليونانيّة البيبليّة إلاّ في القرن الثاني أو الثالث ب م. هي ترد 20 مرّة في السبعينيّة، ولكن للكلام عن الحبّ بين الرجل وامرأته (11 مرة في نش). في العهد الجديد، 116 مرة مع 75 مرة في المجموعة البولسيّة. استُعمل هذا اللفظ للتعبير عن خبرة النعمة، خبرة محبّة الله. ومع ذلك كان كلام عن محبّة الله في حك 3: 9، وعن محبّة الانسان لله في إر 2: 2؛ حك 6: 18. «صادقة» (أنوبوكريتوس): بلا رياء، بلا خبث. رج 2 كور 6: 6؛ 1 بط 1: 22 بالنسبة إلى المحبّة؛ 1 تم 1: 5؛ 2 تم 1: 5 بالنسبة إلى الإيمان. رج حك 5: 18؛ 18: 16؛ يع 3: 17. المُرائي هو من يُسقط صورة ويُخفي هويّته الحقيقيّة وراء قناع. هناك خطر الخداع، وخداع أنفسنا على مستوى المواهب الروحيّة. «تجنّبوا الشرّ». «أبوستوغيو»: أبغض بعنف، مجَّ. واستعمل بولس «بونيروس» (الشر)، لا «كاكوس» قبالة «أغاتوس» (الخير) لأنه أقوى. «كولاوو»، ضمّ، تمسّك، وحّد. إسعوا أن تدخلوا في علاقة مع. رج مز 119: 31؛ وص يساكر 6: 1؛ وص دان 6: 10؛ وص جاد 5: 2؛ وص اشير 3: 1؛ وص بنيامين 8 : 1.
ونلاحظ التوازي مع 1 تس 5: 21- 22. الارشادان يتبعان تعليماً عن المواهب (روم 12: 6- 8؛ 1 تس 5: 19- 20، الروح، النبوءة)، مع روم كلام عن الغش، مع 1 تس نداء إلى التمييز. هذا يعني أن بولس رأى أهميّة المواهب من أجل حياة الكنيسة. ولكن هذه المواهب يجب أن ترتبط بالمحبّة.
«وأحبّوا بعضكم» (آ 10). إن الجذر «فيل» يدلّ على الحبّ داخل العائلة، حبّ الأخ أو الأخت (فيلدلفيا). حب الوالدين لأولادهما (فيلوستروغيا). رج فيلون، ابراهيم 168، 198؛ موسى 1: 150؛ الشرائع الخاصة 2: 240. لا يرد إلا هنا في العهد الجديد. وهناك «أغابي» مع «ادلفوس» (الأخ)، للكلام عن أعضاء جماعة دينيّة. «تيمي» الاكرام، الاحترام. رج 13: 7؛ 1 بط 1: 7، احترام للعضو داخل الجسد (آ 3- 8) وفي عائلة الله (آ 10)، العائلة التي يرضى عنها الله (14: 3- 4، 6- 8). صُوّر المسؤول في المجمع كذاك الذي هو أهل لكل اكرام. «بروإغيوماي»: احترم احتراماً كبيراً. أعطى مكانه للآخر احتراماً. أو فعل للآخر شيئاً فدلّ على إكرامه. المطلوب هو أن يعترف الواحد بالآخر وأن يقبله، في الحياة اليوميّة وفي عبادة الجماعة.
«غير متكاسلين» (آ 11). أو: في عزم لا يكلّ. «أوكنيروس» شخص يتردّد، يتحفّظ، يخاف. وفي النهاية التكاسل. رج أم 6: 6، 9؛ 20: 4؛ 21: 25؛ سي 22: 1- 2؛ 37: 11 (الأدب الحكمي). «متّقدين» زايو. اشتعلت النار. وقد تشتعل الرغبة. والارتباطُ مع الروح (بنفما) سمةٌ مسيحيّة نجدها أيضاً فقط في أع 18: 25. هو الروح القدس. رج 5: 5؛ 1 كور 12: 13 ج؛ 1 تس 1: 6. «عاملين» للربّ (كيريوس). هي صورة السيّد والعبد. بل هناك معنى الالتزام. رج 6: 17؛ 7: 6، 25؛ 10: 9. كيريوس يقابل يهوه في العبرية. إن الاشتعال بالروح يجب أن يتوجّه إلى خدمة المسيح (12: 9).
«فرحين في الرجاء» (آ 12). أو ليحفظكم الرجاء في الفرح. إلبيس (رجاء). في العبرية ثقة واتكال. رجاء أكيد. في اليونانيّة، الانتظار. ننتظر أن يتحسّن الوضع. رج 4: 18. الفرح يميّز المسيحيّة الأولى. رج 14: 17؛ 15: 15؛ 2 كور 6: 10؛ غل 5: 22؛ 1 بط 2: 8؛ 1 يو 1: 4. «صابرين». «تلبسيس» (الضيق). رج 5: 3. «هيبومانو»، احتمل، صبر، ثبت، في الضيق، في المحنة، في الاضطهاد. رج مر 13: 13؛ 1 كور 13: 7؛ 2 تم 2: 10؛ عب 10: 32؛ 12: 2؛ يع 1: 12؛ 1 بط 2: 20. كل هذا يجعلنا في التعليم عن الخلاص كسمة عن التعليم عن الكنيسة. «مواظبين» (بروسكارتاريو). اهتمّ بالشيء، تكرّس له، تمسّك واستمرّ. يرد مع الصلاة (أع 1: 14؛ 2: 42؛ 6: 4؛ كو 4: 2)، صلاة لا تتوقف (لو 18: 1؛ أف 6: 18؛ 1 تس 5: 17). الصلاة هي التعبير عن الانشداد الاسكاتولوجيّ. إذ نحافظ على «خط مفتوح» مع الله في الروح، يكون هذا الانشدادُ علامة إيجابيّة وقوّة خلاّقة.
«ساعدوا الاخوة» (آ 13). «خرايا» الحاجة بشكل عام. رج مت 3: 14؛ مر 11: 3؛ لو 15: 7؛ يو 2: 25؛ 1 كور 12: 1؛ 1 تس 1: 8؛ 5: 1؛ عب 5: 12. هنا، هي صعوبات خاصة ولا سيّما ماليّة، هي ضرورات الحياة. رج أع 2: 45؛ 4: 35؛ أف 4: 28؛ فل 2: 25؛ 4: 16؛ تي 3: 14؛ 1 يو 3: 17. «كوينونيو» شارك، أعطى لكي يشارك، ساعد (غل 6: 6؛ فل 4: 14- 15). اهتمّ المسيحيّون الأوّلون بالأرامل واليتامى والغرباء والفقراء في الجماعة. «هاغيوي». رج 1: 7. «وداوموا». هو فرض أن نقدّم الضيافة للغريب. في المجتمع القديم، كانوا يقولون: الإله زوش هو المحامي عن حقّ الضيافة (2 مك 6: 2). في العالم اليهوديّ، كان بنو اسرائيل غرباء في مصر. إذن يهتمون بالغريب (لا 19: 34؛ تث 10: 19). ابراهيم هو مثال الضيافة (تك 18؛ فيلون، ابراهم 107- 114؛ يوسيفوس، العاديات 1: 196). الضيافة كانت سمة في رسالة يسوع. ارتبط بها (مر 1: 29- 31؛ 14: 3؛ لو 10: 38- 42). أوصى بها على أنها مثال السخاء الالهيّ (مر 2: 15- 17؛ مت 11: 19= لو 7: 34؛ لو 14: 1- 24). والرسالة الأولى ارتبطت بالضيافة (مر 6: 8- 11 وز؛ أع 16: 15؛ 18: 3). والضيافة سمة تميّز الأسقف (1 تم 3: 2؛ تي 1: 8).
ب- «باركوا ولا تلعنوا» (آ 14- 16)
«باركوا مضطهديكم» (آ 14). «أولوغيو» (بارك). لفظ يهوديّ ورثه المسيحيّون (ب ر ك في العبريّة). تكلّم حسناً، امتدح. بارك. في اليونانيّة: أعطى النعمة والسلام، ساعد وساند (عد 6: 24- 26). حين يبارك انسانٌ آخر، فهذا يعني أنه يدعو له بعطاء الله ورضاه (تك 27: 27- 29؛ 49: 28؛ تث 33: 1 صم 2: 20). يقابله «لعن» (كاترستاي). طلب من الله أن يُبعد عنه رضاه. رج 2 صم 16: 5- 13؛ 2 مل 2: 24. القول بالبركة لا باللعنة سمةُ التعليم المسيحيّ، ومعارضة لشريعة المثل، سن بسن وعين بعين (تك 12: 3؛ 27: 29؛ عد 24: 9). باركوا حتى في الاضطهاد الذي يحلّ بكم. رج مت 5: 10- 12، 44؛ 10: 23؛ 23: 34؛ لو 11: 49؛ 21: 12؛ 1 كور 4: 19؛ 2 كور 6: 4- 5. نحن هنا في خط تعليم يسوع. ق لو 6: 27- 28 (مت 5: 44) مع روم 12: 14. نشير هنا إلى أننا لا نجد التعارض بين البركة واللعنة إلاّ في روم هنا وفي لو 6: 28.
«إفرحوا مع الفرحين» (آ 15). رج فل 3: 16. هو قول يرتبط بعالم الحكمة في الكتاب. سي 7: 34 «كن حاضراً مع الباكين (أو: لا تَمِلْ عنهم)، واحزن مع الحزانى»: أي 30: 25 (بكيتُ لمن ضاق يومه). فيلون، يوسف 94؛ وص يساكر 7: 5؛ وص زبولون 6: 5؛ 7: 3- 4؛ وص يوسف 17: 7. هي عاطفة التضامن مع الفقير والمضايق والمتألّم. «خايراين» (فرح). رج 12: 12. «كلايو» (بكى). رج 1 كور 7: 30؛ فل 3: 18.
«كونوا متفّقين» (آ 16)، فكّروا الشيء عينه، هذا لا يعني أن نُشبه بعضُنا بعضاً «كالنمل»، بل أن يكون موقفُنا واحداً ومخطّطُنا. نعيش في تناسق وتناغم ورضى. رج 15: 5؛ 2 كور 13: 11؛ فل 2: 2. هذا يعني أن الاتفاق غاب بعض الشيء من الجماعة. «لا تتكبّروا» (رج 11: 20) بسبب المواهب التي نلتموها. «تاباينوس» المتواضع. ليجتذبكم ما هو وضيع. هو فكر يهوديّ، لا يونانيّ. رج قض 6: 15؛ أي 5: 11؛ مز 10: 18؛ 18: 27؛ 34: 18؛ 82: 3؛ أم 3: 34؛ إش 14: 32؛ صف 2: 3؛ 3: 12. «لا تحسبوا». رج أم 3: 7. قد يحسب اليهودي نفسه حكيماً تجاه الأمميّ والعكس بالعكس.
ج- لا تجازوا الشرّ بالشرّ (آ 17- 21)
«لا تجازوا أحداً» (آ 17). هي شريعة المثل في العالم اليهوديّ. رج أم 20: 22؛ 24: 29؛ ق خر 23: 4- 5؛ 2 أخ 28: 8- 15. هناك تنبيه من الردّ على الخير بالشرّ (أم 17: 13؛ إر 18: 20)، بل ردٌّ على الشرّ بالخير (مت 5: 38- 48= لو 6: 27- 36). هو جزء من الارشاد المسيحيّ (1 تس 5: 15؛ 1 بط 3: 9). «واجتهدوا» (برونويو): اعتبر، جعل أمامه. التعاطف مع نظرة الآخرين. «أمام جميع الناس». في أم 3: 4 و2 كور 8: 21: أمام الله وأمام الناس. نظرة الله سامية إلى كل واحد منا. هكذا يجب أن تكون نظرتُنا إلى الآخر.
«سالموا جميع الناس» (آ 18). «إن أمكن». رج مر 13: 22 وز؛ غل 4: 15. «ايرينوو» (سالم). لا «ايرينيبويايو»: صنع السلام. كو 1: 20. في مت 5: 9؛ صانعو السلام؛ مر 9: 50: سالموا بعضكم بعضاً. ق 2 كور 13: 11؛ 1 تس 5: 13؛ عب 12: 14. ويضيف بولس: على قدر طاقتكم. فالأمر صعب في قلب العداوة والاضطهاد. لهذا لا يقدّم الرسول مثالاً بعيداً عن الواقع، كما لا يريد مساومة بين الإيمان وحياة مطمئنّة. هنا تأتي صفة التمييز.
«لا تنتقموا» (آ 19). هناك كلام عن انتقام الله، في الأنبياء (إر 5: 9؛ 23: 2؛ هو 4: 9) من شعبه، من أعداء شعبه. هذا ما يدلّ على عقاب الله. هي نظرة لاحقة إلى ما أصاب شعباً أو بلداً، فاعتبره النبيّ عقاباً. «لا تعطوا مكاناً» (توبوس): مناسبة. هو كلام يرتبط بالأسفار الحكميّة (حك 12: 10، 20؛ سي 4: 5؛ 13: 22؛ ق أف 4: 27؛ عب 12: 17). «أورغي». يدلّ عادة على غضب الله. «كُتب». رج 1: 17. عاد بولس إلى تث 32: 35 (رج عب 10: 30). في العبري: ل ي. ن ق م. وش ل م: لي الانتقام والمجازاة. في السبعينيّة: في يوم السخط سأعاقب. في ترنيو (أجزاء): العقاب لي وأنا الذي يجازي. تراون: العقاب أمامي بحيث أني أجازي. نستطيع القول إن النص اليونانيّ كان في الكنائس. تحدّثت السبعينيّة عن يوم الدينونة أي الدينونة الأخيرة (إر 46: 10؛ فيلون، استعارات الشرائع 3: 106؛ لو 21: 22). «عاقب» (أنتابوديدومي، 11: 9؛ 2 تس 1: 6). «إكديكاسيس». رج اش 59: 17- 18 (ليجازى الانسان بأعماله. فالسخط من يُصيب خصومه). الانتقامُ أو تجاوزُ الشريعة أمر محرّم في العهد القديم (لا 19: 18؛ أم 20: 22؛ 24: 29؛ سي 28: 1- 7). نترك الانتقام للرب (وص جاد 6: 7؛ نج 10: 17- 18؛ وثص 9: 2- 5؛ فوقيليد 77). الحياة أمام الجماعة تطلب مثل هذا الطلب.
«ولكن إذا جاع» (آ 20). رج أم 25: 21- 22 حسب السبعينيّة. «بسوميزي» بدل «ترافي» (أطعم). أو نتركه يغرق في خطيئته. أو نترك الأمر لله، فنحتمل الواقع ونتصرّف كما يأمر الربّ. النار تدلّ على الدينونة في الآخرة (الذهبيّ الفم)، الخزي الذي يقود إلى التوبة (أوغسطينس، ايرونيموس، مجمل الشرّاح اليوم). رج حول الموقف الأول، مز 18: 8، 12؛ 140: 10؛ عا 3: 4، 7؛ عو 5؛ أم 6: 27- 29؛ سي 8: 10؛ 11: 32. إفعل الخير مع عدوّك بحيث يصبح العقاب أقسى. هكذا نكون في روح عظة الجبل. وهكذا شدّد بولس، انطلاقاً من أم، على أهميّة الردّ على العدو بالضيافة واللطف. غير أن الوحيُ الأساسيّ يبقى تعليمَ يسوع ومثال حياته.
«لا تدع الشرّ» (آ 21). هي خلاصة لما قيل في آ 14- 21، مع تَقابلٍ بين الشرّ والخير (2: 10). رج وص بنيامين 4: 3؛ نج 10: 17- 18. ووُجدت النصيحة أيضاً في العالم اليونانيّ. ولكن بدأ بولس بكلام عن المحبّة، وشدّد على تأثير تقليد يسوع، بحيث إن الباعث على مثل أسلوب الحياة هذا، هو مثالُ المسيح وعملُ الروح القدس.
3- خلاصة لاهوتيّة
صوّر بولس الجماعة المسيحيّة كجسد، فجاءت النتيجة حالاً: أبغض الشرّ، تمسّك بالخير (آ 9). فهناك خطر بأن تفسُد المواهب وتَبرد المحبّة. تحدّث الرسول بشكل عام، لأن عدم التوازن في العناصر الروحيّة تنتج عنه مواقفُ يراها الناس فيتشكّكون، أو يراه الأتقياء فيبرّرون سلوكهم، مع أن على المسيحيّ أن لا يتوافق مع هذا العالم (آ 2)، إلاّ أن هناك مستوى من الحسّ الخلقيّ يدعونا إلى التنبّه إلى هذا الخطر.
مع آ 10، تفتح صورةُ الجسد الطريقَ أمام العائلة. الحبّ الذي يدعو إليه بولس ويراه ضرورياً، هو أن تعمل الجماعةُ المسيحيّة مثل جسد المسيح. هذا الحبّ قد يكون ضعيفاً. ولهذا كانت أهميّة صدقِه. ووجهة ثانية لهذا الحبّ، هي الاستعداد لاحترام الآخر، واكتشاف المواهب التي فيه. فالحبّ بدون احترام الآخرين هو كذب وباطل.
وتأتي ثلاثة ارشادات (آ 11) فتشدّد على الموقف الأساسيّ: اهتمام وغيرة يعبّران عن حبّ يربط أعضاء عائلة يسوع، ويوجّه الوظائف في جسد المسيح. والمؤمن يترك الروح يعمل فيه، يُشعله، لكي تبقى الحرارة في الجسد. وخدمةُ الربّ والعملُ من أجل الربّ، هما دعوة لكي نعرف إن كان حماسنا هادئاً، ثابتاً، أو هو غير مقيّد بحيث تمرّ أمورنا قبل أمور الكنيسة. نحن نلتزم بالمسيح كالربّ، لا يدفعنا سوى الرغبة في خدمته.
والعبارات الثلاث التالية (آ 12) ترتبط الواحدة بالأخرى: جَمع الرجاء والفرح والضيق والصبر في 5: 2- 5. والصلاة المتواصلة كتعبير عن الصبر في الضيق، نقرأه في 8: 18- 27. كل هذا يتمّ في حياة نعيشُها حسب الروح. فالمسيحي يفرح لا بما أتمّه في نفسه، بل بثقته بالله. مثلُ هذا الرجاء يُسند احتمال الآلام بصبر، ويعلّمنا المواظبة على الصلاة.
ما قيل من إرشادات فرديّة في آ 11- 12، يحيط به ارتباط متبادل وسند مشترك (آ 13). فالغيرة الروحيّة والرجاء الصابر لا يُسندهما الأفراد بما عندهم، بل الجماعة التي تعمل كجسد، كعائلة. ومثلُ هذه الروحانيّة لن تتواصل بدون ممارسة تجعل كل أعضاء الجماعة في راحة. وصف بولس أعضاء الجماعة بالقديسين، فذكّر سامعيه أنهم امتداد لشعب اسرائيل في حقبة النهاية. ومع أن حدود شعب الله رُسمت بلغة الإيمان والنعمة، لا بلغة النسل والشريعة، فالفرائض القديمة، وإن أعيد تحديدها، تبقى دالة على مشيئة الله. وفي رومة بشكل خاص، كانت الضيافة مهمّة بالنسبة إلى التجّار وإلى المسافرين. ليست مناسبة بل هي فرض واجب. هو خير يعرف الجميع قدره.
في آ 14، وسّع بولس نظرته من علاقات داخليّة داخل الجماعات المسيحيّة، إلى علاقات خارجيّة تعيشها الجماعة مع الآخرين. وعى الرسولُ الواقعَ السياسيّ تجاه مجموعة صغيرة تعيش في مدن الامبراطوريّة الرومانيّة، كما وعى الخطر الذي تتعرّض له الجماعات (أو الكنيسة) المسيحيّة في عاصمة العالم الرومانيّ. فاهتمّ أول ما اهتمّ بسياسة تتجنّب القلاقل ولا تردّ على التحدّي بالتحدّي، بل تردّ بالخير على كل عملِ عداوة موجّه عليها. هذا ما كرّره بولس على الأقل أربع مرّات (آ 14، 17، 19، 21)، وأسنده بالكتاب المقدّس. هي سياسة الفطنة واللطف، التي تؤمّن سند المواطنين في المواجهة مع السلطات. وفي شكل خاص، هي سياسة دعا إليها يسوع بالقول والفعل، فتدلّ على حبّ يميّز العلاقات داخل جماعة الإيمان (آ 9- 10، 13).
وعادت آ 15- 16 إلى العلاقات الداخليّة في قلب الجماعة المسيحيّة. هذا لا يعني أن بولس تخلّى عن نظرته الواسعة، بل يجب أن نرى في هاتين الآيتين إشارة إلى الدرجة التي فيها يرى بولس حياة الكنائس المسيحيّة قد اندمجت في حياة المدينة. إن التعاطف مع الذين يجاهدون في الحياة اليوميّة، (آ 15)، في التواضع، وفي التضامن مع المهمّشين (آ 16)، هو جزء من مباركة المضطهِد (آ 14) وعمل الخير لجميع الناس (آ 17). لا يرى بولس حياة المسيحيّ منقسمة في موقعين أو في واجبين: واحد مع الإخوة المؤمنين، وآخر مع اللامؤمنين. فالعاطفة هي ذاتها للجميع، والحبّ لا يرتبط بما نناله من جواب على حبِّنا. والمثال أيضاً هو يسوع المسيح بحياته وأقواله وأعماله.
والعيش في المدينة، يفرض على المؤمنين أن يعيشوا في سلام (آ 18)، وأن تكون علاقاتهم إيجابيّة مع جيرانهم الذين لا يؤمنون، وأن يشتركوا معهم قدر الامكان. يجب أن يُعرفوا بقلبهم المنفتح، بالضيافة للأعداء كما للمؤمنين (آ 20). ومع ذلك، سيكون لهم الاضطهاد (آ 19- 21). لا يريد بولس أن يُجزّئ المؤمنون حياتَهم بين حياة روحيّة وحياة عاديّة، بين حياة في الجماعة وحياة مع الآخرين. فعليهم أن يندفعوا في حياتهم اليوميّة وعلاقاتهم الواسعة، على ضوء المحبّة التي لا تعرف الحدود.
الخاتمة
تكرّست ف 1- 11 للتوسّع في قول لاهوتيّ أساسيّ: الانسان، أيا كان، ينال تبريره من الله. مع ف 12، عالج الرسول مسائل الحياة اليوميّة لدى المسيحيّين في رومة. ناشدهم لكي يفهموا النتائج الضروريّة لما سبق: برّرنا اللهُ برحمته، وهذا ما يدفعنا إلى أعمال ملموسة بحيث نكون ذبيحة حيّة لله. وذلك داخل كنيسة تُشرف عليها المحبّة. لا يهمل المؤمنون ظروفاً يمكنهم فيها أن يمارسوا غيرتهم ولا سيّما على مستوى العون المتبادل. وخرج بولس من داخل الجماعة المسيحيّة، فقدّم نصائح حول علاقة المؤمن بهذا العالم بما فيه من مضايقات لتلاميذ المسيح. فنحن نشهد للمسيح حين نغفر، حين لا نردّ على الشرّ بالشرّ، بل نطلب السلام مع جميع الناس. تلك هي أعمال الرحمة التي تُفهمنا كلام يسوع في نهاية خطبة السهل: كونوا رحماء كما أن الله أباكم رحيم هو.