الفصل السابع والثلاثون: جسد المسيح

الفصل السابع والثلاثون
جسد المسيح
12: 1- 8

نبدأ هنا القسم الارشاديّ. فرحمة الله التي تحدّث عنها الرسول، تدعو المؤمن إلى جواب مماثل مع اخوته داخل الجماعات المسيحيّة. فالذبيحة الجديدة هي العبادة الروحيّة حيث نقدّم أجسادنا، نقدّم ذواتنا، بحيث نكون أعضاء في جسد المسيح. هناك علاقات في الجسد الواحد، ولا سيّما بين اليهود والأمم، في قلب مخطّط الله الخالق. مع اليهود، كانت شريعة تقيم الحدود العرقيّة والمعالم الخلقيّة. فشعب الله هو من يعيش «داخل الشريعة»، هو من «يخضع للشريعة». ولكن بولس ألغى هذه الحدود. الإيمان هو الحدود الجديدة، وختان القلب بالروح هو ما يدلّ على المؤمن الحقيقيّ. إذن، لا بدّ من تقديم توجيهات تدلّ على هويّة شعب الله في حقبة النهاية التي نعيشها. وهو لا يقدّم تعليمات فرديّة وحسب، بل يريد هذه التعليمات من أجل العلاقات بين أعضاء الجماعة، في داخل الكنيسة الرومانيّة، التي نبذت الآن التقسيمات بين يهوديّ ويونانيّ، فتحدّثت عن شعب الله، عن جسد واحد تتنوّع فيه المواهب، لا من أجل المنفعة الشخصيّة، بل من أجل بناء الجسد.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 1، نقرأ «مرضيّة عند الله». في النصّ مع الجرّ (تيو). قلب السينائي وغيره الألفاظ. ولكن لم يتبدّل المعنى.
في آ 2، نقرأ صيغة الأمر (لا تتشبّهوا). هناك شهود مثل بردية 46 والفاتيكاني، جعلوا صيغة المصدر. ونقرأ «عقولكم» مع ضمير المخاطب الجمع. نقص الضميرُ في النسخات القديمة، ثم أضيف.
في آ 7، نقرأ «الخدمة» (دياكونيان). بعض النسّاخ كتبوا «دياكونون» (الذين يخدمون) لأسباب معقولة. أما الاسكندراني، فجعل «التعليم» (ديدسكاليان) محلّ «الذي يعلّم».
في آ 8، حاولت بردية 46 وغيرها أن تلغي «أو» (أو من له).
ب- بنية النصّ
بدأ بولس كلامه بارشاد يُوجز ما يطلبه إنجيله: أساس الحياة بين المسيحيّين، وعلاقاتهم. والتوازن الضروريّ بين التزام شخصيّ وسماح الله. «أناشدكم». هذا هو أسلوب بولس، وأسلوب الرسائل في العالم القديم، سواء الرسميّة منها أم الشخصيّة. وهكذا تهيّأت الطريق للطلبات الخاصة (15: 14 ي). وفي الوقت عينه، عادت الآيات إلى أقسام سابقة في إرشاد يعكس الجدال في هذه النقطة.
1: 24 نجّسوا أجسادهم 12: 1 أن تقدّموا أجسادكم
1: 25 عبدوا الخليقة 12: 1 عبادة روحيّة
1: 28 فساد العقل 12: 2 تجديد العقل
2: 18 وتعرف مشيئته وتميّز 12: 2 لتعرفوا مشيئة الله.
ونجد صدى لما في آ 1- 2 في ف 6- 8 مع قدّم (باراستيساي) في 6: 13، 16، 19، مع «أجساد» (سوماتا) في 6: 6، 12؛ 7: 4، 24؛ 8: 10، 11، 13، 23، ومع تجديد العقل في 7: 23، 25. هكذا يجب أن يعيش المسيحيّون على أنهم تحوّلوا داخل هذا الدهر وداخل الانشداد الاسكاتولوجيّ الناتج. واللافت هو الاستعمال المفاجئ للغة العبادة (ذبيحة، عبادة) بعد أن تحوّلت. رج 2: 18: هي خدمة تنظر إلى تجاوز حدود الشريعة، وهي التزام في كلّ يوم. وطريقة الحياة لا تحدّدها الشريعةُ، بل ادراكُ مشيئة الله في الآن والمكان.
في آ 3- 8، أول مثل يعطيه بولس عن حياة تكتشف ما هو لله، خدمة المواهب في قلب جسد المسيح. وهذا ما يقابل، على مستوى الاسكاتولوجيا، جماعة اسرائيل العباديّة. تعود التوصية (آ 3) إلى 1: 5 وإلى الأسس التي عليها جعل بولس هذا النداء (كرسول للأمم). شدّد على تنبيه يقول بأن لا يغالي الانسان (آ 3)، فذكَّرنا بما قاله للأمم الذين يعتدّون بأنهم اختيروا هم، لا اليهود (11: 7- 24 ولا سيّما آ 20)، كما ذكَّرنا بالجدال مع اليهوديّ المفتخر بالشريعة والختان (ف 2- 4). هذا «نحن» فوق «هم»، هو موقف يراه بولس في قلب فشل اليهود، وكخطر ممكن للمسيحيّين من الأمم. وهذا ما لا يميّز اسكاتولوجيّة شعب الله. و«المعيار» هو دوماً الإيمان الذي يمكن أن يمارسه الجميع. وصورة الجسد في آ 4- 5 توجز المقال الواسع في 1 كور 12 مع وظائف الجسد المواهبيّة.
هي بنية إيقاعيّة في آ 3- 5، تدلّ على نموذج الارشاد. في آ 6- 8 يتّخذ الإرشاد حول لائحة المواهب صيغة الإيجاز الكبير. وليس من قبيل الصدف أن أولى هذه المواهب تضع الانشداد بين النبوءة والشريعة، مع نبوءة تعبّر عن الإيمان. وذروة اللائحة هي موهبة الرحمة، أن كل هذا يعكس، في الحياة اليوميّة، قمّة العلاقات البشريّة في تاريخ الخلاص (11: 30- 32).

2- تحليل النصّ الكتابيّ (12: 1- 8)
ثلاثة أقسام في هذا المقطع. في آ 1- 2، نقرأ المبدأ الذي ينقلنا من عبادة ماديّة مع الشريعة وأعمالها، إلى عبادة روحيّة سوف تتلخّص في المحبّة الأخويّة. فنحن جسد المسيح (آ 3- 5)، وكلُّ واحد عضو في هذا الجسد. فكيف لا نترك التواضع يعمل عمله من أجل بنيان هذا الجسد؟ وتجاه الأعضاء، هناك المواهب التي تتكامل، فتدلّ على حياة جديدة تعيشها الجماعة (آ 6- 8).
أ- العبادة الروحيّة (آ 1- 2)
«فأناشدكم» (آ 1). «اون»، اذن. حرف الفاء. هذا يعني أن الارشاد يتبع ما سبق (ف 9- 11، بل ف 5- 8). يرى اليهود أن اللاهوت والإيمان يعبّران عن الحياة اليوميّة. وما يتبع هو كيف يحب أن يعيش شعب الله الذي حُدّد «بالجديد». «الاخوة». رج 1: 13. «باراكالو». له أكثر من معنى: نبّه، دعا، حثّ، شجّع، طلب، ناشد (في استعمال بولس). فبولس يتوجّه إلى كنيسة لم يؤسّسها ولم يَزُرها. لهذا يأخذ مثل هذه اللهجة في كلامه. رج 2 مك 2: 3؛ 6: 12؛ 9: 26؛ 12: 42. «برأفة». هي صيغة الجمع في اليونانيّة، للدلالة على تعابير رحمة (أويكتيرمون) الله العديدة. رج «ر ح م ي م» في العبريّة، في صيغة الجمع (كما في السريانيّة: رح م ا). رج 2 صم 24: 14؛ 1 أخ 21: 132؛ مز 25: 6؛ 40: 11؛ 51: 1؛ اش 63: 15. برزت الرحمة فدلّت على ارتباط هذا المقطع بما سبق (بشكل تصالب، آ 1، آ 8). «ديا» (ب، بواسطة). أي مع نداء إلى. باسم (15: 30).
«أن تقدّموا» (تجعلوا حقيقة). بل أن تقربوا. هي لغة الذبائح. وإذ يقرِّب الانسان جسده، يقدّم ذاته بكلّيتها. «ذبيحة» (تيسيا). لغة الذبائح عُرفت في العالم اليهوديّ كما في العالم اليونانيّ. رج مز 50: 14، 23؛ 51: 16- 17؛ 141: 2؛ أم 16: 6؛ أش 1: 11- 17؛ مي 6: 6- 8؛ سي 35: 1؛ طو 4: 10- 11. ترد الذبيحة هنا في إطار اسكاتولوجيّ. ولكن الاباء تحدّثوا عن الافخارستيّا في الحياة اليوميّة. رج 15: 16. «حيّة». هذا ما يقابل الذبائح حيث الحيوانات تموت. «مقدّسة». توضَع الذبيحة جانباً، تخصَّص لله فتصبح ملكَ الله (فيلون، الشرائع الخاصة 1: 221). «مرضية» لدى الله. رج حك 4: 10؛ 9: 10؛ وص دان 1: 3. «عبادة روحيّة». نجد «لاترايا» (عبادة) 9 مرات في السبعينيّة مع ارتباط بالعبادة اليهوديّة. «لوغيكوس» (روحيّة). لا ترد في السبعينيّة، بل في العالم اليونانيّ ولا سيّما الرواقيّ. ما يرتبط ب «لوغوس»، العقل، الكلمة. هذا يعني عبادة يقوم بها البشر وحدهم.
«ولا تتشبّهوا» (آ 2). «سخيما». شبه. هناك من تحدّث عن تحوّل خارجيّ، سطحيّ. نلاحظ في الفعل المسبِّق «سين» (مع): لا تأخذوا شبهاً مع. رج 1 بط 1: 14. صيغة الأمر تدلّ على المسؤوليّة: أن يقبل الانسان أو أن يقاوم، «هذا الدهر» (أيون). يستعمل بولس مرّات عديدة هذا اللفظ. رج 1 كور 1: 20؛ 2: 6، 8؛ 3: 18؛ 2 كور 4: 4؛ أف 1: 21. هي مقابلة بين هذا الدهر والدهر الآتي. يجب أن نلاحظ أن بولس لا يدعونا إلى تهرّب من هذا الدهر، من هذا العالم، ولكنه يدعونا إلى حريّة باسم المسيح، بحيث لا ندخل في بنية عالم يمكن أن يعارض الانجيل. «بل تغيّروا». كل الديانات تتحدّث عن هذا التغيير. وهنا تحوّل في الأفكار. هو تحوّل بدأ ويتواصل (2 كور 3: 18؛ 4: 16 ي؛ فل 3: 10- 11). هذا يرتبط بموت المسيح وقيامته، بالبعد الاسكاتولوجيّ. ما حصل الآن، وما لم يحصل بعدُ. واستُعملت صيغة المجهول هنا، فدلّت على أن الله هو الذي يقوم بهذا التغيّر.
«أناكاينوسيس»، تجديد. لا يرد إلاّ في الأدب المسيحيّ، ولا سيّما عند بولس. إن ضمَّ «التغيّر» إلى «التجديد»، يوازي بين التواصل وعدم التواصل. هناك تواصل على مستوى الموضوع. غير أن المواقف الاساسيّة قد تتبدّل، ويَبرز منظورٌ جديد. هذا التبدّل ضروريّ لليهوديّ كما للوثنيّ (2 كور 4: 16؛ فل 3: 10). لا يتحدّث بولس هنا عن الينبوع المباشر لهذا التجديد، ولكنه يشير بشكل أكيد إلى الروح القدس (2 كور 3: 18؛ 4: 16). «نوس» (العقل، يرد 24 مرّة في العهد الجديد، منها 21 مرّة عند بولس). هو لفظ محبوب لدى الرواقيّين وفيلون. موقف عقلانيّ، برهان عقليّ، يدلّ على تدخّل العقل، لا العاطفة. «لتعرفوا» (دوكيمازاين): تميّز، تحقّق، اختبر. هي إمكانيّة المسيحيّ أن يكوّن حُكماً أخلاقياً مسيحياً صحيحاً في كل وقت. رج فل 1: 9- 10؛ 1 تس 5: 21؛ أف 5: 10، 17؛ 1 يو 4: 1. لا، ما عادت الشريعة هي القاعدة إن لم تنبع من الداخل. «ما هو صالح» (اغاتوس). رج 2: 10؛ 7: 12- 13، 18- 19: ما يوافق عليه شعب روحيّ وصاحب حسٍّ خلقيّ. نحن في الواقع أمام بحث عن مشيئة الله في الحياة اليوميّة.
ب- صورة الجسد (آ 3- 5)
«وأوصي» (لاغو). وأقول. (آ 3). هو أمر: 2: 22 و12: 1 مع 12: 3؛ 1 كور 7: 8 مع 7: 10. وقد يكون تنبيه مع سلطة نبويّة، أو الوحي (غل 1: 9؛ 5: 2؛ مت 3: 9= لو 3: 8؛ يوب 36: 11). «بفضل النعمة». النعمة لي (15: 15؛ 1 كور 3: 10؛ غل 2: 9؛ أف 3: 2، 7). النعمة لنا (12: 6). النعمة (خاريس) كصفة، كقوّة، تعبّر عن نفسها في الموهبة (خارسما). هي النعمة في رسالته مع السلطة المرتبطة بها. قد يكون هناك اختلافات على مستوى الواجب، على ما كان في كورنتوس: «أن لا يغالي». «فروناين» (فكر). «هيبار» (أكثر، بمغالاة). نفكّر في نفوسنا. وقد أخذ هنا المعنى السلبيّ. قد لا يكون بولس فكّر بمجموعة محدّدة، فتطلّع إلى خطر ممكن في الحلقات المواهبيّة. «في تقدير نفسه». «ماترون» قياس، واسطة قياس، نموذج. هذا يعني أن الجميع ليس لهم «القياس الواحد». هناك في الواقع قياس واحد، هو قياس الإيمان. فالإيمان هو مفتاح كلّ عمل بشريّ وكلّ موقف إيمانيّ. هو الوسيلة التي بها يُتمّ الله عملَه الخلاصيّ.
«فكما أن لنا أعضاء» (آ 4- 5)... كذلك، الجسد (سوما) الواحد له أعضاء (مالي) كثيرة. نحن هنا في توازٍ داخل آ 4- 5. وهذه الأعضاء ليس لها الوظيفة (بركسيس) عينها. وكذلك الأعضاء في الجماعة المسيحيّة الذين يكوّنون جسد المسيح. إن قبول الانجيل يضمّنا إلى المسيح. لم نعد على مستوى الفرد، بل على مستوى الجماعة. مثلُ هذا البرهان اللاهوتيّ لا يحتاج إلى عرض مطوّل. نحن نتبرّر في الإيمان. نحن في المسيح. وأخذ بولس صورة الجسد منطلقاً ممّا يُقال عن المدينة في الحضارة القديمة. أما العلاقة مع آدم فليست واضحة بشكل مباشر، ولكن يمكن أن تكون كخلفيّة لهذه الصورة. هناك من تكلّم عن الشخصيّة المتضمّنة (الفرد يتضمّن المجموعة)، أو عن جماعة العشاء الأخير، أو عن تماهٍ مع جسد المسيح الذي صُلب وقام. أما نحن فنرى تأثيراً من خبرة الجماعة التي تشارك في حياة المسيح (كوينونيا). هي خبرة الافخارستيا (1 كور 10: 16) وخبرة الروح أيضاً (2 كور 13: 13؛ فل 2: 1)، الذي يُتمّ وحدة الكنيسة ووحدة الجسد (1 كور 12: 12- 13؛ أف 4: 3، 7- 13). يبرز هذا مع 1 كور 15: 45 (صورة آدم الأخير مع عمل الروح الذي يعطي الحياة) ومع السياق المباشر في علاقة الكنيسة بالمواهب. فالجماعة المسيحيّة كجسد تُوجد لأجله كجماعة مواهبيّة. في هذا الإطار من مواهب النعمة، استعمل بولس صورة من العالم القديم، فتحدّث عن الجسد الواحد والأعضاء العديدة.
ج- المواهب الروحيّة (آ 6- 8)
«ولنا مواهب» (آ 6). بعد أن نلنا مواهب تختلف حسب النعمة المعطاة لنا، فلنستعملها. هذا القول هو امتداد للصورة في آ 4- 5 مع «أعضاء بعضنا بعضاً»، هو ما يصوّر الجماعة في أعمالها: واحد يعلّم. هو عضو. واحد يعظ. هو عضو. وعملُ التعليم هو ممارسة (بركسيس). وتأتي آ 6- 8 فتدلّ كيف يعمل جسد المسيح كجماعة مواهبيّة. «خارسما». رج 1: 11. مع تجلّ ملموس في الكلام أو في العمل. والتوازي بين اللفظين يبقى إن رأينا في النعمة، الينبوعَ الذي منه تخرج المواهب. «لنا». هذا لا يعني الامتلاك. نحن نختبر النعمة على أنها عطاء، علاقة بين الله والانسان، بين الخالق والخليقة، بين السيّد والعبد. الموهبة لا تحدَّد فقط بامكانيّة الخدمة. حينئذ يضيع معناها. «خارسما» هي في الواقع «خاريس» التي تصبح منظورة في حياتنا اليوميّة وفي عملنا كأعضاء الجسد الواحد مع ارتباط متبادل في ما بيننا.
النبوءةِ، التعبير عن كلام الله، الكرازة بالكلمة. نتكلّم بدون الروح. لا تُذكر النبوءة إلاّ هنا في روم. ولكن إذ جعلها بولس في رأس اللائحة، جاء منطقياً في الكلام عن أولويّتها، كما في 1 كور 14: 1، 39؛ 1 تس 5: 19- 20. في لائحتين تتكلّمان عن الشخص لا عن الموهبة، يأتي الأنبياء بعد الرسل (1 كور 12: 28؛ أف 4: 11). والسبب هو أن النبوءة تبني الجماعة أكثر من المواهب (1 كور 14: 3- 5)، وتحمل لها الخير، والتشجيع والتعزية (1 كور 14: 3، 31)، والوحي ومعرفة التراث في التواضع (14: 24- 25). ولا ننسى أن النساء يمارسن هذه الموهبة (1 كور 11: 5؛ أع 2: 17؛ 21: 9). «وفقاً للإيمان». بالنسبة إلى الإيمان. في علاقة حميمة بالإيمان. بقدر الإيمان. هذا يعني أن الإيمان هو موهبة يمارسها من يتنبّأ. في هذا الإطار نفهم أنه يمكن أن تكون نبوءة كاذبة. وهذا خطر وعاه بولس حين تكلّم عن موضوع النبوءة في 1 كور 12: 40؛ 14: 29. لهذا يرتبط المؤمن بالله الذي يعطي كلمات لا يمكن بدونها أن تكون نبوءة.
«ومن له موهبة الخدمة» (آ 7). دياكونيا. يستعمل بولس الكلمة ليتحدّث عن كل موهبة هي في نظره خدمة (1 كور 12: 4- 5؛ أف 4: 12). وعن خدمته هو (11: 13؛ 2 كور 3: 8- 9؛ 4: 1؛ 5: 18)، وعن التبرّع من أجل كنيسة أورشليم (15: 31؛ 2 كور 8: 4؛ 9: 1، 12- 13). هنا يتحدّث بولس عن عمل محدّد في حياة الفرد، لا عن خدمة تمتدّ إلى الحياة كلها. «موهبة التعليم». يرتبط المعلّم (مثل النبيّ) بالروح ليرى العبارات التقليديّة ويعطيها معناها التام في حياة الجماعة. في هذا الإطار لا يكون الفرق كبيراً بين التعليم والنبوءة: هذه تنظر إلى إرادة الله. وتلك تقيم داخل الوحي. إن بولس أعاد صياغة الحكمة اليهوديّة وتقليد يسوع في الإرشاد (12: 9 ي)، فدلّ على مثل هذا التوازن بين الموهبتين.
«موهبة الوعظ» (آ 8). رج 1 تم 4: 13: باراكليسيس». حث، ألحّ (1 كور 4: 16؛ 2 كور 10: 1؛ 1 تس 5: 11). أصرّ (1 كور 16: 12؛ 2 كور 12: 18؛ فلم 10). عزّى، شجّع (2 كور 1: 4؛ 7: 6- 7؛ 1 تس 3: 7). رج «باراكاليو» (ناشد) (آ 1). مثلُ هذه الموهبة تبقى مهمّة في الجماعة. «ومن يُعطي». أعطيَ ليشرك الآخرين في ما يملك (ماتاديدومي). «هبلوتيس» (صدق، بساطة). هي مشاركة في الطعام، في الملك. رج أي 31: 17؛ رسالة ارميا 27؛ فيلون، يوسف 144؛ الشرائع الخاصة 2: 71، 107؛ 4: 74؛ لو 3: 11؛ أف 4: 28؛ ق أع 2: 45؛ 4: 34- 37. «ومن يرئس» (بروإستيمي). كان قدّام. كان في الرأس. من هنا، رأسَ، قاد. رج 1 تم 3: 4- 5، 12؛ 5: 17. ويعني الفعل أيضاً اهتمّ، عاون. وقد يكون هذا «القائد»، المحاميَ عن الجماعة بسبب مركزه الماليّ أو الاجتماعيّ. «سبودي» الاجتهاد، الجديّة. وفي المعنى الدينيّ: الغيرة. هذا ما يدلّ على الحيويّة والنشاط. «ومن يرحم». هي المرة الوحيدة التي يستعمل فيها بولسُ فعل «رحم» (إلايو) عن الانسان، لا عن الله (9: 15- 16، 18؛ 11: 30- 32؛ 1 كور 7: 25؛ 2 كور 4: 1؛ فل 2: 27؛ 1 تم 1: 13، 16). هي الرحمة يشكل عام (أم 14: 21، 31؛ وص يساكر 5: 2؛ وص زبولون 7: 2؛ 8: 1): اهتمام بالمرضى، بالفقراء، بالشيوخ والمعاقين. هكذا تعمل الجماعة كأنها جسم متكامل. والسخاء والسرور والاجتهاد هي وجهات من النعمة (خاريس) التي تتجلّى في المواهب (خارسماتا).

3- خلاصة لاهوتيّة
قدّم بولس موضوعه (آ 1) مستعملاً لغة العبادة والذبيحة. فهذا مهمّ من أجل هويّة شعب. والمشاركة في العبادة الطقسيّة تدلّ على انتماء إلى المجموعة. وهكذا كان النظامُ الذبائحيّ أهم تعبير عن عهد يميّز اسرائيل كشعب الله. غير أن تحديد بولس لشعب الله، بدّل الحدود. إذ ربط دور الشريعة بشعب الله الاسكاتولوجيّ، فماذا بقي من مقاطع واسعة من الشريعة تتكلّم عن الذبيحة ومركزيّة العبادة في أورشليم؟ فأجاب بولس: الذبيحة التي يريدها الله ليست حيواناً يُذبَح في الهيكل. بل الالتزام الحياتيّ في علاقات داخل المجتمع. انتقلت حدودُ العبادة الطقسيّة من الشعائر الطقسيّة إلى الحياة اليوميّة، وتحوّلت إلى تعبير لاطقسيّ. هكذا تتميّز الجماعات المسيحيّة في رومة، التي يفهمها بولس أنها ليست أدنى من الذين يمتلكون العبادات والذبائح. كما يفهم أن مثل هذه الذبيحة، يجب أن لا تصبح عبادة فارغة، أو ثنائيّة تفصل حياة التقوى عن الالتزام اليوميّ في العالم.
وهكذا صار الهدف الرئيسيّ للارشاد الثاني (آ 2) معرفة إرادة الله. فالحياة في رفقة الاله هي الموضوع الأساسيّ لكل ديانة، في كل عصر، وفي العالم اليهوديّ. هي ملخّص كل فريضة لدى شعب الله. وهذا يعني السير في طريق الله، حسب الوصايا والأحكام، حسب شريعة الله. وهنا أيضاً أعاد بولس تحديد شعب الله. صوّر اليهوديّ كمن يعرف إرادة الله ويميّز ما هو صالح. ولكن هذا لا يعني ممارسة كل أحكام الشريعة. فبالنظر إلى شعب الله الاسكاتولوجيّ، يجب أن نعرف الانشداد الحياتيّ بين دهرين: من جهة، نقاوم خطر التكيّف مع قيم هذا الدهر، ومن جهة ثانية، نَخضع لقدرة القائم من الموت من أجل تجديدنا. بهذه الكلمات، قدّم بولس الأساس لحياة مسؤولة، وللارشاد الذي سيأتي في الآيات اللاحقة.
بدأ بولس نداءه وأنهاه (آ 3) بلغة «النعمة» و«الإيمان». بالنعمة (التي أعطيت لي) حثّ المؤمنين، وما دفعهم دفعاً. فمثل النداء في آ 1 (مراحم الله)، عاد بالأحرى إلى عمل الله الرحيم وقدرته المجانيّة لتكون المقياس الوحيد داخل شعب الله. وهكذا هيّأنا لوصف الجماعة المسيحيّة العاملة بالمواهب في وحدة الجسد (آ 4- 6). كلام بولس هو كلام النعمة التي تجد تعبيرها في المواهب. فإذا اردنا الافتخار نفتخر بلغة الإيمان. فقبول الآخر هو وجهة من وجهات الإيمان. وحدها نعمة الله تعبّر عن نفسها كنعمة، بحيث لا يُفسدها الاعتدادُ. الله يعمل بالإيمان، وبالإيمان فقط. وثقة الخليقة غير المشروطة هي أساس علاقة الانسان بالله، وأعضاء شعب الله بعضهم ببعض.
وبعد أن حذّر بولس (آ 4- 5) من الخطايا التي تدمّر عمل نعمة الله، صوّر الجسد. لا وحدة وطنيّة ولا عرقيّة. هو التماسك الذي يجعلهم يعملون معاً دون ارتباط بحسّ وطنيّ أو تضامن عرقيّ. كما يحذّرهم من فكرة غامضة تتحدّث عن المواطن في المدينة. إنهم جسد واحد في المسيح. وفي المسيح فقط يعملون كجسد. وعبارة «في المسيح» تقابل كل النماذج الباقية على أي مستوى كانت.
وبما أننا جسد المسيح (آ 6- 8)، أو جسد واحد في المسيح، كان كلام عن المواهب التي تدلّ على أقول أو أعمال تعبّر عن نعمة الله من أجل البشر. هذه المواهب هي وسيلة النعمة. والتشديد على النعمة كينبوع وقياس هذه المواهب (توافق النعمة التي أعطيت لنا)، يُبرز مرّة أخرى ما في اساس هذه الرسالة: طريقة حياة يرضى بها الله. لا تكون بأن نعيش بحسب امكاناتنا، بل في ارتباطنا بالله. والمواهب تبقى مواهب بمقدار ما تعبّر عن النعمة، وإلاّ تصبح أقوالاً بشريّة وأعمالاً بحسب الجسد.
«نحن الكثيرين» (آ 5). هذا يعني أن لا يكون أحد خارج الجماعة. كلهم نالوا مواهب، بحيث لا يكون هناك مواهبيّون ولامواهبيّون. كل واحد عضو في جسد المسيح، إذن، لكل واحد وظيفة في هذا الجسد، ترتبط بموهبة من المواهب.

خاتمة
بعد أن وضع الرسول الأساس من أجل حياة مسيحيّة، في عبادة صالحة، كاملة، مرضيّة لله، توقّف عند جسد المسيح كإطار اجتماعي للإيمان. خاف على الجماعة من الانقسامات، لا بين يهود وأمم فحسب، بل بين أصحاب المواهب الروحيّة، وتفوّق موهبة على الأخرى. لا شكّ في أن بولس لا يعرف رومة كما يعرف كورنتوس التي جعلت موهبة الألسن في القمة فجعلها بولس في أدنى الدرجات. ولكنه مع ذلك تحدّث عن عدد من المواهب على مستوى القول وعلى مستوى العمل، وذلك داخل الجسد الذي هو جماعة رومة. تحدّث عن النبوءة والخدمة والتعليم والوعظ والمشاركة والاهتمام بالآخرين. وفي النهاية تحدّث عن الرحمة وكأنها الفضيلة التي تعطي سائر المواهب قيمتها. هنا نتذكّر القديس لوقا الذي أنهى عظة السهل بهذا الكلام: كونوا رحماء كما أن أباكم السماويّ رحيم هو. فالرحمة هي الفضيلة الكبرى التي تقابل الغضب تجاه الخطيئة، وتنظر إلى المؤمنين من الأمم ساعة كانوا بعد في الخطيئة، وإلى اليهود الذين ما زالوا يرفضون كلام الانجيل. وكما بدت الرحمة خلاصة هذه المواهب المسيحيّة، كذلك كانت المحبّة، في الرسالة إلى غلاطية، ثمرة الروح التي نبع منها الفرح والسلام والصبر واللطف والصلاح. هذا ما تعمله النعمة في المؤمنين فتمجّد الله داخل الجماعة المؤمنة عبر محبّة أخويّة، وخارج الكنيسة بحيث يكون المسيحيون أبناء النور في عالم ما زال أكثره وثنياً.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM