الفصل الخامس والثلاثون: الرجاء بعودة بني اسرائيل

الفصل الخامس والثلاثون
الرجاء بعودة بني اسرائيل
11: 11- 24

نحن هنا في المحطة التالية من برهان أشار إليه 10: 19- 21. بعد أن بيّن بولس أن قساوة قلب اسرائيل في هذه المرحلة من تاريخ الخلاص قد نظر إليها الله كما نظر إلى موقف فرعون في مرحلة ثابتة، أسرع فأضاف أن هذا ليس الخبر كله. فعقابُ الله لأكثريّة اسرائيل، ليس العمل الأخير في تاريخ الخلاص. والكتب التي تهدّد، ليست كلمة الله الأخيرة في شأن اسرائيل. وهكذا عاد بولس إلى آ 1 ليتكلّم عن زلّة لا تصل إلى الدمار. كانت زلّتهم موقتة، وهم ما أداروا وجههم بحيث لا يستطيعون أن يتابعوا سعيَهم. وجاء التعارض بين زلّة سبّبها عائق، ونحن نقوم بعدها. وبين زلّة لا أمل بالوقوف بعدها. إن عدم أمانة اليهود زلّة عابرة أرادها الله من أجل اهتداء الوثنيّين ثم اهتداء اليهود. وفي النهاية، يجعل الله الغيرة في قلوبهم من أجل خلاصهم. فيا ليت هذه الغيرة التي بها قاوموا الانجيل، تتحوّل إلى غيرة من أجل الانجيل لكي تعود البشريّة كلُّها إلى الله.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في بداية آ 13، نجد حرف العطف «دي» (لكن). ولكن عدداً من المخطوطات كتبت: مان أون: فإذن. «افتخر». في صيغة الحاضر. جعلتها برديّة 46 ومخطوطات أخرى في صيغة المضارع: سوف أفتخر.
في آ 16 نقرأ «وإذا» (أي). ألغتها برديّة 46 ومخطوطات غيرها، ولكن الأمر عرضيّ.
في آ 17، ألغي «أصل» (ريزا)، أو جُعل بعدها «كاي» (واو العطف). أراد النسّاخ أن يحسّنوا لغة بولس اليونانيّة.
في آ 19، أدخل الكودكس البازي وغيره أل التعريف (هوي) أمام «فروع» ليقولوا إن جميع الفروع قُطعت.
في آ 20، بعض المخطوطات صحّحت «هيبسيلا فروناي» (تتصرّف عالياً، تفتخر)، فصارت بالنفي «هيبسيلوروناي».
في آ 21، نقرأ «مي بوس» (لا كيف). قد يكون هذا النصّ الأصليّ. أو «هيبوس» كما في آ 1 ب.
في آ 22، نقرأ «لين الله». ولكن تُرك لفظُ «الله» (تايو) للمحافظة على التصالب. فصار النصّ: «واللين لك».
ب- بنية النصّ
الصعوبة في بنية هذا المقطع (هناك من يجعل القطع بين آ 15 وآ 16. وآخر، بين آ 12 وآ 13. وثالث يقرأ 11: 1- 6 ثم 11: 7- 16)، تقوم في أنه ينطلق من واقع وهو أن بولس، مع كل قول، يستعدّ ليصل مرة واحدة إلى السرّ النهائيّ (11: 25- 32) بحيث يبدو أنه يكرّر نفسه بدون ضرورة. يستعيد بولس الأقوال ليجمع في قولٍ واحد خيوط البرهان السابق، وهو سيتهيّأ ليكشف النموذج الكامل. في آ 11- 12، كلام عن زلّة اسرائيل (9: 32- 33) وعن تحريك الله لهم (10: 19). في استطراد ظاهر (آ 13- 14)، صاغ بولس الكلمة المفتاح (بارازيلوماي، أثار الغيرة، آ 11). تذكّر الجماعات الرومانيّة من منظاره الخاص، وعلى ضوء تاريخ الخلاص، بيّن مرّة أخرى إلى أي حدّ ضُمّت رسالةٌ شخصيّة إلى مقال لاهوتيّ، فجعلتنا نشعر أن جسم الرسالة هو دفاع بولس عن نفسه، إلى درجة ما. وتستعيد آ 15 فكرة آ 12، وتُبرز معنى النهاية القريبة التي تدفع برسالة بولس إلى الأمام.
وتشكّل آ 17- 24 وقفةً في الارشاد، قبل الذروة في حلّ العقدة (آ 25- 32) مع آ 16 كجسر بينها. استعاد بولس أسلوب الجدال مع كلام في صيغة المخاطب المفرد (أنت) (آ 17، 18، 20، 21،22، 24)، فتوجّه إلى اعتداد المؤمن الأمميّ وافتخاره (آ 17- 18 أ). إن صدى اللوم السابق لاعتداد اليهوديّ قد أراده بولس لأن الخطر هو هو: فجزء في داخل شعب الله (الشجرة عينها)، مادة لأجلها يفتخر فيها «نصف» على «نصف». ويتقوّى التنبيه في برهان مثلّث: أنتم الأمم ما زلتم مرتبطين بأهلكم اليهود (آ 18 ب). إن سقطتم في الضلالة عينها مثل اليهود الذين لم يؤمنوا، تشاركونهم في المصير عينه (آ 19- 22). هم يستطيعون، بطريقة أسهل منكم، أن يُطعّموا في مخطّط الله الخلاصي (آ 23- 24). وهكذا يعود الإرشاد إلى آ 12 وآ 15 ليقودنا بشكل طبيعيّ إلى آ 25- 32.
على مستوى الأسلوب نلاحظ بعض السمات. تكرار «أي دي» (فاذا). رج آ 12، 16، 17، 18. «أي غار» (فاذا). رج آ 15، 21، 24. وعادت عبارة «فكم بالأولى» (بوسو مالون في اليونانيّة، ق ل. وه م ر في الأراميّة) في آ 12 وآ 24. استعمال أسماء مع (- ما) في آ 22 بحيث نتذكّر 5: 16- 17. ويأتي التوازي في آ 12 كما يلي:
زلّتهم (باراكتوما) غنى العالم (بلوتوس كوسمو)
نقصانهم (هيتيما) غنى الأمم (بلوتوس إتنون)
إكتمالهم (بليروما).

2- تحليل النصّ الكتابيّ (11: 11- 24)
يتوجّه النصّ إلى اليهود وإلى الأمم، بعد أن صاروا على قدم المساواة في مجال الاختيار. بل إن الأمم تفوّقوا على اليهود لأنهم آمنوا. انطلق بولس من زلّة اليهود التي ستكون للخلاص (آ 11- 12)، فتوجّه إلى الأمم (آ 13- 15)، وأعطى صورة الخميرة والزيتونة (آ 16- 21). وأنهى توسّعه في كلام عن لين الله وشدته تجاه الذين آمنوا وتجاه الذين سقطوا (آ 22- 24).
أ- زلّة اليهود (آ 11- 12)
«وأما أنا فأقول» (آ 11). وثق بولس أنه فهم الله وقصدَه، فقدّم جواباً أكيداً لا تردّد فيه. «بتايو». زلّ، سقط. في السبعينيّة: هُزم. رج 1 صم 3: 2، 10؛ 7: 10. ومن هُزم يستحقّ اللوم. رج 9: 33 (التوازي مع الفكر اليهوديّ. رج سي 37: 12؛ وص جاد 4: 3؛ فيلون، استعارات الشرائع 3: 66؛ يع 2: 10؛ 3: 2 (سقط في الخطيئة). «هينا» (لكي). الزلّة تقود إلى السقوط. «مي غينويتو» (كلا أبداً). رج 3: 4. ولكن زلّتهم. «بارابتوما»، زلّة قدم. «سوتيريا» (الخلاص). يحافظ النصّ على اتجاهه الاسكاتولوجيّ. فبولس ينظر إلى الذروة النهائيّة. «الأمم» (غير اليهود). رج 1: 5. أثار الغيرة (بارازيلوو). رج 1 مل 14: 22؛ مز 78: 58؛ سي 30: 3. الله الذي يثير الغيرة (لا ذاك الذي تُثارُ غيرته) أمرٌ فريد. قد يتذكر بولس 10: 19 مع ايراد تث 32: 21 ب. هذا ما يقابل ما نقرأ في وص زبولون 9: 8 (تطلّعت كلّ الأمم إلى غيرته. الله يعاقب اسرائيل ولا ينبذه. وإن هو فعل، فلخيره). رج أم 3: 11- 12؛ حك 11: 1- 14؛ 2 مك 6: 16؛ مز سل 10: 13؛ فيلون، الأقلّ، 144- 146 وتبرز آ 12 في صيغة متوازية: إن كانت زلتهم تعني غنى للعالم، ونقصانهم غنى للشعوب، فكم بالأحرى اكتمالهم.
«زلة». رج آ 12. «بلوتوس» (غنى): استعارة للكلام عن الغنى والوفر. تجاه الفقر النسبيّ في الظروف العادية، هناك الوفر المتعالي، الاسكاتولوجيّ. رج 2: 4؛ 9: 23؛ 11: 33؛ فل 4: 19؛ كو 1: 27؛ أف 1: 17، 18؛ 2: 7؛ 3: 8، 16. يقابل بولس بين وضع اسرائيل الآن، وقمّة مخطط الله من أجل العالم، مع بركات الخلاص التي فُتحت للأمم. ذاك هو الخير الذي يحمله الانجيل (1 كور 1: 5؛ 2 كور 9: 10؛ كو 2: 2). «كوسموس» (العالم). رج 3: 6 (هنا يقابل «الأمم»). العالم تجاه اسرائيل الذي زلّ (يريد أن يتميّز عن شعوب العالم). «هيتيما»، نقصان، فشل. نقرأ اللفظ فقط في اليونانيّة البيبليّة. رج اش 31: 8؛ 1 كور 6: 7. وقد يكون المعنى: الهزيمة. وتجاه هذا النقصان، يكون الكمال، الاكتمال (بليروما). ما هو مليء. ما امتلأ. أجل، لا يرضى بولس بأن تخلص بقيةٌ فقط. بل يريد لهذا الخلاص أن يكتمل.
ب- كلام إلى الأمم (آ 13- 15)
«والآن أقول» (آ 13). هي صيغة المخاطب الجمع: لكم. يتوجّه الرسول إلى الأمم (غير اليهود) في كنيسة رومة (هذا لا يعني أن كنيسة رومة تألّفت فقط من الأمم). غير أن الأمم كانوا الأكثرية، ولا سيّما بعد قرار كلوديوس الذي طرد اليهود من رومة سنة 49. ربّما أراد الأمم أن يأتوا ببولس إلى جانبهم ليبقى اليهود وحدهم، في عزلة (وهذا عكس ما حدث في انطاكية حيث صار الأمم وحدهم بعد أن تركهم بطرس وبرنابا، رج غل 2: 11 ي). بدأ بولس فأعلن أنه رسول إلى الأمم. «بقدر ما أنا رسول». كأني بالرسول يريد أن ينتقل إلى موضوع آخر. خدمتي (دياكونيا. رج 12: 7). «دوكسازو». افتخر، رفع رأسه. أعطى نفسه لهذه الخدمة، وما ترك شيئاً له. هو افتخار يقود إلى العطاء. من أجل هذا يشكر بولس الله. رج 1 كور 1: 4؛ فل 1: 3: كو 1: 3؛ 1 تس 1: 2؛ 2: 13؛ 2 تس 2: 13؛ أف 1: 16.
«لعلي أثيرُ غيرة» (آ 14). «آي بوس» (لعلي). تدلّ على الانتظار والتمني مع الرجاء. في الواقع، حين يمضي بولس إلى الأمم، فهو يفكّر باليهود لعلّهم يغارون. «بني قومي». حرفياً: جسدي. أي جسدي ودمي، أقاربي. والهدف أن يخلّص (سوزو). هو عمل الرسول (1كور 9: 22). بعضاً منهم. الواقع هو الذي يُجبره على ذلك. عملُ بولس هو جزء من عمل الله النهائيّ، عمل الخلاص.
«فإذا كان رفضُهم» (آ 15). هي بنية آ 12 أ. لا يكرّر بولس كلامه، بل يعبّر عن عمل الله بشكل إيجابيّ (رذل أو قبول)، ويوضح لماذا يريد أن يدفع اسرائيل إلى الخلاص (النجاح الأخير للرسالة بين الأمم، يرتبط بقبول اسرائيل لهذا الخلاص). «ابوبولي». رفض، رذل، المعنى الناشط. الله استبعدهم، رذلهم. «كاتالاغي» (مصالحة). رج 5: 10 مع التوازي التالي:
5: 10 11: 15
إن أعداء إن كان رذلُهم
مصالحة مصالحة
فكم بالأولى فماذا ... إلاّ
حياة حياة.
ونقرأ أيضاً في 5: 9- 10 عن الخلاص، وكذلك في آ 11، 14. لا شكّ في أن بولس يتطلّع إلى موت المسيح. لا يتكلّم بولس هنا عن مصالحة قُبلت (2 كور 5: 18- 20)، ولا عن عالم تصالح فيه اليهود والأمم (أف 2: 16). «قبولهم» (بروسليمبسيس). لا ترد هذه اللفظة إلاّ هنا في اليونانية البيبليّة. هي مبادرة الله التي يمكن أن يتجاوبوا معها. «زوئي» (الحياة). هي عطيّة من الله ذات طابع اسكاتولوجيّ. حياة الدهر الجديد التي اختبرناها في هذا الدهر، وتتواصل. رج 5: 17؛ 8: 2، 6، 10. الحياة الأبديّة. رج 2: 7. حياة من بين الأموات. هي القيامة (6: 13). إذا قُوبل اهتداء الوثنيين بالحقبة الأولى من عمل الفداء (مصالحة العالم)، فاهتداء اسرائيل يقابَل مع القيامة الأخيرة. وإذا كانت إقامة الموتى معجزة كبيرة، فكم تكون معجزاتُ اهتداء البشر.
ج- صورة الزيتونة (آ 16- 21)
«إذا كانت الباكورة» (آ 16)! أبارخي. رج 8: 23. تطلب الشريعة تقديم جزء من العجين. رج عد 15: 17- 21. مقدسة (أغيا). هذا يدلّ على قداسة الذبيحة التي تقدّم لله من قبل اليهود والأمم. رج فيلون، الشرائع الخاصة 1: 131- 144. نتذكّر أن جماعة قمران دعت نفسها «جماعة القداسة» (ع ص ت. هـ ق د ش). نج 2: 25؛ 8: 21؛ مد 7: 1؛ وثص 20: 25. «وإذا كان الأصل» (ريزا). هي علاقة مماثلة على مستوى الكميّة (الجزء والكل) وعلى المستوى العضويّ (الأصل والغرسة). ارتباط الفروع بالأصل. رج أي 18: 16؛ إر 17: 8؛ حز 31: 9؛ هو 9: 16؛ سي 1: 20؛ 40: 15. وهنا صورة اسرائيل الذي هو غرسة الربّ. مز 92: 13؛ إر 11: 17؛ مز سل 14: 3- 4؛ 1 أخن 10: 16. «نبْتُ البرّ». رج يوب 1: 16؛ 7: 34؛ 16: 26.
«فإذا قُطعت» (آ 17). «بعض» (تيناس). هنا البعض رُذلوا. وما كلّهم رُذلوا. «إكلاوو»، قطع. هي صورة من عالم الزراعة تُطبّق على الله (صيغة المجهول) «أغريإلايوس: زيتونة برية». «إلايا»: زيتونة، شُبه اسرائيل بزيتونة. رج إر 11: 16؛ هو 14: 6. غير أن اهتمام بولس هو بالزراعة أكثر منه بالكلام عن استعارة الزيتونة. الزيتون البري لا يعطي ثمراً. وإذ يتكلّم الرسول عن اسرائيل كزيتونة مغروسة، فهو يدلّ على إرث اليهود الروحي وتفوّقه على إرث الأمم. «التشارك». «سينكونيونوس». شركة مع. هناك عدد كبير من الكلمات مع «كوينون» تعود إلى الرسائل البولسيّة. «سين». مع. شركة مع المسيح (6: 4؛ 1 كور 1: 9؛ 10: 16؛ فل 3: 10). شركة في الروح القدس (2 كور 13: 13؛ فل 2: 1). شركة مع المسيحيّين (12: 13؛ 15: 26؛ 2 كور 1: 7؛ فل 1: 7). شركة الأمم مع اليهود (هنا وفي 15: 27).
«فلا تفتخر» (آ 18). رج يع 2: 13؛ 3: 14 (كاتاكاوخاؤماي). يجب على الأمم أن لا يرتكبوا الخطأ الذي ارتكبه اليهود، أي أن ينسوا أنهم داخل قصد الله الذي يرتبط فقط بنعمته. تلك هي الخطيئة (لا نعود نعيش في ارتباط بالله) التي هي أساسيّة عند اليهود وعند الأمم. نحن فروع، نحن أغصان، ولسنا الشجرة. الأغصان هم اليهود الذين قُطعوا. وهم المسيحيون المرتبطون بالشجرة. «كيف تفتخر». «بستازو». حمل، حمل ثمراً. رج لو 11: 27. نعِم الأمم بغنى إرثٍ روحيّ يعود إلى ابراهيم. وهذه العلاقة تبقى.
«ولكنّك تقول» (آ 19). هنا أيضاً قد يقع المؤمن في الخطأ الذي وقع فيه اليهوديّ، حين يحسب أن ما حصل للآخرين هو من أجله. هناك «أنا» (إغو) و«الأغصان» (كلادوي). يتحرّك عدد من الأغصان ليؤمّنوا المكان لواحد.
«حسنا» (آ 20). ما زال أسلوب الجدال حاضراً. رج مر 12: 32، والانشداد بين التواصل والانقطاع أيضاً بين حقبتَي تاريخ الخلاص. «قُطعتْ» بسبب عدم إيمانها. وأنت تبقى بواسطة إيمانك. «أبستيا» (لاإيمان). رج 3: 3. «إكلاوو» (قطع). رج آ 17. وتجاه ذلك، الأغصان التي ظلّت ثابتة. رج 1 كور 7: 37؛ 10: 12. الإيمان هو ارتباط وثقة بالله. وحدها مخافةُ الله تحفظ الإيمان من الاعتداد، وتُفهم الانسان أنه خليقة يجب أن يعيش برعدة هذه الثقة بالله.
«فإن كان الله» (آ 21). نجد أيضاً أداة الشرط «آي»، إن، إذا. يُعطي بولس سبباً آخر يمنع القارئ الأمميّ من الافتخار (كان الأول في آ 18: أنت ترتبط بالأصل). «فايدوماي» (أبقى). يقابل «إكلاوو» (قطع). رج آ 17، 19، 20. وهناك تعبير بالنفي في أع 20: 29؛ روم 8: 32؛ 2 كور 13: 2؛ 2 بط 2: 4- 5. «لا يُبقي عليك». هذا التنبيه مبنيّ على منطق الاستعارة: الغصن الطبيعيّ له حظّ بالحياة أكثر من الذي طُعِّم. وهو مبنيّ أيضاً على منطق تاريخ الخلاص. ما يريد أن يشدّد عليه بولس، هو أنه مهما كان الوضع الحالي (رذل اسرائيل عن الانجيل وقساوة القلب)، فاسرائيل يُميَّز لأنه أول شعب دعاه الله. هي أولويّة النعمة، لا أولويّة حقّ من الحقوق. كل هذا جاء في صيغة المخاطب المفرد، وهكذا يصبح النداء ملحاً بحيث لا ينتظر أي مهلة.
د- لين الله وشدّته (آ 22- 24)
«فاعتبرْ» (آ 22). «خريستوتيس». صلاح، لطف، سخاء. «أبوتوميا». شدّة، قساوة. مراحدة في العهد الجديد. هي دقة قانونيّة. قساوة لا شفقة فيها. وصورة القطع تتواصل. رج حك 18: 15؛ عب 4: 12. هذه القساوة هي موجّهة على اليهود، لا على الأمم. «الذين سقطوا». رج 14: 4؛ 1 كور 10: 12؛ عب 4: 11. ويبقى التوازي حاضراً بين مسؤوليّة الانسان وحريّة الله. تكرّر «اللين» ثلاث مرات هنا. هذا يعني أنه صفة الله الأولى المسيطرة على هذا المقطع. «إبيمانو»: ثبت، ثابر. رج كو 1: 23. «إكوبتو» قطع الشجرة بكاملها، من أصلها. رج مت 3: 10؛ 7: 19؛ لو 13: 7، 9. رج «إكلاوو» (قطع). عدة ألفاظ متقاربة.
«أما هم» (آ 23). عاد بولس إلى صيغة الغائب، فدلّ على أن لا وجود ليهود لامؤمنين بين سامعيه. «ما ثبتوا». رفضوا أن يؤمنوا، وهذا أمر حاسم بالنظر إلى الحكم عليهم. نفهم فعل إيمان من أجل الخلاص. «الله قادر» (ديناتوس في اليونانيّة. ج ب و ر في العبريّة). رج نح 9: 32؛ مز 24: 18. إن منطق تاريخ الخلاص، ترك صورة الزيتونة جانباً. نشير هنا إلى أن 2 با 84: 2 يعلن الرجاء لغرس يرتبط بالحفاظ على الشريعة.
«فاذا كان الله» (آ 24). «كاتا فيسين». حسب الطبيعة. تقابل «بارا فيسي» خلافاً للطبيعة. هذا لا يعني أن التطعيم غير طبيعيّ. ولكنه يشدّد على أن الذين كانوا من الزيتونة يمكن أن يطعّموا من جديد. نلاحظ هنا أن وضع الأمميّ الذي طعّم في الزيتونة، يشبه وضع اليهوديّ الذي قطع. الله يطعّم هذا وذاك، لأن الزيتونة تضمّ هذا وذاك، وما من تمييز. ونجد أيضاً مقابلة بين «زيتونة برية» (أغري إلايوس) و«زيتونة جميلة، نبيلة» (كالي إلايوس). اسرائيل هو تلك الزيتونة التي اهتمّ بها الله من زمن بعيد. «فما أحقّ». رج 11: 12. «إيديوس» (ما يخص). لفظ يعطي قوّة للاستعارة: يطعِّمهم الله في زيتونتهم الخاصة، في الزيتونة التي لهم. إن اختيار الله يضمّ اليهود والأمم، لا على أنهم يهود وعلى أنهم أمم، بل على أنهم الشعب الذي كوّنه نداءُ الله (9: 11، 24).

3- خلاصة لاهوتيّة
توجز آ 11 جواب بولس في عبارة قصيرة كما في آ 7. بزلّتهم صار الخلاص. زلّة اليهود هي أنهم فهموا الشريعة في لغة الأعمال. ورفضوا أن يتجاوبوا مع كلمة الإيمان (فلا عذر لهم، 10: 16- 21). ثم إنهم عثروا بالمسيح، فما فهموه كذاك الذي يُسلَم لأجلهم ليُصلَب، ورذلوا الكلمة التي تشهد له. في أي سبيل صارت هذه الزلّة خلاصاً للأمم؟ إذا كان بولس عاد إلى الصلب، فهو يفكّر برذل اليهود ليسوع. أدخل موتُه وقيامته حقبة جديدة في تعامل الله مع البشريّة، وتوسّع برّ الله إلى كل من يؤمن. إمّا إذا عاد إلى اسرائيل وامتيازات العهد، فنحن أمام أحداث في التاريخ الحالي. تجاه نظرة ضيّقة، تطلّع اليونانيون إلى الرسالة الجديدة التي انطلقت وسط الأمم (أع 6: 8- 8 : 14؛ 11: 19- 21؛ غل 2: 1- 10). وهكذا حين رفضُ اسرائيل المسيح والانجيل، صار في خط عيسو وفرعون. صار فشلُ اسرائيل يقابل مجيء الخلاص إلى الأمم.
إن مخطّط الله الذي امتدّ إلى الأمم الآن، لا ينتهي مع خلاص الأمم الذي يكون الخاتمة، بل هناك خلاص اسرائيل وعودته إلى المسيح. ما ترك الله شعبه ولو قسّوا قلوبهم. ما تخلّى من عهده ليبدأ من جديد. وحتى عقابه على مجمل شعبه، تطلّع أيضاً إلى الخلاص. ولاأمانةُ اسرائيل ما ألغت أمانة الله. وغضبُ الله هو في قلب مخطّط رحمته. في عمل الله السريّ، تستعمل العناية ردّات فعل البشر من أجل نعمة تصل إلى الكثيرين.
خلاص الأمم وسيلة لعودة اسرائيل (آ 12). هذا ما سيعبّر عنه بولس في رؤية واسعة وغنيّة. بما أن زلّة اسرائيل حملت الغنى للأمم، فما يكون اكتمالُهم. هو تقابل بين سقوط اسرائيل الحاضر وعودته المقبلة. رذلُ اسرائيل حملَ الخير للبشر، وقبولُ اسرائيل يحمل خيراً أكبر. نلاحظ هنا نظرة الرجاء العميق الذي ينعشه الإيمان. «غنى الشعوب». أي غنى البشريّة. عندئذ يفرح الأمم باكتمال شعب الله.
خاف بولس أن لا يكون سُمع القولان السابقان (آ 13- 14)، فكرّر كلامه في صيغة المتكلّم المفرد بحيث ذكّرنا بما في 9: 1- 3؛ 10: 1- 2. هي نقطة هامّة في نظرة بولس. قضى وقتاً يشرح فيه أن الانجيل يتواصل مع ملء العهد الذي وُعد به اسرائيل. لهذا فهو لن يخفّف من هذا الموقف. وعلى الأمم المؤمنين أن يفهموا موقعهم داخل مخطّط الله، وأن البركة التي نالوها ترتبط ببركة اسرائيل. لهذا توجّه إلى الأمم في جماعة رومة، بشكل خاص، وقد فاقوا المؤمنين اليهود في الجماعة. هو رسول الأمم بشكل عام، حتى أولئك الذين في رومة مع أنه ما التقى بهم عرفهم. هو الذي أخذ جانب الأمم ودافع عن قضيّتهم (غل 2: 3- 9). ومن أجلهم حُسب ناكراً وضالاً في فم الكثيرين من بني قومه. هكذا لا يشك الأمم في رومة أنه يحمل في قلبه خيرهم الروحيّ. حسب بعضُهم أن الرسالة بين الأمم أمرٌ غير عاديّ لا بدّ أن ينتهي. ولكنه عارضهم ودلّ على سياسته لئلاّ يجهلها اليهود أنفسهم، ولو كان هو من أصل يهوديّ.
ما أراده، هو أن يثير شعباً هو شعبه، أن يجعلهم يتحرّكون بسبب نجاحه لدى الأمم: ليعرفوا كيف يعمل الله، وكيف وصل قصدُ رحمته إلى الأمم الذين لم يكونوا شعبه. وأحسّ الرسول بالانشداد في داخله، بين هويّته التامّة كيهوديّ ويقينه بالنظر إلى الانجيل. وهو يرجو أن يكون هذا الانشداد أيضاً عند اليهود بني قومه، بين عهد «وطنيّ» وكلام عن بركة الأمم. يكفي أن يقبلوا بيسوع كالمسيح، والباقي كلُّه يتبع. وما أعطاه هذا الرجاء هو أن الكتب المقدّسة تحدّثت عن ذلك. فيا ليت اليهود يقرأونها ويفهمونها.
أبرزت آ 15 ما في آ 12، كما سبق أن أبرزت آ 13- 14 ما في آ 11. ومع ذلك، سواء ارتبط الكثير أو القليل بخدمة بولس، فثقتُه ثابتة بأن بقيّة اسرائيل ستقبل الانجيل، ويكون قبولُهم خيراً لكل من يؤمن، وها قد جاء الكلام عن رذلهم. حافظ بولس على الانشداد الذي تضمنه 9: 19- 23 بين هدف الله الرحيم حين اختار، والزلة التي تقود إلى دينونة الغضب. بالاضافة إلى ذلك، تحدّث في آ 12 عن «غنى للعالم». وهنا يتكلّم عن «مصالحة للعالم. في آ 12 قال: كم بالأولى. وهنا يقول كم بالأولى، ويشير إلى «حياة من بين الأموات». التوازي بين «المصالحة» و«الحياة بعد الموت»، يذكّرنا بتوازٍ مماثل في 5: 10، ويدلّ على أن بولس يفكّر بموت المسيح كوسيلة مصالحة. والحياة بعد الموت تشير إلى القيامة. قيامة المسيح وقيامة الجسد. والانشداد بين الاختيار والدينونة وجد حلّه، لأن بولس متأكد أن الحياة هي التي تنتصر على الموت.
وبيّن بولس شدّة رجائه (آ 16)، فبدّل الاستعارة. تحدّث عن الباكورة التي هي أول الثمار والتي تقدَّم لله. ظنّ الفريسيون أن الباكورة مقدسة، لا الباقي. فأعلن بولس أن الكل مقدّس. ثم إن الباكورة تكفل الحصاد الاسكاتولوجيّ الذي سوف يتمّ (1 كور 15: 20- 23). فالباكورة تدلّ على صفة الكل الآتية بعدها. فأول الذين آمنوا بالمسيح من يهود وأمم، هم الباكورة بالنسبة إلى ما سيأتي، وتقديسهم يعني تقديس الذين يأتون بعدهم. بدأ الله يكشف طابع شعبه الاسكاتولوجيّ، بحيث تظهر أيضاً قداسة ملء اسرائيل حين يقبلون.
والاستعارة الثانية هي علاقة الفروع (الأغصان) بالأصل. إذا كان الأصل مقدّساً، فالفروع أيضاً. الأصل يحدّد حيويّة الأغصان ونوعيتها. غير أن بولس لا ينظر إلى اسرائيل كغرسة. فالأصل لا يمكن أن يكون إلا المسيح. فنحن في منطق تاريخ الخلاص وفي منطق الطبيعة. وهكذا نظر بولس إلى شعب الله في تكوينه النهائيّ. أما الباكورة والأصل فهما عنصران يكوّنان اختيار الله في النهاية. من جهة، اليهود والأمم الذين آمنوا. ومن جهة ثانية، اسرائيل التاريخيّ. وقداسة القديسين الأخيرين ترتبط بتواصلهم مع اسرائيل الأصليّ وبكلمة الإيمان التي تشكّل البقية والرسالة لدى الأمم. من هذا القبيل حافظ بولس على أمانتين: ابراهيم الجسد وابراهيم الإيمان. هو يهوديّ وهو أيضاً رسول الأمم، وقد دُعي ليعلن إنجيل ابن الله لليهود أولاً وللأمم أيضاً.
في آ 17 تتوسّع صورة الأصل والأغصان لتصل إلى آ 24: علاقة الأغصان بعضها ببعض، وعلاقتها بالشجرة، بالزيتونة. خاف بولس أن يعتبر الأممُ أن هذه الشجرة تشير إلى اليهود، ساعة هذه الشجرة تضمّ اليهود والأمم معاً. وخاف أن يَحسب المؤمنون من الأمم أو يظنوا أن الله رذل اليهود، فأفهمهم أن الشجرة التي يتكلّم عنها هي اليهود. هذه الشجرة هي زيتونة. قُطعت بعضُ أغصانها. هي إشارة إلى رذل اليهود. لم يقل بولس الأكثرية، بل «بعض». ففي منظار تاريخ الخلاص كله، «البعض» لم يؤمنوا. ويرجو بولس أن يحرّكهم. ويوجّه الرسول كلامه إلى الأمم: «هم زيتون برّي». عليهم أن يشاركوا في نموّ الشجرة التي غرسها الله منذ زمان بعيد. الأغصان قُطعت، لا الشجرة التي تبقى، والله لا يبدأ منذ البداية، بل يتابع مخطّطه. هو الاختيار نفسه، والوعود نفسها والبركات (9: 4- 5).
بما أن عدد الأمم الذين قبلوا الانجيل أكثر من عدد اليهود (آ 18)، يجب أن لا يفسَّر هذا الوضع كأن اختيار اسرائيل زال، صار من الماضي. فمهما كان أمر بعض الأغصان، فالله لا يتخلّى عن الشجرة كلها. هو ما قلب الأدوار مهتماً بالأمم تاركاً اليهود في البرية. هو ما قلب الشجرة رأساً على عقب، بحيث صار الأمم السند الرئيسيّ في مخطّط الخلاص. كل شيء يعود إلى الوعد لابراهيم وإلى اختيار اسرائيل. هذا ما يحدّد مسيرةَ قصد الله وطابع دعوته.
ويردّ المحاور الأمميّ (آ 19) في خطّ عرفناه في آ 15- 19. ليس من قبيل الصدف أن تُقطع الأغصانُ اليهوديّة وتطعّم الأغصانُ الأمميّة. الواحد يقود إلى الآخر، والواحد ضروريّ من أجل الآخر. أجاب بولس: إن كان امتداد دعوة الله ونداء الإيمان إلى الأمم صار ممكناً، بعزل اسرائيل ورذلهم، فهذا لا يعني أن الله أعطى الأمم الأولويّة على اليهود. وهكذا لا يستطيع الأمم أن يفتخروا بحيث يتشبّهون باليهود حين افتخروا بامتيازهم.
ما كان ردُّ بولس (آ 20) على ما قيل عن رذل اليهود وقبول الأمم؟ الاستنتاج خاطئ. فهذا يرتبط بعدم إيمان اسرائيل. فلا ينسى المؤمنون الأمم أن تطعيمهم في العهد (في الشجرة) جاء عبر ايمانهم، وأن استمرارهم داخل العهد يرتبط باستمرارهم في الإيمان. اذن، لا سبيل للاعتداد لأننا قبلنا عطاء مجانياً. فالموقف المتواضع هو الذي يربطنا بقدرة الله من أجل إتمام عهده (ف 4).
والجواب الموافق للأممي في هذه الحقبة الحاضرة من تاريخ الخلاص (آ 21)، ليس الافتخار بوضعنا، بل الخوف. فنحن خزف (تلك طريقة الله التي لا توصَف). نخاف من الله الذي هو الديّان أيضاً، والذي يدلّ على غضبه وحكمه حين تفتخر الخليقةُ بأعمالها. أما لهذا غضب الله على اليهود؟
ويقدّم بولس (آ 22) وجهتَي عهد الله في اختياره: لطف الله. قساوة (شدّة) الله. كان قاسياً على الشعب، الذي فشل في التجاوب مع الإيمان فسقط في عمى ثقته بعهد كاذب. وهذا ما يمكن أن يحدث للمؤمنين من الأمم. وجهتان لا يمكن أن تفترقا، لأنهما تلعبان دوراً في الوضع الحالي: فشلُ اسرائيل دخلَ في تعامل الله مع البشريّة، بحيث أكمل الإيمانُ مخطّطه في الوقت المناسب.
في آ 23- 24 نقرأ خاتمة الاستعارة حول الزيتونة، مع عودة إلى الرجاء بعودة مخطّط عهد الله إلى ما كان. فالأمم يمكن أن يُقطَعوا (حين يميلون عن الإيمان إلى اللاإيمان). والأغصان القديمة يمكن أن تطعّم أيضاً (إن مالوا من اللاإيمان إلى الإيمان). فالله قادر أن يفعل هذا. فالنعمة تحتاج إلى الإيمان كفتحة فيها تمرّ قوّةٌ تعطي الحياة فتعيد الأغصان التي قُطعت. إذا كان الله جعل من الأمم أعضاء كاملين في شعب العهد (وهذا كان مستحيلاً)، فيسهل عليه أن يُدخل أيضاً نسل ابراهيم ووارثي الموعد في ميراثهم الخاص. هو مخطّط الله يتواصل (لا يبدأ من جديد) بعد أن أظلم بسبب عدم فهم اسرائيل، وكُشف الآن بالمسيح، لدى الأمم، بانتظار عودة بقية اسرائيل.

الخاتمة
جاءت نهاية المقطع السابق قاسية بالنسبة إلى اسرائيل، فتساءلنا عن قيمة برهان بولس وفيه ما فيه من شدّة. لا شكّ في أنه تبقى «بقيّة» من شعب الله في اليهود الذين آمنوا بالانجيل. أما الآخرون، فهم، حسب الظاهر، خارج طريق الخلاص لأنهم لم يؤمنوا. عثروا. سقطوا في الخطيئة. لهذا كان دفاع بولس عن الله وعن أمانته تجاه شعبه. وهذه الأمانة غمرت أيضاً الأمم، الذين قد يأخذون بموقف أخذه اليهود، فيعتبرون نفوسهم الأصل في الزيتونة، وينسون أنهم طُعِّموا. ما آمن اليهود فرذلوا. والأمم الذين لا يؤمنون، يكون مصيرُهم مصيرَ اليهود.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM