الفصل السادس والثلاثون: رحمة الله للجميع

الفصل السادس والثلاثون
رحمة الله للجميع
11: 25- 36

ونصل إلى نهاية القسم الخامس الذي عنوانه: الانجيل واختيار النعمة. انطلقنا من أمانة الله وعمل الانجيل في الشعب الذي كان عليه أن يتقبّل الوعد. غير أن هذا الوعد فشل. فوصلنا في النهاية إلى كلمة الإيمان التي بدأنا بها، والتي تدلّ على مجانيّة الله في تاريخ الخلاص سواء بالنسبة إلى الأمم، أو بالنسبة إلى اليهود. غير أن كل هذا يبقى سراً يكشفه الله في وقته. لهذا يبقى بولس صامتاً ولا يحاول بعدُ أن يبحث، فيختم كلامه بنشيد سجود أمام غنى الله وحكمته وعلمه. ما بدأ الرسول وطرحه بشكلِ فرضيّة (9: 22- 23)، يُصبح ممكناً بقدرة الله. مع «إن» (آ 12- 24)، ها هو يقدّمه الآن كواقع أكيد. شجّع قرّاءه ليعرفوا أن رحمة الله وغضبه يقدران أن يعملا في الوقت عينه ليُتما مخطّطه. وها هو الآن يعلن أن الله فعل، فضمّ الأمم إلى اليهود، واليهود إلى الأمم. كان العهد القديم قد تحدّث عن تطهير تام لبني اسرائيل كنتيجة مجيء المسيح، فعلّم بولس أن هذه النبوءة تمّت جزئياً في اهتداء الأمم بانتظار عودة اليهود.

1- دراسة النصّ وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 25، نقرأ حرف الجر «إن»: في حكمكم، في تقديركم. أدخِلت «بارا» (بالنظر إلى) في الكودكس الاسكندراني والفاتيكاني على ضوء 12: 16 وأم 3: 7. «إن» هي الأداة المناسبة، وسقطت عرضاً في برديّة 46 وغيرها.
في آ 31 يقرأ الفاتيكاني والبازي وغيرهما مرة ثالثة «نين» الآن: لكي يقدروا أن ينالوا الرحمة الآن. أما برديّة 46 وغيرها فتُلغيها. وهناك مخطوطات جرّارة تقرأ «فيما بعد» أو: «في النهاية».
في آ 32 نقرأ كلّهم في صيغة المذكّر (بنتوس). ولكن بعضهم قرأ الصيغة الحياديّة (بنتا). رج 11: 36؛ غل 3: 22.
في آ 33، نقرأ حرف العطف أمام «حكمته». المخطوط 321 ألغى العطف (كاي) ليقرأ غنى حكمة وعلم الله.
ب- بنية النصّ
في آ 25- 32، حافظ بولس على الأسلوب الشخصيّ. ترك صيغة المخاطب المفرد كما في آ 17- 24، وعاد إلى المخاطب الجمع. جاءت آ 25- 27 بشكل خاتمة مع مدخل إلى السرّ الموحى كحلّ لمسألة شدّة الله، التي أدخلها بولس عمداً، وأبرزها في مرحلة سابقة من جداله (9: 18)، واستعادها في 11: 17. وهناك أيضاً الاكتمال (11: 12). إن الأمل بخلاص اسرائيل (11: 26) يجيب على موضوع 1: 16. هناك من قال إن آ 25- 27 أدخِلت بشكل ثانويّ.
وقدّم بولس آ 28- 32 باهتمام خاص على مستوى البنية البلاغيّة، من أجل موجز يكون الذروة في كل البرهان السابق. واستعمال موضوعيَ «الاختيار» «والرحمة»، جمع عناصر المفتاح والثقل في ف 9- 11 (9: 11؛ 11: 5- 7؛ 9: 7، 12، 24- 26؛ 9: 15- 16، 18- 23). والتعارض المتكرّر بين التهديد والرحمة (4 مرات في آ 30- 32) يُعيد في شكل موجز الاتهام في 1: 18- 3: 20 (في العصيان)، والحلّ في 3: 21- 5: 11 (رحم). وتُكرّر آ 32 بإيجاز كبير خلاصة 5: 12- 21، مع وضع اسرائيل ودوره داخل العالم. هكذا وضُح مقصدُ الله في التاريخ، بعودة اسكاتولوجيّة إلى نموذج تاريخ الخلاص: اليهودي أولاً ثم الأمميّ. وبالتالي رأينا كيف أن الانشداد الفرديّ والكونيّ بين حقبتي آدم والمسيح (ف 6- 8)، انعكست أيضاً في اسرائيل، شعب الله الذي انقسم بين العصيان والرحمة (آ 9- 11). أما الحل الواحد فهو القيامة (8: 19- 23)، والحل الآخر هو خلاص اسرائيل بحيث يكتمل كلُّ شعب الله، كما في القيامة (11: 15).
في آ 33- 36، قاد الأملُ بخلاص حقيقي شامل إلى مديح يُنشد الخالقَ الذي لا تُعرَف طرقُه، والذي لا شيء يمنعه من تتميم مخطّطه. بعد أسئلة بلاغيّة، تأتي المجدلة. هناك ترتيب مثلّث: آ 33؛ آ 34- 35؛ آ 36. ثلاثة ألفاظ ترتبت ب «أعمق» (باتوس). ثلاثة أسئلة متوازية في آ 34- 35 بشكل تعاكس: معرفة، عرف، حكمة. مشير، غنى، أعطى. وثلاثة حروف جر في آ 36: منه، به، له (أو إليه). وينتهي كل هذا في مجد الله. نجد هنا تأثير العهد القديم: الحكمة (أي 28). الدينونة (أي 40: 8). طريق الله (أي 21: 14؛ 26: 14؛ 28: 13، 23). غير أننا لا نقول إننا أمام نشيد يهوديّ طوّره بولس. بل قد يكون هذا المقطع نشيداً في كنيسة كورنتوس، لا سيّما وأن روم كُتبت من كورنتوس.

2- تحليل النصّ الكتابيّ (11: 25- 36)
أ- سرّ الله (آ 25- 27)
«لا أريد» (آ 25). رج 1: 13. «ميستيريون» (السرّ). أول معنى يعود إلى ممارسات خاصة، ممارسات سرّانيّة. تعاليم وطقوس سريّة، لا يعرفها إلاّ المتدرّجون، وتُحفظ لدى الخاصة بحيث لا نعرف عنها اليوم سوى القليل. رج حك 14: 15، 23؛ 3 مك 1: 30؛ فيلون، استعارات الشرائع 3: 71، 100. كتب بولس من كورنتوس، فتذكّر العبادات التي تقام هناك. غير أن بولس ابتعد عن هذا العالم الوثنيّ في كلامه عن «السرّ». وأخذ باللغة اليهوديّة التي تنظر إلى أسرار الله التي تكشفها إرادةُ الله. رج دا 2: 18- 19، 27- 30 (الله هو من يكشف الأسرار). وهناك اللغة الجليانيّة (1 أخن 41: 21؛ 46: 2؛ 103: 2؛ 4 عز 10: 38؛ 12: 36- 38؛ وص لاوي 2: 10؛ وص يهوذا 16: 4).
عند بولس، السرّ هو سرّ مخطط الله، وهدفُه منذ البدء أن يجعل الأمم مع اليهود ليكونوا كلّهم شعبه. في هذا السرّ اتحد الأمم واليهود (كو 1: 26- 27؛ 2: 2؛ 4: 3؛ أف 1: 9- 10؛ 3: 3- 6. «فرونيموس»، تقرير. هو لفظ إيجابي. هذا ما يقال أيضاً عن الفطنة والاحساس السليم (رج أم 17: 27- 28؛ 18: 14- 15؛ حك 6: 24؛ سي 21: 24- 26؛ وص نفتالي 8: 10). «قسّى» (بروروو). رج 11: 7. هي الصورة تطبّق فتدلّ على العناد، على عدم الاحساس، وقد يصل إلى العمى. يرى بولس هنا اسرائيل وحدة تامة. ووجود الفعل في صيغة الكامل يدلّ على أن هذه ما زالت نتائجها حاضرة. إلى متى؟ إلى أن يكمل. إلى الوقت الذي. حين يكمل عددُ المؤمنين من الأمم، يُرذَل عمى اسرائيل. هذا ما يجعلنا في زمن المجيء. هي نظرة اسكاتولوجيّة، لا واقعيّة وكأن بولس يعرف الأحداث. «بليروما» (إكتمال). رج 11: 12. لسنا أمام عدد نصل إليه، بل أمام مفهوم يجعلنا في النهاية. «إيسارخوماي» (دخل). نجد هذا الفعل في تقليد يسوع حين يتحدّث عن دخول إلى الملكوت، دخول إلى الحياة (مر 9: 43، 45، 47 وز؛ 10: 15، 23- 25 وز؛ مت 5: 20؛ 7: 21؛ 19: 17؛ يو 3: 5.
«وهكذا يخلص» (آ 26). اهتداء الأمم هو وسيلة تحرّك الغيرة عند اليهود فيهتدوا إلى المسيح. «كل اسرائيل» (باس). كلّه. أو الشعب كله في هويّته، وهذا الكل لا يضيع إن تركه بعضُ الأفراد. يُشير بولس إلى اسرائيل الروحيّ، إلى البقيّة التي تدلّ على المجموعة. هذا الخلاص الذي يُعيد الشتات، موضوع معروف في الانتظار اليهوديّ (تث 30: 1- 5؛ نح 1: 9؛ إر 23: 3؛ 29: 14؛ حز 11: 17؛ ق يوب 1: 15؛ مز سل 17: 26- 28). «كما كُتب». رج 1: 17. يعود بولس إلى إشعيا حسب السبعينيّة (59: 20- 21: «يأتي مخلّص إلى صهيون، للتائبين عن خطاياهم من بني يعقوب». إلى «صهيون» صارت «من» صهيون. ذاك هو رجاء بولس: الخلاص الآتي من صهيون. رج مز 14: 7؛ 53: 6؛ اش 2: 3. والتحويل الثاني هو أن الفادي، المخلّص (روومانوس) هو المسيح في مجيئه (7: 24؛ 1 تس 1: 10). الفادي في الأصل هو الله (يوب 22: 14- 15). هذا النصّ الاشعيائي هو مسيحاني حسب تلمود بابل. سنهدرين 98 أ. «ويزيل الكفر». «أبوسترافو»: أبعد. نحن هنا في خط الأنبياء. «أسابايا»، الكفر، عكس التقوى. هو يدلّ على اليهود كما على الأمم. «يعقوب» يقابل «اسرائيل».
«ويكون هذا عهدي» (آ 27). رج أش 59: 21. هذا التعليم يُعطى للأبناء ولأبناء الأبناء لكي يتعلّقوا بالعهد الذي أعطي في سيناء (تث 4: 9- 10؛ 6: 6- 7). والأملُ بعهد جديد يصوَّر كعهد متجدّد، أو كعهد قديم عاد يفعل (إر 31: 33؛ حز 36: 27). ولكن في نظر بولس، هناك تحوّل جديد من التشديد على التواصل. «حين أمحو» (أفايرايو). خطيئة يعقوب أو تجاوز الشريعة. نقل بولس رجاء المغفرة من سياق عباديّ وطقسيّ إلى سياق اسكاتولوجيّ، مشدّداً على النعمة والإيمان، تاركاً وراءه كل نظرة عرقيّة أو إتنيّة.
ب- هبات الله ودعوته (آ 28- 29)
تبدو آ 28 في بنية بلاغيّة لافتة:
من حيث البشارة، هم أعداء من أجلكم،
من حيث الاختيار هم أحبّاء إكراماً للآباء.
«أونغليون»، الانجيل، البشارة. الانجيل مضمونه المسيح ورسوله بولس (1: 1، 9، 16؛ 2: 16؛ 10: 16؛ 15: 16، 19، 20؛ 16: 25). يدلّ الانجيل على الحقبة الأخيرة. أما الاختيار (إكلوغي)، فيدلّ على الحقبة السابقة للمسيح. الحقبة الثانية هي حقبة اعلان الانجيل، أولى الأولويّات بالنسبة إلى بولس. لا يعني بولس أن عداوة اليهود كانت جزءاً من الانجيل (من حيث البشارة): فالسرّ الذي كُشف له ليس جزءاً من الانجيل، بل حلاً للغز تقبّل الانجيل. «اختروي» (أعداء). ما عادوا ولكنهم صاروا. قابل «أغابيتوي» (أحبّاء). الله هو الذي أحبّهم. رج اش 63: 10؛ إر 30: 14، ق روم 5: 10؛ 8: 7؛ 12: 20؛ 1 كور 15: 25- 26. كان بنو اسرائيل خارج الانجيل لبعض الوقت، ليختبروا عداوة الله التي تميّز الجنس البشريّ في الحقبة الأولى، بحيث يقدَّم الانجيلُ للأمم كنعمة الله الحرّة للانسان. هذا ما يجب على اليهود أن يكتشفوه. فالاختيار هو اختيار الله الحرّ، اختيار النعمة (9: 11؛ 11: 5). بنو اسرائيل محبوبون، لا لأنهم أبناء اسرائيل، بل لأنهم نسل الآباء الذين نالوا الوعد المجانيّ.
«ولا ندامة» (آ 29). «أماتاماليتوس». يرد هنا فقط وفي 2 كور 7: 10، في الأدب البيبليّ. بدون تأسّف. لا عودة عنه. نتذكّر مقابل هذا ندامة الله لأنه خلق الانسان (تك 6: 6- 7؛ 1 صم 5: 11، 35) وتراجعه عن العقاب (خر 32: 14؛ تث 32: 36؛ 2 صم 24: 16؛ 1 أخ 21: 15؛ مز 90: 13؛ 106: 45). وحين يُبرز الكاتبُ ثبات مخطط الله، يدل على التعارض بين الله والانسان. فالله ليس مثل الانسان لكي يندم، لكي يغيّر فكره. رج عد 23: 19؛ 1صم 15: 29؛ مز 110: 4. وهكذا نرى هنا أيضاً موضوع أمانة الله (الإيمان والأمانة).
«خارسما» (هبة). رج 1: 11. ما تفعله نعمة الله. رج 9: 4- 5. «كليسيس» (دعوة). لا يرد إلاّ هنا في روم. يرتبط بفعل «كاليو». يعود بولس إلى 9: 6- 29 مع أهمية الدعوة. دعوة الله لاسحق ويعقوب بيّنت أمره كالخالق (4: 17). ودعوته لكل من يقبل (8: 30)، من اليهود والأمم (9: 24- 26). إنَّ تواصلَ الاختيار، يتضمّنُ اسرائيل ولا ينحصر في اسرائيل، لأنه تواصلُ النعمة.
ج- عصيان ورحمة (آ 30- 32)
نقرأ الآيتين ونكتشف البنية البلاغيّة
آ 30 كما أنتم من قبل عصيتم الله
والآن رحمكم لعصيانكم
آ 31 فكذلك هم الآن عصوا لرحمة لكم
لكي أيضاً هم (الآن) يُرحَموا.
نلاحظ التوازي بين عناصر النصّ. كما... كذلك. رج 5: 12، 19، 21. هي مقابلة بين آدم والمسيح، بين حقبة وحقبة، بين اليهود والأمم. «من قبل» و«الآن». نجد هنا أيضاً حقبتين في تاريخ الخلاص، مع العلم أن «الآن» الاسكاتولوجيّ يتضمّن حقبة عصيان اسرائيل، بحيث إن الزمن الحاضر يُقسم قسمين: رحمة للأمم وعصيان اليهود. ثم رحمة لليهود أيضاً. والكلام عن العصيان يعيدنا إلى عصيان آدم كما في 5: 12- 21 (باراكوي: عدم سماع). وفي النهاية يوجز بولس رسالته على أنها دعوة الأمم إلى طاعة الإيمان (1: 5؛ 5: 18؛ 14: 26).
«لأن الله جعل البشر» (آ 32). «سينكلايو». حسب، حصر. رج غل 3: 22- 29. هنا يعود بولس إلى مز 31: 8؛ 78: 50، 62. حتّى النهاية يشدّد بولس على مبادرة الله في فشل اسرائيل ليتجاوب مع الانجيل. كما يشدّد على عصيان الانسان ومسؤوليّته (ابايتايا، آ 30- 31). «إلايو»، رحم. رج 11: 31. والأداة «هينا» لكي، تدلّ على أن هدف الله الأخير هو الرحمة. ولغزُ عدم الإيمان والعصيان لا يجد حلاً له إلاّ في منظار اسكاتولوجيّ. وكما أن «العصيان» يوجز عرض بولس في 1: 18- 3: 20، كذلك توجز «الرحمة» ما نقرأ في 3: 21- 5: 11.
د نشيد لحكمة الله (آ 33- 36)
«ما أعمق» (آ 33). «هو». حرف تعجّب يدلّ على شعور قويّ. «باتوس» عمق. صار كأنه شخص، فوجّه إليه بولس كلامه. العمق يدلّ هنا على ما يلي. «بلوتوس» (غنى). رج 9: 23؛ 11: 12. ونسج بولس صورتين: العمق والغنى، وأعطى قوة جديدة في كلام عن كنز لا يُسبَر غوره. رج أف 2: 7؛ 3: 8 (سرّ كُشف). «سوفيا» (حكمة). لا ترد إلاّ هنا في روم. ولكنها ترد 17 مرة في 1 كور، 6 مرات في كو. حكمة الله هي طريقته في العمل بالنسبة إلى العالم ليهب العالم الخلاص (1 كور 1: 21؛ أف 3: 10). يفكّر بولس في سرّ قصد الله الخلاصيّ من أجل الجميع. يقف بولس في خطّ التقليد اليهوديّ: حكمة الله في الخلق والوحي والفداء (أي 12: 13؛ 38: 36- 37؛ مز 104: 24؛ أم 2: 6؛ 3: 19؛ حك 7: 15، 25- 26؛ سي 1: 1- 10). توقّف بولس عند خفاء حكمة الله، لا عند تشخيص الحكمة كما في أم 8؛ سي 24. «غنوسيس» (معرفة، علم). رج 2: 20؛ 15: 14. ولكن اللفظ يرد 16 مرة في 1 و2 كور. هو صفة من صفات الله، ويرتبط بالحكمة الالهيّة (أم 2: 6؛ 30: 3؛ جا 2: 26؛ كو 1: 9؛ 2: 3؛ 4 عز 14: 40). هنا تشدّد النصوصُ على الله الذي يعرف أخصّاءه.
«وما أصعب». تعجّب في الأناشيد. رج مز 8: 1، 9؛ 66: 3؛ 84: 1؛ 104: 24؛ سي 17: 29. «أناكساراونيتوس». لا يرد إلاّ هنا في اليونانيّة البيبليّة. «يُسبَر». تصرّفَ اللهُ بعدل كخالق وإله العهد. إذن، هو على حقّ، وإن بدا من الصعب أن نفهم (تك 18: 25؛ تث 32: 4؛ أي 40: 8؛ مز 10: 5؛ 36: 6؛ 111: 7؛ 119: 75؛ اش 30: 18؛ 40: 14؛ حك 17: 1. «هودوس» (طريق). طريقة تصرّف، سلوك (درك) الربّ. (تك 18: 19؛ خر 33: 13؛ تث 26: 17، 18؛ مز 81: 23؛ 103: 7؛ أم 8: 22؛ إر 32: 39؛ حز 18: 25- 29؛ رؤ 15: 3).
«فالكتاب يقول» (آ 34). هو نص اش 40: 13 (من الذي عرف فكر الربّ). نجد الفكرة عينها في أي 15: 8؛ اش 55: 8- 9؛ إر 23: 18. طريقةُ طرح السؤال بشكل بلاغيّ، تميّز الحقبة البعد منفاوية. رج مز 106: 2؛ إر 10: 7؛ سي 16: 20؛ حك 9: 16- 17؛ 11: 21؛ مز سل 5: 3، 12؛ 15: 2. «من كان مشير الربّ». رج حك 9: 4، 9، 17- 18.
«ومن الذي بادره» (آ 35). أي من أعطاه شيئاً، فكان مثل دَين عليه أن يدفعه. رج أي 41: 3. «بروديدومي». أعطى قبل الوقت، دفع مسبقاً. مثلُ هذه الفكرة مستحيلة. أما الهدف عند بولس فتشديد على النعمة ومبادرة الله من البداية إلى النهاية. «أنتابوديدومي»: ردّ، بادل، أرجع. رج لو 14: 14؛ 1 تس 3: 9.
«فكل شيء» (آ 36). «منه وبه إليه». هذا إطار رواقيّ. مثلاً، زعم ارسطو، في العالم، 6: «لأن من الله كل شيء وبالله نقوم». فيلون، الشرائع الخاصة 1: 208: «من الواحد وإلى الواحد». لا شك في أن العالم اليهودي استعمل هذا الفكر الرواقيّ بعد أن نقّاه من الشرك. عبّر النص عن عمل الله الخلاّق في الحكمة وبالحكمة (مز 104: 24؛ أم 3: 19). عاد بولس بهذه الأدوات (منه، به، إليه) إلى الله. «له المجد». المجدلة هي شكل من المباركة. رج 1: 25؛ 9: 5. وسوف تظهر في 16: 27؛ رج غل 1: 15؛ فل 4: 20؛ أف 3: 21؛ 1 تم 1: 17؛ 2 تم 4: 18. المجد لله من أجل طرقه. رج سي 39: 14- 16؛ 4 مك 18: 24؛ مت 11: 25- 26= لو 10: 21.

3- خلاصة لاهوتيّة
ترك بولس محاوره الفرد (آ 25) ليتوجّه إلى الجماعة. «لا أريدُ أن تجهلوا». وهو ينظر إلى الأكثريّة الأمميّة في كنيسة رومة. وقد يُشير بشكل غير مباشر إلى اليهود أيضاً وهم الفروع الأصليّة في الشجرة، الذين لم يُقطعوا، فكشف جوابه لسؤال طُرح منذ 1: 18- 3: 20. هو «السرّ». لا على مستوى الأسرار في العالم اليونانيّ التي يدخل فيها المتدرّجون، بل في سرّ ظلّ مخفياً عن الذين يعيشون خارج المسيحيّة. هو السرّ الاسكاتولوجيّ، في نظرة إلى زمن النهاية: كيف يصل تاريخ الخلاص إلى ذروته المنتظرة؟ كيف يحقّق الله مخطّطه الأخير في شعبه؟ مثل هذا السرّ كُشف في العالم اليهوديّ كشفاً مباشراً بيد الله (دا 2: 28- 29؛ 1 أخن 103: 2؛ نج 11: 3- 4)، كوَحي من أجل تفسير صحيح للكتاب (فحب 7: 4- 5). لبث بولس في إطار التقليد الجلياني هذا. وما قدّم الحلّ لزلّة اسرائيل بمهارة عقليّة أو بتأويل خاص. الله كشف له الحلّ عبر الكتب التي يوردها وعلى ضوء الوحي الذي حمله يسوع المسيح.
السرّ الذي يدعوهم إلى مشاركته فيه، هو تأكيد لما سبق وقال: تقسية قسم من بني اسرائيل. ما نسب بولس هذا إلى الله، بل إلى حريّته، على ضوء ما قال (9: 18؛ 11: 7). ما احتاج إلى ذلك في هذا الموجز، ولكنه أكّد سرّ الجهة المظلمة من الاختيار مع عودة إلى اسرائيل نفسه. العمى هو جزئي، وهو موقت. إن هذه القساوة حدٌّ يضعه قصدُ الله: أن يكمل عدد المؤمنين من الأمم.
في آ 26- 27 تأتي الذروة تتميماً لصلاة قلبيّة (10: 1): خلاص اسرائيل، عودة اسرائيل إلى ملء الاتحاد مع إلهه. مهما حصل لاسرائيل الآن، فبولس متأكد أن كل شيء، في النهاية، يكون لخير اسرائيل فتظهر أمانةُ الله لحبّه الأول. هنا لا يقول بولس كيف يتمّ هذا، ولكن لا حاجة إلى ذلك. فكما مالت الأمور من اسرائيل إلى الأمم، ها هي تعود إلى اسرائيل (10: 19؛ 11: 11- 14). سيخلص اسرائيل حين يغار من الأمم الذين ينعمون بما كان امتيازهم (9: 4- 5)، بحيث يتركون لا إيمانهم بيسوع المسيح ويقبلون الانجيل. ويحدّد الرسول: كل اسرائيل، ملء اسرائيل. تلك صلاته، وذاك أمله أن لا يعثر أحدٌ بحجر العثرة، ويدمَّر (9: 33؛ 11: 11). ولكنه لا يستبعد أن يبقى الأفراد ثابتين في عدم إيمانهم (9: 23؛ 11: 23). ويبقى أملُ بولس، وإن بدا في لغة تقليديّة، مرتبطاً بمجيء المسيح وبالتأكيد على النعمة التي عملت في الأمم وتعمل في اليهود.
بعد أن كشف بولس (آ 28) سرّ تعامل الله مع اسرائيل، في نهاية الزمن، قاد الجدال إلى نهايته مع وضعين لاسرائيل داخل تاريخ الخلاص. «بالنظر إلى الانجيل/ بالنظر إلى الاختيار». وهكذا نكون أمام مرحلتين رئيسيّتين من مخطّط الله. «الانجيل» يدلّ على حقبة بدأت بالمسيح. آمن الأمم، عصا اليهود (1: 1- 5، 9، 6؛ 10: 16). «الاختيار» يدلّ على التزام الله تجاه اسرائيل. هذه الحقبة بدأت منذ الآن مع «البقيّة»، وسوف تتمّ كاختيار النعمة (9: 11؛ 11: 15). ويعبّر الرسول عن هذه المفارقة بتعارض «أعداء/أحبّاء». في ذلك الوقت، حسبَ الله معظم اسرائيل كأعدائه. هي عداوة ضدّ المسيح يسوع. لا يستطيع بولس أن يتجنّب الكلام عن هذا الموضوع (فل 3: 6؛ 1 تس 2: 14- 16). غير أن فكره الرئيسيّ هو مبادرة الله مع عدم رضى الله. «لأجلكم» (أيها الأمم). إن امتداد الانجيل إلى الأمم، يرتبط برذل اسرائيل وانقطاع الأغصان اليهوديّة. ومع ذلك، نظر الله في الوقت عينه إلى اسرائيل «كالأحبّاء». فمع أن الاختيار ضاق فوصل إلى البقيّة (مع المؤمنين من الأمم) في الوقت الحاضر (11: 5، 7)، إلاّ أن الرسول ينظر إلى كل اسرائيل «من أجل الآباء». ما ترك الله وعده للآباء. وهذا الوعد لم يتمّ، بسبب لا إيمان اسرائيل. أما الله فلبث أميناً.
في آ 29 يُبرز الرسول القسم الثاني من المفارقة: لا ندامة في هبات الله. أعطى الله، وهو لا يتراجع عن عطائه مهما كان موقف الانسان. بل هو يُفيض عطاءه حين تكثر الخطيئة. تيقّن بولس من أمانة الله لاسرائيل (3: 3)، ولكن بشكل سؤال. فاليقين كان أساس الجدال في ف 9- 11. فالله أمين لعهد أقامه مع ابراهيم وزرعه. وهو ما زال ملتزماً باسرائيل بمبادرة منه. «لا ندامة، لا تراجع». هي صورة عن عمل الله بشكل عام، كما بالنسبة إلى مخطّطه الخلاصيّ. من يرى النهاية من البداية، لا يحتاج إلى أن يكيّف الاختيار على ظروف اسرائيل المتبدّلة من إيمان ولاإيمان. فالمسيرة التي سعى إليها اسرائيل تقع في قلب الاختيار الأصليّ، هي جزء من هذا الاختيار. أما هبات الله ودعوته التي كانت في الأصل امتيازاً لليهود، فقد صارت لجميع المؤمنين سواء أتوا من الأمم أم من العالم اليهودي.
جاءت آ 30- 31 في تصالب مع آ 29: مفهومان في العالم اليهوديّ: عصيان الانسان ورحمة الله. تحوّلا في الحقبة الأخيرة كنتيجة الأحداث التي دشّنها المسيح. في الماضي، تميّز وضعُ المؤمنين من الأمم بعصيان الله (هذا ما قاله اليهود، وشاركهم بولس مقالهم). ولكن هذا الوضع تحوّل اليوم تحوّلاً كلياً. لقد نال المؤمنون الرحمة، وكان ذلك نتيجة عصيان اليهود. هذا العصيان قاد الأمم إلى الرحمة، وعاد باسرائيل إلى تاريخ الخلاص.
«البشر سجناء العصيان» (آ 32). كان الأمم سجناء الخطيئة، خارج العهد الذي به وعد الله، سواء عن جهل أو قصد (ما أرادوا أن يعبدوا الله ليشاركوا في الشريعة). سمعوا الانجيل، فوعوا أنهم عصوا حقيقة الله. هذا الوقت الذي كانوا فيه سجناء، رأوا فيه وسيلة هيّأتهم للرحمة. وذاك هو الوضع بالنظر إلى عصيان اليهود. وهكذا تصل الرحمةُ إلى الجميع.
أنشدت آ 33 غنى الله الذي لا يُسبر على مستوى الحكمة، على مستوى المعرفة. فكنزُ الله لا حدود له لليهود والأمم. نحن هنا في مناخ عاشه أيوب فانتهى بالصمت أمام حكمة الله وعنايته.
عبّر أيوب عن سرّ سلطان الله، وإشعيا عن مخطّط الله الخلاصيّ. عاد بولس (آ 34) في 1 كور إلى هذه النصوص ليُنشد أعماق الله. وهنا أنشد سرّ مخطّط الله الذي لا يرجو انسانٌ أن يفهمه. فمن يقدر أن يكون لله مشيراً، وهو لا يقدر أن يفهم طرق الله.
ويعود تأثير أبوب (آ 35) في ما يورد بولس منه (أي 41: 11). لا أحد يمكن أن يقول إنه أعطى اللهَ لكي يعطيه اللهُ بالمقابل. فكل شيء تحت السماء هو من الله. هي فكرة ملائمة لمعاصري بولس من اليهود الذين يحصرون رحمةَ الله فيهم، وغضبَه في الأمم. وهكذا نعود إلى البداية مع «من إيمان إلى إيمان». فالله لا يتوجّب عليه شيء لأحد. وما يفعله يفعله بنعمة منه تعالى.
وهكذا شدّد الرسول (آ 36) على جلالة الله السامية واكتفائه في ذاته. هو الوسيط والهدف لكل شيء. هو البداية والنهاية. عاد بولس إلى 1 كور 8: 6، فتحدّث عن الله الآب الذي منه كل شيء ونحن له. وعن الله الابن «ربّنا يسوع الذي به كل شيء ونحن به» (كو 11: 6). أما هنا، ففكَّر بولس في الله الآب الذي لا ندرك، ولا نفهم طبيعة عمله مع الانسان. هنا يلتقي بولس مع ابن سيراخ (43: 27) حيث يقول: «مهما أكّدنا من الكلام نبقى مقصّرين، وخلاصة القول إن الله هو الكل». في برهان بدأ بعصيان الانسان لله (1: 18- 25)، ماذا نقدر أن نفعل سوى الهتاف لله الخالق. وفي نهاية التحليل حول اختيار اسرائيل، وصل الانجيل إلى الأمم. فبدت كلّ مسيرة تاريخ الخلاص كالعلاقة الأساسيّة بالجميع، علاقة الخالق بالخليقة. فله المجد إلى الأبد.

خاتمة
هذه الآيات التي قرأناها توجز المواضيع الرئيسيّة في روم، ولا سيّما لأننا ننهي معها القسم العقائديّ قبل أن نصل إلى القسم الارشاديّ: غضبَ الله على الانسان السائر وراء رغباته وشهواته. حُسب الجميع في العصيان لكي يصلوا إلى الخلاص. تبرير الله للخطأة هو رحمته للذين عصوا. كلام الله على الطاعة والرحمة كوُجهتين في مخطّط الاختيار عند الله. هناك الغضب والنعمة، القساوة واللطف، العداوة والحبّ. فتاريخ اسرائيل وتاريخ الأمم يكشفان تعامل الله مع الانسان، ويدلاّن على أنه من الضروريّ أن نكتشف وجهتَي عمل الله بحيث تدخل الوجهةُ السلبيّة نفسها داخل الإيمان بالله الواحد. والسرّ الذي يكشف المفارقة هو وحي المخطط الأخير الذي هو مخطط رحمة. قسّى الله البعض لكي يخلّص الكل. حبس الجميع في المعصية، ليدلّ على رحمته للجميع. وما ذُكر بعد إيمان الانسان. فأمانة الله هي الحاضرة في تاريخ الأمم كما في تاريخ اسرائيل. هي أمانة النعمة، أمانة الخالق لخليقته حيث تنتصر الرحمةُ في خلاص يضمّ البشريّة بأجمعها، بل الكون كلّه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM