الفصل الثامن والعشرون
الله ومختاروه
9: 1- 5
تعرّفنا حتى الآن إلى برّ الله كما شهدت له الشريعةُ والأنبياء، ووعدُ الله لابراهيم، بعد أن دخلت فيه الأمم. ذاك هو عمل الشريعة، وختانة القلب، وشريعة روح الحياة التي تحقّقت ووصلت إلى كمالها في طاعة الامم للانجيل. وبدأت هذه الأمم تختبر نعمة الله وأمانته اللتين كانتا امتيازاً خاصاً باسرائيل. هنا يُطرح السؤال: كيف دخلت الأمم في وعد ابراهيم ساعة أكثريّة شعبه الذين أعطيت لهم المواعيد فشلوا في ذلك؟ وجاء الجواب: حسب اليهودُ اختيارَ الله كلا شيء فأساءوا التعامل مع الامتيازات بحيث تركهم الله وتحوّل إلى الأمم. غير أن أمانة الله لعهده، هي المقياس لليهود، وتبقى كذلك بالنسبة إلى بولس. في هذه الحقبة الجديدة، اهتمّ الله بالجميع وقدّم برّه للبشريّة كلها، لليهود أولاً وللأمم أيضاً. ولكن ان كان الله غير أمين لشعبه، فكيف سيكون أميناً للأمم؟ هنا قلبَ بولسُ المسألة التي طرحها في بداية ف 3: إذا كان البر امتدّ إلى الجميع، وإذا كانت الأمانة أعطيت للإيمان، فماذا عن برّ العهد لاسرائيل، وكيف تقف أمانة الله في وجه لاأمانة اسرائيل؟
1- دراسة النص وبنيته
أ- دراسة النصّ
في آ 1، نقرأ «في المسيح». أما بعض الشهود فقالوا: في المسيح يسوع.
في آ 3، نقرأ «منفصلاً عن المسيح». هي الأداة «أبو». بعضهم جعل «هيبو» (بفعل) أو «هيبار» (من أجل).
في آ 4: العهود. هي في صيغة الجمع. ولكن البردية 46 والفاتيكاني وغيرهما جعلوا المفرد= العهد.
ونقرأ: الوعود. في صيغة الجمع. ولكننا نقرأ المفرد في بردية 46: الوعد.
في آ 5، نقرأ: وهو الكائن (هون هو). حاول بعضهم أن يبدّل النصّ، ولكن لا أساس ثابتاً.
ب- بنية النصّ
العناية التي بها بُني هذا المقطع الافتتاحي واضحة جداً. أولاً، لا نجد حرف عطف. هذا يعني أن على القارئ أن يتوقّف في نهاية 8: 39 قبل أن يواصل قراءة 9: 1. ثانياً، إن آ 1- 3 جُعلت في متتالية مع تعبيرين احتفاليين:
أقول الحقيقة لا أكذب
ضميري في الروح القدس
حزن كبير ألم غير منقطع
محروم عن المسيح
إخوتي بني قومي.
أراد بولس من سامعيه أن لا يشكّوا بهويّته ولا باهتمامه بشعبه الخاص. ثالثاً، إن تعداد بركات اسرائيل في آ 4- 5 جاء في تعبير مسكوب، مع «بني اسرائيل»، كعبارة رئيسيّة يرتبط بها الباقي: هم، هم، منهم. وفي ألفاظ متناغمة: هيوتاسيا ونوموتاسيا (التبني وعطيّة الشريعة). دوكسا ولاترايا (المجد والعبادة). دياتيكاي وابانغالياي (العهود والوعود).
وأهم من ذلك، الكلمات التي اختيرت لتذكّر الأمم ببركات يشاركون فيها اليهود. رج 8: 15، 23 (البنوّة)؛ 8: 18، 21 (المجد)؛ 4: 13- 4، 16 (الوعد). واللافت هو أن بولس يعدّ الشريعة بين البركات التي نالها اسرائيل. وهناك اعتبار يبيّن أن نهاية آ 5 هي مجدلة ومباركة. فاليهوديّ التقيّ ينهي الكلام على خيرات الله لاسرائيل، بكلام البركة لإله اسرائيل. والمسيحيّ يفكّر بالمسيح الذي هو أعظم خير أعطيَ له.
2- تحليل النصّ الكتابيّ (9: 1- 5)
نقرأ هنا مقطعين. في الأول (آ 1- 3) يعلن بولس أنه يقول الحقّ في المسيح. اهتمامه كبير ببني قومه، ويعرف الغنى الذي نالوه في تاريخهم (آ 4- 5): لهم المجد والعهود. وفي النهاية، منهم يسوع بحسب الجسد.
أ- أقول الحقّ (آ 1- 3)
جاء الكلام بشكل احتفاليّ (آ 1) منذ البداية: أقول الحق، لا أكذب. هو بولس يبرّئ نفسه. رج 1 تم 2: 7؛ 2 كور 12: 6؛ ق يو 1: 20. «بسودوماي» (كذب). «أليتايا» (الحقّ). «في المسيح». رج 6: 11. هي خبرة روحيّة (آ 2) لا كمؤمن خلّصه المسيح، ولا كمسيحيّ. ولا كعضو في جسد المسيح، بل كانسان وعى ارتباطه بحياة المسيح ورضاه. عادة يستعمل بولس «بسودوماي» بحدّة (2 كور 11: 31؛ غل 1: 20) ليردّ على منتقديه. «ضميري شاهد». الجملةُ جمعٌ بين 2: 15 و8: 16 (رج 1: 9). ضمير المتكلّم (ضميري أنا) يدلّ على أن بولس هو إناء الشهادة (8: 16). الضمير ملكة مستقلّة، لماذا هذه الثقة؟ لأن الروح هو هنا ينير ضميره ويجعله شاهداً (2: 29؛ 7: 6؛ 8: 9؛ 1 كور 6: 11؛ 12: 3، 9). المؤمن هو في المسيح. يجد قوّته في الروح.
«حزني كبير» (آ 2). ليبي (حزن الروح). أوديني (ألم على مستوى العقل). رج أش 35: 10؛ 51: 11 حيث نجد اللفظين معاً (ي ج ون في العبريّة). هذا الألم هو دائم، مستمرّ. ويذكر بولسُ القلبَ ليدلّ على عمق عاطفته.
«وإنّي أتمنّى» (آ 3). أوخوماي (صلّى، وأيضاً، تمنّى). رج أع 25: 22؛ غل 4: 20. «محروماً» (أناتيما). يتمنّى بولس أن يُستبعَد (8: 13؛ 11: 20- 22؛ 1 كور 9: 27؛ 10: 2؛ 2 كور 13: 5؛ كو 1: 22- 23). وقد يصلّي، إذا سُمح له أن يصلّي بهذا الشكل، وهل هذه الصلاة لخيره. في العبرية، كما في العربيّة «ح ر م». رج لا 27: 28؛ تث 7: 26؛ 13: 17؛ زك 14: 11. وهنا حرم بمعنى دمّر (خبر عاكان في يش 6: 17- 18). «أنا أيضاً». من أجل اخوته، هو مستعدّ أن يتخلّى عن كل طمأنينة. يتمنّى الرسول أن يلعب دوراً من أجل شعبه على مثال موسى. اعتاد موسى أن يستعمل لفظ «أدالفوس» (أخ) عن المسيحيين (1: 13). إن هو صار عضواً في عائلة المسيح (8: 29)، فهذا لا يمنعه من أن يبقى يهودياً. ويوضح: الذين من نسلي (سينغانيس). بني قومي. «في الجسد». أي من لحمي ودمي. من النسل الذي أنتمي إليه.
ب- لهم المجد والعهود (آ 4- 5)
«هم بنو اسرائيل» (آ 4). يتضايق بولسُ لأن شعبه هم بنو اسرائيل. هو الاسم الذي يدلّ على الشعب اليهوديّ. العهد هو اسم الذي انتمى إلى القبائل الاثنتي عشرة (تك 32: 28؛ 35: 10- 12). كلّهم سمّوا «بني اسرائيل». رج سي 17: 17؛ يوب 33: 20؛ مز سل 14: 5. ينظر بولس إلى شعبه من الداخل، لا من الخارج. نجد لفظ اسرائيل 12 مرّة من أصل 19 مرّة في ف 9- 11 (9: 6، 27، 31؛ 10: 19، 21؛ 11: 1، 2، 7، 25، 26). لفظ «يهوديّ» يرد 9 مرّات في ف 1- 3، ومرّتين هنا فقط (9: 24؛ 10: 12). بنو اسرائيل هم المختارون وشعب العهد. «التبنّي» (هيوتاسيا). لا يرد هذا اللفظ في السبعينيّة. اختارهم الله فصاروا أبناءه (تث 14: 1؛ اش 43: 6؛ إر 31: 19؛ هو 1: 10؛ حك 9: 7؛ ق يوب 1: 24- 25. «المجد» (دوكسا)». مجد الربّ هو امتياز شعب الله (خر 16: 10؛ 24: 15- 17؛ 40: 34- 35؛ لا 9: 23؛ عد 14: 10). لا يشكّ بولس أن ملء الجد يمرّ في اسرائيل ويصل إلى الأمم (اش 35: 2؛ 40: 5؛ 59: 19).
«العهود». هي وجهات من العهد في تاريخ اسرائيل. رج سي 44: 12، 18؛ حك 18: 22؛ 2 مك 8: 15؛ 4 عز 3: 22؛ 5: 29. عهد مع ابراهيم (تك 15: 17)، مع بني اسرائيل على جبل سيناء (خر 19: 5- 6)، في سهول موآب (تث 29- 31)، على جبلي عيبال وجرزيم (يش 8: 30- 35). ربّما مع داود (2 صم 23: 5)، مع نوح (9: 8- 17)، مع فنحاس (عد 25: 12- 13). في اليونانيّة، «دياتيكي». في العبرية: ب ر ي ت. «نوموتاسيا» (عطيّة الشريعة). رج 2 مك 6: 23؛ 4 مك 5: 35؛ 17: 6. أو أننا نعطيها أو أن تُعطى لنا. كانوا يقولون: الشريعة أكبر بركة لاسرائيل. «العبادة» (لاترايا). العبادة في الهيكل (يش 22: 27؛ 1 أخ 28: 13؛ 1 مك 2: 22؛ فيلون، الوصايا العشر 158؛ الشرائع الخاصة 2: 167؛ يوسيفوس، الحرب 2: 409؛ عب 9: 1، 6). ذُكر هنا المجد (بالنظر إلى الاله الواحد، تث 6: 4) والعهد (اسرائيل شعب عهد الله) والشريعة (شرعة شعب العهد) والهيكل (حيث يتمّ التطهير فينال المؤمن الغفران). هي سمات العالم اليهوديّ في القرن الأول المسيحيّ. ونذكر أخيراً «الوعود» (إبانغاليا). رج 4: 13. هي الوعود للآباء في 15: 8. يتضمّن الوعد ميراث الأرض (4: 13) وبركة الأمم (تك 12: 2- 3؛ 18: 18).
«ومنهم الآباء» (آ 5). أي ابراهيم واسحق ويعقوب. وأيضاً شعب البرية. رج خر 3: 15؛ 1 مل 5: 58 (الوصايا التي أمر بها آباءكم). يتحدّث يوسيفوس (العاديات 13: 297) عن تقاليد الآباء. رج روم 11: 28؛ 15: 8؛ 1 كور 10: 1؛ لو 1: 55؛ يو 6: 31؛ أع 3: 13، 25؛ عب 1: 1؛ 8: 9. وقمّة كل هذه السلسلة: مجيء المسيح. هنا نجد قراءتين. الأولى، المسيح الذي هو إله فوق الجميع (1: 25؛ 2 كور 11: 31؛ غل 1: 5؛ 2 تم 4: 18) الثانية، الله هو الكائن فوق كل شيء، تلك هي النظرة اليهوديّة.
3- خلاصة لاهوتيّة
في آ 1 ينتقل القارئ من الثقة بالظفر إلى عاطفة عميقة ومليئة بالجلال. أحسّ بولس نفسه أنه مهاجَم: أما أدار رسولُ الأمم ظهرَه لشعبه الخاص فنسي امتيازاتهم، بل نسيَهم؟ إن بولس يقول الحقّ في المسيح. كل شيء عنده يتركّز على المسيح. إنجيله. علاقته بشعبه. مسؤوليّته اليوميّة كمؤمن وكرسول. لا يمكن لمثل هذا الانسان أن يكذب وهو واعٍ لارتباطه بالمسيح.
ويعبّر الرسول عن عمق شعوره (آ 2) بشكل دراماتيكي. يحسّ بالحزن والألم تجاه الذين قالوا إنه تنكّر لميراثه. هم ما فهموه. فالكلام عن الميراث يدعوه لحمْلِ الانجيل إلى الأمم. هذا يعني أن اليهود بني قومه لم يدخلوا في ملء الميراث.
مع آ 3 يتكثّف الضيق الذي يحسّ به الرسول، ويتطلّع إلى الحلّ الأخير في أن يقدّم حياته وخلاصه، إن كان هذا يؤمّن لبني قومه ملء المشاركة في خلاص الله الذي صار ممكناً بالمسيح. مع اللعنة التي دعاها على الذين شوّهوا إنجيله في غلاطية (من بشّر بانجيل)، ها هو يدلّ على إرادته بأن يتألّم إن تمّت رغبةُ قلبه من أجل خلاص شعبه. هكذا يُبعد الغضب عن الذين رفضوا أن يسمعوا كلمة الإيمان (9: 22؛ 11: 7- 8 ).
«أن يُقطع من شعبه». ليس من مصير أسوأ من أن ينفصل عن المسيح. تضايق الرسول لأنه سبّب لبني قومه أن يُنكروه، وأن يعتبروه أنه انقطع عن شعبه. ولكنه مستعدّ لأن يكون خارج المسيح، إن كانوا هم داخل المسيح: تلك كانت صلاته. ولكن هل تتحقّق؟ فهمَ أن الأمر صعب، لهذا صار وضعُه لا يطاق. عملَ بولسُ هنا ما عمله موسى حين أراد أن يقدّم نفسه عن شعبه (خر 32: 32). اقشعرّ موسى أن يُرذل شعبه بعد أن عقد عهداً مع الله (خر 24: 3- 8). وتلك كانت عاطفة بولس، لأن شعبه لم يعرف ملء عهد الله في يسوع المسيح. عاش بولس انشداداً بين هويّته كيهوديّ واعتقاده بأن الله قدّم البرّ لكل نسل آدم الذي سقط. كل خير وصل إلى شعبه، يريده أن يصل إلى كل مؤمن بالمسيح.
«هم بنو اسرائيل» (آ 4). هم شعب العهد الذي قطعه الله مع ابراهيم وجدّده مع يعقوب (تك 35: 10- 12). هذا اللقب يدلّ على جميع الذين ورثوا الموعد المعطى للآباء. وهذا مع أنهم لم يقبلوا الانجيل. غير أن فكر بولس يتوجّه أولاً إلى شعب العهد الذين ظلّ الله أميناً لهم (ظلّ أميناً مع أن يعقوب كان مخادعاً).
وترد امتيازات بني اسرائيل: التبني، وبنو اسرائيل هم أبناء الله (خر 4: 22؛ هو 11: 1). المجد خسره آدم واستعاده المسيح. والعهود التي هي تعبير عن عهد بدأ مع ابراهيم. وعطيّة الشريعة. هي لليهود وللأمم، لجميع الذين آمنوا بالانجيل. والعبادة، حافظ عليها اليهود أجيالاً وأجيالاً. وهي اليوم تقدَّم لأبي ربّنا يسوع المسيح الذي يُعبَد ويُخدم في الروح. والوعود، هي امتيازات لليهود يشارك فيها الأمم. والوثنيون لا يستطيعون أن يضعوا يدهم على وعود الله لكي يستبعدوا اليهود، كما لا ينظرون إلى الشريعة وكأنها محصورة باليهود، وإلى العهد وكأنه ملك لبني اسرائيل.
وظنَّ الشعب اليهوديّ (آ 5) أن الآباء ملكٌ لهم دون سواهم. ولكن ابراهيم هو «أبونا»، كما قال بولس، هو أبو جميع الذين يؤمنون، من المختونين واللامختونين (4: 11- 12، 16- 17). لا شكّ في أن الآباء هم آباء شعبه. ولكن الأمم الذين يؤمنون، يقدرون أن يدعوهم آباءهم. وأخيراً المسيح. ويضيف الرسول: بحسب الجسد. المسيح الذي وُلد من زرع داود. ولكن هذا الذي جاء إلى الشعب اليهوديّ، هو الآن الربّ المسيح الذي يستطيع الجميعُ أن يدعوه. فالمسيح، شأنه شأن سائر الامتيازات، ينتمي بالولادة وبقصد الله، إلى اليهود الذين طالبوا دوماً به. ولكن الفداء والخلاص اللذين وصلا به، مفتوحان لجميع البشر.
ويُنهي بولس كلامه بمجدلة لله وللمسيح. في هذه المجدلة يشارك الجميع، من يهود وأمم. هذا الذي يعبده الجميع، هو الاله المبارك إلى الأبد.
الخاتمة
كان ف 1- 8 كلاماً عن الله الذي يحارب الشرّ، ويقهره في يسوع المسيح، ويبرّر المؤمن ويحييه ببرّه. مع ف 9، شدّد الرسول على أن برّ الله هو الذي اختار شعب اسرائيل، وإن تمرّد اليوم هذا الشعبُ ورفض الإيمان بيسوع المسيح. كل هذا بدأ بمقدّمة شخصيّة فيها يعلن الرسول حزنه من أجل بني اسرائيل الذين هو منهم. وسببُ هذا الحزن: رفضوا الانجيل. من أجل هذا، كان توسّع بدأ بالتشديد على سمات خاصة لشعب ما زال عزيزاً على قلبه. بل هو تمنّى أن يكون محروماً من أجلهم. فهو شعب فريد اختاره الله ابناً، وكشفَ له عن نفسه عبر عمود النار وسيناء وخيمة الاجتماع والهيكل، وطبعَه بمجده. شعب عاهده الربّ فأعطاه شريعته في سيناء، وفي هيكلٍ تتمّ فيه طقوس العبادة. وفي النهاية، خرج منهم يسوع حسب الجسد. هل استحق «الشعب المختار» كل هذه الامتيازات؟ كلا. ولكن الله حين يختار يكون اختياره حراً. وإن هو اختار الأمم اليوم، لا يستطيع الانسان أن يجادله. هذا ما سيكون التوسيع البولسيّ فيما بعد.